العامل والماركسية
من الأوهام الشائعة أن الحكومة الماركسية هي حكومة العمال والصناع، وأن العمال والصناع في البلاد الماركسية هم أصحاب السلطة في الحكومة، وأصحاب الحق في إدارة المصانع وتوجيه النظم الصناعية، وأن نقابات العمال هي اللجان التي توكل إليها مهام النظر في مصالح الطبقات العاملة على اختلافها، وأن العامل بعبارة وجيزة هو الحاكم المتصرف في الدولة الشيوعية، سواء من طريق السلطة الفعلية أو من طريق السلطة بالتوكيل والانتخاب.
هكذا يتوهم الجاهلون بحقائق الأحوال، وهكذا يتخيلون النظام المزعوم على صورة هي أبعد ما تكون عن الواقع الماثل للعيان، وأشد ما تكون عن المبادئ المقررة في أقوال الزعماء الشيوعيين.
فالواقع المقرر في المذهب الشيوعي أن التعويل على النقابات مذهب مكروه عند أتباع كارل ماركس، وأنه معطل للحركة الشيوعية التي يبشر بها هو وتلاميذه ومريدوه، لأن التعويل على النقابية هو مذهب النقابيين والسندكاليين الذين يخالفون الشيوعية في الوسائل والغايات، وينكرون الاعتماد على الحكومات جميعًا بغير تفرقة بين الحكومة الموقوتة والحكومة الدائمة، ومن الواجب في مذهب الماركسيين أن ينظروا إلى نقابات العمال بعين الشك والحذر، وأن يحولوا بينها وبين السلطة الفعالة في إدارة الدواوين الحكومية، خوفًا من أن تتغلب سلطة النقابة على سلطة الحزب، وأن يجري العمل على مذهب النقابيين السندكاليين، لا على مذهب الشيوعيين الماركسيين.
ومن كلام «لينين» قبل الثورة الروسية: إن جماعات العمال، أو نقاباتهم، قد ينافس بعضها بعضا، وقد يعمل فريق منها على محاربة فريق آخر بالمناقصة في الأجور والمزايدة في ساعات العمل، ولهذا يجب عنده أن تكون سلطة الحزب غالبة على النقابات جميعًا، وأن يكون الرأي الأعلى للسلطة السياسية التي تتولى شئون الدولة، ولا يكون رأي النقابات إلا تابعًا خاضعًا لتلك السلطة السياسية.
أما الجماعات أو اللجان التي يسمونها بالسوفييت فليست هي جماعات مؤلفة من العمال والصناع، كما يخطر على البال، ولكنها جماعات مختلطة من المديرين والمشرفين على المصانع والقائمين بتنفيذ المشروعات الاقتصادية، ومعهم بعض الصناع والعمال اليدويين ممن لا صوت لهم في أمثال هذه الاجتماعات، ويمكن أن يقال بعبارة أخرى: إن جماعات «السوفييت» هي نسخة أخرى من اللجنة التي يسمونها لجنة الفابريقة، أو لجنة إدارة المصنع، وهي أشبه ما تكون بمجلس الإدارة في المصانع الأوروبية التي تخضع لنظام رأس المال، وغاية الفرق بين لجنة الفابريقة وبين مجلس الإدارة في المصانع والشركات أن الأعضاء أصحاب الأسهم يحلون في مجلس الإدارة محل المديرين والمهندسين في لجان السوفييت أو لجان الفابريقات، وربما تشابهت مجالس الإدارة ولجان الفابريقات تمام المشابهة؛ لأن أصحاب رءوس الأموال في البلاد الأوروبية والأمريكية يتركون العمل أحيانًا للمهندسين والمديرين.
خلاصة هذا كله أن السلطة السياسية غير السلطة النقابية في البلاد الشيوعية، وأن العمال والصناع لم يزالوا تابعين للساسة وكبار الموظفين في الدولة، وأنهم مسخرون لنظام الإنتاج الذي يفرضه عليهم السياسيون وأصحاب الشأن في الحكومات.
ومنذ قامت الثورة الشيوعية تجتمع النقابات في ناحية، وتجتمع لجان الحزب المسيطرة على الحكومة في ناحية أخرى، وقاعدة النظام في النقابات أنه إذا اجتمع في النقابة ثلاثة من أعضاء الحزب السياسي وجب أن يرجعوا إلى رئاسة الحزب في جميع الأوامر والتعليمات، ووجب على النقابة أن تخضع لما يمليه عليها الأعضاء الحزبيون.
لهذا يقال من حين إلى حين إن المؤتمر العاشر للنقابات قد اجتمع في هذه المدينة أو تلك، ويقال في الوقت نفسه إن المؤتمر الخامس عشر أو السادس عشر للحزب الشيوعي قد اجتمع قبل ذلك أو بعد ذلك، ويتفق كثيرًا أن تكون القرارات هنا مناقضة للقرارات هناك، ولكن الرأي الأخير على كل حال لإدارة الحزب في جميع الأمور، أما الرأي الأخير في قرارات الحزب نفسه فهو رأي البوليس السياسي من داخل الحزب، بغير تعقيب ولا استئناف.
ويمكن أن تعرض على مؤتمرات النقابات طلبات الزيادة في الأجور، ولكن السلطة السياسية هي التي تقدر الأجور المختلفة، وتلاحظ في ذلك أن تختلف الأجور «أولًا» باختلاف نوع الصناعة، و«ثانيًا» باختلاف القدرة على العمل، و«ثالثًا» باختلاف عدد القطع التي ينتجها العامل، و«رابعًا» باختلاف الأقاليم والمدن واختلاف المحصولات التي تلزم للتموين في كل إقليم. وحجة السياسيين في ذلك أن النقابات لا تستطيع الإشراف على هذه المسائل المتعددة، وأن إشرافها مقصور على صناعتها في مدينتها أو إقليمها، فلا مناص إذن من ترك الأمر للسلطة السياسية في تقدير الأجور.
وإلى زمن قريب لا يتجاوز بضع سنوات كانت النقابات مقسمة على حسب الصناعات، فصناع الفحم في البلاد كلها ينتمون إلى نقابة واحدة، وصناع الحديد ينتمون إلى نقابة أخرى، وصناع المنسوجات ينتمون إلى نقابة غير هاتين النقابتين، وكانت لهذه الطريقة في تأليف النقابات عيوبها ومزاياها، فمن عيوبها أنها لا تتفق على خطة واحدة ولا تجتمع على كلمة واحدة، ومن مزاياها أنها تحصر الجهود في الصناعة التي يحسنها أربابها، فتعطيهم سلطانًا متحدًا في تدبيرها والإشراف عليها.
أما الطريقة الجديدة التي اختارها السياسيون منذ ثلاث سنوات فهي تسمح للنقابات المتفرقة في كل مدينة أو كل إقليم بالاتحاد في الإدارة والتدبير، فعمال الفحم وعمال الحديد وعمال النسيج في المدينة الواحدة يتشاورون ويتداولون في شئون هذه الصناعات جميعًا، وقد يصدر من عمال الفحم في هذا البلد قرار يخالف القرار الذي يتخذه زملاؤهم في بلد آخر. وظاهر من هذا النظام أنه توحيد لصفوف العمال في كل إقليم، ولكنه في الباطن يخالف هذا الظاهر الخداع، لأنه يفرق كلمة العمال في الصناعة الواحدة فلا تجتمع على رأي متفق في الإدارة والإنتاج، ويترتب على ذلك أن السلطة السياسية تشرف على جميع المسائل الفنية، وأن سيطرة الحزب السياسي تتغلب على سيطرة النقابات في كل صناعة متفرقة، كما تتغلب على نقابات جميع الأقاليم.
هذه الحيلة النظامية تركت لسلطان السياسيين أن يسيطروا على شئون العمال والصناعات كما يشاءون، فإذا اتفقت مطالب عمال الحديد مثلًا في جميع البلاد، احتالوا على تفريقها بقرارات العمال الآخرين كعمال الفحم وعمال النسيج. أما إذا اتفقت مطالب الفحامين والنساجين من الإقليم الواحد، فهنالك فرصة للخروج على هذه القرارات من طريق النقابة العامة لعمال الحديد في جميع الأقاليم.
وعلى هذا بقي سلطان الساسة كما كان أمام مصلحة العمل ومصلحة العامل، وبقيت القضية القديمة بين الحاكمين أو المحكومين على صورة أخرى، وبقيت هناك طبقة حاكمة لها خطة تحمي بها وجودها وتحفظ بها نفوذها، ولو لم تكن في ذلك منفعة للعمال والصناع أو منفعة للمحكومين على العموم.
والواقع الذي لا شك فيه أن العمال والصناع في البلاد الشيوعية مسخرون لمصلحة الساسة أو لمصلحة الطبقة الحاكمة، وأن الأيدي العاملة لا تشتغل لكي تنتج طعامها وكساءها ولوازم معيشتها، وإنما تشتغل قبل كل شيء لأنها مسخرة في سبيل السلطة الحاكمة أو في سبيل الحماية اللازمة لطبقة الحاكمين.
هذه الطبقة — طبقة الحاكمين في البلاد الشيوعية — تأخذ الأقوات من أفواه العاملين لتنفقها على جيوش من الجواسيس والأرصاد، وعلى جيوش من العساكر والضباط، وعلى جيوش من الدعاة والمداحين.
هذه الطبقة — طبقة الحاكمين في البلاد الشيوعية — تنفرد بعيشة الرخاء وتختار لنفسها ما تشاء من المساكن والأطعمة، وتأمر وتنهي، وتعز وتذل، وتغدق الخير على أناس وتصب الشر على أناس آخرين، وغايتها من كل ذلك أن تحمي وجودها وتحفظ نفوذها وتقطع الطريق على كل منافسة تخشاها، ولو هلكت الأيدي العاملة وطال عليها عهد التسخير والتضليل.
ولم يحدث قط في التاريخ أن سلطانا غاشمًا مستبدًّا أنفق من الأموال على السلاح والجاسوسية ما ينفقه هؤلاء الطغاة المستبدون في بلاد الشيوعيين.
ألوف الألوف من الضباط والجنود. ألوف الألوف من الدعاة والجواسيس. ألوف الألوف من المدافع والدبابات والسفن والطيارات، وكل ذلك لتسخير العمال والصناع في سبيل طائفة من الحكام وأصحاب السلطان، ويعرف هؤلاء الحكام أن هذه الأموال الضائعة ثقيلة الوطأة على أعناق العمال المكدودين والصناع المجهودين، فيشغلونهم بالمنازعات الدولية، ويخدعونهم بالفتن العالمية، وينشرون الفوضى هنا، ويلهبون نيران العداوة هناك. ولا يتركون الأمم لحظة واحدة في سلام، ليخيفوا رعاياهم من خطر الحرب، ويدخلوا في روعهم أنهم مهددون بالهجوم عليهم من كل جانب، وأن تبذير الأموال على التسليح والتجنيد ونشر الدعوة وبث الجواسيس — كل أولئك ضرورة لازمة لاتقاء تلك الأخطار واتخاذ الحيطة لأولئك الأعداء.
تلك هي حقيقة الأحوال في بلاد الشيوعيين: سلطة سياسية تستعبد الأيدي العاملة وتسخر الصناعة كلها لحماية وجودها وتمكين سلطانها. وأين العمال ونقابات العمال؟ لا صوت ولا حركة. لأن صوتها ضائع بين مجالس الحزب ولجان السوفييت ومكاتب الفابريقات. ومما لا ريب فيه أن العمال في بلاد العالم قاطبة أرفع صوتًا وأوفر حرية من زملائهم في بلاد الشيوعيين. وهي هي البلاد التي يصول فيها الحاكمون باسم العمال المظلومين. وصدق أبو العلاء، حين قال قبل ألف سنة:
وهكذا يرجعون إلى الوراء، باسم التقدم والارتقاء، ولا تقدم هناك.