قدوة غير صالحة
تعوَّد بعض الناس أن يعطلوا عقولهم عند وزن الكلام الذي يعرض عليهم، فهم لا يزنونه بميزان النقد والعلم والخبرة الصادقة، ولكنهم يتركون حقائق الأقوال، ويغترون بمظاهر القائلين. فإن كان قائل الكلام غنيًّا، أو وجيهًا، أو صاحب نفوذ فكلامه صادق وبليغ ومقبول، وإن لم يكن كذلك فحكمته جهالة، وصدقه كذب، وإخلاصه مشكوك فيه.
لهذا جاء في المثل السائر: «انظر إلى ما قيل، لا إلى من قال.» وهي نصيحة رشيدة، إذا كان الغرض منها أن نهتم بحقائق الأقوال، ولا نجعل اهتمامنا كله مقصورًا على مظاهر القائلين.
إلا أن تمحيص الكلام لا يغنينا عن تمحيص المتكلم في كثير من الأحوال، ولهذا يهتم الناس دائمًا بتراجم العظماء، وسير البلغاء، ليعرفوا موضع الثقة، ويتبينوا الفرق بين المخلصين وغير المخلصين في الهداية ودعوات الإصلاح. وقد أشرنا إلى ذلك في مقام آخر فقلنا: «إن الكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها.» وكلمة مثل قول المعري:
يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من السخط على الحياة. فإننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة، ودرس الشئون التي تكون بها عذبة أو مرة، ونكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من أمور عرضية لا تكفي للحكم على ماهية الحياة. وقد يقول أحدهم إن الدنيا كلها شر وظلم؛ لأنه كان يطمع في عشرين قرشًا، فلم يصل إلى أكثر من عشرة قروش.
فنحن نعرف الكثير من دعاة الإصلاح خاصة إذا عرفنا كيف كانوا يطبقون كلامهم على أنفسهم، ونتبين الفرق بين الجدير منهم بالثقة، والجدير منهم بالشك والريبة، إذا عرفنا أمانتهم في تطبيق المذهب الذي يدعون إليه.
على هذه القاعدة نعرض في هذا الحديث لسيرة زعيم من زعماء المذاهب الهدامة؛ بل لعله أكبر زعيم من زعمائها، وهو كارل ماركس الذي تنسب إليه الشيوعية، فتسمى بالماركسية في بعض الأحيان.
كان هذا الزعيم يبني مذهبه كله على أساس واحد، وهو: «أن من لا يعمل لا يأكل» … وبهذا المبدأ أراد في دعواه أن يبطل استغلال العاطلين للعاملين.
فإذا رجعنا إلى سيرته في حياته، فماذا نرى من دلائل الأمانة في تطبيق هذا المبدأ، الذي أراد أن يكون فيه قدوة للمقتدين؟
خلاصة الحقائق المستمدة من حياته أن الناس جميعًا لو جروا على طريقته لماتوا جوعًا، وأنه هو لو عاش بما كسبه من عمله لما عاش أكثر من سنة واحدة على أبعد احتمال.
في خطاب من خطابات أبيه المحفوظة يقول له: «ماذا تظن! كأننا مصنوعون من الذهب؟» وفي خطاب آخر يقول له: «لسوء الحظ أراك تؤيد بسلوكك رأيي الذي كونته عنك، وهو أنك على ما فيك من خصال حسنة — أناني تغلب الأنانية على جميع صفاتك.»
وإنما كتب أبوه إليه ما كتب في هاتين الرسالتين، لأنه كان لا ينتهي من طلب المال وإنفاقه في غير جدوى، وكان يثقل على أبيه بالطلب مع علمه باتساع أسرته، وقد كان فيها ثمانية أبناء يحتاجون إلى التربية والتعليم.
ومات أبوه فوجب أن يخلفه هو في رعاية بيته، ولكن الذي حدث هو أنه لبث إلى الرابعة والعشرين من عمره عالة على أمه وإخوته؛ فاضطرت أمه أن تكتب إليه ومعها أخته التي كانت تسمى صوفي، وقالتا له: إنه لا ينتظر بالبداهة أن يعيش «طفيليًّا أبديًّا»، وأنذرتاه بقطع المعونة عنه إذا لم يبحث له عن مورد رزق يغنيه.
أغلقت الصحيفة بعد شهور من أجل مقالة تتعلق بالطلاق والزواج ولا شأن لها بالدعوة الاشتراكية، فهجر كارل ماركس بلده وذهب إلى باريس ليعلن الدعوة الاشتراكية التي كان ينحي عليها، فلم تفلح الصحيفة الجديدة، وعاد كما كان بلا عمل ولا رغبة في العمل، وظل يعيش من معونة كان يتلقاها من بعض أصهاره في هولندة، حتى انقطع هذا المورد فألقى عبأه كله على أصحابه ومريديه.
قد يخطر لأحد أن الرجل كان يترك طلب الرزق لأنه كان مشغولًا بالدعوة إلى مذهبه، سواء كان مخلصًا لهذا المذهب أو كان متهمًا في إخلاصه.
ويعتبر كتاب «رأس المال» إنجيل الشيوعية المقدس عند أتباعها. فكان من المعقول أن يفرغ نبي الشيوعية لإتمام إنجيله الذي تقوم عليه دعوته، ولكن النبي لم يكن يقترب من صفحات إنجيله إلا تحت ضغط شديد من الحاجة العاجلة الملحة. وما هو إلا أن استقل زميله أنجيلز بتجارة أبيه واستطاع أن يخصص لكارل ماركس معاشًا سنويًّا دائمًا، حتى طوى النبي كتابه المقدس طي الأبد، وتركه ناقصًا كما بقي حتى الآن.
هذا هو الإمام الذي خرج للناس ليبشرهم بقداسة العمل، ويبغضهم في المتبطلين الذين يعيشون عالة على غيرهم. فلو أنه عومل بالشريعة التي أراد أن يفرضها على الناس، لهلك جوعًا، وأنصفته الدنيا على حد قوله: «من لا يعمل لا يأكل»، ولم يكن هو من الذين يعرفون أمانة العمل، ويتحرجون من أخذ المال بغير جزاء.
والعجب العاجب في أمر هذا الرجل الذي استباح الأجر بغير عمل، أنه خشي من منافسة الزعيم باكونين، وبحث عن سبب للتشهير به وتجريحه وحمل المؤتمر الاشتراكي على فصله، فماذا كان السبب الذي بنى عليه حملة التشهير، وطلب الفصل والتحقير؟ سبب عجيب من كارل ماركس: وهو أن باكونين قد دنس سمعة الاشتراكيين، لأنه اتفق مع ناشر في روسيا على ترجمة كتاب، ولم ينجز ترجمة ذلك الكتاب.
ونص الحملة موجود في سجلات المؤتمر، ونص الاتفاق بين ماركس وبين لسكي وبين دنكر موجود كذلك في تراجم هذا الرجل المريب.
فإذا كانت هذه الصفحة المدنسة مفتقرة إلى سواد فوق سوادها، فقد يزيدها سوادًا، أن نعلم أن باكونين كان استاذًا لكارل ماركس في الآراء الديمقراطية، وأن هذا الجزاء السيئ كان نصيب كل أستاذ، وكل زميل، وكل صاحب اتصلت حياته بحياة هذا الرجل. وقد مضى بنا اسم الزعيم لاسال في هذا الحديث، وعرفنا منه أنه توسط لكارل ماركس عند ناشر مؤلفاته ليساعده بنشر كتابه، فمن شاء أن يرجع إلى رسائل كارل ماركس فلينظر، كيف كان وفاؤه لهذا الفضل عليه؟ إنه كان يقول عن لاسال أنه يفكر تفكير الزنوج، وأن ملامحه تدل على وراثة زنجية، ثم يشفع ذلك بالتلميح إلى عفاف أمهاته قبل جيل!
ويستطيع من شاء أن يرجع إلى أسماء أساتذته وزملائه واحدًا واحدًا، فلن يجد إنسانًا منهم سلم من تهمة شائنة أو وصف بغيض. ولا استثناء لغير شخص واحد هو الذي كان محتاجًا إلى معونته المالية مدى الحياة، وهو فردريك أنجيلز. ومع ذلك نقرأ رسائل أنجيلز إليه فنرى كيف وصفه في إحداها بجمود العاطفة والأنانية، ونقص المروءة والشعور.
•••
إن الحقائق التي لخصناها هنا عن زعيم الشيوعية بعض ما عرف عنه من هذا القبيل، وكلها مستمد من سجلات الحركة الشيوعية، التي دونها دعاتها وأنصارها، فمن كان لا يعميه غرض ولا هوى، فلا صعوبة عليه في فهم الرجل على حقيقته التي لا تحتمل المغالطة والخداع، فهو مثل في التطفل، ومثل في طوية الشر والكنود، ومن كان كذلك لا يقتدى به في شريعة العمل، ولا تفيض نفسه بخير صحيح لمن يجهلهم من بني آدم وحواء، وقد كان أقربهم إليه يلقون منه الشر في موضع الخير، ولا يجدون فيه موضعًا للثقة والاقتداء.