الفصل السابع

الذات السياسية المنحرِفة: لاكان قارئًا قضية محمد بويري

الانحراف بالمعنى الدقيق للكلمة هو تأثيرٌ معكوس للخيال. والذات فيه هي التي تحدِّد نفسَها موضوعًا، في لقائه مع انقسام الذاتية … وبقدْر ما تجعل الذات من نفسها موضوعًا لإرادة أخرى، فإن الدافع السادي الماسوشي لا يُرأب فحسب، بل يترسَّخ … فيحتل السادي نفسه مكانَ الموضوع لصالح الآخر، ولكن دون أن يعرف ذلك، ويمارس فِعله السادي المنحرف من أجل إمتاع الآخر.1

يلقي هذا المقطع ضوءًا جديدًا على الاستبداد السياسي. فالسياسي الستاليني الحقيقي يحب البشرية، ولكنه ينفِّذ عمليات تطهير وإعدام تعسفية مروعة — قلبه ينفطر بينما يفعل ذلك، ولكنه لا يستطيع التوقف، فهذا «واجبه» تجاه «تقدُّم البشرية». نحن هنا أمام الموقف المنحرف الذي تتحول فيه الذاتُ إلى مجرد أداة تَخضع إلى إرادة الآخر الكبير: المسئولية لا تقع على عاتقي، لست أنا مَن يفعل ذلك في واقع الأمر، لست سوى أداة تخضع إلى «ضرورة تاريخية» أعلى. ويتولَّد الاستمتاع البشِع بهذا الوضع، من خلال حقيقة أنني أتصوَّر نفسي «مبرَّأ مما أنا فاعله»: أستطيع أن أجعل الآخرين يتجرَّعون شتَّى أنواع الألم، مع وعيي الكامل بأنني لست مسئولًا عن ذلك؛ لأنني مجرد أداةٍ تحقِّق إرادة الآخر الكبير. ويُجيب المتحرش السادي عن السؤال «كيف يمكن للذات أن تكون مذنِبة، وكل ما تفعله أنها تحقِّق ضرورةً موضوعية مفروضة عليها فرضًا من الخارج؟» من خلال الاضطلاع ذاتيًّا بهذه الضرورة الموضوعية، ومن خلال التلذُّذ بما هو مفروض عليها.

عندما واجه هاينريش هيملر مهمةَ تصفية اليهود في أوروبا — وهو قائد قوات الأمن النازية الخاصة — اضطلع بالموقف البطولي القائل «يجب أن يُنجِز أحدهم هذه المهمة القذرة، دعونا ننجزها إذن!» من السهل أن يقوم المرء بعمل نبيل من أجل الوطن، كأن يضحي بنفسه في سبيله، ولكن الأصعب من ذلك بكثيرٍ أن يرتكب جريمةً من أجله. قدَّمت حنة آرندت في كتابها «أيخمان في القدس» وصفًا دقيقًا لهذا التملُّص الذي أحرزه الجلادون النازيون؛ لكي يتمكَّنوا من تحمُّل الأفعال الفظيعة التي قاموا بها. لم يكن معظمهم أشرارًا طالحين بالضرورة، بل كانوا على علمٍ تامٍّ بأن ما يفعلونه سوف يجلب معه الذل والمعاناة والموت لضحاياهم. والسبيل إلى الخروج من هذا المأزق أنه «بدلًا من القول: يا لها من أشياءَ فظيعة فعلناها في حق هؤلاء الأشخاص! كان القَتَلَة يقولون: يا للأشياء الفظيعة التي اضطُررنا إلى مشاهدتها أثناء الاضطلاع بواجبنا، ويا لها من مهمة أثقلت عاتقنا!»2 بهذه الطريقة، كانوا قادرين على قلب منطق مقاومة الإغواء: كان الإغواء الذي يجب مقاومته هو الانجراف نحو مشاعر الشفقة والرحمة في حضرة المعاناة البشرية؛ فقد أصبحت جهودهم «الأخلاقية» موجَّهة نحو مقاومة إغواء رفض التسبُّب في الإذلال والتعذيب والقتل. وهكذا يتحوَّل انتهاك الغرائز الأخلاقية الفطرية نحو الشفقة والرحمة، إلى دليلٍ على العظمة الأخلاقية: في سبيل اضطلاع المرء بواجبه، يكون على استعدادٍ تامٍّ لتحمُّل العبء الثقيل المتمثِّل في إلحاق الألم بالآخرين.
ينطبق هذا المنطق المنحرف نفسُه على التطرف الديني في يومنا هذا. فعندما قُتل صانعُ الأفلام الوثائقية الهولنديُّ ثيو فان جوخ في أمستردام في ٢ نوفمبر ٢٠٠٤ على يد المتطرِّف الإسلامي محمد بويري، عُثِر على رسالةٍ معلَّقةٍ في السكين المغروس في بطنه، وكانت موجَّهة إلى صديقته حرصي علي، عضوة البرلمان الهولندي المنحدرةِ من أصولٍ صومالية، والمعروفةِ بنضالها الشرس من أجل حقوق المرأة المسلمة.3 إن كان من الممكن العثورُ على وثيقة «أصولية» أكثر تعريفًا بالأصولية، فهذه هي أبلغُ مثال عليها. تبدأ الرسالة بالاستراتيجية الخطابية المعهودة التي تنسِب الإرهاب إلى الخَصم:

منذ ظهوركِ في الساحة السياسية الهولندية، انشغلتِ في تصريحاتكِ بانتقاد المسلمين والتنفير من الإسلام.

في نظر بويري، حرصي علي — وليس هو — هي «المتطرف الكافر»، وبمحاربتها يكافح المرء الإرهابَ المتطرف. توضح هذه الرسالة كيف أن الموقف السادي الذي يبثُّ المعاناة والرعب في قلب المخاطَب لا يكون ممكنًا إلا بعد أن يجعل الفاعل السادي من نفسِه أداةً تحرِّكها إرادة الآخر. لننظر بمزيد من التمعُّن والتدقيق في الفقرة الرئيسية من الرسالة التي تركِّز على الموت بوصفه ذروة الحياة البشرية:

ليس هناك سوى يقين واحد في وجودنا بأكمله، وهو أن كل شيء مآله إلى نهاية. الطفل الذي يأتي إلى هذا العالم ويملأ الكون بصرخات الحياة الأولى، سيغادر هذا العالم في النهاية بحشرجة الموت. والعشب الذي ينبُت من الأرض القاحلة وتعانقه أشعة الشمس ويتغذى بالمطر، سيتحلَّل ويستحيل غبارًا، ويختفي. الموت، سيدة حرصي علي، هو أمرٌ واقع على الخلق أجمعين. لا يمكنكِ أنتِ ولا أنا ولا بقية الخلق الفكاك من هذه الحقيقة.

سيأتي يومٌ تعجز فيه النفس عن مساعدة نفس أخرى. يومٌ تمتزج فيه ألوان العذاب الرهيب والبلايا الشاقة، مع الصرخات المرعبة التي تزفِر بها حناجرُ الظالمين. صرخاتٌ، سيدة حرصي علي، تقشعر لها الأبدان وينتصب لها شعر الرأس. سيبدو الناس سُكارى، وما هم بسكارى، من شدة الفزع. في ذلك اليوم العظيم، ستكون الأجواء مشحونة بالذعر وستبلغ القلوبُ الحناجرَ.

الانتقال من الفقرة الأولى إلى الثانية حاسمٌ هنا بالطبع؛ الانتقال من البديهيات العامة من أن كل شيء ينقضي ويهلك وأن الموت مصير كل حي، إلى الفكرة الأكثر تحديدًا والتَّنبُّئِية تمامًا عن لحظة الموت بوصفها لحظةَ الحقيقة المطلَقة، اللحظة التي يواجه فيها كل كائن حقيقته ويتجرَّد من كل أواصره، ويُحرم من كل دعم وتضامن، فيكون وحدَه تمامًا أمام بأس خالقه وحكمه الصارم — ولهذا السبب تستطرد الرسالة هنا في وصف يوم القيامة كما جاء في القرآن: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (سورة عبس: الآيات ٣٤-٤٢) ثم تأتي الفقرة الرئيسية، المواجَهة المحورية:

لا شكَّ أنكِ بصفتكِ متطرفة كافرة، لا تؤمنين بالمشهد الموصوف أعلاه. فمن وجهة نظركِ، هذه مجرد فقرة درامية متخيَّلة من «كتاب» كسائر الكتب الأخرى. ومع ذلك، سيدة حرصي علي، أراهنُ على حياتي أنكِ ستتصببين عَرقًا من شدة الخوف عند قراءة هذا الكتاب.

لا شكَّ أنكِ بصفتكِ متطرفة كافرة، لا تؤمنين بوجود قوة أعلى تحكم العالم. لا تؤمنين في قلبك الذي تصدين به عن الحقيقة أنكِ يجب أن تَطرقي باب هذه القوة العليا، وتطلبي منها الغفران. أنتِ لا تؤمنين أن لسانك الذي تنكرين به هَدي هذه القوة العليا وأوامرها، يخضع إلى قوانينها. أنتِ لا تؤمنين أن هذه القوة العليا هي مَن تَهَب الحياة والموت.

إذا كان ذلك ما تؤمنين به حقًّا، فلن تجدي مشكلة في التحدي التالي. أتحداكِ بهذه الرسالة أن تثبتي أنكِ على حق. ليس عليكِ أن تفعلي الكثير من أجل ذلك سيدة حرصي علي: تَمنَّي الموت إن كنتِ مقتنعة حقًّا أنكِ على صواب. إذا لم تقبلي هذا التحدي، فستعلمين أن ربي الأعلى سيكشف الأكاذيب التي في مكنون نفسكِ. إذا تمنيتِ الموت، فأنتِ صادقة مصداقًا لقوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (سورة البقرة: الآية ٩٤)، ولكن الآثمين لن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (سورة البقرة: الآية ٩٥). ولكي أتفادى أن تتمنَّي لي ما أتمنَّاه لكِ، دعيني أقُم أنا بالأمر نيابةً عنكِ: «اللهم ارزقنا الموت لنَنعم بالشهادة».

كل فقرة من هذه الفقرات الثلاث لؤلؤةٌ خطابية. تمثِّل الفقرة الأولى القفزة المباشرة من الخوف الذي سينتابنا، نحن البشرَ، عندما نواجه الحساب والحكم المطلَق لله لحظةَ الموت، إلى الخوف الذي سينتاب السيدة حرصي علي لدى قراءتها هذه الرسالة. هذه الدائرة القصيرة من الخوف الناجم عن المواجهة المباشرة مع الله، في لحظة مواجهة الحقيقة المطلَقة المتمثِّلة في الموت، والخوف الذي يتولَّد هنا والآن بقراءة هذه الرسالة؛ هي علامة مميزة للانحراف: يتحوَّل الخوف المادي الملموس الذي ينتاب السيدة حرصي من القتل، وهو ما ولَّده فيها خطابُ بويري، إلى تجسيدٍ للخوف الذي من المتوقَّع أن ينتاب الإنسان الفاني عندما يلقى ربه. ولؤلؤة الفقرة الثانية هي المثال الدقيق المستخدَم لاستحضار القدرة الإلهية: فضلًا عن أن حرصي علي لا تؤمن بالله، عليها أن تعيَ تمامًا أن افتراءها على الله (ولسانها الذي تفعل به هذا) مقيَّد أيضًا بإرادة الله ومشيئته. أما اللؤلؤة الأبدع، فنجدها مكنونةً في الفقرة الأخيرة في الطريقة التي صِيغ بها التحدي الموجَّه إلى حرصي علي: التحدي الذي يطالبها (ليس فقط بالاستعداد للموت، ولكن أيضًا) بتمني الموت دليلًا على صدقِها. وهنا يحدُث تحوُّل غير ملحوظ تقريبًا يشير إلى استحضار منطق منحرف: تحوُّل من استعداد بويري للموت في سبيل الحقيقة إلى استعداده للموت ﻛ «دليل» مباشر على صدقه. هذا هو السبب في كونه لا يخشى الموت فحسب، بل يسعى إليه ويطلبه: ينتقل المنحرف من «إن كنتِ صادقة، يجب ألَّا تخشي الموت» إلى «تمنَّي الموت إن كنتِ مقتنعةً حقًّا أنكِ على صواب.» وينتهي هذا القِسم في ضم مدهش لإرادة شخص آخر: «دعيني أقُم به نيابةً عنكِ.» المنطق الكامن وراء بويري دقيق ومتسق رغم عدم اتساقه الواضح: سوف يفعل ما يتحتَّم عليه فِعله «ولكي أتفادى أن تتمنَّي لي ما أتمنَّاه لكِ». ماذا يعني هذا؟ ألا يعني هذا أنه بتمنيه الموت إنما يفعل بالضبط ما يرغب في تفاديه؟ ألا يعني هذا أنه لا يقبل لنفسه الأمنيةَ (الموت) التي تمنَّاها لها (موتها)؟

لا تتحدى الرسالة حرصي علي بسبب معتقَداتها الباطلة وافتراءاتها؛ بل توجِّه إليها الاتهام بأنها لا تؤمن حقًّا بما تدَّعي أنها تؤمن به (افتراءاتها العلمانية)، وبأنها تفتقر إلى ما يسمَّى «شجاعة القناعات الشخصية»: «إذا كنتِ تؤمنين حقًّا بما تدَّعين أنكِ تؤمنين به، فاقبلي التحدي، وتمنَّي الموت!» هذا يقودنا إلى تصوير لاكان للمنحرف: يضع المنحرفُ الآخرَ في انقسام. حرصي علي شخصيةٌ منقسِّمة على ذاتها، غير متسقة مع نفسها، تفتقر إلى شجاعة معتقَداتها الشخصية. لتجنُّب الوقوع في مثل هذا الانقسام، سيتحمل كاتبُ الرسالة على عاتقه تمني الموت، متحملًا ما كان يجب أن تؤمن هي به. ولذا، لا يفترض أن نندهش من التصريح الأخير في الرسالة:

هذا الصراع الذي اندلعَ الآن يختلف عما مضى من صراعاتٍ قبله. المتطرفون الكفرة هم مَن بدءوه، ولكنَّ المؤمنين الحقيقيين سيُنهونه. لا سبيل للرحمة تجاه أنصار الظلم ورُعاته، وليس لهم منا إلا السيف. لا نقاشات، ولا أدلة، ولا التماسات: الموت وحدَه هو ما سيفصل الحقَّ عن الباطل.

لا مجال للوساطة الرمزية، أو للمحاجَّة، أو للمنطق الاستدلالي، أو للتصريحات، أو حتى للوعظ — الموت هو الشيء الوحيد الذي سيفصل الحق عن الباطل، استعداد الذات الصادقة للموت وتمنيها له. ومن ثَم، لا عجبَ أن ميشيل فوكو كان مفتونًا بالشهادة السياسية الإسلامية. فقد رأى فيها ملامحَ «نظام للحقيقة» مختلفة عن ملامح النظام الغربي، رأى نظامًا لا تتمثل مؤشرات الحقيقة المطلَقة فيه في دقة الحقائق، أو اتساق المنطق، أو صدق الاعترافات، ولكن في الاستعداد للموت.4

نشر البابا الراحل يوحنا بولس الثاني «ثقافة الحياة» الكاثوليكية، بوصفها أملنا الوحيد في مواجهة «ثقافة الموت» العدمية في عصرنا الحالي، التي تتجلَّى في مذهب اللذة المنفلِت، والإجهاض، وإدمان المخدرات والاعتماد الأعمى على التطور العلمي والتكنولوجي. ويواجهنا التطرف الديني (ليس الإسلامي فقط، ولكن المسيحي أيضًا) ﺑ «ثقافة موت» أخرى رهيبة، أقرب إلى قلب التجربة الدينية مما يعترف به المؤمنون.

السؤال الذي ينبغي أن نتصدى له هنا هو: ماذا يفتقد المنحرف، في سعيه إلى الفصل المطلَق بين الحقائق والأكاذيب؟ الإجابة بالطبع هي: «حقيقة الكذب نفسه»، الحقيقة التي تُقدَّم في عمليةِ الكذب نفسِها ومن خلالها. للمفارقة، يكمُن كذبُ المنحرف في تعلُّقه غير المشروط بالحقيقة، في رفضه الاستماع إلى الحقيقة التي تتردَّد في ثنايا الكذب. قدَّم شكسبير في مسرحيته «العِبرة بالخواتيم» رؤيةً مذهلة لتشابُك الحقيقة والكذب وتمازجهما. يرفض الكونت برترام — الذي أُجبِر بأمر من الملك على الزواج من هيلين، ابنةِ طبيب من عموم الناس — العيشَ معها وإتمام الزواج، ويخبرها أنه لن يوافق على العيش معها حياةَ الأزواج إلا إذا حصلت على خاتم الأجداد من إصبعه وأنجبت طفلًا منه، وهي الأمور التي يحرص برترام على منعِ حدوثها. ولكن في الوقت نفسه، يحاول برترام إغواء ديانا الشابة الجميلة. ومن ثَمَّ تدبِّر هيلين وديانا خُطة لإعادة برترام إلى زوجته الشرعية. فتوافق ديانا على قضاء الليل مع برترام، وتخبره بأن يأتيَ إلى غرفتها في منتصف الليل، وهناك في الظلام، يتبادلان خاتمَيهما ويمارسان الحب. ولكن دون أن يعلم برترام، لم تكن ديانا هي المرأة التي أمضى الليل معها، بل كانت زوجته هيلين. وعندما يتواجهان في وقتٍ لاحق، يتعيَّن عليه الاعتراف بأن كلا شرطَيه للاعتراف بالزواج قد تحقَّقا. فقد حصلت هيلين على خاتمه وحملت منه بطفل. ما هو إذن وضْع خدعة الفراش هذه؟ في نهاية الفصل الثالث، تقدِّم هيلين تعريفًا رائعًا لها:

لنحاول الليلةَ إذن حيلتنا،
ولننفذ خُطتنا، فإن أفلحنا
فذلك شرٌّ يُراد به خير،
وحرام يُراد به حلال،
كلاهما لا إثمَ فيه، وإن ظل الواقع أثيمًا،
فلنمضِ فيه.
عمليًّا، نحن هنا بصدد «حرام يُراد به حلال» (ماذا يمكن أن يكون حلالًا أكثر من زواج مُتمَّم، زوج يضاجع زوجته؟ ومع ذلك، فالمراد أثيم: إذ يظن برترام أنه يضاجع ديانا) وكذلك مع «شر يُراد به خير» (المراد خير، وهو رغبة هيلين أن تطارح زوجها الفراش، ولكن الفِعل أثيم: فهي تخدع زوجها، الذي يصطحبها إلى الفراش وهو يعتقد أنه يخونها). علاقتهما «لا إثمَ فيها، وإن ظل الواقع أثيمًا»: فهي ليست خطيئة؛ لأن ما يحدُث هو مجرد إتمام للزواج، ولكن سياقها آثم، فهو شيء ينطوي على خداع متعمَّد من كلا الشريكَين. السؤال الحقيقي هنا ليس «هل العِبرة بالخواتيم؟» سواء كانت الغاية النهائية تلغي الحيَل والنوايا الآثمة (فما حدَث ليس شرًّا في حقيقة الأمر؛ فقد اجتمع شمل الزوجين، واستوفَت رابطة الزواج أركانَها)، ولكنه سؤال أكثرُ جوهريةً وهو: ماذا لو أصبح السبيل الوحيد إلى تأكيد سيادة القانون، من خلال المقاصد والأفعال الشريرة (الآثمة)؟ ماذا لو تحتَّم أن يعتمد القانون — من أجل تأكيد سيادته — على التداخل الخفي، أو الخلط المقنَّع بين الاحتيال والمكر؟ هذا هو ما يهدُف إليه لاكان مع مقولته المتناقضة «لا توجد علاقة جنسية» Il n’y a pas de rapport sexuel: ألم يكن وضعُ برترام خلال هذه الليلة الغرامية مصيرَ معظم الأزواج المتزوجين؟ تمارس الحب مع شريكك الشرعي بينما «تخونه في عقلك»، فتتخيل أنك تفعل ذلك مع شريك آخر. ومن ثَمَّ، لا بد من دعم العلاقة الجنسية الفعلية بهذا الملحق التخيُّلي كي تستمر.

تقترح مسرحية «كما تشاء» نسخةً مختلفة من هذا المنطق الذي ينطوي على خداع مزدوج. أورلاندو مفتون بروزاليند، التي تتنكَّر في هيئة صبي يُدعى جانيميد لاختبار حبِّه لها، ومن منطلقِ ما تمثله بصفتها رفيقًا ذكوريًّا لأورلاندو تستفسر منه عن حبه. حتى إنها تنتحل شخصيةَ روزاليند (في تخفٍّ مزدوج، تتظاهر بأنها شخصيتها الحقيقية، أي إنها تأخذ جانيميد ليلعب دور روزاليند) وتقنع صديقتها سيليا (التي تتنكر في هيئة ألينا) بتزويجهما في حفل زفاف مزيف. في هذا الحفل، تتظاهر روزاليند حرفيًّا بأنها تتظاهر أنها شخصيتها الحقيقية: لكي تنتصر هذه الحقيقة لا بد لها أن تتخذ شكل خداع مزدوج، وذلك على غرارِ ما حدث في مسرحية «العِبرة بالخواتيم»، حيث يجب أن يتخذ الزواج شكلَ علاقة خارج إطار الزواج لكي تكتمل الزيجة.

على نحوٍ مماثل، يتداخل الظاهر مع الحقيقة في الإدراك الأيديولوجي الذي يكنُّه المرء عن ذاته. ويحضرنا هنا تحليلُ ماركس الرائع — عن الثورة الفرنسية عام ١٨٤٨ — الذي يوضح كيف أن حزبَ النظام ذا التوجُّهين الجمهوري والمحافظ قد عمِل بمثابة تحالفٍ بين فرعَي الملكية (الأورليانيين ومناصري الشرعية) في «المملكة الجمهورية المُغفلة».5 كان النواب البرلمانيون عن حزب النظام ينظرون إلى توجُّههم الجمهوري باعتباره زيفًا: ففي النقاشات البرلمانية، كانت ألسنتهم تزلُّ بما يعبِّر عن توجُّههم الملكي، وسخِروا من التوجُّه الجمهوري حتى يظن الناس أن هدفهم الحقيقي هو استعادة الملَكية. ما لم يكونوا على علم به هو أنهم قد تعرَّضوا هم أنفسهم للخداع فيما يتعلَّق بالأثر الاجتماعي الحقيقي لحكمهم. فقد أرسَوا دون قصد منهم شروطَ النظام الجمهوري البرجوازي الذي يحتقرونه بشدة (على سبيل المثال، بضمان سلامة الممتلكات الخاصة). وعليه، فالمسألة ليست أنهم كانوا ملَكيين يرتدُون قناعًا جمهوريًّا: فعلى الرغم من أنهم اعتبروا أنفسهم كذلك، كانت قناعتهم «الداخلية» بالملَكية هي الواجهة الخادعة التي تخفي دورهم الاجتماعي الحقيقي. باختصار، كان توجُّههم الملكي الصادق — بعيدًا عن كونه الحقيقة الخفية لتوجُّههم الجمهوري المعلَن — هو الداعمَ التخيُّلي لتوجُّههم الجمهوري الفعلي؛ إذ كان هو ما يمثل مصدرَ الشغف في نشاطهم. ألم يكن نواب حزب النظام يتظاهرون أيضًا بأنهم يتظاهرون بأنهم جمهوريون، وبأنهم كانوا على حقيقتهم؟

إذن ماذا يعني «الظاهر» في جوهره من منظور لاكان؟ تخيَّل أن رجلًا يخون زوجته دون علمها. وعندما يرغب في لقاء عشيقته، يدَّعي أنه في رحلة عمل أو شيءٍ من هذا القبيل. وبعد مدة، يستجمع شجاعته ويخبر زوجته بالحقيقة، وهي أنه عندما يغيب عنها، فإنه يكون مع عشيقته. ولكن، بحدوث ذلك وانهيار واجهة الزواج السعيد، تنهار العشيقة وتتعاطف مع الزوجة المهجورة وتتجنَّب لقاء عشيقها. ماذا يجب أن يفعل الزوج كي لا يعطيَ زوجته إشارةً خاطئة؟ كيف يجعلها لا تستنتج من رحلات عمله التي قلَّت وتيرتها في الفترة الأخيرة أنه يعتزم العودة إليها؟ يجب أن «يزيِّف» العلاقة ويغادر المنزل بضعة أيام، مولِّدًا انطباعًا خاطئًا بأن علاقته مع عشيقته مستمرة، بينما كلُّ ما في الأمر أنه يقيم لدى صديق له. هذا هو الظاهر في أنقى حالاته: لا يكون للظاهر وجود عندما نضع قِناعًا خادعًا لإخفاء تجاوُز أو انتهاكٍ ما، ولكن عندما نتظاهر بأن هناك تجاوزًا ينبغي إخفاؤه. بهذا المعنى الدقيق، يصبح الخيال نفسُه من منظور لاكان مظهرًا خارجيًّا: إنه ليس في الأساس القِناع الذي يخفي الحقيقة تحته، ولكنه بالأحرى تصوُّرٌ لما يختبئ خلف القناع. ولذا، نجد — على سبيل المثال — أن التصور الذكوري الأساسي للمرأة ليس مظهرها الجذاب، ولكن فكرة أن هذا المظهر الساحر يخفي وراءه بعضَ الغموض الذي لا يمكن تقديره بدقة.

لإظهار بنيةِ هذا الخداع المزدوج، استحضر لاكان قصةَ المنافسة بين الرسَّامَين الإغريقيين زوكسيس وباراسيوس، التي أُجريَت لمعرفة أيهما يمكنه رسمُ وهمٍ أكثر إقناعًا من الآخر.6 رسم زوكسيس صورةً لعناقيد العنب، وكانت واقعية لدرجة أن الطيور الجائعة انجذبت إليها وأخذت تنقر عليها. وقد فاز باراسيوس عندما رسم ستارًا على جدار غرفته، فكان الستار هو الرسم ذاته. عندما جاء زوكسيس لزيارته، طلب من باراسيوس إزاحة الستار قائلًا: «من فضلك، ارفع الستار وأرني ما رسمت!» في لوحة زوكسيس، كان الوهم مقنعًا لدرجة أن الصورة بدَت كأنها الشيء الواقعي نفسه، أما في لوحة باراسيوس، فكان الوهم يكمُن في فكرةِ أن ما يراه المشاهِد هو ستارة عادية تحجُب الحقيقة المخفية. يرى لاكان أن هذه هي أيضًا وظيفة القناع النسائي: فالمرأة ترتدي قناعًا لتجعلنا نستجيب مثل زوكسيس أمام لوحة باراسيوس — «حسنًا، انزعي القناع وأرينا من أنتِ حقًّا!» بالمثل، يمكننا تخيُّل أورلاندو، بعد مراسم الزفاف المزيفة، يلتفت إلى روزاليند-جانيميد ويخبرها: «لعبت دورَ روزاليند جيدًا لدرجة أنني كِدت أصدق أنك هي؛ والآن يمكنك العودة إلى ما أنت عليه وتكون جانيميد مرة أخرى.» ليس من قبيل المصادفة أن عناصر هذه الأقنعة المزدوجة دائمًا ما تكون من النساء: فالرجل يمكنه التظاهر بأنه امرأة فقط؛ ولكن وحدَها المرأة هي مَن يمكنها التظاهر بأنها رجل يتظاهر بأنه امرأة؛ لأن المرأة فقط مَن يمكنها التظاهر بأنها ما هي عليه؛ أي بكونها امرأة.

لاستيعاب هذا الحال الأنثوي من التظاهر على وجه التحديد، يشير لاكان إلى امرأة تضع قضيبًا مزيفًا مخفيًّا للإيحاء بأنها ذكر:

تلك هي المرأة المخفية خلف حجابها: إن غياب القضيب هو ما يجعل منها ذكرًا؛ أي موضوعًا للرغبة. استحضِر هذا الغياب بطريقةٍ أدقَّ بأن تجعلها تضع قضيبًا صغيرًا مستعارًا تحت زي تنكري، وسيكون لديك — أو بالأحرى سيكون لديها هي — الكثير لتخبرنا به.7
الفكرة هنا أكثر تعقيدًا مما قد تبدو عليه: فالأمر لا يقتصر على أن القضيب المستعار ظاهريًّا يستحضر غيابَ القضيب «الحقيقي»؛ ففي تماثُل صارم مع لوحة باراسيوس، سيكون أول ردِّ فعل للرجال عند رؤية معالم القضيب المستعار هو: «اخلعي عنكِ هذا الشيء المستعار السخيف وأريني ما تحته!» ما يغفله الرجل بذلك كيف أن القضيب المستعار هو القضيب الواقعي نفسه: اﻟ «ذكر» الذي تكون المرأة عليه هو الظل الذي يولِّده القضيب المستعار، أي طيف القضيب «الواقعي» غير الموجود تحت غطاء القضيب المستعار. وبهذا المعنى الدقيق، يتخذ التنكر الأنثوي بنيةَ المحاكاة؛ ذلك أنه في المحاكاة — من منظور لاكان — لا أحاكي الصورةَ التي أريد أن أندمج فيها، ولكني أحاكي تلك السِّمات من الصورة التي تبدو أنها تشير إلى أن هناك حقيقةً مخفية وراءها. فكما هو الحال مع باراسيوس، أنا لا أحاكي عناقيد العنب، ولكن الستار: «تتيح المحاكاة رؤية شيء مختلف عما يمكن أن ندعوه «الشيء في ذاته» الكامن خلف المحاكاة.»8 حال القضيب في ذاته هو حال محاكاة. والقضيب في نهاية المطاف هو موضعٌ ما في جسم الإنسان، سِمة زائدة لا تتناسب مع الجسم؛ ومن ثَم تولِّد وهم وجود حقيقة أخرى مخفية وراء الصورة.

هذا يعيدنا إلى الانحراف. فمن وجهةِ نظر لاكان، لا يُعرَّف المنحرف بمحتوى ما يقوم به (ممارساته الجنسية الغريبة). بل يكمُن الانحراف — في أول أشكاله — في البنية الصورية لكيفية تعاطي المنحرف مع الحقيقة والكلام. إذ يزعم المنحرف قدرتَه على الاتصال المباشر مع هيئةٍ معينة من هيئات الآخر الكبير (التي تتراوح ما بين الإله والتاريخ وصولًا إلى رغبة شريكه)، بحيث يسمح له — بانتفاء كل غموض اللغة — بالتصرُّف مباشرةً كأداةٍ رهنَ إرادة الآخر الكبير ومشيئته. من هذا المنطلَق، يتشارك كلٌّ من أسامة بن لادن والرئيس بوش في بنية المنحرف، على الرغم من كونهما خَصمَين سياسيَّين. إذ يعمل كلاهما من منطلَق افتراضٍ مسبق بأن الإرادة الإلهية تملي عليهما أفعالهما مباشرةً وتوجُّههما.

يتمثَّل الرافدُ الأساسي الذي تغذَّى عليه تيار الأصولية الدينية الحديث في الولايات المتحدة — حيث يتبنَّى نصفُ البالغين تقريبًا في الولايات المتحدة معتقَداتٍ يمكن اعتبارها «أصولية» — في هيمنة الاقتصاد الشهواني المنحرف. فالمتعصِّب لا يؤمن، بل يعلم مباشرةً. ويشترك كلٌّ من المتشككِين الليبراليِّين المتهكمِين والمتطرفِين في سِمة أساسية مشتركة، ألا وهي فقدانُ القدرة على الإيمان، بالمعنى الدقيق للكلمة. كلاهما لا يمكنه تصوُّر القرار الواهي الذي يُتخذ دون أساس والذي يضم كلَّ المعتقَدات الأصيلة، وهو قرارٌ لا يستند إلى استدلالاتٍ منطقيةٍ أو معرفة قاطعة. وتحضُرنا هنا آنا فرانك، التي في مواجهة الفساد النازي المروِّع، وفي عملٍ يجسِّد حقًّا مقولة «أُومِن لأنه عبث»، أكَّدت إيمانَها بوجود ومضةٍ من الفضيلة لدى كل إنسان، بغضِّ النظر عن مدى خِسته وضلاله. لا يستند هذا التأكيد إلى حقائق، بل وُضِع مُسلَّمةً أخلاقيةً محضةً. وبالمثل، فإن حقوق الإنسان العالمية بمثابة إيمان محض: لا يمكن تأسيسها استنادًا إلى معرفتنا بالطبيعة البشرية، بل هي بديهيات وُضِعَت وترسَّخت بقرارنا. (في اللحظة التي يحاول فيها المرء تأسيس حقوق الإنسان العالمية على معرفتنا بالإنسانية، ستكون النتيجة الحتمية أن الناس مختلفون بحكم فطرتهم، وبعضهم لديه كرامة وحكمة أكثر من غيره.) إن المعتقَد الأصيل، في أبسط أشكاله، لا يهتم بالحقائق، بل يعبِّر عن التزام أخلاقي غير مشروط.

ينظر كلٌّ من المتهكمين الليبراليين والأصوليين الدينيين إلى المقولات الدينية، بوصفها مقولاتٍ شبه تجريبية ناتجة عن معرفةٍ مباشرة: يقبلها الأصوليون على هذا النحو، بينما يسخر منها المتهكمون المتشككون. ولا عجبَ أن الأصوليين الدينيين هم مِن أكثر القراصنة الرقميين شغفًا، ودائمًا ما يميلون إلى التوفيق بين دينهم وأحدثِ الاكتشافات العلمية. إنهم يَرَون أن كلًّا من المقولات الدينية والمقولات العلمية تنتمي إلى نمط المعرفة الوضعية نفسِه. وورود كلمة «علم» لدى بعض الطوائف الأصولية (مثل العلم المسيحي، والعلمولوجيا) ليس مجرد مزحة بذيئة، ولكنه يشير إلى اختزال المعتقَد الإيماني إلى معرفة وَضعية. وخيرُ مثال على ذلك قضية «كفن تورينو» (قطعة من القماش التي يُزعم أنها استُخدمت في تغطية جسد المسيح الميت وعليها بقعٌ من دمه). فالتحقق من أصالة قطعة القماش هذه سيثير الرعب في نفس كل مؤمن حقيقي (أول ما يجب فِعله هو تحليل الحمض النووي لبقع الدم، والرد على مسألة «مَنْ هو أبو المسيح؟» بطريقة تجريبية)، بينما سيبتهج الأصولي الحقيقي بهذه الفرصة. يوجد هذا الاختزال أيضًا في الإسلام، فالإسلام يزخر بمئات الكتب التي كتبها العلماء، والتي «تبرهن» كيف أن أحدث التطورات العلمية تؤكِّد صحةَ الرؤى والتعاليم القرآنية: فالحظر الإلهي لسِفاح المحارم يؤكده علم الوراثة الحديث الذي أثبت أن الأطفال الذين يُولَدون من غشيان المحارم يصابون بعيوب خلقية. والأمر نفسُه ينطبق على البوذية، حيث يتبنَّى العديد من العلماء فكرةَ «تاو الفيزياء الحديثة»، وكيف أن الرؤية العلمية المعاصرة للواقع بوصفه تدفقًا غير مادي من الأحداث المتذبذبة، قد أكَّدت أخيرًا الأنطولوجيا البوذيةَ العتيقة.9 ومن ثَمَّ، يخلُص المرء إلى مفارقةٍ حتميةٍ مُفادها أنه في التعارض بين الإنسانيَّين العلمانيَّين التقليديَّين والأصوليَّين الدينيَّين، ينتصر الإنسانيون للإيمان، بينما ينتصر الأصوليون للمعرفة. هذا ما يمكننا أن نتعلَّمه من لاكان عن نشأة الأصولية الدينية وازدهارها: إن خطرها الحقيقي لا يكمُن فيما تمثله من تهديدٍ للمعرفة العلمية العلمانية، ولكن فيما تمثله من تهديدٍ للمعتقَد الإيماني الأصيل نفسه.
لعل صوفيا كارباي هي خيرُ ما يمكن أن نختتم به هذا الكتاب، وهي رئيسة وحدة القلب في مستشفى الكرملين في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين. فما فعلته يستحق أن يُسمى بالفعل الأخلاقي الحقيقي بالمفهوم اللاكاني، وهو نقيض الترقية المنحرفة للذات إلى أداة في يدِ الآخر الكبير. لِحظِّها العثِر وبحكم وظيفتها، أجرَت رسمَ قلب لأندريه جدانوف مرتَين، مرة في ٢٥ يوليو ١٩٤٨ وأخرى في ٣١ يوليو من العام نفسه، وذلك قبل أيام من وفاته جرَّاء سكتة قلبية. كان رسم القلب الأول — الذي خضع له جدانوف بعد إصابته بعدد من أعراض مرض القلب — غيرَ قاطع (حيث تعذَّر تأكيد إصابته بنوبة قلبية من عدمها)، بينما أظهر رسم القلب الثاني على نحوٍ مفاجئ صورةً أكثر تفاؤلًا (حيث اختفى الانسداد داخل البطين، في إشارة واضحة إلى عدم وجود نوبة قلبية). ومن ثَمَّ، أُلقِيَ القبض عليها عام ١٩٥١ بتهمة تزوير البيانات السريرية بالتواطؤ مع أطباء آخرين كانوا يعالجون جدانوف، فمحَوا المؤشرات التي تدُل على أنه مصاب بنوبة قلبية؛ ومن ثَمَّ حالت دون تلقي جدانوف الرعاية الخاصة التي يحتاج إليها المريض المصاب بنوبة قلبية. بعد المعاملة القاسية التي تلقَّاها الأطباء المتهمون، والتي وصلت إلى الضرب الوحشي المستمر، اعترف جميع الأطباء بجُرمهم. أما صوفيا كارباي، التي وصفها رئيسها فينوجرادوف بأنها ليست أكثر من «نموذج للشخصية المذمومة المنحلة التي تتخلق بأخلاق الطبقة البورجوازية الحقيرة»، فقد أُودِعت في زنزانة شديدة البرودة ولم يُسمَح لها بالنوم لإجبارها على الاعتراف. لكنها لم تعترف.10 ولا يمكن التقليل من أهمية صمودها وتأثيره؛ إذ كان توقيعها سيضع النقطة الأخيرة في قرار النائب العام في «مؤامرة الأطباء»، الأمر الذي سيحرِّك من فوره آليةَ الموت، التي بمجرد بدء تحرُّكها ستتسبب في إزهاق أرواح مئات الآلاف، وربما تفضي حتى إلى حرب أوروبية جديدة (وفقًا لخُطة ستالين، كان من المتوقَّع أن تمثل «مؤامرة الأطباء» دليلًا دامغًا على أن وكالات الاستخبارات الغربية حاولت اغتيال زعماء الاتحاد السوفييتي، مما يوفر له ذريعة لمهاجمة أوروبا الغربية). لكن كارباي صمدت فترةً طويلة بما يكفي إلى أن دخل ستالين في غيبوبته الأخيرة، وبعدها أغلقت القضية بأكملها. كانت بطولتها البسيطة حاسمةً في سلسلة من التفاصيل التي «عملت مثل حبات الرمل التي وُضعت بين تروس الآلة الضخمة التي شُغِّلت بالفعل، فحالت دون وقوع كارثة أخرى في المجتمع السوفييتي وسياسته عمومًا، وأنقذت حياةَ الآلاف، إن لم يكن الملايين، من الأبرياء.»11
هذا الصمود البسيط في وجه كل الصعاب هو ما يمثل في النهاية الركيزةَ الأساسية للأخلاق — أو كما يقول صامويل بيكيت في الكلمات الأخيرة التي يختتم بها روايته «اللامُسمى»، التي تُعَد أروعَ عمل أدبي في القرن العشرين، والملحمة التي تحكي قصة الدافع الذي يستمر في شكل موضوع جزئي حي ميت، «في خضم الصمت الذي تجهله، يجب أن تستمر، لا يمكنني الاستمرار، سأستمرُّ.»12

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤