الذات السياسية المنحرِفة: لاكان قارئًا قضية محمد بويري
يلقي هذا المقطع ضوءًا جديدًا على الاستبداد السياسي. فالسياسي الستاليني الحقيقي يحب البشرية، ولكنه ينفِّذ عمليات تطهير وإعدام تعسفية مروعة — قلبه ينفطر بينما يفعل ذلك، ولكنه لا يستطيع التوقف، فهذا «واجبه» تجاه «تقدُّم البشرية». نحن هنا أمام الموقف المنحرف الذي تتحول فيه الذاتُ إلى مجرد أداة تَخضع إلى إرادة الآخر الكبير: المسئولية لا تقع على عاتقي، لست أنا مَن يفعل ذلك في واقع الأمر، لست سوى أداة تخضع إلى «ضرورة تاريخية» أعلى. ويتولَّد الاستمتاع البشِع بهذا الوضع، من خلال حقيقة أنني أتصوَّر نفسي «مبرَّأ مما أنا فاعله»: أستطيع أن أجعل الآخرين يتجرَّعون شتَّى أنواع الألم، مع وعيي الكامل بأنني لست مسئولًا عن ذلك؛ لأنني مجرد أداةٍ تحقِّق إرادة الآخر الكبير. ويُجيب المتحرش السادي عن السؤال «كيف يمكن للذات أن تكون مذنِبة، وكل ما تفعله أنها تحقِّق ضرورةً موضوعية مفروضة عليها فرضًا من الخارج؟» من خلال الاضطلاع ذاتيًّا بهذه الضرورة الموضوعية، ومن خلال التلذُّذ بما هو مفروض عليها.
منذ ظهوركِ في الساحة السياسية الهولندية، انشغلتِ في تصريحاتكِ بانتقاد المسلمين والتنفير من الإسلام.
في نظر بويري، حرصي علي — وليس هو — هي «المتطرف الكافر»، وبمحاربتها يكافح المرء الإرهابَ المتطرف. توضح هذه الرسالة كيف أن الموقف السادي الذي يبثُّ المعاناة والرعب في قلب المخاطَب لا يكون ممكنًا إلا بعد أن يجعل الفاعل السادي من نفسِه أداةً تحرِّكها إرادة الآخر. لننظر بمزيد من التمعُّن والتدقيق في الفقرة الرئيسية من الرسالة التي تركِّز على الموت بوصفه ذروة الحياة البشرية:
ليس هناك سوى يقين واحد في وجودنا بأكمله، وهو أن كل شيء مآله إلى نهاية. الطفل الذي يأتي إلى هذا العالم ويملأ الكون بصرخات الحياة الأولى، سيغادر هذا العالم في النهاية بحشرجة الموت. والعشب الذي ينبُت من الأرض القاحلة وتعانقه أشعة الشمس ويتغذى بالمطر، سيتحلَّل ويستحيل غبارًا، ويختفي. الموت، سيدة حرصي علي، هو أمرٌ واقع على الخلق أجمعين. لا يمكنكِ أنتِ ولا أنا ولا بقية الخلق الفكاك من هذه الحقيقة.
سيأتي يومٌ تعجز فيه النفس عن مساعدة نفس أخرى. يومٌ تمتزج فيه ألوان العذاب الرهيب والبلايا الشاقة، مع الصرخات المرعبة التي تزفِر بها حناجرُ الظالمين. صرخاتٌ، سيدة حرصي علي، تقشعر لها الأبدان وينتصب لها شعر الرأس. سيبدو الناس سُكارى، وما هم بسكارى، من شدة الفزع. في ذلك اليوم العظيم، ستكون الأجواء مشحونة بالذعر وستبلغ القلوبُ الحناجرَ.
الانتقال من الفقرة الأولى إلى الثانية حاسمٌ هنا بالطبع؛ الانتقال من البديهيات العامة من أن كل شيء ينقضي ويهلك وأن الموت مصير كل حي، إلى الفكرة الأكثر تحديدًا والتَّنبُّئِية تمامًا عن لحظة الموت بوصفها لحظةَ الحقيقة المطلَقة، اللحظة التي يواجه فيها كل كائن حقيقته ويتجرَّد من كل أواصره، ويُحرم من كل دعم وتضامن، فيكون وحدَه تمامًا أمام بأس خالقه وحكمه الصارم — ولهذا السبب تستطرد الرسالة هنا في وصف يوم القيامة كما جاء في القرآن: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (سورة عبس: الآيات ٣٤-٤٢) ثم تأتي الفقرة الرئيسية، المواجَهة المحورية:
لا شكَّ أنكِ بصفتكِ متطرفة كافرة، لا تؤمنين بالمشهد الموصوف أعلاه. فمن وجهة نظركِ، هذه مجرد فقرة درامية متخيَّلة من «كتاب» كسائر الكتب الأخرى. ومع ذلك، سيدة حرصي علي، أراهنُ على حياتي أنكِ ستتصببين عَرقًا من شدة الخوف عند قراءة هذا الكتاب.
لا شكَّ أنكِ بصفتكِ متطرفة كافرة، لا تؤمنين بوجود قوة أعلى تحكم العالم. لا تؤمنين في قلبك الذي تصدين به عن الحقيقة أنكِ يجب أن تَطرقي باب هذه القوة العليا، وتطلبي منها الغفران. أنتِ لا تؤمنين أن لسانك الذي تنكرين به هَدي هذه القوة العليا وأوامرها، يخضع إلى قوانينها. أنتِ لا تؤمنين أن هذه القوة العليا هي مَن تَهَب الحياة والموت.
إذا كان ذلك ما تؤمنين به حقًّا، فلن تجدي مشكلة في التحدي التالي. أتحداكِ بهذه الرسالة أن تثبتي أنكِ على حق. ليس عليكِ أن تفعلي الكثير من أجل ذلك سيدة حرصي علي: تَمنَّي الموت إن كنتِ مقتنعة حقًّا أنكِ على صواب. إذا لم تقبلي هذا التحدي، فستعلمين أن ربي الأعلى سيكشف الأكاذيب التي في مكنون نفسكِ. إذا تمنيتِ الموت، فأنتِ صادقة مصداقًا لقوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (سورة البقرة: الآية ٩٤)، ولكن الآثمين لن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (سورة البقرة: الآية ٩٥). ولكي أتفادى أن تتمنَّي لي ما أتمنَّاه لكِ، دعيني أقُم أنا بالأمر نيابةً عنكِ: «اللهم ارزقنا الموت لنَنعم بالشهادة».
كل فقرة من هذه الفقرات الثلاث لؤلؤةٌ خطابية. تمثِّل الفقرة الأولى القفزة المباشرة من الخوف الذي سينتابنا، نحن البشرَ، عندما نواجه الحساب والحكم المطلَق لله لحظةَ الموت، إلى الخوف الذي سينتاب السيدة حرصي علي لدى قراءتها هذه الرسالة. هذه الدائرة القصيرة من الخوف الناجم عن المواجهة المباشرة مع الله، في لحظة مواجهة الحقيقة المطلَقة المتمثِّلة في الموت، والخوف الذي يتولَّد هنا والآن بقراءة هذه الرسالة؛ هي علامة مميزة للانحراف: يتحوَّل الخوف المادي الملموس الذي ينتاب السيدة حرصي من القتل، وهو ما ولَّده فيها خطابُ بويري، إلى تجسيدٍ للخوف الذي من المتوقَّع أن ينتاب الإنسان الفاني عندما يلقى ربه. ولؤلؤة الفقرة الثانية هي المثال الدقيق المستخدَم لاستحضار القدرة الإلهية: فضلًا عن أن حرصي علي لا تؤمن بالله، عليها أن تعيَ تمامًا أن افتراءها على الله (ولسانها الذي تفعل به هذا) مقيَّد أيضًا بإرادة الله ومشيئته. أما اللؤلؤة الأبدع، فنجدها مكنونةً في الفقرة الأخيرة في الطريقة التي صِيغ بها التحدي الموجَّه إلى حرصي علي: التحدي الذي يطالبها (ليس فقط بالاستعداد للموت، ولكن أيضًا) بتمني الموت دليلًا على صدقِها. وهنا يحدُث تحوُّل غير ملحوظ تقريبًا يشير إلى استحضار منطق منحرف: تحوُّل من استعداد بويري للموت في سبيل الحقيقة إلى استعداده للموت ﻛ «دليل» مباشر على صدقه. هذا هو السبب في كونه لا يخشى الموت فحسب، بل يسعى إليه ويطلبه: ينتقل المنحرف من «إن كنتِ صادقة، يجب ألَّا تخشي الموت» إلى «تمنَّي الموت إن كنتِ مقتنعةً حقًّا أنكِ على صواب.» وينتهي هذا القِسم في ضم مدهش لإرادة شخص آخر: «دعيني أقُم به نيابةً عنكِ.» المنطق الكامن وراء بويري دقيق ومتسق رغم عدم اتساقه الواضح: سوف يفعل ما يتحتَّم عليه فِعله «ولكي أتفادى أن تتمنَّي لي ما أتمنَّاه لكِ». ماذا يعني هذا؟ ألا يعني هذا أنه بتمنيه الموت إنما يفعل بالضبط ما يرغب في تفاديه؟ ألا يعني هذا أنه لا يقبل لنفسه الأمنيةَ (الموت) التي تمنَّاها لها (موتها)؟
لا تتحدى الرسالة حرصي علي بسبب معتقَداتها الباطلة وافتراءاتها؛ بل توجِّه إليها الاتهام بأنها لا تؤمن حقًّا بما تدَّعي أنها تؤمن به (افتراءاتها العلمانية)، وبأنها تفتقر إلى ما يسمَّى «شجاعة القناعات الشخصية»: «إذا كنتِ تؤمنين حقًّا بما تدَّعين أنكِ تؤمنين به، فاقبلي التحدي، وتمنَّي الموت!» هذا يقودنا إلى تصوير لاكان للمنحرف: يضع المنحرفُ الآخرَ في انقسام. حرصي علي شخصيةٌ منقسِّمة على ذاتها، غير متسقة مع نفسها، تفتقر إلى شجاعة معتقَداتها الشخصية. لتجنُّب الوقوع في مثل هذا الانقسام، سيتحمل كاتبُ الرسالة على عاتقه تمني الموت، متحملًا ما كان يجب أن تؤمن هي به. ولذا، لا يفترض أن نندهش من التصريح الأخير في الرسالة:
هذا الصراع الذي اندلعَ الآن يختلف عما مضى من صراعاتٍ قبله. المتطرفون الكفرة هم مَن بدءوه، ولكنَّ المؤمنين الحقيقيين سيُنهونه. لا سبيل للرحمة تجاه أنصار الظلم ورُعاته، وليس لهم منا إلا السيف. لا نقاشات، ولا أدلة، ولا التماسات: الموت وحدَه هو ما سيفصل الحقَّ عن الباطل.
نشر البابا الراحل يوحنا بولس الثاني «ثقافة الحياة» الكاثوليكية، بوصفها أملنا الوحيد في مواجهة «ثقافة الموت» العدمية في عصرنا الحالي، التي تتجلَّى في مذهب اللذة المنفلِت، والإجهاض، وإدمان المخدرات والاعتماد الأعمى على التطور العلمي والتكنولوجي. ويواجهنا التطرف الديني (ليس الإسلامي فقط، ولكن المسيحي أيضًا) ﺑ «ثقافة موت» أخرى رهيبة، أقرب إلى قلب التجربة الدينية مما يعترف به المؤمنون.
السؤال الذي ينبغي أن نتصدى له هنا هو: ماذا يفتقد المنحرف، في سعيه إلى الفصل المطلَق بين الحقائق والأكاذيب؟ الإجابة بالطبع هي: «حقيقة الكذب نفسه»، الحقيقة التي تُقدَّم في عمليةِ الكذب نفسِها ومن خلالها. للمفارقة، يكمُن كذبُ المنحرف في تعلُّقه غير المشروط بالحقيقة، في رفضه الاستماع إلى الحقيقة التي تتردَّد في ثنايا الكذب. قدَّم شكسبير في مسرحيته «العِبرة بالخواتيم» رؤيةً مذهلة لتشابُك الحقيقة والكذب وتمازجهما. يرفض الكونت برترام — الذي أُجبِر بأمر من الملك على الزواج من هيلين، ابنةِ طبيب من عموم الناس — العيشَ معها وإتمام الزواج، ويخبرها أنه لن يوافق على العيش معها حياةَ الأزواج إلا إذا حصلت على خاتم الأجداد من إصبعه وأنجبت طفلًا منه، وهي الأمور التي يحرص برترام على منعِ حدوثها. ولكن في الوقت نفسه، يحاول برترام إغواء ديانا الشابة الجميلة. ومن ثَمَّ تدبِّر هيلين وديانا خُطة لإعادة برترام إلى زوجته الشرعية. فتوافق ديانا على قضاء الليل مع برترام، وتخبره بأن يأتيَ إلى غرفتها في منتصف الليل، وهناك في الظلام، يتبادلان خاتمَيهما ويمارسان الحب. ولكن دون أن يعلم برترام، لم تكن ديانا هي المرأة التي أمضى الليل معها، بل كانت زوجته هيلين. وعندما يتواجهان في وقتٍ لاحق، يتعيَّن عليه الاعتراف بأن كلا شرطَيه للاعتراف بالزواج قد تحقَّقا. فقد حصلت هيلين على خاتمه وحملت منه بطفل. ما هو إذن وضْع خدعة الفراش هذه؟ في نهاية الفصل الثالث، تقدِّم هيلين تعريفًا رائعًا لها:
تقترح مسرحية «كما تشاء» نسخةً مختلفة من هذا المنطق الذي ينطوي على خداع مزدوج. أورلاندو مفتون بروزاليند، التي تتنكَّر في هيئة صبي يُدعى جانيميد لاختبار حبِّه لها، ومن منطلقِ ما تمثله بصفتها رفيقًا ذكوريًّا لأورلاندو تستفسر منه عن حبه. حتى إنها تنتحل شخصيةَ روزاليند (في تخفٍّ مزدوج، تتظاهر بأنها شخصيتها الحقيقية، أي إنها تأخذ جانيميد ليلعب دور روزاليند) وتقنع صديقتها سيليا (التي تتنكر في هيئة ألينا) بتزويجهما في حفل زفاف مزيف. في هذا الحفل، تتظاهر روزاليند حرفيًّا بأنها تتظاهر أنها شخصيتها الحقيقية: لكي تنتصر هذه الحقيقة لا بد لها أن تتخذ شكل خداع مزدوج، وذلك على غرارِ ما حدث في مسرحية «العِبرة بالخواتيم»، حيث يجب أن يتخذ الزواج شكلَ علاقة خارج إطار الزواج لكي تكتمل الزيجة.
إذن ماذا يعني «الظاهر» في جوهره من منظور لاكان؟ تخيَّل أن رجلًا يخون زوجته دون علمها. وعندما يرغب في لقاء عشيقته، يدَّعي أنه في رحلة عمل أو شيءٍ من هذا القبيل. وبعد مدة، يستجمع شجاعته ويخبر زوجته بالحقيقة، وهي أنه عندما يغيب عنها، فإنه يكون مع عشيقته. ولكن، بحدوث ذلك وانهيار واجهة الزواج السعيد، تنهار العشيقة وتتعاطف مع الزوجة المهجورة وتتجنَّب لقاء عشيقها. ماذا يجب أن يفعل الزوج كي لا يعطيَ زوجته إشارةً خاطئة؟ كيف يجعلها لا تستنتج من رحلات عمله التي قلَّت وتيرتها في الفترة الأخيرة أنه يعتزم العودة إليها؟ يجب أن «يزيِّف» العلاقة ويغادر المنزل بضعة أيام، مولِّدًا انطباعًا خاطئًا بأن علاقته مع عشيقته مستمرة، بينما كلُّ ما في الأمر أنه يقيم لدى صديق له. هذا هو الظاهر في أنقى حالاته: لا يكون للظاهر وجود عندما نضع قِناعًا خادعًا لإخفاء تجاوُز أو انتهاكٍ ما، ولكن عندما نتظاهر بأن هناك تجاوزًا ينبغي إخفاؤه. بهذا المعنى الدقيق، يصبح الخيال نفسُه من منظور لاكان مظهرًا خارجيًّا: إنه ليس في الأساس القِناع الذي يخفي الحقيقة تحته، ولكنه بالأحرى تصوُّرٌ لما يختبئ خلف القناع. ولذا، نجد — على سبيل المثال — أن التصور الذكوري الأساسي للمرأة ليس مظهرها الجذاب، ولكن فكرة أن هذا المظهر الساحر يخفي وراءه بعضَ الغموض الذي لا يمكن تقديره بدقة.
لاستيعاب هذا الحال الأنثوي من التظاهر على وجه التحديد، يشير لاكان إلى امرأة تضع قضيبًا مزيفًا مخفيًّا للإيحاء بأنها ذكر:
هذا يعيدنا إلى الانحراف. فمن وجهةِ نظر لاكان، لا يُعرَّف المنحرف بمحتوى ما يقوم به (ممارساته الجنسية الغريبة). بل يكمُن الانحراف — في أول أشكاله — في البنية الصورية لكيفية تعاطي المنحرف مع الحقيقة والكلام. إذ يزعم المنحرف قدرتَه على الاتصال المباشر مع هيئةٍ معينة من هيئات الآخر الكبير (التي تتراوح ما بين الإله والتاريخ وصولًا إلى رغبة شريكه)، بحيث يسمح له — بانتفاء كل غموض اللغة — بالتصرُّف مباشرةً كأداةٍ رهنَ إرادة الآخر الكبير ومشيئته. من هذا المنطلَق، يتشارك كلٌّ من أسامة بن لادن والرئيس بوش في بنية المنحرف، على الرغم من كونهما خَصمَين سياسيَّين. إذ يعمل كلاهما من منطلَق افتراضٍ مسبق بأن الإرادة الإلهية تملي عليهما أفعالهما مباشرةً وتوجُّههما.
يتمثَّل الرافدُ الأساسي الذي تغذَّى عليه تيار الأصولية الدينية الحديث في الولايات المتحدة — حيث يتبنَّى نصفُ البالغين تقريبًا في الولايات المتحدة معتقَداتٍ يمكن اعتبارها «أصولية» — في هيمنة الاقتصاد الشهواني المنحرف. فالمتعصِّب لا يؤمن، بل يعلم مباشرةً. ويشترك كلٌّ من المتشككِين الليبراليِّين المتهكمِين والمتطرفِين في سِمة أساسية مشتركة، ألا وهي فقدانُ القدرة على الإيمان، بالمعنى الدقيق للكلمة. كلاهما لا يمكنه تصوُّر القرار الواهي الذي يُتخذ دون أساس والذي يضم كلَّ المعتقَدات الأصيلة، وهو قرارٌ لا يستند إلى استدلالاتٍ منطقيةٍ أو معرفة قاطعة. وتحضُرنا هنا آنا فرانك، التي في مواجهة الفساد النازي المروِّع، وفي عملٍ يجسِّد حقًّا مقولة «أُومِن لأنه عبث»، أكَّدت إيمانَها بوجود ومضةٍ من الفضيلة لدى كل إنسان، بغضِّ النظر عن مدى خِسته وضلاله. لا يستند هذا التأكيد إلى حقائق، بل وُضِع مُسلَّمةً أخلاقيةً محضةً. وبالمثل، فإن حقوق الإنسان العالمية بمثابة إيمان محض: لا يمكن تأسيسها استنادًا إلى معرفتنا بالطبيعة البشرية، بل هي بديهيات وُضِعَت وترسَّخت بقرارنا. (في اللحظة التي يحاول فيها المرء تأسيس حقوق الإنسان العالمية على معرفتنا بالإنسانية، ستكون النتيجة الحتمية أن الناس مختلفون بحكم فطرتهم، وبعضهم لديه كرامة وحكمة أكثر من غيره.) إن المعتقَد الأصيل، في أبسط أشكاله، لا يهتم بالحقائق، بل يعبِّر عن التزام أخلاقي غير مشروط.