مَعَك
إننا لا نحيا لنكون سعداء.
عندما قلتَ لي هذه الكلمات في عام ١٩٣٤ أصابني الذهول، لكنني أدركُ الآن ماذا كنتَ تعني، وأعرفُ أنَّهُ عندما يكون شأنُ المرءِ شأنَ طه، فإنَّهُ لا يعيش ليكون سعيدًا وإنما لأداءِ ما طُلِبَ منه. لقد كنا على حافة اليأس، ورحتُ أفكِّر: «لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء.» لكني كنتُ على خطأ؛ فلقد منحتَ الفرحَ، وبذلتَ ما في نفسكَ من الشجاعة والإيمان والأمل. كنتَ تعرفُ تمامًا أنَّهُ لا وجود لهذه السعادة على الأرض، وأنَّكَ أساسًا، بما تمتازُ به من زهد النفوس العظيمة، لم تكن تبحثُ عنها، فهل يُحظَر عليَّ الأملُ بأن تكون هذه السعادة قد مُنِحَت لكَ الآن؟
موينا-ترانتان١
عندما أستشعركَ بالقرب مني فأنتَ على يساري، لكنكَ مع ذلك كنتَ دومًا على يميني وكنتُ أتناولُ ذراعكَ اليسرى. ألأنني الآن أجلس مكانكَ في السيارة؟ ولكن ماذا عن الأمكنة الأخرى؟ أم أنَّ ذلك مجرد وهم؟ إنني أدركُ جيِّدًا أني لم أَعُدْ أجلس بالقرب منك.
الأحد ٢٣ يونيو
سأحاولُ بعد نصف ساعة أن أستمع إلى إذاعة مونت كارلو. فقد استطعت التقاطها منذ أوَّل أمس، فألقى بي ذلك إلى قربك تمامًا! ثمَّ، لا أدري أي جهاز كان يبثُّ موسيقى بالغة الجمال لفرانز ليست، «سمفونية فاوست»، وأخيرًا، وبما أنَّ اليوم كان يوم جمعة، وكنتَ قد طلبتَ إليَّ أن ألتقط إذاعة لوزان، فقد بحثتُ عنها — ووجدتها — وكانت تبث «سمفونية براج».
الإثنين ٢٤ يونيو
يقلقني عجزي عن إعادتكَ إلى قربي ويقنِّطني. أعرف أنكَ تحيا، ولكن أين؟ وكيف؟ وأعرفُ أنَّ بوسعي أن أخاطبكَ، وأنَّ بوسعكَ أن تجيبني، لكنكَ تفلتُ مني، وتفلتُ من نفسك، آه! ما أبعدكَ يا صديقي! لا أكاد أستطيع التغلُّبَ على هذا الضيق الذي يُثْقِل صدري منذ هذا الصباح. ولو أنني تركتُ نفسي لهواها لبكيتُ دون توقُّف. كنتُ في الحديقة بصحبة كتاب. ولم يغيِّر ذلك من الأمر شيئًا. ولقد ألقيتُ نظرةً مكتئبةً على الممشى الصغير الذي كنتُ قد هيَّأتُه لكَ لتجلسَ فيه عصرَ ذات يوم؛ كان ضيِّقًا، وارفَ الظلِّ مزهرًا، وكنتُ أفكرُ أننا سنقضي فيه لحظاتٍ هادئةً لكنَّك لم ترغب في النزول إليه.
٢٥ يونيو
٢٨ يونيو
ثمانية أشهر مضت على رحيلكَ. السماء سوداء والمطر يهطل. والحقُّ أنَّ «جاردونيه» تشاركني حزني بصورة خارقة. على أنَّ مديرة الفندق وضعت إلى جانب صورتك وردةً رقيقةً وشاحبةً.
سأعيد القيام برحلاتنا كلها. سأتوقف حيث توقَّفْنا. في غمرة أيام الإجازات أعتزلُ الناس ولا ألفظُ إلا ما هو ضروريٌّ من الكلمات. لكَمْ أتمنَّى أن أكون مجرد عابرة، بالمعنى المطلق لهذه الكلمة! ولو أنني استطعتُ ذلك لجعلتُ من نفسي خيالًا لا يُرَى. وفي الصمت، أتَّجه نحوكَ بكل قواي. كل ما بقيَ منِّي يأتي إليك. وإنما لكَيْ آتي إليك أكتبُ وأتابعُ كتابةَ كلِّ ما يطوف بقلبي.
•••
وبعد قليل، قال: «إنهم يريدون بي شرًّا. هناك أناس أشرار.»
– من الذي يريد بك شرًّا يا صغيري؟ من هو الشرِّير؟
– كل الناس …
– حتى أنا؟!
– لا، ليس أنتِ.
أية حماقة؟! هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟!
من المؤكد أنه كان يستعيد في تلك اللحظة العقبات التي كان يواجهها والرفض الذي جُوبِهَ به، والهزء بل والشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة لمرور زمن طويل حتى يتمكنوا من الإدراك.
غير أنه لم يستمرَّ، بل قال لي فقط، كعادته في كثير جدًّا من الأحيان: «أعطيني يدكِ.» وقبَّلَها.
ثمَّ جاءت الليلة الأخيرة. ناداني عدَّة مرات، لكنه كان يناديني على هذا النحو بلا مبرِّرٍ منذ زمن طويل. ولما كنت مرهقة للغاية، فقد نِمْتُ، نمتُ ولم أستيقظ — وهذه الذكرى لن تكفَّ عن تعذيبي.
وجلستُ قربه، مرهقة متبلدة الذهن وإن كنت هادئة هدوءًا غريبًا (ما أكثر ما كنتُ أتخيَّل هذه اللحظة المرعبة!) كنا معًا، وحيديْن، متقاربيْن بشكل يفوق الوصف. ولم أكن أبكي — فقد جاءت الدموع بعد ذلك — ولم يكن أحدٌ يعرف بعدُ بالذي حدث. كان الواحدُ منا قِبَلَ الآخر. مجهولًا ومتوحدًا، كما كنَّا في بداية طريقنا. وفي هذا التوحد الأخير، وسط هذه الألفة الحميمة القصوى، أخذتُ أُحدِّثه وأقبِّلُ تلك الجبهة التي كثيرًا ما أحببتها؛ تلك الجبهة التي كانت من النبل ومن الجمال بحيث لم يجترح فيها السنُّ ولا الألمُ أيَّ غضون، ولم تنجح أية صعوبة في تكديرها … جبهة كانت لا تزالُ تشعُّ نورًا، «يا صديقي، يا صديقي الحبيب.» وظللتُ كل صباح، حتى عندما لم نَعُدْ وحدنا، أقول وأكرِّر القول: «يا صديقي»؛ لأنَّه قبل كل شيء وبعد كل شيء وفوق كل شيء كان أفضل صديق لي، وكان — بالمعنى الذي أعطيه لهذه الكلمة — صديقي الوحيد.
لم يسبق له أن رأى طه، وكان قد قرأ في لبنان كتابه «الأيام» وتمنَّى مِنْ كل قلبه أن يتعرَّف عليه. وفكرت أنَّ بوسعه أن يرى هذا الوجه حتى في سكون الموت؛ ولقد رآه.
كان هذا الوجه جميلًا، ولم يكن له — شأنه شأن جبهته — من العمر ثلاثة وثمانون عامًا! وكانت ترتسم عليه هذه الابتسامة الرقيقة التي كنا نُحِبُّها. وكان الشعر الذي بقي كثيفًا، يكاد يكون رماديًّا. أما الجسد، فقد كان يستسلم للراحة بهدوء. كل شيء كان يعبِّر عن الصفاء والسلام. ولن تنسى جان انفعالها عندما كانت تنتزع من إصبعه خاتم الزواج لتعطيني إياه؛ فقد انغلقت اليدُ التي بقيت ليِّنة على كفِّ صديقنا، كأنما لتقول لها: «إلى اللقاء.» ليس من الممكن أن يتصوَّر المرء أنه كان ثمة احتضار. لا، فقد كان اليوم يوم أحد، اليوم الثالث من رمضان، ساعة الفجر — ساعة التجلِّي الإلهي — وإني لعلى ثقة من أنَّ الله كان يصحبه على هذا النحو دون أن أستشعر ذلك؛ إذ ما شأني فيما يجري بينهما؟!
•••
وذات يوم، يقول لي: «اغفري لي، لا بدَّ من أن أقول لكِ ذلك؛ فأنا أحبكِ.» وصرختُ، وقد أذهلتني المفاجأة، بفظاظة: «ولكني لا أحبكَ!» كنت أعني الحبَّ بين الرجل والمرأة ولا شك. فقال بحزن: «آه، إنني أعرف ذلك جيدًا، وأعرف جيدًا كذلك أنه مستحيل.»
ويمضي زَمَنٌ، ثمَّ يأتي يوم آخر أقول فيه لأهلي إنني أريد الزواج من هذا الشاب. وكان ما كنتُ أنتظره من ردِّ الفعل: «كيف؟! مِن أجنبي؟! وأعمى؟! وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شكَّ أنكِ جُنِنْتِ تمامًا!»
ربما كان الأمر جنونًا، لكني كنتُ قد اخترتُ حياة رائعة. اخترت! من يدري؟ لقد قالت لي صديقة عزيزة ذات يوم: «لقد كان عليكِ أن تضطلعي بهذه الرسالة.» وصديقة أخرى تقول لي منذ زمن ليس ببعيد: «أتذكرين يا ماري؟ لقد مُلِئَتْ حياتكِ إلى أقصى حدٍّ.» نعم؛ لقد مُلِئَتْ حياتي إلى أقصى حدٍّ. كان قد قال لي: «لعل ما بيننا يَفُوق الحبَّ.» فيما يتعلَّق بي، كان هناك هذا الشيء الرائع: الفخر، واليقين من أنه ليس ثمة ما يدعو للخجل، ومن أنه ليس هناك على الإطلاق أية فكرة مُرِيبة أو بشعة أو منحطة يمكن أن تأتي لتحقر أو لتَثْلِمَ الكائن الذي أقاسمه حياته. آه! لم يكن دومًا هادئ الطبع — على العكس من ذلك — لكنَّ هذا أمر آخر.
وفي الخامس من أبريل كتبت لأمِّي، التي كانت غائبة، بفخر: «لقد أصبحت الرسالة في الصفحة الثامنة والثمانين.»
يناير ١٩١٨
كنا نُدهَش بطبيعة الحال ونحن ننكبُّ على طفلتنا. ففي صباح أحد الأيام لاحظت أنها ابتسمَتْ لي عشر مرات، وأنَّ النهار يروق لها وضوءُه يتسرب من خصاص النافذة. ذلك أنها كانت وهي تحييه ﺑ «هو … هو …» معجبة وفرحة تمنح أباها وجهًا مشرقًا.
سبتمبر: فرنسا تلهث والنصر يقترب. وكان طه مرحًا يحلق وهو يرغي ويزبد ويتندَّم: «فلنكفَّ عن الاعتراض … فمن يدري أن العناية الإلهية قد تتسلح بآلة الحلاقة لكي تسبب لي ندبة في وجهي؟!» وظلَّ لسنوات يدمدم وهو يحلق لحنَ افتتاحية «حلاق إشبيلية» على نحوٍ غير صحيح ويغمر الأطفال من حوله بهجة.
أكتوبر ١٩١٩
بعد عدَّة أيام كنا نصل القاهرة، وكان ينتظرنا في المحطة رجل يفيض حيوية وجذلًا وعرامة، وكنتُ أعرف فيه صديقًا آخر لطه، إنه المرصفي؛ إذ ما أوشكتُ أن أضع قدميَّ على رصيف المحطة حتى رأيت ابنتي محمولة على ذراعين قويتين ترفعانها عاليًا فوق رءوس المسافرين الآخرين، كانت محطة القاهرة في نظري تلك الدمية الفاتنة تضمها أوراق ثوبها الأزرق، والتي كنتُ ألاحقها بفزع رغم تشجيع طه لي.
وبدأت حياتنا الحقيقية.
•••
نحن في عام ١٩٧٥. الآن وقد أصبحت اليد التي كانت دليل طه فارغة، وقد بات من المستحيل عليَّ أن أستند على ذراعه، وقد انهار الصمت الحاسم … أحاول بعد كل شيء أن أتحدث …
عندما عدتُ من باريس في العام الماضي، فتحتُ دفترًا.
المعادي٣٩ أبريل ١٩٧٤
تمزُّق يتجدَّد دون توقُّف: لا يتقاسم المرء حقًّا شيئًا ما، ولا يستمع إلى جواب! صمت فظيع. أقرأ شيئًا ما، وأقول لنفسي في ومضة: «سأقرأ له هذا على الفور.» ثم أشعر بقبضة يدٍ تضرب على صدري. لقد انفعلت جدًّا عند قراءتي في سفر صموئيل:
٦ مايو
أما في نظري الآن، فالحب حاضر دومًا، وإنما أنا التي لم تَعُدْ هي نفسها؛ إذ إنني لم أَعُدْ أتعرف على نفسي أو العالم على الإطلاق.
١٦ مايو
نعم؛ هو ذا ما لا يمكن تعويضه: فهناك الآن وستبقى إلى الأبد أشياء لم أَعُدْ أستطيع أن أقولها لأيِّ مخلوق في العالم.
١٨ مايو
عندما يكون لنا أطفال يحتاجون إلى الرعاية والتربية، أو مهنة، أو مهمَّة تتطلب المتابعة وقوًى جسديَّة للقيام بها؛ فإنَّ بوسعنا — ولا شك — بل إننا نعرف كيف نتدبَّر أمرنا حتى بعد الوصول بهذه المهمات إلى غاياتها، لكن، ها أنا ذا في الثمانين من عمري، والمهمة التي واصلت القيام بها خلال ستة وخمسين عامًا قد غدَتْ بلا موضوع.
٢١ مايو
لم يبلغ واحدٌ من هؤلاء العمرَ الذي بلغتُ، ومع ذلك فهُم رفاق طريق، معًا. وعلى الرغم من تباعد المكان، كنتم تشقُّون دروبًا متوازية لكنها مختلفة. وحيدة أنا هذا المساء، وكذلك الوحيدة — هنا — التي عرفتهم بالنسبة إلى اثنين منهم على الأقلِّ. أفكِّر بهم بكآبة، وأفكِّر بك بكثيرٍ من الحب!
٢٤ مايو
الرياح تعوي؛ ما أشد انحراف مزاجي! كنتَ تقول لي: «أنتِ تتألمين عندما تكون الرياح شديدة.» نعم.
الأحد ٢٦ مايو
ككلِّ يوم أحد، أعيش من جديد هذا الصباح الذي انتُزِعتَ فيه مني. كلِّي معكَ.
وبعد العشاء وضعتُ عدَّة أسطوانات موسيقية كما أفعل أغلب الأحوال في المساء، لحنًا هادئًا لموزارت وسمفونية المزامير لسترافنسكي. لقد أحببتَ هذه الموسيقى العظيمة، والرصينة. وليس بوسعي أن أستمع إلى الموسيقى التي كنتَ تحبها ببرود أعصاب، فها هنا أعثر عليكَ من جديد بشكل أفضل، وأصغي للموسيقى معك.
٣ يونيو
وإذ أذكر اليوم هذا الصباح، أفكر بهذا التوافق الخفيِّ الذي وَحَّدَنا دومًا في احترام كلٍّ منا لدين الآخر. لقد دُهِشَ البعض من ذلك، في حين فَهِمَ البعضُ الآخرُ؛ إذ رأى أنَّ بوسعي أن أردِّدَ صلاتي على حين تستمع إلى القرآن في الغرفة المجاورة، ويصدفني اليوم أن أفتح المذياع لأستمع إلى آيات من القرآن عندما أبدأ في تسبيحي، بل إني لأسمعه على كل حال في أعماق نفسي. كنتَ غالبًا ما تحدثني عن القرآن، وتردِّد لي البسملة التي كنتَ تحبُّها بوجه خاص. وكنتَ تقرأ التوراة، وكنتُ أتحدث عن يسوع. كنتَ تردِّد في كثيرٍ من الأحيان: «إننا لا نكذب على الله.» لقد قالها أيضًا القديس بولس. لا شكَّ أننا لا نكذب على الله، وويلٌ للمكذبين.
٨ يونيو
أفرغتُ أخيرًا خزائن المكتب، وملأتُ ظروفًا كبيرة: مقالات، وخُطَبًا، ورسائل … إلخ. لم يكن ذلك إلا أول تصنيف، ولستُ بالقادرة على تصنيف وتدبير كل هذه النصوص العربية. لقد حطمتني هذه الفترات الصباحية في «رامتان»، وكان ينضاف إلى التعب الحنانُ المؤلم أحيانًا. لكنها غالية عليَّ هذه الفترات الصباحية، فقد كنتُ خلالها أقرب إليك في هذا المكتب وسط كل هذه الأوراق. وكان إعجابي يزداد أكثر بهذا الجهد والعناء العظيمين.
•••
وبدأت حياتنا الحقيقية — ليس ذلك صحيحًا كل الصحة — كانت حياتنا قد بدأت بل الْتَحمتْ. لكنَّ طه، حتى ذلك الحين، لم يكن بَعْدُ قد واجهَ المسئوليات التي سيترتَّب عليه عبء النهوض بها؛ فقد كنا نعيش في فرنسا على الانتظار ولم تكن الحياة بالنسبة لي صعبة في بلدي. ولكن، ماذا عن حياتي في مصر التي لم أكن أعرفها؟ كان من الممكن أن أكون خائفة، غير أنني لم أكن كذلك. هل كنتُ لا واعية؟ هل كنتُ واثقة بنفسي؟ الآن أستشعر خجلي المفرط إزاء هذه السنوات الأربع والخمسين التي تبدأ.
لقد أسرفت. كنتُ، على نحوٍ أكثر دقَّة، أرى أنَّ ما حُبِيتُ به أمرٌ طبيعيٌّ — شأني في ذلك شأن الأغنياء المترفين — فلم أكن أخزن كنوزي. وهناك الكثير من الثروات التي حملَتْها لي السنون التي عشتها مع طه مما لا أذكر منها شيئًا أو أنني أذكرها على نحوٍ رديءٍ. وبعد رحيله، بتُّ أشعر أني منتزعة نهائيًّا لا من كلِّ ما يخصُّني وإنما من كل ما يخصُّنا. أين ذهب ذلك الحبل السري الذي ربطنا إلى بعضنا باستمرار سواء أكنا معًا أو كنا مفترقيْن؟ كثيرًا ما كان يخطر لي في ومضةٍ خاطفةٍ: «لا يمكن لطه أن يكون قد قال ذلك، أو لم يكن ليفعل هذا الأمر؛ لم نكن لنتصرَّف على هذا النحو، أو لم نكن لنفكر في ذلك.»
كان يحدث له بسبب الإرهاق الذي تُسَبِّبه له أيام حافلة من العمل ألا يحدِّثني. ومع ذلك فربما قلنا لبعضنا كل شيء، كل ما يمكن للنفس البشرية على كل حال أن تقوله بلغة الأرض، وكل ما لا نستطيع أبدًا أن نحصره بكلمات مثلما أننا لا نستطيع التقاط شعاع عابر أو نَفَس من الهواء.
لِيَغْفِرْ لي حبيبي ضعفَ الصورة التي تُقَدِّمها هذه القصةُ وشحوبَها؛ تلك الصورة التي ستكون بعيدةً كلَّ البعد عن الصورة الحقيقية لما كان.
•••
وبعد عودتنا للقاهرة بفترةٍ قصيرةٍ، تلقيتُ آلة خياطة سنجر؛ وكان ذلك في الريف البعيد أجمل هدية يمكن أن تُقَدَّمَ للعروس … كما تلقيت أيضًا سجادتيْن عجميتيْن، أُخِذَتا ولا شك من بين سجاد البيت، إحداهما صغيرة، مربعة الشكل تقريبًا كانت تروق لي كثيرًا، والأخرى أكبر منها بقليل.
وفي اليوم الأخير من السنة كان على الطاولة كومة من الكتب الجديدة؛ الجزء الأول من كتاب طه عن المسرح اليوناني الذي صدر أخيرًا بعد مصاعب عديدة. وقد وزعت أكثر من مائة نسخة من الكتاب في الصباح، وكان لا بد من النضال ضد الاستغلال المخجل للناشرين، وإن كان بغير نجاح. لا يهمُّ؛ ذلك أنَّ الكتاب قد استُقْبِل استقبالًا ممتازًا. أما ترجمة دستور «الأثينيين» فقد كانت تتقدَّم بسرعة، ولم يكن قد بقي سوى إنجاز الهوامش والتعليقات.
وفي شهر أبريل، استثار تشرشل سخطًا عنيفًا عندما قال إنَّ مصر جزء من الإمبراطورية البريطانية، ولكي يزيد الطين بلة أعلن عن زيارته لها! وفي الأشهر التالية، كان ثمة اضطرابات تكاد تكون انتفاضات شعبية. وقد دام إضراب الترام الذي زاد من عزلتنا شهرًا كاملًا.
كان هذان الطفلان كل فرحتنا؛ إذ إن الخصومة التي لاحقت طه زمنًا طويلًا كانت تتحوَّل إلى عداوة عنيفة. فعلى الرغم من وعود الجامعة والصحيفة فقد بقي وضعنا المادي في منتهى السوء. ورمى طه، بعد أن أعياه ذلك، بتحدِّيه «للجامعة الخسيسة». وبعد مماطلة ومضايقات ومساومات انتهى المجلس إلى الموافقة على زيادة ضئيلة قَدْرها أربعة جنيهات للأساتذة. وأغاظ هذا القرار جميع الأساتذة، ورفضوا هذه الصدقة، وتابعوا مطالبهم التي كانت تُستقبَلُ بلا مبالاة يَشُوبها قَدْر من الاستخفاف، وخاصة من قبل أولئك الذين كانوا جهلة ووصوليين في آنٍ واحدٍ. وانتهى الأمر بطه الذي اختير كمُمَثلٍ للأساتذة إلى أن يقول لرئيس الجامعة: «إن مجلسكم يقود الجامعة إلى الخراب؛ إننا سنقوِّضه، وربما الجامعة أيضًا، ونحن معها؛ لكن الجامعة لن تبقى بين أيديكم.»
والحق أنني لم أكن آنذاك في صحة جيدة. وكان الطبيب حاسمًا عندما قال لي: «لا بد من ذهابك إلى فرنسا.»
كانت الصغيرة مصابة بفقر الدم، في حين أن أخاها كان يزن وهو في الشهر الثامن من عمره ستة كيلوجرامات. وبما أنه لم يكن مريضًا بل كان عنيدًا كأبيه، فقد كان يحدث أن يتمكن من الوقوف لمدة دقيقتين بين كرسييْن، وكان هذا الجهد الهائل يمسُّ شغاف القلب منا ويستثير أعصابنا. ونجري حساباتنا ونعيد إجراءها، وأخيرًا اتخذنا قرارنا: سأرحل مع الطفلين، حزينة القلب فاقدة العقل لمجرد فكرة ترك طه لعناية أصدقاء لا شك في إخلاصهم لكنهم لا يعرفون قطُّ كيف يجب القيام بها. وكنتُ أتخيَّل جيدًا كلَّ المصاعب التي كان سيواجهها في كل لحظة. ومن حسن الحظ أن كان له سكرتير يعرف عاداته تمامًا، وكان ذكيًّا مستقيمًا طيِّب القلب، ولقد قمت بتنظيم الوجبات التي كان يُؤتى بها من البيت الذي كنا نسكن فيه نفسه.
كانت هذه الأشهر الثلاثة من الفراق مؤلمة، وكنتُ أشكو باستمرار متوقِّعةً تراجُع طه عن قرار سفري، وهو الذي كان قد قبِلَ بل طالَبَ بسفري من أجل صحَّة زوجته وطفليْه، تاركًا بذلك نفسه لوحدةٍ أكثر شناعة بالنسبة له بمائة مرَّة منها بالنسبة إلى إنسانٍ آخر غيره. وكنتُ أشعر أني في الوقت نفسه عظيمة الثراء؛ فكل ما يستطيع القلب البشري أن يمنحه من الحنان المحض كان قد منحنا إياه.
١٥ يونيو
لو أنني قربكِ، لا لشيء إلا لكي أحمل لكِ مؤنس، وأُلبس عنكِ أمينة، وأعطيك روح النعناع!
يستحيل عليَّ القيام بشيء آخر غير التفكير بكِ. ولا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدك في كل مكان دون أن أعثر عليك … كانت الزهرة قد ذبلت، فوضعتها في العلبة التي تركتها لي لأضع فيها رسائلك؛ سأقبِّلها كل يوم. لقد استحالت الغرف معابد، وعليَّ أن أزورها كل يوم. ولو أنك رأيتني أخرج من غرفة لأدخل أخرى، ألمس الأشياء، وأنثر القبلات هنا وهناك …
ومع ذلك كان في الصباح قد كتب مقالًا عنيفًا ضد الإنجليز الذين كانوا يطالبون مصر بعدَّة ملايين من الجنيهات لتعويض موظفيهم.
كانت بعثات الطلاب تناقش في لجنة كان أحدَ أعضائها. فلا ينصح بإرسال الطلاب إلى ألمانيا، ويعرض حججه التي تجعله ينصح بإرسالهم إلى فرنسا، ويضيف: «من الواضح أنني أبحث عن مصلحة مصر، فإذا استفادت فرنسا، فلا بأس.»
ألبسُ بذلتي الزرقاء، وأنتعل حذائي الأسود الجميل، كنتُ حليقًا، فامتطيتُ عربة وذهبت. ويعلن لي الوزير أنَّ قضيتي قد انتهت. ويبدو أنني عُيِّنتُ مديرًا لمكتب الترجمة والنشر العلمي في الوزارة.
كان كعادته رائعًا. فقد هنأني وتمنَّى لي مستقبلًا مشرقًا، وتمنَّى لمصر كثيرًا من التقدم الثقافي والأخلاقي بفضل إسهامي، ثمَّ تحدثنا عن أمور أخرى. إنَّ ما يعذبني هو أنني سأبدأ عملي قبل أن تكوني هنا. ولقد تمنيت أن أحكي لكِ عن بداياتي في الوزارة، وعن انطباعاتي، وأن أستمع إلى نصائحك.
عندما عدتُ في سبتمبر لم يكن قد نُفِّذ من هذا الأمر شيء بعد، ولم يُنفَّذ شيء أصلًا. ما أكثر ما خدعوه على هذا النحو وعللوه بالوعود الخلابة!
قبِّلي الطفلين وحدِّثيهما عني كثيرًا؛ فذلك يسعدني. وعندما تروق لكِ البيرينيه أو يروق لكِ أي مشهد آخر ففكِّري بي بهدوء وجذل. فكِّري أنني إلى جانبك وأنني أرى بعينيْكِ وأنني أعاني كل ما تعانينه.
وعلى الرغم من الرعاية اللطيفة التي كان يُحاط بها، فقد كان مثقلًا بالحزن والوحدة — ويطلبون إليه كتابة أربعة مقالات في الأسبوع، لكنه يكتب لي …
١٩ يونيو
ما أغرب الأمر! كنتُ أظن أنني سأتعزَّى في غيابك بإنتاج غزير؛ ولكني لا أنتج شيئًا. أَوْحِي لي يا ملهمتي، قُولي لي إنه يجب أن أكتب الكتاب الشهير، وأن أُتمَّ ترجمتي، وأن أعمل في «كتاب السيد رينار» وأن أكتب المقالات. كل ذلك ضروري. لكني بدون تشجيعك لن أحقِّق منه شيئًا … رحلتِ فلحقَ بكِ ذكائي، كل قلبي، كل نفسي، كل شيء في هذه الرسالة … ماذا أقول؟! أَوَلمْ تحملي كل ذلك معكِ؟!
ضيعتِ وقتك وأنتِ تشرحين لي تنظيم خزانتكِ. وكنتُ أصغي إليكِ بأُذنٍ شاردةٍ، وتركتُ لكِ يدي دون أن أشعر على وجه اليقين ما كنت تجعلينني أمسُّه — فقد كانت المناشف والملاحف والمماسح دومًا سرًّا في نظري — وأمس، كنتُ أريد منشفةً، فأرسل الباب شيئًا من الأنين بحيث يحسب المرء أنَّ المنشفة كانت تصرخ بي: لا تمسَّني … كان ذلك جنونًا!
كان الجو شديد الحرارة، وكان طه لا يكاد ينام أو لم يكن ينام على الإطلاق. وكان أحمد — السفرجي — يتمدَّد لكي يحصل على شيء من البرودة، على النافذة، ملفوفًا بالغطاء. وذات ليلة يتدحرج أحمد من النافذة على أرض الغرفة مُحْدِثًا ضجيجًا، وتنطلق ضحكة مطمئنة.
ويطلب منه مجهول أن يراه، وينتهي بأن يستسلم لطلبه. كان رجلًا قد فَقَدَ ابنه لتوِّه، ولم يكن لديه من المال ما يستطيع به أن يدفع للطبيب أجرته، كما أنه لا يملك مليمًا من أجل دفنه. وكان الوقت آخر الشهر، ولم يكن مع طه سوى جنيهين، فأعطاه واحدًا منهما. ثم نعلم فيما بعد أنه لم يكن فيما زعمه هذا الرجل ظلٌّ من الحقيقة!
رسائلي لا تصل
كنتُ على ثقة من أنني سأتلقَّى رسالة منك اليوم، إلا أن صندوق البريد كان فارغًا، فاستعدتُ المفتاح من أحمد بدون أية كلمة، معقود اللسان؛ لا بد لي أن أغرق حزني في قلبي، ولا بدَّ لي من أن أصطنع لنفسي ملامح وجهي … فالرسائل لا تصل بفضل هذيْن الأبلهيْن: الزمان والمكان — إذ لولا وجودهما لما كنا منفصليْن — وأتخيَّل حياةً لا زمان فيها ولا مكان. وعندما يستدعيني الواقع أبقى لحظة خائفًا من كل شيء، وإذ ذاك ألجأ للسيجارة. لا نعُدْ إلى ذلك أبدًا؛ فأنا غير قادر عليه.
وفي السابع والعشرين من الشهر تصل رسائلي أخيرًا. فيتألَّق من الفرح ويأخذ في كتابة أشياء جنونية، لكنه يكتب أيضًا:
ها نحن أولاء معًا من جديد، وأكْبِتُ النحيب، وأترك جفنيَّ شبه مغمضيْن لأمنع سيلان الدموع.
وعندما أقرأ ذلك، متخيلة ذلك الجهد الرهيب الذي كان عليه أن يبذله لإملاء هذه الكلمات التي تحرقه، كان جفناي لا يمنعان سيلان الدموع.
اعذري فرنسيتي (كان يتوهَّم؛ فقد كان يكتب على نحوٍ رائعٍ). اعذري أفكاري؛ فأنا لا أفكر وإنما أحب. ما أصعب قول ذلك! لن يعرف الإنسان نفسه على الإطلاق، وسيبقى دومًا في أنفسنا شيء ما نستشعره دون أن نفهمه مطلقًا.
وفي التاسع والعشرين من يونيو، وهو ذكرى خطوبتنا، أتلقَّى برقية سأجِدُ فيها: «لا مجرد كلمات، وإنَّما المخلص لكِ، وإنما صديقكِ على وجه الخصوص.» وهو يقولها إذن بدوره، تلك الكلمة التي بدأت بها رسالتي الأولى على ظهر السفينة، تلك الكلمة التي ما أكثر ما ردَّدتها ذلك الصباح المصيري، والتي لم أكف عن مناداته بها.
لم يكن بوسعه أن يعرف أنه سيحملني على الابتسام، كما هو الأمر دومًا عندما أكون حزينة؛ فالرسالة التي تبعت البرقية كانت تُعِيد إلى ذاكرتي بمرح أنه في مثل هذا اليوم المهيب ذهبنا معًا لشراء «لتر» من الكحول لنوقدَ مصباحنا!
فمصطفى يبدو في منتهى اللطف، وكذلك منصور؛ فهما يفعلان كل ما بوسعهما للترويح عني، وعندما يتحدثان إليَّ، فإنني أجد في صوتهما شيئًا يمسُّ شغاف القلب منِّي.
بلطفٍ زائدٍ — في زعمهم — بلطفٍ زائدٍ، كما ترين، تمامًا كإنجلترا التي تحاول أن توطِّد احتلالها لمصر بإعطائه اسم الاستقلال، واستيلاءها على بلاد ما بين النهرين بإعطائه اسم الانتداب.
ومن جديد، لا رسائل من فرنسا.
تغمرني ظلمة بغيضة … آه! ما أقسى أن يكون المرء وحيدًا، بعيدًا عن حياته! إني ضائع. نعم؛ إني ضائع.
وها هي رسائلك، رسائلك التي تشفي، فقد شفيت، وأرسلت أخيرًا مقالي. إنَّه أفضل مقال كتبته منذ رحيلك حول طبيعة المعارضة. ففيه من الفلسفة ومن علم الاجتماع ومن السياسة ومن الهزل ومن السخرية كل ذلك مجتمعًا. ألَمْ أَقُلْ لكِ إنني لا أساوي شيئًا بدونك …
أولئك الذين يتحابون حقًّا يعرفون أن الحبَّ حاجة إلى حضورٍ مستمرٍّ، حتى وإن لم يكن هذا الحضور حضورًا ماديًّا. على أنَّه سيتقبَّل بعد ذلك بصورةٍ أقلَّ مأساوية عدَّة أسابيع أو عدَّة أيام — نادرة — كان علينا أن نفترق خلالها. لكنه سيتألم منها — مثلما سأتألم منها أيضًا — وسيعبِّرُ الحنان المطلق عن نفسه ضمن رسالته الأخيرة التي سيكتبها لي.
ويتابع في يوليو ١٩٢٢
كان أفلاطون يفكِّر أننا إذ نتحاب، فإننا لا نفعل سوى أن نُعِيد صنع ما أفسده عارض ما. عندما تنفصل نفسان عن بعضيْهما، تبحث كلٌّ منهما عن الأخرى، وعندما يُوجَدان ويتعارفان، فإنهما لا يعودان كائنيْن وإنما كائنًا واحدًا. إنني أُومِن بذلك تمامًا … أتعلمين أنني أصبح صوفيًّا! لو كنتُ شاعرًا لألَّفْتُ الأناشيد ولَغَنَّيتها بنشوة، لا يهم؛ فقلبي يؤلِّفها ويُغَنِّيها ونفسي تَرِقُّ وقلبي يَلِين، إنني لم أَعُدْ أتعرَّف على نفسي مطلقًا … فلديَّ شخصيتان: واحدة للعالم كله، وأخرى لكِ، لي، لنا، وفكرتكِ وحدَها هي التي تجعلها تعيش … ولكن أترين يا سوزان؟ أنا لا أتحدَّث إلا عني، إنني أنانيٌّ … وكل الصوفيين أنانيون.
فأفكاري لا ترضي أحدًا؛ إنني أرى فيه مُجَدِّدًا عظيم الأهمية، لكنَّه حمَّلَ نصوص الإسلام أكثر مما تحمل لكي يجعلها تتفق والعلم الحديث.
المشايخ بطبيعتهم حذرون؛ فهم ينتظرون جواب موظف من الوزارة فإذا كانت الوزارة، بالصدفة، تقدمية؛ فلا يجب أن يكون المرء رجعيًّا، لكنَّ الوزارة لم تكن تقدُّمية. ويقول لطفي: «لا، لا نساء ولا فوضى، ثمَّ إنني بصراحة يا دكتور طه لا أرى ما يدفعكَ لطرح مثل هذا السؤال!» فيتجرَّأ المشايخ ويهاجمون بعنف هؤلاء الشباب الذين يريدون قلب القانون الأخلاقي … ويسأل أحدهم: «دكتور طه … هل أنت متزوج؟»
– نعم يا سيِّدي!
– هل ستصحب زوجتك؟
– لا يا سيِّدي؛ لأنَّها في فرنسا.
– في فرنسا؟! وتركتها تذهب وحدَها؟!
– نعم يا سيِّدي؛ فهي فرنسية.
– ولماذا تزوَّجتَ فرنسية؟ لو كنتُ حرًّا لاشترعتُ قانونًا ينفي كل مصريٍّ يتزوَّج من أجنبية.
– أرجوك يا سيِّدي، اشترِعْ هذا القانون، فإني أستعجل ألا أستمع إلى مثل هذا الكلام! فينفجر الرجلُ ضاحكًا، ويضحكُ الجميع، ويأخذون في المزاح، إلا أنَّ الشيخ بخيت استأنف الكلام: «لكني بعد كل شيء يا دكتور طه أودُّ أن أفهم الأسباب الحقيقية التي حملتك على الزواج من أجنبية … فأنتَ مصريٌّ طيِّبٌ ووطنيٌّ طيِّبٌ عظيم الذكاء … فكيف أقدمتَ على مثل هذا العمل؟!»
– قابلت فتاة، وأحببتها؛ فتزوجتها. ولو لم أفعل لبقيت عزبًا أو لتزوجت — نفاقًا؛ بما أنني أحب امرأة أخرى — امرأةً مصريةً، وكنت سأجعل منها امرأة تعسة!
– هذا أمرٌ لا أستطيع تصوُّره!
– هذا أمر لن تستطيع تصوُّره دومًا يا فضيلة الشيخ؛ فنحن لا ننظر إلى الأشياء بالطريقة نفسها أبدًا.
لا أدري كيف تدبَّرْتُ أمري لأنتقل من السياسة إلى الأخلاق. كان الأمر أنني وقد اتخذت من تحليل طبائعنا السياسية حجَّةً، فقد أعلنت أن قاعدة سلوكنا الراهنة هي النفاق، وقدَّمتُ وصفًا عنيفًا ودقيقًا على قَدْر الإمكان للإنسان المنافق.
كنتُ أعرف احتدام غضبه وعنف أقواله، وأحاول أن أخفِّف قليلًا مِنْ حِدَّتها؛ فيبدو مفعمًا بالإرادة الطيبة: «سأطيعكِ، وسأكونُ نزيهًا في مقالاتي، ولن أسبِّب لكِ العذاب يا مَلاكي، اطمئنِّي، وما دمتِ إلى جانبي، فلن أغدو شرِّيرًا، لكني سأكون مجادلًا عنيفًا في المساجلات.»
يريد الشعب أن يشغل نفسه بشيء ما، وهو لم يَعُدْ يستطيع مطلقًا أن ينشغل بالسياسة، لحسن الحظ على كل حال. إذن فهو يتسلَّى، وهو يتسلَّى بأكثر الطرق انحطاطًا … إنَّ قلبي ينقبض عندما أرى الشباب ينغمر في النوادي الليلية القذرة؛ فكل هاتيك النساء فيما أظنُّ مرضى.
ولقد بقي زمنًا طويلًا مهمومًا من رؤيته الشباب بلا دليل ولا قواعد ولا هدف جادٍّ.
•••
جاء أخوه توفيق إلى القاهرة، وصَحِبَه إلى السوق لشراء بعض الحاجيات. ويتهم طه نفسه؛ فقد اشترى حذاء من الكتان الأبيض كان قد أعجبه. لكنه يقول: «على الرغم من عدم غلائه، فإنني نادم على كل حال على شرائه؛ إذ لستُ غنيًّا كما أني لست بحاجة إلى حذاء.»
وليتخيَّل القارئ كيف أني كنتُ أقرأ كل ذلك، وأنا أقيم مع الأطفال إقامة مريحة في أحد فنادق البيرينيه.
تحدَّث مصطفى جيدًا، أما منصور فقد ألقى خطابًا رومانتيكيًّا في حين ماحك لطفي قليلًا. والصحف لا تتحدث إلا عن ذلك الأمر الذي أراحنا قليلًا من السياسة.
على أن السياسة مع ذلك لا تستسلم للنسيان؛ فقد أطلقت النار على ضابطٍ بريطانيٍّ، الأمر الذي يمكن أن تترتَّب عليه نتائج خطيرة: «لم يعرف الأمن العام في تاريخه اضطرابًا مماثلًا وأخشى جدًّا أن يسقط النظام الجديد. فالحكومة لم تَعُدْ مرهوبة الجانب، وليس هناك أية سلطة أخلاقية ولا أي سلطة دينية … فهم يعتقلون أي شخص … لماذا لا يُطبَّق الحكم العرفي على الأجانب أيضًا؟!»
ومن الطبيعي أنَّ ما سُمِّيَ تعيينًا يتعفَّن في دوائر الوزارات واللجان، ويرغمه صديق على الذهاب لمقابلة وكيل الوزارة. كان في المكتب أجنبي، فقُدِّمَ إليه طه بوصفه عالمًا مشهورًا باللغات العديدة التي افترض فيه معرفتها والتي لا يعرفها، ولا يعرفها كذلك الآخر. تلك هي نتيجة الزيارة الوحيدة، مع لقاء محبب؛ فقد وصل لطفي في اللحظة التي كان فيها الشخص الأجنبي على وشك الذهاب.
قُمْنا بالسقرطة حول أشياء يجهلها كلانا، وكنا نتحدَّث عنها بوصفنا علماء! ماذا أقول؟ بل بوصفنا مختصِّين! عن العلاقات القائمة أو غير القائمة بين اللغة الهيروجليفية واللغات السامية القديمة. وأقسم لكِ أننا لم نَقُلْ سوى حماقات.
كان «الأصدقاء» الذين فرضوا أنفسهم على طه كريهين، مزعجين، ومتطفلين بشكل غير عاديٍّ، فقد كانوا يستمعون إليه وهو يُمْلي ما يكتب لي، ويستمعون إلى ما أكتب إليه. كان متعبًا وساخطًا بحيث انتهى إلى القبول بالذهاب إلى الإسكندرية لبعض الوقت. «شيء واحد يحزنني، وهو أنني سأترك البيت. هناك حيث تقوم كل سعادتي. حيث فيه أنتِ، لكني كنتُ فيه منفيًّا أصلًا.»
ويعِدُني، وهو يفكِّر بالبيت، وعودًا حاسمة، لن يتمكَّن من تحقيقها، بالحفاظ على حرمة حياتنا الخاصة عند عودتي — سوف نقلِّل من الزيارات المباغتة، المزعجة، العقيمة في أغلب الأحيان بحيث يستطيع الانصراف إلى العمل — وسيعمل على كلِّ حال بمعجزة، لكننا لم نستطع إطلاقًا أن نملك حياتنا الخاصة كما كنا نرغب.
أقضي أمسياتي في سماع الحكاية التي كرَّرَها عليَّ عزيزي الزناتي عن مكتبته ثلاثمائة ألف مرة؛ لن أنسى أبدًا وفاءه ولا تضحيته من أجلي. إنه أكرم إنسان عرفته.
… يتحدَّث فريد (الرفاعي) غالبًا عنكِ … إنه يحيا حياة لا تُطاق، ويعيش دومًا رابطًا مصيره ﺑ «الرئيس» دون أي بحث عن مصلحة شخصية … وأظنُّ أنه لو أحبَّ هذا الشابُّ امرأةً كما يحب ثروت باشا لكانت هذه المرأة أسعد امرأة في العالم؛ أي حماس، وأي حُمَيَّا، وأي استعداد لكل شيء.
ولما كان قد ارتاح أخيرًا لعثوره على حريته، فقد استعاد مزاجه المرح. وها هو ذا يكتب لي رسالةً مضحكةً كان لا بد لها من أن تسلِّيني، يكتب في بدايتها: «لقد أنجزت عملًا بطوليًّا خارقًا؛ فقد تحمَّمْتُ اليومَ في البحر!»
إذ بعد أن أرهقه إلحاح ألبير وأصدقائه انتهى للاستسلام لهم. وها هو ذا محاطًا بألبير وفكري، في حمام الرجال في سان ستيفانو. إنه ليس عبارة عن بلاج، وإنما ينزل المرء إلى الماء بواسطة درج، ويتدبر أمره حسب إمكاناته. وبدا طه مُروَّعًا؛ إذ وَجَدَ نفسه شبه عارٍ! (ولم يكن لباس الحمام كما هو اليوم!) لكنَّ فكري يشجعه: ما فائدة دراسة التاريخ اليوناني إن لم نلبس كاليونان؟! وأخيرًا ينزلون على الدرج متقاطرين. وصرخ بي واحدٌ لا أعرفه منهم: «ولكن تقدَّمْ!» ثم «ابْقَ واقفًا! تمسَّكْ جيِّدًا بالحبل!» لكنَّ جاري لم يكن هادئًا؛ فقد كان رأسي بارزًا ولم يكن يحب أن يظل كذلك. ويقول لي: «أَغْلِقْ فمك، ولا تتنفَّسْ، وأَغْطِسْ رأسك في الماء!» وأطيع! يا للهول! شربة، شربة هائلة تدخل فمي وأذني وشعري … ويضحك الجميع: «إذن؛ أغلق فمك وأَعِدِ الكَرَّة.» وأعيدُ الكرَّة، ولكنَّ الأمر نفسه يتكرَّر! يا للشيطان! من أين أمكن للماء أن يدخل؟! لا أعرف. ولكن ها هو ذا الحبل ينقطع، ويحملني ألبير على السلم. أتظنين أنني سأعيد الكَرَّة؟ كان الأمر ممتعًا، لكنه في منتهى التعقيد. إنني أعرف الآن ما معنى الغرق!»
لو قرأ ولداي هذه السطور لَضَحِكا كثيرًا، لكني لا أدري إن كانا يستطيعان أن يتصوَّرا ما كانت عليه هذه الحمَّامات البحرية الغريبة.
عجبًا! بينما يختبئ هؤلاء السادة الوجهاء، أدافع عنهم وتنصبُّ على رأسي بسببهم ثلاث صحف في الصباح وفي المساء دون توقُّف … سنرى!
أحتاجُ إلى رسائلكِ. تصوَّرِي كيف أنني وحدي في كلِّ مصر أُرْغَم على أن أتحمَّل كلَّ أنواع البؤس وكلَّ الأحداث دون أن أجدكِ إلى جانبي.
لو قارنت نفسي بشيءٍ ما، لقارنتها بهذه الأرض الرطبة على شواطئ النيل في مصر العليا؛ تلك الأرض التي بمجرد أن يلمسها المرء، ولو مجرد لمسة خفيفة، يتفجَّر الماء منها.
لكنه لم يكن لا مباليًا إلى هذا الحد.
وتمضي الأيام، ويحدث فجأة حدث كبير في حياة صديقنا مصطفى: «فقد استيقظ في الساعة الثامنة صباحًا عزبًا ليجد نفسه في الساعة الرابعة بعد الظهر متزوجًا.» بقرار من حسن باشا. لكن طه يتوهَّم …
لم يكن الملك شعبيًّا. وأذكر وقوع حادثة نادرة الوقوع في نظامٍ ملكيٍّ. ففي إحدى أمسيات الربيع من تلك السنة كان الملك يعود من سباق الخيل في الجزيرة. وكان الموكب يمرُّ من تحت شرفتنا. ورأيت الفرسان يسيرون حاملين الرايات الحمراء والخضراء، والعربة التي يجرها حصانان والفرسان من ورائها. كان الملك ينحني ويسلم يمنة ويسرة، غير أنَّ أحدًا لم يكن يردُّ له التحية أو يهتف له. ومرَّ الموكب في صمتٍ وبرودٍ. كان ذلك أمرًا يثير الحنق!
ذلك الأسبوع، كان القصر — كما كان يُقالُ آنذاك — يركب رأسه؛ فقد كان يريد برلمانًا لا سلطة له ولا حقوق، ولم يكن يريد سيادة وطنية ولا مسئولية وزارية. كانت الأزمة بعد كل شيء مدبَّرة.
ربما بفضل الجنرال اللنبي، أو بوجه خاص بفضل كارثة يمكن أن تضع القصر في وضع حرج … لكني لست على يقين من أنها لن تعود في وقتٍ قريبٍ للظهور ثانية … فالملك محاطٌ بحاشية رديئة! ومن الطبيعي أني مع الحكومة. ولست أنطلق في ذلك عن روحٍ حزبيةٍ وإنما عن وعيٍ. إنني لن أؤيد الاستبداد على الإطلاق.
والمصريون منقسمون على أنفسهم أكثر من أي وقت مضى. وأكثرية الشعب لا مبالية أو أنها متعاطفة أو أنها تنظر للأمر باستحسان، لكنه تعاطف لا يتجاوز الشفاه إطلاقًا، فهو غير مفيد. فالسعديون يحقدون على الحكومة وأنصارها ويكيلون لها الشتائم والاتهامات من كل نوع، أما العدليون فهم مبتهجون كثيرًا، ولا يُخْفون رضاهم، لكنهم يخشون إصدار حكم بالبراءة. هذا جبن ودناءة! إنني لست مع الوفد، لكني لا أستطيع أن أرى الناس يُعامَلون بهذه الطريقة؛ فيقفون أمام محكمة يرأسها الأجانب، لا أستطيع أن أبقى غير مكترث إزاء هذه الإهانة الكبيرة التي تُوجَّه إلى كرامتنا.
ويقرِّر طه رؤية رئيس الوزراء، ويذهب إليه. كان ثروت مرحًا عندما استقبله وسأله عن أخباري؛ وما يكادان يبدآن طَرْق الموضوعات الخطيرة حتى يقطع حديثهما مجموعة من الزوَّار. فاستأذن طه بالخروج والذهاب، لكنَّ صهر ثروت لحق به: «وتحدَّثْنا في السياسة، وعَرَضْتُ له آرائي، فأجابني: «معك حق، ولكن كيف حدث أنك لم تتحدث بذلك للرئيس؟!» فقلت: «كنتُ على وشك أن أفعل، لكنه لم يكن وحيدًا وأنا مسافر غدًا.» فصرخ: «انتظر إذن!» وتركني لحظةً عاد بعدها ليقول لي إن الرئيس ينتظرني. وعدتُ إليه وبقيت معه أتحدث فترة من الوقت.»
أُرْجِئَتِ الأزمة وعادت الأمور ثانية إلى وضعها الطبيعي تقريبًا. كان كازينو سان ستيفانو لا يفرغ أبدًا؛ فكل الناس يُوجَدون فيه: «البعض منهم لأنهم أغنياء، والبعض الآخر لأنهم فقراء؛ الفقراء يأتون لتناول فضلات الأغنياء، وبهذه الطريقة فنحن على يقين من أننا سنجد عالمًا ديمقراطيًّا في هذه الأماكن الأرستقراطية أساسًا!»
لم أفعل شيئًا هنا، ولا بدَّ لي من أن أفعل شيئًا ما! عليَّ أن أكتب وأن أترجم وأن أُحَضِّر دروسًا للجامعة وربما لدار المعلمين التي تطلب مني ثلاثة أو أربعة دروس في الأسبوع.
لكنه سيُغْرى بالبقاء في الإسكندرية قليلًا؛ لأنها «في هذه الآونة المركز السياسي الحقيقي للمرَّة الأولى فيما أظن منذ سنوات؛ فالعادة جَرَتْ على أنَّ السياسة تُصْنَع في القاهرة، وأن يقضي الوزراء إجازاتهم الصيفية في الإسكندرية.»
وفي المساء الأخير يتلقَّى زيارةً من عبد العزيز فهمي باشا الذي كان قد ذهب لرؤيته عشية اليوم السابق (أيُّ تهذيب آنذاك؟!) كان عبد العزيز باشا محاميًا شهيرًا وشخصيةً ساحرةً مؤثرةً: «يدخل ويأخذني بين ذراعيه ويأخذ في معانقتي بعنف تقريبًا. ويسأل عن أخباركِ لا بلطف وإنما بحنان. أتعلمين أنه يحب زوجته كثيرًا ولم يتعزَّ عن فقدانها منذ ١٩٠٧؟ إنه إنسان رائع، وأظن أنه يحبني، فأنا في نظره عالمُ مصر. إنَّ مصر مدينة لكَ وأنتَ معلمي.»
كان لا بد لطه من أن يضطرب؛ إذ حين لَقِيَهُ ثانيةً في المساء في فندقه: «كان هناك جمع كبير من الناس. ومن الطبيعي أنهم احتفظوا له بأفضل مكان. لكنه أعطاني إياه، وكان من المستحيل أن أجعله يغيِّر رأيه، وعندما استأذنت في الذهاب رافقني حتى فندقي.» كان لطفي وعبد العزيز أصدقاء مقربين جدًّا. فقد كان طه يلتقي بهما غالبًا ويتبادل معهما الأحاديث بحرية الأصدقاء وإلفتهم.
لم يكن ممكنًا لي أن أدخل غرفتك دون أن أضع يدي على صدري بشكلٍ غريزيٍّ، كما لو أن قلبي سيفرُّ مني … فأنا لا أراكِ، ولا أرى صورتك، ولا أستطيع أن أكتب إليكِ بنفسي … آه! ومع ذلك، فإني لا أحب أن أفكر في مثل هذه الأشياء.
كانت هذه إحدى المرات النادرة التي يتحدَّث فيها عن حالته ويعترف فيها بعذابه. أمِنَ الممكن أن يُقارَن عذابي بمثل هذا العذاب؟!
وربما كان العشاء الذي دعا إليه الشيخ مصطفى بمناسبة زواجه مؤخرًا قد سلَّاه قليلًا. كان مصطفى قد دعا «الشخصيات السياسية من الدرجة الثانية والشخصيات الأدبية من الدرجة الأولى. فالسياسيون هم الطبقة الأرستقراطية التي تصيِّف في الإسكندرية.»
كان طه يخاف أن تدور الأحاديث في السياسة ويخشى أن لا يتمالك نفسه. لكنهم ضحكوا كثيرًا واستبعدوا الخوض في الأمور الشائكة برغم حضور «صحفيين من كل الألوان — عدليين ووفديين ووطنيين بل حتى ملكيين — إذ لدينا الآن حزب جديد هو حزب الملك، وصحيفة الحرية، وهي صحيفة الملك، تُبعَث من جديد بأمر ملكيٍّ، ربما لأنَّ الأهرام ستعود للظهور بعد أن توقفت عن الصدور يوميْن.» لكنهم تحدثوا مع ذلك عن آفة جديدة: الوشايات التي بلغت نسبتها درجة تثير القلق.
نحن بحاجة إلى حكومة حازمة قاسية ومنظمة. هذه الحكومة ليست حكومة ثروت ولا حكومة الإنجليز. فهل تمنحنا إياها الحياة الدستورية؟ بانتظار ذلك أعلمكِ أنني انتويْتُ أن أتخلى عن السياسة، وسأكرس نفسي لعملي كعالم وكأستاذ تاركًا الميدان للثرثارين والوصوليين، ولكن هل سيتركونني أفعل؟ لقد بلغ اشمئزازي أَوْجَه.
أُدِينَ أعضاء الوفد واستاء طه استياءً شديدًا. وذهب لمقابلة رئيس الوزارة وصرَّح له بجلاء أنها إهانة لبلد يدَّعي الاستقلال، وأنَّ على الحكومة أن تحتجَّ على الأقلِّ: «إنَّ سلبيتكم تضعنا في موقف يستحيل فيه الدفاع عنكم.» وكان الرئيس المسكين يرى ذلك أيضًا، ولكنَّ طه — وهو الذي يعلم أن العمل وحده هو المهم — لا يكتفي بالشكاة وإنما يريد القيام بحملة لكي تتخذ لجنة الثلاثين إجراءات لصالح المعتقلين: «إنَّ اعتقالهم لن يكون طويلًا؛ إذ بمجرد أن يجتمع البرلمان، يُلْغَى الحكم العرفي فيُفْرَج عنهم؛ إذ لا بد من أن يتمكنوا من ترشيح أنفسهم في الانتخابات القادمة. سوف أحاول.»
يجب أن أردَّ عليه؛ فإذا نُشِرَ مقالي، فإنَّ من شأنه أن يكدِّر الملك، وربما تأثَّرَ منصبي من ذلك. لا يهمني، فلست أنا بالذي يشتري منصبًا مقابل عبودية البلاد وإني لعلى ثقة من أنك ستحبِّذين موقفي.
ويُنشَرُ المقال. غير أن مجلس الوزراء في اجتماعه يوم ٣ سبتمبر لم يضع مسألة المنصب على جدول أعماله. ولا يهمُّ إن كان ذلك لهذا السبب أو ذاك. وفي السابع من الشهر يستقبله وزير المعارف العامة بودٍّ ويقول له: «تعلمون أنَّ مسألتكم ستُبحَث في الجلسة المقبلة.»
وهززت كتفي: لستُ على عجلة من أمري يا صاحب المعالي، ولم آتِ إلى هنا من أجل ذلك.
كان الأمر بصدد الدروس التي يطلبون منه إلقاءها في دار المعلمين: «لكني سعيدٌ جدًّا لذلك، فسوف تدخل إليها روحًا جديدة فعالة، مثلًا، لا أريد أن تتعبك هذه الدروس وتشغلك كثيرًا عن عملك في مكتب الترجمة.» وافترقنا عند هذه الكلمات اللطيفة.
لم يصبح طه على الإطلاق مديرًا لمكتب الترجمة! والأجدر أن نتساءل فيما إذا كان قد وُجِدَ هذا المكتب نفسه أصلًا!
على الرغم من الإرهاق العصبي الذي تُسبِّبه له هذه المراجعات الدائمة للوعود وما تُخَلِّفه من مرارة فإنه لم يستسلم للقنوط. وها هو ذا يُعِدُّ أعمالًا أخرى: درسيْن لدار المعلمين حول تاريخ الشرق القديم، ستة دروس في أسبوع واحد! أما دروس الجامعة فستدور حول الهيلينية والعلاقات بين اليونان وروما. وفي الثالث من سبتمبر كان قد بدأ كتابًا حول حركة الاستقلال المصرية، وأملى في ساعة واحدة ست صفحات كبيرة: «ذلك لأنني أنتظرك.» فضلًا عن المقالات والترجمات.
أحبك وأنتظرك ولا أحيا إلا على هذا الانتظار …
تلك كانت آخر رسالة منه خلال هذه الأشهر الثلاثة من الفراق. لقد سبَّبَتْ له هذه الفترةُ كثيرًا من الآلام، لكنَّ ذكراها تظلُّ عزيزةً عليه وعليَّ؛ فقد تجرَّأ أخيرًا على أن يقول: «أنا قليل الإفضاء بمشاعري، بل إنني صموت، وإنني على وعي بذلك تمامًا، لكن ما أكثر ما حدثتك منذ رحيلك عن أشياء لا تطيقين سماعها! لم أكن أعتقد على الإطلاق بقدرتي على مثل هذا الحب. وستبقى دومًا في أعماق نفوسنا زاوية كانت وستبقى دومًا وحشيَّة، ولن يمكن تقاسمها إلا بيْن كائنيْن، كائنيْن فقط، أو أنها لن تُقتسَم على الإطلاق. هذه الزاوية الوحشية المتوحدة هي أفضل ما فينا.»
ليس هناك من بين هذه الرسائل التسعين رسالة واحدة لم تكن اعترافًا أو عطاء. أقرؤها وأقرأ تلك التي وصلتني منه بعد ذلك. خمسون عامًا مضت ولا أكاد أصدق ذلك إلا بصعوبة. أمن الممكن يا طه أنني كنتُ محبوبة على هذا النحو وأنني كنتُ المقصودة بهذا السيل من الحنان والعاطفة؟! لستُ في المعادي على الإطلاق، وليس عمري ثمانين عامًا. وعندما أغلق لفة الرسائل التي ربما تناولتها غدًا من جديد، أشعر أنني نشوى، خارج الزمن الحاضر، وخارج العالم.
هذا القَدْر من الحب الذي كان عليَّ أن أحمله وحدي، وحدي، عبئًا رائعًا، ما أكثر ما خفت ألا أتمكن من القيام بمتطلباته بجدارة!
من أين جئت أنتَ إذن؟ أنتَ الأقرب إلى نفسي، من أين جئت؟ وهل سيسمح لي الله أن ألقاك حيث أنت؟
للمرَّة الأولى، والوحيدة، لم نكن معًا في ذكرى زواجنا. كانت رسالتك يومها مفعمة جلالًا: «أبي حاجةٌ إلى القول أني أحبك؟! إني لأقولها لك مع ذلك وإنه لعهدٌ لكِ مني جديد.»
ولما كنا متحابَّين، فإننا سوف نسير من جديد، أقوياء بهذا الحب نحو المستقبل الذي ربما سيشبه الماضي، أو لعلَّه سيكون أفضل منه أو ربما سيكون أسوأ منه، ولكن ما همُّنا؟! سوزان، لنتابعِ المسير، أعطيني يدكِ.
«أعطيني يدكِ.» لقد طلَبَها مني أيضًا في الليلة الأخيرة، يدي، ولكني لم أذهب معه.
•••
ولقد أضحكتُ ابنتي كثيرًا دون قصد ذات مساء حين وضعتُ، على الرغم مني، سهوًا، ماء فال المعدني بدلًا من الزيت في مصباح البيجون، وقد ظنَّتْ أنَّ ذلك سيُسَلِّي أباها كثيرًا فكتبته له. إنني أنا التي أمسكت بالريشة بالطبع!
وصلت ابنتي الصغيرة إلى فرنسا دون قبعة؛ فغضبت أمي. كان من المستحيل علينا العثور عليها في أثناء الهرج الذي ساد لحظات السفر، وربما كانت قد أضاعتها في حديقة الفندق التي كانت واسعة، كما أنه لم يكن بوسعنا أن نفوِّت القطار. والحق أن ذلك الأمر لم يكن ليعذبني كثيرًا إلا أنه كان له فيما يبدو مغزى كبير في تلك الحقبة. وكان لا بد لغضب أمي من أن يسلِّي طه.
وبعد عدَّة أيام كان يذهب إلى آفينيون لرؤية الأب أندريه الذي كان معلمًا له والذي كان يحمل له في نفسه الكثير من الإجلال. كان الأب أندريه يُحتضَر، فرجا عمي أن ينقل لنا بركاته، ولم أَرَهُ على الإطلاق.
بعد خمسة عشر يومًا من هذه الزيارة الطبية، برز لمؤنس أولى أسنانه. ولا أظن أن ذلك كان نتيجة النظام الغذائي الجديد. وقد فرحت ابنتي لذلك جدًّا؛ فقد أعلنت وكأنها عالمة: «الآن وقد برزت سنه، فإنه سوف يتكلم وسيقول: ماما أحبك.» ما أروعكِ يا أمينة! لقد عزاني هذا الطفل الصغير الهش وأخته إلى حدٍّ كبير عن فراقٍ ما كان يمكن له أن يكون على الخطورة التي كان عليها بالنسبة لنا لو أنه حدث مع نساءٍ أخريات؛ كان خطيرًا بالنسبة إلى زوجي الضائع في ليله، وكان خطيرًا بالنسبة لي أنا التي كنتُ أعاني معه أقلَّ آلامه. كنتُ أتخيَّلُ أنواع السعادة التي سيحملانها له عندما يلتقيان به من جديد.
كانت أمينة تتابع اكتشافاتها. ففي اللوكسمبورج تعرفت على الحيوانات الخشبية، وكانت تركب أسدًا مزهوًّا يُسمَّى بروتوس؛ كانت فخورة، وكنتُ أقلَّ فخرًا منها. وعندما لاحظت اضطرابها في المرَّة الأولى ركبت إلى جانبها، إلا أنني لم أكن في الرابعة من عمري، وهو ما جعلني أحسُّ آلامًا سخيفة في قلبي وأتمنَّى لو تتوقف هذه الدورة الشيطانية التي بدَتْ وكأنها لن تنتهي!
وكنت أصحبها إلى مسرح «الشاتليه»، لكن ذلك كان بلا فائدة؛ إذ لم تكن تهتمُّ بما تراه. ولما كانت أصغر من أن تدرك دلالات الإيهام في الفن فقد كانت تتسلَّى دون فهم وتبقى غير مبالية تمامًا. على أنَّ الأمر لن يلبث أن يتغيَّر بعد عدَّة سنوات؛ فعندما رأت، في الصالة نفسها، أنهم يستعدون لإحراق عينَيْ ميشيل ستروجوف، انفجرت في نحيب لم أتمكَّنْ على أثره من تهدئتها.
كان المطر يسحرها دومًا. ففي إحدى الأمسيات الممطرة بغزارة، كانت تدندن، وقد ألصقت جبهتها على النافذة: «يقول لي المطرُ اسمعي …» ولم تكن تعرف أكثر من ذلك، فأتممتُ القصيدة؛ أما مؤنس، فقد كان مهتمًّا بذلك إلى حدٍّ بعيد وكان يحدق فيَّ بثباتٍ جادٍّ، ويطلق آهاته الصغيرة الراضية عند نهاية كل بيت من القصيدة.
•••
ثمَّ كانت العودة، حيث وجدتني قلبًا واسعًا، يفيض انفعالًا وينبض حيوية قديمة وجديدة. وتذكَّرْتُ ما قاله «ميشليه»: «إن الحب العفوي أرفع تعبير عن الحنان الإنساني.»
•••
وجدتُ البيت على أكمل وجه. كان أحمد قد تفوَّقَ على نفسه، وكذلك طه. وكان ثمة مفاجأة بانتظاري: بيانو. لقد كان أعظم من الساعة التي اشتريتها لطه (حتى مع اضطرارنا لدفع ثمنه بالتقسيط). لم يَعُدْ هذا البيانو موجودًا؛ إذ حلَّ محله بيانو آخر (بلوخنر) لا يزال موجودًا في «رامتان» وربما سيتخلَّى عني هو الآخر أيضًا.
واستغرقتني زيارات الترحيب. على أنَّ زيارات أولئك الذين اهتموا بطه خلال غيابي باستمرار أسعدتني على نحوٍ خاصٍّ.
كان طه يعمل كثيرًا. ففي البيت كان يُعِدُّ طيلة الصباح دروسه وأعمالًا أخرى. أما في الصحيفة، فقد كان يعمل من الثالثة حتى الثامنة أو التاسعة أو أكثر … ولكن لماذا تراني أقول ذلك؟ أَوَلمْ يعمل دائمًا؟
كان من المقرَّر ألا نبقى طويلًا في شارع سعيد؛ فقد كان المالك يرغب استعادة الشقة لنفسه، وكان القانون يجيز ذلك. وعثرنا على دار في شارع رمسيس سمَّاها طه «الزهرة» وأحبَّها جدًّا. كانت دارًا جميلة تقوم وسط حديقة، وكانت عبارة عن طابق واحد وشرفة مرتفعة، حيث يقوم على اليسار صالون كبير، وبهو في الوسط، وعلى اليمين مكتب صغير. وكانت الغرفة مطلة على الواجهة المقابلة. كان طه في هذا البيت شابًّا جذلًا يتابع بنشاط كأستاذ وكصحفي طريقًا عاصفًا، إلا أنَّ قناعته وإيمانه كانا يجعلان منه طريقًا عظيمًا. عندما كنا في القاهرة، بعد أن سكنَّا لمددٍ قصيرة في شارع المنيا وشارع الساكركير «القلب المقدس» في مصر الجديدة، كان قد شنَّ حروبًا أخرى وانتصر في معارك أخرى، لم يكن كئيبًا دومًا، لكن لحظات فرحه الحقيقية كانت نادرة تمامًا؛ فالغضون على الجبهة، على الصدغ الأيسر، والتي كانت تقلقني منذ عام ١٩٢٥، كانت تعود للظهور غالبًا. لكنها لم تَبْقَ، وظلَّتْ هذه الجبهة ملساء حتى الساعة الأخيرة.
في اللحظة التي كنا نغادر فيها «الزهرة» بعد أن أقمنا فيها ستة أعوام، جثا المرصفي فجأة على الشرفة وقبَّلَ البلاط، وأجاب على نظراتي المستفسرة قائلًا: «إنني أشكر هذا البيت.» كان على حق. فقد كان هذا البيت في نظر الطفلين حلمًا. كان الياسمين الهندي الكبير موضع سعادتهما؛ فكانا يقضيان فوق رءوسنا ساعات بين أغصانه. ذلك كان سنَّ الفرح الغامر، سنَّ الفرح البريء بصورة مطلقة، سنَّ حنان يُبذَل بلا حساب. وكان طه الذي يعبدهما يستلهم من فرحهما قوة عظيمة في وقت الضيق. كان يشارك في كل ما يبتكرانه، حتى ليغدو أحيانًا طفلًا مثلهما. وكان يبتكر بدون توقف قصصًا تدهشهما. وإني لأحبهما يقصان مغامرات الفتاة الصغيرة بوان بوان، أو قصة «القطار – المركب – الطائرة» (لم يكن ذلك جنونًا إلى هذا الحد) أو «نصف ألبير» وفصول «الزمن الذي كنتُ فيه ساحرًا» واكتشافات «بيربيش»، وهكذا كانا يناديان الهداهد اللطيفة التي كانت تتراقص على المرج. أَمِنَ الممكن أن أقول إنهما كانا رائعيْن، نشيطيْن، شرارات خاطفة حقًّا، أحيانًا، وعواصف هوجاء أحيانًا أخرى؟ أعرف أن طه كان يعرفهما مثلما أعرفهما، ومع ذلك فقد كان قلبي ينقبض كلما تحسَّستُ لطفهما ونظراتهما العابدة التي كانا ينظران بها إليه دون أن يراهما. يا صغيرتي العزيزة أمينة! لم يكن لكِ من العمر ثلاث سنوات عندما هُرِعْتِ لمدِّ يدكِ الصغيرة تقودينَ بها أباكِ الذي كان يجتاز بهو البيت! لم نكن بحاجة على الإطلاق لأن نقول للطفليْن إن أباهما كان ضريرًا، كما أنهما لم يطرحا أي سؤال حول هذا الموضوع. على أنَّ الأمر الذي ما كان ممكنًا لهما أن يجهلاه لم يحدَّ على الإطلاق من حرية علاقاتهما المتبادلة التي كانت عفوية مفعمة بالثقة.
وسرعان ما أطلقت ابنتي على نفسها اسمًا واتخذت لنفسها شخصية غامضة! فقد سمَّتْ نفسها كراليس، وعندما كان يصل أخوها فقد كانت تطلق عليه السيد كرالا. ثم ظهرت ساباتيه وظهر بالاجوست. وظلَّ مؤنس حتى النهاية، بالنسبة لطه، بالاجوست، ذكرى قائمة في أخصِّ زاوية من قلبه.
كانت أعياد الميلاد في تلك الفترة رائعة، وكان الجميع يسبغون عليها هذه الروعة من الشيخ مصطفى إلى ذلك الإنسان المتواضع الذي لم يكن يقلُّ أريحية؛ وأعني به الزناتي. كانا، بروحيهما النضرتين، يتقبَّلان كل شيء بفورة الفرح العارم. وكان ثمة سيارة حمراء، كان الطفلان يستطيعان وراء مقودها القيام بدورة في الحديقة، وكنا قد اشتريناها في باريس. وكان طه قد أراد المجيء معي إلى محلِّ «الربيع» لنختارها معًا. وبعد سنوات عديدة في القاهرة، رافقني إلى متجر «شيكوريل» لشراء حصان يتأرجح لأمينة، بنت مؤنس؛ كان قد مضى عليه آنذاك سنوات لم يدخل خلالها إلى أي متجر، وكانت تلك هي المرَّة الأخيرة.
كانت المظلة الوردية والبيضاء الصغيرة تثير لدى أمينة فرحًا عارمًا؛ فقد كان لها «علاقة»: هكذا كان يُطلَق على النطاق الذي كان يسمح بإمساك المظلة أو الشمسية. وأظن أن هذا الإتقان في الصنع هو ما كان يُسَبِّب النشوة.
تقول أمينة: «الثلج هو عبارة عن قطع من السماء تتساقط.» نحن في الحديقة؛ كانا يتكوَّران على ركبتيَّ، الوقت وقت العشية، وقد خيَّم سكونٌ تامٌّ. وتخطر على القلب ذكرى من فرنسا. صمتٌ طويل، ثم همسٌ: «إنني سعيد، إنني سعيد.» ثم، الصمت من جديد. ونحلم ثلاثتنا.
ذات صباح، وكان الوقت باكرًا، والجميع يستغرقون في نومهم، يتناهى إلى سمعي صوتٌ صغيرٌ يقول بهدوء: «صباح الخير يا أَحَدي الجميل.» كان الصوت صوت مؤنس، وكنا قد وعدناه القيام بنزهة في الصحراء ذلك اليوم.
كانت أمينة في الثالثة من عمرها. وفي إحدى الأمسيات دخلت المكتب واقتربت من أبيها وقالت بجدِّية بالغة: «لنعلل كما كان أرسطو يفعل؛ إذا وضعنا الماء في الدست …» وتنطلق ضحكة صاخبة من أبيها، على حين ينفجر لطفي الفيلسوف بضحكة أكثر صخبًا عندما رويت له هذه البداية من القياس المنطقي …
كانت تلك هي الفترة التي كنا نرى فيها لطفي — وكان جارنا — يوميًّا تقريبًا، وكنا نناديه آنذاك لطفي بك. وكنا نتناول طعام الغداء في بيته كل أسبوع كما كان يقاسمنا وجباتنا أحيانًا، وكان يتخاصم مع طه حول قضايا الأدب أو الفلسفة أو السياسة. كنتُ أُنَقِّب في مكتبته الجميلة، وأستعير منه كتبه، ككتب سانت بوف، وكان كتاب أندريه جيد «لو أنَّ الحبة لا تموت» أول الكتب التي استعرتها منه. وكنت أشارك بين الحين والآخر في النقاش عندما لا أوافق على رأي أحدهما. وكان لطفي يقول لي بابتسامة ودودة: «نعم يا ابنتي، إنك على حق دومًا.» ونضحك ثلاثتنا. أيها العزيز لطفي! عندما جاء إلى «رامتان» للمرَّة الأخيرة، قبيل وفاته، كان يقول لي ثانية: «يا ابنتي، ستكونين على حق دومًا!» كان يمشي بصعوبة، إلا أنه ظلَّ يأتي لزيارة طه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا عندما لم يَعُدْ طه يغادر المنزل إطلاقًا. وكنتُ أساعده على الركوب في العربة، ونجهد جميعًا في أن نبدو جذلين.
في أول رأس سنة نقضيها في مصر الجديدة أثرت شخصيته فيَّ كثيرًا؛ فبعد أن قدَّم لي التمنِّيات التقليدية بالعام الجديد أضاف بمهابة: «وقبل كل شيء ابقِ كما أنتِ.» كان لهذا الشكَّاك كلمات تنفذ إلى القلب مباشرة. وقد فَقَدَ أباه في تلك السنة، وكان صوته يرتعش عندما كان يقول لطه: «إنه صديق خمسين عامًا هذا الذي فقدته والذي لن أعوِّضه أبد الدهر.»
كان هذا الرجل، الذي كان دميمًا، والذي كان وجهه المطبوع بآثار الجدري يشعُّ ذكاءً ساخرًا، يملك هيئة خارقة؛ كان كبير الجسم، كان نحيلًا، كان مهذبًا، كان كلامه أكثر بطئًا، إذا جاز لي القول، من عينيه الحيَّتيْن. كان يتكلم ببطء وعلى وتيرة واحدة تقريبًا. ما أجمل الذهاب إلى الأوبرا برفقته! لم يكن — وربما لم يكن إطلاقًا — يتذوق الموسيقى الغربية، وكنا نذهب دومًا على وجه التقريب لمشاهدة الفِرَق الكوميدية. وما أجمل ترك الأطفال يرتعون في حديقة قصر الزعفران القديم؛ حيث أُقِيمَت الجامعة! كنا نذهب لاصطحاب طه بعد أن ينهي درسه، كان مع مدير الجامعة بالطبع، وكانا يتناقشان، وكنا نضع المشاريع ونحلم ببيوت تُبنَى في الحديقة ليسكنها الأساتذة! هل يمكن أن يكون المرء أكثر توهمًا؟! وكنا غالبًا ما نعود بعد ذلك معًا.
كنا حين نذهب لرؤيته، بعد عديد من السنوات، نجده متدثرًا بل متلاشيًا في قفطان واسع أبيض أو أشهب أو أسمر، يكاد رأسه يختفي بين طيات لفة من الصوف؛ فقد كان سريع التأثر بالبرد. كان يجلس أمام موقد النار، هادئًا، يداه الدقيقتان تسبحان، كان يبدو لي صورة طبق الأصل من الفلاسفة والعلماء الأقدمين الذين تبنَّى حكمتهم دون أيِّ انبهار.
منذ الأمس لم أكفَّ عن العمل إلا من أجل أن أطعم وأنام. إنني متعب قليلًا لكني سعيد جدًّا. إنك تعرفين هذا النوع من الرضا الذي يعقب القيام بالواجب، وذلك الشعور بأن المرء على مستوى الرسالة التي كُلِّفَ بها برغم المصاعب التي يواجهها. لا أدري إن كان الطلبة يفهمونني، لكنني كنتُ سعيدًا وأنا ألقي درسي قبل قليل؛ فأبحاثي الشخصية تصل بي إلى نتائج كبار المستشرقين نفسها. أتدرين أنني قررت ألا أقرأ أبحاثهم إلا بعد أن أُنْجِز أبحاثي لكي أكون على علم بها فقط؟!
وكدتُ أموت عندما فقدتُ الأمل في الحصول على طفل ثالث كنا ننتظره بفرح. إلا أنَّ ذعر طه المقلق هو الذي كان رهيبًا. ولقد بقيت أمدًا طويلًا لا أستطيع التفكير دون خوف في الوجه المذعور، في هذا الإنسان الأعزل الذي وجد نفسه فجأة على حافة ليل جديد والذي كان يُهرَع إلى الهاتف مترنحًا، مصطدمًا بالأثاث. وعرفت فيما بعد أنه قد أُغمي عليه مرَّتين. وكان من حسن الحظ أنه لم يكن وحيدًا في تلك اللحظة؛ فقد كانت تصحبه طيبة الدكتور نجيب محفوظ المرهفة والتي تعالج كل شيء بإدراك. وسأبقى مخلصة لذكرى الدكتور نجيب محفوظ الذي تُوفِّي منذ أكثر من سنة بقليل؛ لقد كان عالمًا يلقى الاحترام حيثما كان، وكانت سمعته العلمية تتجاوز إلى حدٍّ بعيدٍ كلَّ ما أشعر به نحوه من ودٍّ.
بعد ثلاث سنوات اضطر طه لإجراء عملية، لم يكن إجراؤها خطيرًا في الأساس، لكنها كانت على كل حال عملية في الزائدة الدودية التي التهبت وهدَّدت بالخطر. وحلَّ لي كل شيء طبيبٌ عظيم آخر هو الصديق العزيز علي باشا إبراهيم، ببساطة لم تكن تفارقه. وتنضاف إلى هذه الذكرى العذبة المريحة ذكريات أخريات؛ فقد هُرِع مصطفى إلى المستشفى حاملًا مظروفًا (وقد استطعت لحسن الحظ أن أعلمَ طه بمضمونه بسرعة). وكان ثمة مظروف ثانٍ، بل ثالث … لا أذكر أسماء هؤلاء الأصدقاء المخلصين، وإني آسفة لذلك أشد الأسف. ولحظة الدخول إلى غرفة العمليات، عهد طه إلى مصطفى وإلى أخيه الشيخ أحمد في الوقت نفسه بامرأته وولديه. ولدى عودتنا إلى البيت، كان هناك خمسة أطفال: طفلانا وأطفال الرفاعي الثلاثة، منهمكين في وضع الزهور في جميع الأواني. وقد حمل المرصفي، الذي جاء معنا، حمل طه بين ذراعيه من العربة حتى السرير كما لو كان يحمل طفلًا صغيرًا. وكانت جان ماري الرفاعي تبكي وتضحك في آنٍ واحدٍ من تأثير الانفعال. ثم كانت المسيرة العاطفية التي قام بها الطلبة وموظفو الجامعة من أدناهم إلى أعلاهم، والذين سبق لهم أن جاءوا إلى المستشفى قلقين للاطمئنان عليه. كانوا يدخلون البيت بهدوء، وكان أكثرهم فقرًا يصرُّ على أن يحمل معه السجائر. كان كل ذلك في نظري في منتهى الرقة، بعد أن واجهنا الأيام المخيفة في السنة الماضية، كما كنتُ أرى في ذلك وعدًا بمستقبل أكثر إشراقًا.
لم تكن حالات «التخلي» قليلة، مثلما أنها لن تكون قليلة أيضًا في العاصفة القادمة التي ستهبُّ في عام ١٩٣٢. لكني لا أريد أن أتذكَّر سوى الأصدقاء الذين ظلوا بقربنا باستمرار. كنتُ قد أحببتكَ مِنْ قَبْل يا شيخ مصطفى، وأنتَ يا عبد العزيز فهمي … ولكن منذ …
لكي يتمكن طه من التغلب على مرارته واستعادة صحته التي ساءت، صحِبْتُه إلى فرنسا، إلى قرية صغيرة في السافوا العليا. وهناك كتب، خلال تسعة أيام، كتابه الذي يحمل اسم «الأيام» أو «كتاب الأيام».
•••
عندما عدنا إلى مصر، عدنا لنواجه من جديد التآمر، ولننعم كذلك بالتعاطف الذي أراد البعض أن يُعَبِّروا عنه؛ قبل تلك الأزمة، كان لطه شعبيته. وأذكر أنني في حفلة لتوزيع الجوائز في الجامعة الأمريكية لاحظتُ أنه كان كثيرٌ من الناس يتطلع نحونا برغم أننا كنا — إذا جاز لي القول — من غير المرضيِّ عنهم سياسيًّا، أعني ممن لا يرضى عنهم رجال الحكم، وأولئك الذين كانوا يخشون فقدان وظائفهم. وبرغم أن القصر كان معاديًا لنا، كان الناس يتهامسون، وكان كثير منهم يقترب منا ويحيينا. لم يقاطع أحدٌ دروسه العامَّة ومحاضراته، وكانت القاعة تمتلئ بالناس يوم كانت في الأزبكية.
وفي شهر أكتوبر من تلك السنة المقدَّرة طُلِبَ إليه أن يتحدث في جمعية الشبان المسيحيين، وكان لا بد من إغلاق قاعة المحاضرات قبل ربع ساعة من بدء المحاضرة؛ إذ لم يكن ثمة مكان خالٍ، وكان الشباب يجلسون على النوافذ. وعندما انتهت المحاضرة، جذب أمين الجمعية طه إلى الغرفة المجاورة وأغلق عليه الباب بالمفتاح! ثم جعله يخرج بعد ذلك من باب آخر؛ فقد كان يخشى أن يخنقه الناس في غمرة التصفيق والعناق.
ولقد بدوت مأخوذةً على الطريق المحفوف بأشجار البرتقال المزهرة والذي سيفضي بنا إلى طرابلس، لكننا وصلنا ليلًا للأسف، وكان علينا أن نتابع الطريق منذ الصباح للصعود إلى قلعة الحصن. لم تكن الطرق مُعَبَّدة آنذاك، لكنَّ السائقين كانوا جسورين أيضًا، كنا في غاية الإرهاق ونحن ننزل من القلعة، ولم يكن يخطر للعنزات التي كانت ترعى بسلام — (أتراها لا تزال ترعى؟!) على البلاط القديم المحدَّب — ما كنا نعانيه داخل سيارة لم تكن تسير مطلقًا على خطٍّ مستقيمٍ، ولم تكن تكف عن القذف بنا إلى السقف كلما كان عليها أن تدور مع منعطفات الطريق الوفيرة! على أنَّ ذلك لم يكن يحدُّ من عمق الانطباع الذي يخرج به المرء من القلعة القديمة التي كانت تحفل بتاريخ مدهش.
وأتاح لنا سامي فرصة مشاهدة البساتين الشهيرة التي تحيط بحلب، بساتين أشجار الفستق واللوز. ولقد كان يرسل لنا من هذا الفستق اللذيذ بعض العلب في بعض الأحيان.
أما في نظر طه فإن ما اهتمَّ له بطبيعة الحال كان القلعة والذكريات الفريدة التي احتفظت بها هذه المدينة التي، وإن كان طابعها العربي واضحًا تمامًا، لا أدري — ولعله أمرٌ غريبٌ حقًّا — لِمَ كنتُ أرى فيها شيئًا من الطابع الآسيوي.
وفي بعلبك، يعود ليعيش ثانية بسعادة في الجو الكلاسيكي الذي كان يجد فيه راحته.
دخلنا فلسطين من مدينة حيفا، هذه المدينة القبيحة، لا أدري أي هواء كنا نستنشق فيها، ولعلَّ من العدل أن أقول أي هواء كنا نحاول أن نستنشقه؛ إذ على الرغم من البحر، فقد كان الهواء خانقًا، وكنتُ أشكو فيها دومًا ألمًا في القلب. كان علينا أن نذهب إلى كفر ناحوم مع بقية أعضاء المؤتمر، إلا أنَّ هذه الرحلات الطويلة كانت قد أتعبتني إلى حدٍّ أعلن معه طه عن عدوله عن الذهاب إليها وقرَّر أن نذهب إلى القدس فننتظرهم هناك. وقد طلب إلينا أحد رفاقنا، وهو شابٌّ إنجليزيٌّ، أن يشاركنا سيارة الأجرة، وعلى الطريق توقَّفْنا ثلاثتنا عند مسجد نابلس.
لم يكن فندقنا بعيدًا عن كنيسة القيامة. كان الوقتُ وقت عيد الفصح والحج. وكان ثمة حاجٌّ قبطي، كما كان هناك عائلات قد أقامت على السطح بأكملها وسط رائحة قلي الطعام النفاذة. ولقد كانت عقليتي الغربيَّة تُدهَش وتُصدَم، غير أن الأب الدومينيكاني الذي كان يرافقنا وضَّحَ لي الأمور، وعلَّمَني أن أكون أكثر تواضعًا، وصلَّيْنا، كلٌّ في قلبه، في مسجد عمر وفي الجثسيماني.
على أنَّ هناك صورًا أخرى تتراكب فوق تلك الصور الأولى، ومن الصعب عليَّ أن أتحدَّث عنها بالتفاصيل، وأعني بها صور أشهر الصيف التي قضيناها مع الأطفال. كانت الحرب في أوروبا، وكانت هناك أحداث جارية مؤسفة تُغَيِّر من وضع هذا المكان الفريد. هناك الآن كثيرٌ من الأشياء التي تثور في قلوبنا المتألمة. تُرى هل سأراكِ يا قدس؟! وإن عدتُ إليك، فما الذي سأستشعره من دون طه؟!
عدنا إلى لبنان أكثر من مرة، وبقينا فيه فترة أكثر طولًا. ففي عام ١٩٢٧ عرفنا حمَّانا. كان لامارتين قد أحب هذه البلدة الصغيرة القائمة على مرتفع في الجبل يطلُّ على غابات الصنوبر مثلما أحببناها نحن أيضًا. وكان الفندق المتواضع يقوم بالقرب من شلال ماء في منتهى الجمال، وهو أمر نادر في لبنان، وأعني به شلال الشاغور. كما كان ثمة أشجار جميلة وارفة كنت أحب أن أستريح في ظلالها، لكنها كانت دومًا حافلة بنزلاء الفندق أو بأهالي البلدة الذين كانوا يلعبون ويصخبون كصخب الماء المتساقط، وإنما بصورة أقل شاعرية منه!
كان الجميع في منتهى اللطف، وقد أُقِيمَتْ مناظرات في الزجل على شرف طه. وفي الهواء العذب الندي كان الشعراء يرددون القوافي الرنانة بالتبادل كما لو كانوا يردُّون كرة اللعب، وكانت تُؤلَّف على هذا النحو قصائد لا تنتهي. وقد كانت لي حصتي من الثناء، فبالإضافة إلى الابتسامة التي أثارها صياح أحد الزجالين عندما قال لي: «سيبقى اسمك يا سيدتي منحوتًا على جرانيت الشاغور.» فإنني قد تأثرت عميق التأثر.
كان في الفندق معنا الممثل المصري الشهير جورج أبيض تصحبه زوجته وطفلهما. كانت دولت أبيض ممثلة هي الأخرى، وكنا نستشعر دومًا موهبتها العظيمة. وكانت بالطبع نبيلة رصينة السلوك بليغة الحديث. ولم ينسَ أولئك الذين رأوها تُمَثِّل في مسرحية أندروماك حماسهم على الإطلاق، كما كانت تسهم أيضًا في برامج إذاعية. ولئن لم أكن أراها كثيرًا مثلما كنتُ أتمنى، فإني أشعر نحوها مع ذلك بكثير من الود والصداقة.
كان الباشا يتحدَّث مع طه بصورة عفوية، وقد قال له ذات مرة: «هل تعلم أنني متُّ؟ (كان قد أُصِيبَ بغيبوبة نتيجة مرض السكر)، حسنًا! أستطيع أن أؤكد لك ذلك. بعد الموت لم يَعُدْ ثمة شيء أحسُّ به؛ أيُّ شيء.»
كان طه يرى بلا عينين. فقد أذهلنا بتصريح مفاجئ حين كنا في فندق جبلي وكان الراديو يذيع برنامجًا عن مطرب شرقي لم يكن يحبُّ صوته؛ إذ هتف: «على كل حال لا بد لهذا الرجل من أن يكون بدينًا وأصلع!» وعندما رأينا صورة هذا المطرب على مغلف إحدى أسطوانات أغنياته، تأكَّدَ لنا أن ما قاله طه كان صحيحًا كل الصحة!
تبقى بلدة بيت مري عزيزةً عليَّ. فقد اكتسبنا فيها الصحة، كما كانت تمنحنا الأمل بأننا سوف نرى مرَّة أخرى مناظر شبيهة إلى حدٍّ ما بتلك التي كنا نسعد برؤيتها ذات يوم. ثمَّ إنَّ هناك ذكرى ترتبط بهذه القرية المتواضعة. ففيها سمعنا الراديو، في أحد أيام شهر أغسطس، وهو يعلن تحرير باريس. كان عليَّ آنذاك أن أكتب على الفور لأمي رسالة ربما لن تتلقَّاها: «أمي … تعالي إلى ذراعي أضمك بجنون، أضمك حتى لأكاد أسحقك وأخنقك! … لقد أصبحتم أحرارًا، وها هي باريس قد أُعِيدَتْ لكم؛ فكيف يمكننا أن نكون جديرين بكم؟! …»
لقد مسَّ الانفعال كافة مَنْ كان موجودًا في بيت مري، حتى أولئك الذين كانت لهم أسبابهم للتذمُّر من فرنسا. وأعثر في أحد الدهاليز على السيد إلياس مدير الفندق الذي كان هو الآخَر — وهو أمر طبيعي جدًّا — يريد استقلال بلده. كانت عيناه حمراوين، فقلت له بصوت مخنوق: «على الرغم من كل شيء يا سيد إلياس؟» فأجابني بصوت مبحوح كصوتي: «نعم يا سيدتي، على الرغم من كل شيء!»
لقد استُثِيرت كل القرية. كنا نتحدَّث، ونُعَبِّر بالإشارات والحركات والأصوات ونتبادل القبلات. ثم قام إلياس بتوزيع الشمبانيا على الجميع.
كان طفلاي منذ الحرب قد رفضا مشاهدة الرقص في الحفلات، ولم يحنثا بهذه اليمين الشخصية سوى مرة واحدة. كان ذلك على وجه الدقة في بيت مري ذات مساء، عندما صعد بحارة مركب يوناني رسا في بيروت إلى بيت مري. كنا نتحدث كثيرًا معهم، وأرادوا الرقص (وكان الناس يرقصون كل مساء في الفندق). فافتتح قائدهم الحفلة وكان هذا الإنسان العزيز ضخمًا قليلًا، فسرعان ما لهث تعبًا وقال لابنتي بلطف: «أظن أنه من الأفضل أن نترك الرقص لضباطي الشبان …»
وفي ٢٦ أغسطس رقص سكان الفندق، أكان هو ذلك اليوم الذي وجد فيه طفلاي اللذان كانا يرقصان الفالس معًا نفسيهما وحيديْن مع زوجٍ آخر من الراقصين على ساحة الرقص؟! وإذ كانوا في حالة من الإصرار الجنوني، فإنَّ أحدًا منهم لم يكن يريد التوقف. وكان ولداي هما اللذين بقيا إلى النهاية وسط حماس الذين كانوا يشاهدونهما وتَهْلِيلهم اللطيف!
وأُشْعِلَتْ في الليل نيران عظيمة على الجبل. تلك النيران التي كانت تُشعَل دومًا في الخامس عشر من سبتمبر مع التأكيد بأنها ستمطر حتمًا في اليوم التالي. والحق أننا رأينا السماء تمطر في كل صيف، تلك الأمطار الغزيرة التي تحمل معها الخير بعد أشهر مضت دون أي قطرة من الماء. وكانت الأجراس جميعًا تُقرَع في كل مكان.
لم نَعُدْ إلى بيت مري. بيد أنني في كل مرة أكون فيها على ظهر سفينة تتوقَّف في بيروت، فإنني أرفع عينيَّ وأحيِّي من سطح الباخرة هذا البلد الذي يقع في مكان مرتفع. ساعة يغمره المغيب بنوره البنفسجي الجذاب. وكلما استطاع طه أن يغادر مقصورته، كنت أُجلسه على السطح في مواجهة هذا المنظر وتلك الذكريات.
كان قد حصل على وسام الأرز في تلك السنة نفسها. وبعد ذلك تحدَّثَ عدَّة مرات في بيروت، في قاعات غاصَّة بالمستمعين الذين كانوا يصغون إليه بحبٍّ. وفي عام ١٩٤٨، في أثناء المؤتمر العام لليونسكو، أجلسوه على المنصة عندما كان عليه أن يلقي خطابه. وعندما رأيت زوجي على هذه المنصة الواسعة العالية، أكثر عزلة من أي وقت مضى، بعيدًا عني في مواجهة جمهور غفير، لا يملك أي إمكانية للخروج من هذا الموقع بنفسه، يستعدُّ للكلام بدون أية مذكرات، فقد أُصِبْتُ بهلع حقيقي، وبلغ بي الشحوب حدًّا ظنَّنِي معه صديقٌ كان بالقرب منِّي مريضة. وبوسعي القول إنَّ المحاضرة قد تمَّت وسط هتافٍ حماسيٍّ. كانوا قد وزعوا بطاقات دعوة بلغ عددها ثلاثة أضعاف الأماكن التي تسعها الصالة، وأُرْغِمَ كثيرٌ من الناس تحت وطأة الزحام، على البقاء في الدهاليز.
كانت هذه الرحلة تكريمًا جميلًا من اللبنانيين لإنسان كانوا يحترمونه. فقد كان طه، مرَّة أخرى، مغضوبًا عليه. ووجدَتْ مصرُ أنَّ من الأفضل استبعاده من عضوية وفدها إلى مؤتمر اليونسكو؛ ذلك الوفد الذي كان يرأسه بحكم العادة. غير أن لفتة لبنان نحوه لا تُنسى؛ فقد دَعَتْ حكومتُه طه، وتلقَّى منها كلَّ تشريف واعتبار.
وكان طه، في كل مرة يخاطب فيها اللبنانيين، يتلقَّى منهم هذا الفيض من العاطفة الحارَّة التي تربطه بهم وتربطهم به.
كانت المؤتمرات عديدة في حياتنا برغم أننا تخلَّيْنا عن كثيرٍ منها لأسباب شتى، تتعلق بالعمل أو بالصحة تارة وتتعلق بالأسرة تارة أخرى. كانت بداياتنا في بروكسل، ولعل ذلك كان في عام ١٩٢٣؛ فذكرياتي في هذا المجال غامضة إلى حدٍّ ما. ومع ذلك فقد كان الاضطراب يشلني عندما توجَّبَ عليَّ أن أقوم بإلقاء كلمة طه في المؤتمر. كنتُ شابة وخجولًا بِوجْه خاص، ولقد بقيتُ خجولًا دومًا. وتوجَّب عليَّ في بعض الأحيان أن أبذل جهدًا كبيرًا لأتمكَّن من السيطرة على نفسي. غير أنَّ طه استطاع الانتصار على تردُّده وصار بعد ذلك يقول لنفسه ما كان يريد أن يقوله في مثل هذه المناسبات.
وكذلك عصبية طه بسبب أحد أعضاء المؤتمر الآخرين، وكان إنسانًا في منتهى الاضطراب، إذ كان يقرِّر كلَّ شيء بادئًا دومًا كلامه بجملة لا تتغيَّر، عميق الثقة بنفسه: «إنني أسمح لنفسي في أن …»
ولما كنتُ لا أتركُ طه وحده، فقد قُدِّمتُ إلى الملك ألبير وإلى الملكة إليزابيت عندما استقبلا أعضاء المؤتمر. وفي حفل الاستقبال الذي تلا ذلك، تحدَّثْنا كلَّ الوقت تقريبًا مع الأمراء الشبان، وكان منهم الأميران الشابان ماري جوزيه التي ستصبح ملكة وليوبولد الذي سيصبح ملكًا، وكانا في منتهى اللطف.
في هذه المرَّة لم أكن أنا التي قرأت نص محاضرة طه «ناهضًا لحرب الشعوبية». لقد بحثنا عن تمهيد أقل شراسة لهذا البحث الجاد الذي يعالج البلاغة العربية من الجاحظ حتى عبد القاهر. ولقد ظلَّ عنوان هذا النص شهيرًا لدى الطفليْن.
لم يكن الدمار الذي خلَّفَتْه الحرب قد أُعِيدَ ترميمه وإصلاحه بَعْدُ، ولم يكن هناك أي فندق في ليدن. وقد أقام أعضاء المؤتمر، الذين لم يكن من الممكن جعلهم يقيمون مثلنا لدى سكان المدينة، في لاهاي، وفي أمكنة أخرى. كان الشيخ مصطفى في لاهاي، وقد دعانا للعشاء ذات مساء، وفي أثناء عودتنا، لمحتِ ابنتي في الفندق لوحةً كبيرةً؛ فصاحت: «من هي هذه المرأة المخيفة؟!» فانحنى مدير الفندق باحترام وقال: «إنها ملكتنا يا آنستي!» إنَّ ابنتي، وقد غَدَتْ زوجة دبلوماسيٍّ، تذكر ذلك بمزيج من الارتباك والضحك.
ودُعِينا للقيام بنزهة جميلة على مركب عَبْرَ القنوات التي تجتاز الحقول والبساتين. وكان ثمة امرأة شابة لا تكفُّ عن رسم أعضاء المؤتمر الذين كانوا على المركب، وأهدتني رسم طه ورسم الشيخ مصطفى، وما كان أشدَّ اختلاف صورة الشيخ مصطفى وهو يرتدي البذلة والقبعة! وكان الأجانب يُعجَبون به أكثر وهو في ثيابه الحريرية الجميلة.
أفي هذه السنة نفسها ذهبنا إلى لوفان؟ أم بمناسبة مؤتمر آخر في بروكسل بعد ذلك بسبع سنوات؟ كان اليوم الذي كنا فيه يوم الكرمس؛ وهو يوم احتفال شعبي. وكنا قد اجتمعنا في سوق الحبوب القديمة حيث استقبلنا رئيس الجامعة الرائع. كان عليه أن يصحبنا إلى المكتبة الجديدة التي كانوا يُجَدِّدونها. وقد قال لي الأب قنواتي إنها قد تهدَّمت مرَّة أخرى في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها قد أُعِيدَ بناؤها الآن بفضل المساعدات التي وردَتْ من كلِّ مكان تقريبًا، وأنها تحفل بالكتب الجميلة والقيِّمة.
كان الرئيس يسير على رأس الفريق، وكنا نحذو حذو خطواته ونتقاطر في لوفان على أنغام «تعالي يا بوبول» التي تطلقها الرقصات الدائرية في المعرض، وكنا نمشي بالرغم عنا سيرًا إيقاعيًّا وراء الثوب البنفسجي الذي كان يتقدَّم أيضًا حسب الإيقاع.
كان طه قد ذهب في السنة السابقة إلى فيينا مع فريد. كان توفيق قد غدا ربَّ عائلةٍ بعد وفاة أبيه، وكان طه قد جعله يتمِّم بأسرع وقتٍ ممكنٍ دراستَه في الحقوق؛ فأحلَّ توفيق أخاه محله بالقرب من طه. ولما لم تكن مصاريف رحلتي على حساب المؤتمر فقد عهد بنا إلى عوض وذهبنا ننتظره في باريس. لم يكن انتظارنا لحسن الحظ طويلًا، كان سليم حسن قد بقي مع طه للعناية به. غير أن هذه الأيام القليلة من الفراق كانت مؤلمة جدًّا. وقد كتب لي: «علينا ألا نكرر على الإطلاق هذا الفراق الحكيم الأحمق. فبدونك أشعر أني أعمى حقًّا. أما وأنا معك، فإنني أتوصَّل إلى الشعور بكل شيء، وإلى أن أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي.» ويستشهد لي ببيت من الشعر العربي: «ناقتي في البيدِ تجري …» أمامه كانت فيينا، ووراءه باريس ومن يحبهم.
تأثَّرْتُ لقراءتي هذا الاستشهاد. ففي كثيرٍ من المرات التي كنا نتحدَّث فيها، كان يستشهد ببيت من الشعر أو بمَثَل أو بآية من القرآن الذي كان يحبُّ أن يقرأه لي وأن يترجمه لي. وكنا في السنوات الأخيرة، نقضي لحظات طويلة في العربة التي لم تكن تجري بسرعة، ليتمكن مِنْ تحسُّس رائحة العشب، وسماع تغريد العصافير، ونهيق الحمير، وصوت الطاحونة وسط الحقول بين بنها وطوخ.
لقد تسمَّمَتْ أمسيتي. كنتُ أحبه كثيرًا وكان يبادلني هذا الحب، وقد أخبرني عن وفاته السير دنيسون أمس. فمتى أعقل أنَّ عليَّ أن أُعِدَّ نفسي لتقبُّلِ موت أصدقائي؟!
وكان عليه أن يتلقَّى قريبًا موتَ صديقٍ آخر (وكنا قد عُدْنا إلى القاهرة)، وأعني به موت حسين بك عبد الرازق، الأخ الأكبر لمصطفى. كنا نحبُّه كما لو كان أخانا الأكبر أيضًا. كان يعيش أغلب الأحيان في عزبة أهله في «أبو جرج» التي كان فيما أظن مسئولًا عنها. وكان يجمع إلى الاستقامة المثلى إخلاصًا كاملًا. كان كثير التعلق بالتقاليد؛ فامرأته وبناته كنَّ يعشن في رصانة فرضتها تقاليد الماضي. ومع ذلك فعندما كنت في «أبو جرج» مع طفليَّ، فإنه كان غالبًا ما يطلب إليَّ أن آتي إليه في التعريشة حيث كان يجتمع بنظار المنطقة ومزارعيها، وكان ذلك يؤثِّر في نفسي تأثيرًا طيبًا. لقد كنت أتحدَّث إليه في ثقة كاملة، وكانت هناك ناحية لم نكن نتفق حولها مطلقًا. فقد كنت أستمتع بتغريد العصافير في الصباح، أما هو فقد كان يسخط أشد السخط؛ لأنه كان يرغمه على الاستيقاظ باكرًا جدًّا.
والذكرى تستدعي الذكرى؛ أعني الموت المأساوي لعميد أسرة عبد الرازق قبل تسع سنوات من وفاة حسين عبد الرازق، أعني موت حسن باشا عبد الرازق الذي كان قد استقبلني لدى وصولي مصر والذي لم يكفَّ عن العناية الودية بي؛ فقد كانت له لفتات مماثلة للفتات أخيه. كنا مدعوِّين معه لعشاء كنتُ فيه المرأة الوحيدة من المدعوين، وامتدَّ العشاء. وكنتُ قد تعبتُ وبدأتُ أشعر بالسأم. آه! ما أكثر سأمي! … ولاحظ ذلك حسن باشا؛ فقال لي بصوتٍ منخفض: «هل تريدين العودة؟» فقلت بلهفة: «آه … نعم!» فنهض وخاطب مضيفنا قائلًا: «يا صاحب المعالي، إن السيدة طه حسين متعبة، فإذا سمحتم لي فإنني سأرافقهما؛ إذ عليَّ العودة أنا الآخر أيضًا.» إنه أمر بسيط ولا شك، لكنه ذو أهمية كبيرة في بعض الأحيان.
لقد حدث ذلك في إحدى المراحل العنيفة من الصراع السياسي الذي كان يجعل البلد في اضطراب دائم. كان هناك في ذلك اليوم، يوم وفاته، اجتماع للأحرار في مكتب «السياسة» وكان طه حاضرًا هذا الاجتماع، وكان هناك خارج المقر بعض المجرمين يختفون في الظلام. كانوا يستهدفون عدلي ولا شك، إلا أنَّ حسن باشا والمحامي زهدي كانا أول مَنْ خرج من الاجتماع … بعد خمسين سنة مرَّت على هذا اليوم، كان من بين الجمهور الذي جاء للتعزية بوفاة طه، سيدة لم أكن أعرفها، وكانت شقيقة زهدي. لا شيء يموت.
كان حسن باشا قد جاء لزيارتنا في مصر الجديدة قبل عشية يوم المأساة، وعندما استأذن للانصراف رافقتُه. وعلى العتبة، تبادلنا القول: «إلى اللقاء.» ثلاث مرات بشكل غريب. وعندما كنت أنظر إليه يبتعد، شعرتُ بشيء من الاضطراب. لم تكن لي حدوس كثيرة، لكن ذلك الحدس كان واحدًا منها. لم يَعُدْ طه ذلك المساء المأساوي في وقته المعتاد، وكنتُ قلقة. يا لوجهه عندما عاد! … كان ممتقعًا، واكتفى بأن قال لي بصوتٍ أجشَّ: «لقد قتلوا حسن باشا قبل قليل.»
بعد عودتنا من لبنان في عام ١٩٢٧، كان لا يزال ثمة بعض الاضطرابات بسببنا بمناسبة قرار ردِّ الدعوى الذي كان يُرادُ إلغاؤه، واستقالة طه التي انتهى إلى سحبها، لكن الحياة سارت سيرها الطبيعي بعد كل شيء. وكان هناك حفلات استقبال وحفلات عشاء عامرة، ولم أعد كما كنتُ في البداية أشعر بالانزعاج من اجتماعات كانت تقتصر على الرجال فقط، وأكون فيها المرأة الوحيدة.
كنا نسكن في شارع المنيا؛ فقد كان أقلَّ غلاء نسبيًّا من شارع رمسيس. وكنا اشترينا أول سيارة لنا؛ كانت عبارة عن سيارة كرايزلر عتيقة، جُدِّدَتْ كليًّا عندما بِيعَتْ لنا، على أنها أسعدتنا كثيرًا برغم حالتها وبرغم أنها كانت تقبع أكثر الأوقات في الجراج للأسف! كانت تسهِّل لنا، خلال إجازات الإسكندرية، كثيرًا من النزهات، وخاصة في أبي قير. أما في القاهرة، فقد كنتُ أستطيع أن «أهوِّي» طه قليلًا برغم احتجاجاته بالطبع؛ ذلك أن العمل كان مقدِّسًا عنده، وكانت النزهات رفاهًا لم يكن يسمح به لنفسه … وهناك نزهة من هذه النزهات قمنا بها ذات مساء ولا تزال ذكراها عذبة في خاطري؛ كنا نعود من حلوان، وكنتُ أحاولُ أن أَصِفَ له جمال هذا الطريق بين الشواطئ الصخرية والماء وضوء القمر على الصخور وانعكاسه الباهت في النيل، وكان يستشعر هذه الأشياء بحساسية عميقة.
لكنَّ قلبها كان يظل مفعمًا بالحنان. فهي تكتب لأمِّها:
«إنني أعتني بحمامة صغيرة، نظرًا لأنها وحيدة تمامًا؛ حتى تتمكَّن من الطيران دومًا.» دومًا! يا لقلب الأطفال الرقيق! لقد مسَّ طفل صغير من أيتام القاهرة القديمة شغاف قلبي ذات يوم إلى حدٍّ كبيرٍ، عندما ذهبتُ بصحبة غنيم لزيارة مؤسسة للأيتام. فقد أعطوه عصًا وطلبوا إليه بغباء أن يقود الفرقة الموسيقية. وكان يحرك هذه العصا بغير مهارة محاولًا أن يترنم بالغناء، لكنه كان أقرب إلى البكاء منه إلى الضحك بسبب هذه الحال!
… ثمَّ وقعت المحنة من جديد في مارس ١٩٣٢. ومرَّة أخرى كان طه يدفع غالبًا ثمن جريمته أن يكون إنسانًا حرًّا. والحق أنه لم يكفَّ أساسًا على الإطلاق عن دفع هذا الثمن، إلا أنهم كانوا يريدون سحقه حقًّا هذه المرَّة؛ إذ لم يكتفوا بطرده من الكلية التي كان عنوانًا لعزتها وكرامتها وقوَّةً نابضةً فيها، وإنما أرادوا أيضًا إحراق كتبه، فأخذوا منه بيته الذي يسكن فيه، وأغرقوه بالشتائم، وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلًا بيع الصحيفة التي كان يصدرها، وبإنذارهم البعثات الأجنبية في مصر بالكفِّ عن أن تقدِّم له عروضًا للعمل. ولا بدَّ لي هنا من الثناء على الجامعة الأمريكية في القاهرة التي تحدَّتْ هذا الإنذار، وطلبَتْ إلى طه تقديمَ مجموعة من المحاضرات؛ الأمر الذي قدَّم له دعمًا لا يُقَدَّر بثمن مِنْ قِبَل جمهورٍ شابٍّ كان يتحزَّب له، فضلًا عن كونه أيضًا دعمًا ماديًّا خفيفًا.
وسيتسمرُّ الأمر على هذا النحو ثلاث سنوات؛ أي حتى نهاية ١٩٣٤، ثمَّ تبدأ نتائج هذه السنوات العجاف بالظهور؛ فمؤنس الذي كان مصابًا بالبنيمونيا كان قد اجتاز تقريبًا عتبة الخطر، غير أنَّ طه اضطر لملازمة الفراش بسبب المرض ذاته، وكان مرضًا في منتهى الخطورة في حقبة لم تكن تعرف بَعْدُ المضادات الحيوية فضلًا عن أنه يصيب رجلًا يعاني في الأصل من محنة مؤلمة. ولم يكن هناك أي دواء أكيد حقًّا، وكان لا بد من السهر عليه مع الانتظار والأمل والدعاء. كان في فترات هذيانه يتقاتل مع كل خصومه، وكان يناضل طوال الليل ثم لا يلبث أن يسقط على مخدَّته في إعياء كامل. أيسعني أن أنسى تفاني الدكتور سامي كمال؟! حضوره وعاطفته اللذين كانا يمنحاني الشجاعة؟! لقد أمضى فريد عدَّة ليالٍ في البيت، ولا أدري كيف استطعتُ البقاء في صحوٍ كاملٍ إحدى عشرة ليلة، أنا التي كنت أحتاج للكثير من النوم. وأخيرًا شُفِيَ طه ونجا من المرض، ولم أكن أريد أن أفكر بغير ذلك على الإطلاق.
أما هو، فقد أراد أن يبدأ العمل على الفور. كان يسهم في تحرير القسم الأدبي في صحيفة «السياسة» مقابل ثلاثين جنيهًا، غير أنه كان شديد الضعف، وكان عليه أن ينتظر قليلًا.
واضطررنا إلى الانتقال من بيتنا. كنا نسكن واحدًا من بيوت مصر الجديدة المخصصة للموظفين. والحق أننا طُرِدْنا منه بالمعنى الدقيق للكلمة، بَيْدَ أنَّ شركة هليوبوليس تفضَّلَتْ وأجَّرتنا فيلَّا جميلة لا يفصلها عن البيت السابق غير الحدائق فقط. وهو ما سهَّل عليَّ الأمور؛ فقد نقلنا كلَّ شيء على دفعات دون أن نضطرَّ إلى الحزم أو اللفِّ أو الرزم تقريبًا. وإني لأستعيد ذكرى ذلك الصباح الذي أخذنا فيه طه وما كان يستطيع المشي إلا بصعوبة. كان الأطفال في مقدِّمة موكبنا، أما طباخنا الضخم عبد العزيز فقد كان يسير في المؤخرة مهيبًا كشأنه دائمًا، حاملًا — بعنايةٍ وحذرٍ لآخر أداة من أدوات مطبخنا — ماعونًا كبيرًا ممتلئًا بمرق اللحم كنا نعدُّه كل يوم بعناية فائقة. وكنتُ أستعجل أن أقدِّم منه لطه كوبًا بمجرد أن نصل إلى غرفته الجديدة.
كنتُ أريدني متفائلة. في اليوم التالي لانتقالنا كنتُ مع الإنسان الطيب إسماعيل «الجنايني» ننقل أربع أشجار رائعة من العندم الهندي كنتُ زرعتها ولم أكن أرغب في التخلِّي عنها. كنا في شهر يونيو وكانت درجة الحرارة ذلك اليوم قد بلغَتْ ٣٩ درجة في الظلِّ؛ لذلك كان الأمر مخاطرة، إلا أنَّ ثلاث أشجار منها بدأت تنتعش من جديد. ويعود هذا النجاح إلى عناية إسماعيل، وربما عاد أيضًا للابتهالات التي كان الطفلان يقدِّمانها بجدِّية وهما يتوسَّلان إلى الله للعناية بها!
كنا عزمنا على الترفع والاعتزاز بأنفسنا فلا نغيِّر شيئًا من مظاهر حياتنا الأولى. فإذا اضطررنا لمعاناة الحرمان، فإنه لا ضرورة لأن يعرف أحدٌ آخَرُ غيرنا بذلك.
لكنَّ مؤنس أُصِيبَ بحمى عنيفة ثلاث مرَّات. كنتُ شاحبة أشد الشحوب، وكنتُ أناضلُ برغم إصابتي بالتهاب اللوزتين وبآلام العينيْن وبهزال متزايد. فأرسلنا طه إلى الإسكندرية لقضاء ثلاثة أسابيع فيها، وفعل ذلك أيضًا في السنوات التالية. أما هو فلم يمنح لنفسه سوى يوم واحد في عام ١٩٣٣ ويوميْن في عام ١٩٣٤. لم أكن أحب ذلك، ومن المؤكد أنَّ هذا الفراق لم يكن كفراق ١٩٢٢؛ إذ كنا على بعد ثلاث ساعات بالقطار من بعضنا البعض وكنا نتخاطب تلفونيًّا، كما أنه لم يكن سيدوم ثلاثة أشهر. ومع ذلك فقد كان يتألم منه مثلما كنتُ أتألم.
لا يمكن لأستاذ اللغة الفرنسية أن يعطيني علامة جيِّدة على ما أكتب! فمُبْدَعي (أي رسالته) مليء بالاضطراب، شأنه شأن عقلي على كل حال! وربما كان لهذا السبب بالذات مُبْدَعًا وكنتُ من ثَمَّ كاتبًا كبيرًا!
وكتبَ مقالًا شديد السخرية حول صحة رئيس الوزارة. وقال لي: «عندما لا نستطيع دفعَ الشرِّ فلا أقلَّ من أن نسخرَ منه!»
ومع ذلك، ففي نهاية السنة، وخاصة عند بداية العام الجامعي الجديد، كان غارقًا في حزنٍ أسود. وقد أسرَّ لي: «أريد أن أكتب كتابًا، وسوف أسمِّيه «الجهد الضائع».»
كان يأمل أن يؤسِّس مجلة مع علي عبد الرازق. وبعد أن نُوقِش هذا الأمر مطوَّلًا، نصحه علي ومصطفى بالتخلِّي عن هذا المشروع.
نعم، أيها المناضل، فأنتَ لم تكتفِ قطُّ «بواجبٍ محدود».
لقد بقيَ له، فيما عدا الكتب، مجلة كان قد أصدرها بالمشاركة مع أحمد حسن الزيات، وهي مجلة «الرسالة»، ثم محنة العديد من المجلات: «الكاتب»، وأخيرًا «الوادي» وذكرياتها المؤلمة.
ومع ذلك، كانت الأفكار الجديدة والمفاهيم الجريئة تشق طريقها بفضل إرادته التي لم تعرف القنوط.
١٦ أغسطس ١٩٧٥
في ذلك الصيف كان قليل الضحك قليل التغذية، وكانت أمينة هي التي تنجح في جعله يَقْبَل القليل من الغذاء الذي كان يبتلعه.
ويُخيَّلُ إليَّ أنَّ مؤنس كان يستشعر، وهو يغادرنا مع زوجته وابنته، أنه لن يرى أباه ثانيةً. لم أرافقهم إلى الطابق الأسفل كما كنتُ أفعلُ عادة، وإنما تابعتهم وأنا أستند إلى الباب بعينيَّ على طول الدهليز العريض. وكنتُ أشعر بعمقٍ أنَّهم يؤلِّفون مجموعة ذات كيان خاص، خليَّة قد انفصلت عنَّا.
وعندما اختفوا في المصعد، شعرتُ نحوهم بحنانٍ هائلٍ مفاجئٍ في حين كنتُ أدعو لهم أن يكون طريقهم مستقيمًا لا تعترضه الأشواك. لقد كانوا يبدون لي أكثر قوَّة وأقلَّ حماية في آنٍ واحد.
لا أحب أن أكون قاسيًا. وعندما اضطررتُ لأن أكون كظلِّك على الرغم مني، فقد كنتُ بحاجة لأن ألينَ نفسي. ولو أنكِ كنتِ قربي، إذن لوضعت رأسي على كتفك.
وعندما وجَّه له برقية وهو يدركُ أنه على حافة الموت، برقية يبدو أنها لم تُوضَع بين يديه، كان دون شكٍّ قد غفر له منذ وقت طويل؛ لذلك سأجهد الآن في أن أستدعي دون أي حقد تلك الساعات التي كانت يائسة إلى حدٍّ اعترف لي طه معه بعدها بكثيرٍ أنه فكَّرَ بالانتحار … آه! … لا، لم يفكر فيه زمنًا طويلًا؛ إذ لم تكن تلك طريقته في مواجهة العقبات.
•••
كان يعمل في جريدة «كوكب الشرق» كما يعمل محكوم بالأشغال الشاقة؛ فقد كان يقضي فيها كل ساعات الصباح. وعندما حلَّ الصيف، كانت الحرارة لا تُطاق. وكان مكيِّفُ الهواء مُعَطَّلًا، كما كان المتطفلون الذين يغيظونه يُوجَدون دومًا عنده في اللحظة التي يكتب فيها مقاله. أمرٌ لا يكادُ يُصدَّق! كيف أنهم لم يدركوا أنهم كانوا يُسبِّبون له المزيد من التعب بتطفلهم هذا؟! …
كان هناك ما هو أسوأ من ذلك. ففي أحد الأيام، دخلَ عليه مجهول لوحده. فبأيِّ بصيرة استطاع طه أن يحدس أنَّ هذا المجهول كان يحمل سكينًا؟ إذ سرعان ما ضغط على مكبس الجرس الذي كان موجودًا أمامه، فهُرِعوا إليه في الحال، وكان ظنُّه في محله!
يبدو أنني أهنتُ الشيخ الأكبر وكل المشايخ — رئيس الوزراء وكل الوزراء — بل ربما أهنتُ في النهاية كل الناس … كان ذلك عملًا أحمق وشريرًا. بل إنَّ المحقق نفسه لم يُخْفِ اشمئزازه مما كان يعمله، وكنتُ أودُّ لو سمعتِ إجاباتي الساخرة.
وقد وصلَ توزيع الصحيفة تحت إدارته من ٤٠٠٠ إلى ٢٠٠٠٠ نسخة. لكن ذلك لم يكن ليصلحَ من أحوالنا المالية؛ فقد بقيت ساعات النهار مرهقة، واستمرت الخصومات التي لا تُطاق مع مالكٍ عنيد، ولم يستطع طه أن يتابع العمل في هذا الجو.
للمرَّة الأولى منذ أن أصدرتُ «الوادي» لا أجدُ الرغبة في كتابة مقالٍ أدبي؛ فطالما أن المصريين لا يريدون أو لا يستطيعون قراءتي، فلأوفِّر على نفسي إذن هذا العذاب!
لكنه كتبَهُ مع ذلك، مثلما كان يجدُ الورق، ومثلما كان يُسيِّرُ الآلات … ولكن، بأيِّ ثمن؟!
١ أغسطس
يقعُ عليَّ الآن عبء نفوسٍ كثيرة … فكم من أسرة تنتظر اليومَ أجورها الشهرية من صحيفة لا تقدِّم أي عائد!
أبقى لحظات طويلة دون أن أقول شيئًا. أفكِّر فيكِ، وفي الأطفال، وفي الغد، وفي الأمس وأنتظر. ماذا أنتظر؟ مشيئة الله ولا شك!
لن تصدِّقيني لو قلتُ لكِ إنني أَعْجَب لنفسي كيف أكتبُ كل يوم، تمامًا كما كنتُ أكتب ﻟ «الكوكب» السخرية ذاتها والتهكم ذاته. هذا على الرغم مما أعانيه مِنْ أَجْل أولئك الذين أدافع عنهم وضد أولئك الذين أهاجمهم.
وكانت الهموم العائلية تختلط بهذه المصائب؛ فقد كان لا بد من إرضاء الأبوين العجوزين اللذين كانا يائسيْن من التصرُّفات السيئة لابنيْن أخرقيْن كانا يكدِّراننا نحن أيضًا. وكان لا بد من التدخُّل ماليًّا برغم القليل مما نملك! وكان لا بد له، بعد تعب الصحيفة وما تُسبِّبه الحرارة من إنهاكٍ أيضًا أن يبذل جهدًا مضنيًا ليضع نفسه في جوِّ همومهما، وأن يتظاهر بقبول الطريقة التي يُعلِّلان بها الأمور والتي يتَّخِذان بها مواقفهما. وكان يحدث لنا بعد كل شيء أن نرضيهما فيذهبا مسروريْن، «لكن — كما كان يقول — ما أشدَّ ما كان ذلك يؤلمني!»
كان لا بد لشيء آخر أن يؤلمه أكثر، وأن يؤلمني كذلك بقَدْر ما كان يؤلمه. فقد حدث لنا شيءٌ مذهلٌ أطلق هو نفسه عليه وَصْفَ «الشيطاني»: كان تعِسًا بسببي. فقد وقعَ، نتيجة الإرهاق والمرض والوضع الفاجع وتمسُّكه في عزل نفسه عن الناس، فريسة إحدى النوبات السوداء المخيفة التي ما أكثر ما عرفتها! كان إذ ذاك يحبس نفسه وراء صمت شرس مخيف، كما لو أنَّه سقط في أعماق حفرة لا يستطيع أيَّ شيء على الإطلاق أن ينتزعه منها. كانت حياتي تبدو لي قد توقَّفَتْ، وانسحقت بلا أمل في مواجهة عزلة مطلقة يفرضها على نفسه، ورفضه العنيد سماع أقلِّ كلمة تريد أن تحاول معونته. قلت له يومًا: «لماذا تُبْعِد نَفْسَك عني؟!» فكانت هذه الكلمة مثار الأزمة.
كنتُ أنا الأخرى كئيبة؛ فقد كان يبدو ظالمًا قاسيًا. ولا شكَّ أنني كنتُ أنا الأخرى مثله أيضًا. ويكتب لي: «أكان عليَّ إذن أن أتألَّم في حبي أيضًا … إننا نُؤْلِم بعضنا كثيرًا. ولم أتصوَّر على الإطلاق أمرًا على هذه الدرجة من الشيطانية يسعه أن يتدخَّل فيما بيننا. فلنرحم أنفسنا. إنَّ أقلَّ شيء يمسُّني يزلزلك أنتِ، أنتِ معنى حياتي، إذن ما الذي يحدث لنا؟! اطويني في جناحك كما كنتِ تفعلين دومًا؛ فلقد أبادتني رسالتك.»
وكنتُ قد كتبتُ له: «قلبك الضعيف ومصيرك، كانا لي وسيبقيان. لكن، فلنكفَّ عن أن نتعلَّل بِوَهْمِ أن حناني وابتسامتي سيضيئان لكَ الطريق أبدًا.»
أظنُّ أنني سأظلُّ كما أنا بعد كلِّ شيء من أجلك وبفضلك. أسألك الغفران بإخلاص عن كل ما سبَّبته لكِ من أذى. لكن لا تتألمي لوحدك؛ فأنا ما زلت قادرًا على التألُّم معكِ؛ لأنني لستُ بعيدًا عنكِ … ولو استطعتُ لأخذتُ أولَ قطار كي آتي به إليكِ وأواسيكِ، لكني لا أملك الحق في صرف خمسة أو ستة جنيهات في هذا الوقت.
هل أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء وأنا أنقل هذه الكلمات؟ لقد كان هذا القلب يستحق كل سعادة الأرض لو أنَّ السعادة كانت تُوهَبُ لمن يستحقها!
أمنعكِ من أن تكوني حزينة، وآمرك بالابتسام. لا تقولي شيئًا. أعرف ما ستقولين وأعرف أنَّ عليَّ أن أستفيد من الدروس التي أوشك أن أعطيها. حسنًا، حسنًا، سوف أستفيد منها. أما الآن، فتعالي إلى ذراعيَّ. أحبك حتى نهاية الحساب.
إنه مؤنس — ولم يكن يعرف بَعْدُ كيف يحسب — من ابتدع هذا التعبير ليشير به إلى أعلى رقم يمكن تخيله، كان يقول: «أحبك اثنين، ثلاثًا … حتى نهاية الحساب!»
كنا نذلل الصعوبات ونحن نسخر منها قائلين لها: «أعرف أنكِ هناك، لكني مع ذلك متماسك. وإني على يقين من أنني سأنتصر عليك … ويُقال إنني كنت أريد أن أكتبَ لكِ أشياء عذبة! … اهدئي، إننا لن نسقط … وإن حدث وسقطت، فسأفعل كالقطط … إذ إني سأسقط على قدميَّ.»
وفي يوم ذكرى زواجنا، ارتكب «حماقة» المجيء لمدَّة أربع وعشرين ساعة، لكنَّه لم يستطع الاحتمال.
… أحزنتني هذه الأخبار بصورة عميقة. إنَّ تاريخ النضال من أجل الحرية العلمية لم يستكمل مسيرته بعد، لكنَّ ذلك سيتحقَّق يومًا ما وإني على اقتناع بذلك، وسيتحقَّق ذلك بانتصار روح الحرية والحقيقة. إنَّ المأساة التي أصابتكم ستكون عارضة، وإني لعلى يقين من ذلك لأنَّ قضيَّةً كقضيَّتكم، بل أقول كقضيَّتنا، هي من القضايا التي لم تكن خاسرة في يوم من الأيام. وإني مفعم إيمانًا بالمستقبل الذي سيكون لنا دون أدنى قَدْرٍ من شك … أو لأطفالنا. وأودُّ أن أكرِّر لكم مرَّةً ثانيةً أنني مرتبط بكم بأعظم قَدْرٍ من الإعجاب وبأعمق الود.
أتساءل باستمرار كيف أنتِ، وآمل أن تحتملي هذه المحن بالشجاعة التي تبدينها إزاء أسوأ معاملة للرجال … عندما أفكر بالثورة الجامعية فإنه يبدو لي أنني قد عانيت كابوسًا حقيقيًّا. فكل ما كان مثاليًّا في فكرة الجامعة كان مُجَسَّدًا في شخص العميد (لا أستطيع أن أسمِّيه بغير هذا الاسم): البحث النزيه عن الحقيقة، والوطنية النقيَّة الشريفة التي لا تحط أو تهين وطنيات الآخرين، والشخصية الساحرة النبيلة. فلماذا وجَّهوا للجامعة هذه الضربة القاضية بتدميرهم أهمَّ ركن في هذه المؤسسة؟
وهناك شيءٌ أثَّرَ في نفس طه كثيرًا برغم تواضعه الشديد؛ فقد أهدى بيرجشتراسه له كتابه حول قراءات القرآن. ويؤكِّد طه على كلمات هذا الثناء الذي أدهشه بذلك النوع من البراءة التي لم تفارقه قطُّ، ولقد تأثرتُ أنا نفسي بهذا: «لا كلمة إهداء فحسب، وإنما أقدِّم كتابي إلى الدكتور طه حسين الذي يناضل في الصفِّ الأوَّل في سبيل تقدُّم الروح العلمية.» لقد ماتَ هذا الإنسان النزيه بصورة مأساويَّة في العام التالي في جبال بافاريا.
وسرعان ما قدِمَ إليه وفدٌ من الطلبة: «أنتَ معلمنا؛ فلا تتخَلَّ عنا.» وخصَّص لهم طه صباح كل يوم جمعة للاجتماع بهم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
كان تعلُّق الشباب به دائمًا. فحينما ألقى محاضرته الشهيرة عن فاليري في الجامعة الأمريكية، كانت القاعة التي غصَّت بالحضور في هياج كامل، وكان حضور بعض الأزهريين في هذه القاعة حدثًا ممتازًا. كانت عاطفة الجماهير تعبِّر عن نفسها بطريقة مُسَلِّية؛ فقد تعرَّفَتْ عليه ذات يوم فتاة عند خروجه من المحطة، فتأمَّلَتْه مليًّا، ثم صاحَتْ بإعجاب: «هو زي القمر!» عبارة تعبِّر عن إطراء بليغ باللغة العربية الدارجة. وكان هناك واحدٌ من تلاميذه لم يكفَّ عن تشبيهه بالقمر، لا بالبدر كما هو واضح.
لم يكن الشباب والأجانب وحدهم من كان يدعم الرجل الذي كان يعمل على تحطيمه أعداءٌ أقوياء. فعندما كان يسير في الطريق، كان المارَّة يسعون إليه ويُعَبِّرون له عن تعاطفهم معه ورغبتهم في أن ينتهي كل ذلك على خير. وكان يستطيع بعد ذلك أن يقول: «إنني أملك على الأقلِّ العزاءَ المعنويَّ؛ لكوني على ثقة من أنَّ الجمهور لا يتحوَّل عنِّي.»
وخلال جنازة والد زوجة عمر مكرم، كان من بين الجماهير التي أحاطت به مشايخ كانوا يُقَبِّلون يده.
من بين المصاعب التي أُثِيرَتْ في وجه دخول الفتيات للجامعة، كانت هناك صعوبة تؤلم لطفي كثيرًا. فقد كان الدستور يعطي لكل مصريٍّ الحقَّ في دخول الجامعة، ولكن اللفظ الذي ورد في النص كان مذكَّرًا؛ ومن ثَمَّ، فهو لا يعني النساء. لكنَّ طه دفع الأمر إلى الأمام شأنه دومًا في مثل هذه الحالات قائلًا: «ألا تعني كلمة «المصريون» مجموعَ سكان مصر؟!» فأجاب لطفي: «دون أي شك.» فقال طه: «إذن، ألا يعني ذلك النساء أيضًا؟!»
وكان النحاس باشا الذي كنتُ بالكاد أعرفه، يقوم بزيارتي كلما حضر إلى الإسكندرية، ويحملُ لي معه أخبارًا عن طه. وفي أحد الأيَّام، وكان حضوره يَقْلِب الفندق عالِيَه سافِلَه كالعادة. كتبتُ إلى طه: «فجأةً كان المصريون يَخْتَفون كأنما سقطوا في فخٍّ، في حين كان يبدو لي وكأنَّ عدد الخدم قد تضاعَفَ.»
وكانت لفتات مصطفى وعليٍّ عذبةً أيضًا. فقد كانا يصحباننا من حين لآخر لتناول الغداء في أحد المطاعم.
وفي عام ١٩٣٣، تعزَّيْنا قليلًا لوجود كتاب «على هامش السيرة» تحت الطبع. وكان لا بد من ساعات من النقاش مع المكتبة الناشرة للحصول على مائة جنيه على دفعات (وقد قال لي أحدهم أمس: «إنه أجمل كتبه.» إنَّ هذا التفضيل نادرٌ، غير أنَّ كل إنسان يختار لنفسه وسط هذا الحصاد الوفير).
كان بوسعنا الاستماع للموسيقى على نحوٍ خاصٍّ، وكان ذلك نعمة؛ فقد استمعنا من فرقة ألمانية إلى دون جوان ثمَّ إلى فيدليو. وكان عوض معنا مساء حفلة فيدليو، وقد دُهِشَ من سلوك طه الذي كان مفتونًا، غائبًا كليًّا عن القاعة وعن كل ما كان يحيط به، منفعلًا حتى النهاية بحيث إنه لم يحاول أن يفهم كلمة واحدة من النص، مستسلمًا بكليته لهذه الموسيقى القوية والعذبة.
وقد حدث أنَّ عازف بيانو مجريًّا أعمى قد عزف، من بين القطع التي عزفها، سوناتا شوبان (العمل ٣٥)، فاهتمَّ طه بأن يقارن بين الأداء الذي قدَّمه هذا العازف، والأداء الآخر الذي قدَّمه كازادسوس قبل عدَّة أشهر عندما عزف السوناتا نفسها، فوجد أن الموسيقى تحت ضربات كازادسوس، رحبة مهيبة، في حين أنَّ المجريَّ كان يبدو وكأنه يحفر حتى أعمق أعماق النفس البشرية.
وفي ربيع ١٩٣٤، وكنا على حافة الدمار، قمنا بتصرُّفٍ جنوني؛ إذ اشترينا آلة فونوجراف!
ها هو ذا طيري العزيز الذي يملأ الفضاء بغنائه الفرح منذ بدأت الكتابة لكِ. إنَّ ذلك يغمرني بالفرح.
ولم يفتقده قطُّ في حدائقنا المتتابعة. كنا نسمعه جيِّدًا في رامتان، وكان يبدو أكثر قربًا منا عندما يخترق غناؤه صمتَ سمائنا الرحبة في لحظات المغيب السريعة.
أقضي يومي في حزن لا طائل من ورائه؛ ذلك أنه كان أكثر الناس مرحًا، بَيْدَ أنَّ موته يغلفني بحزن يكاد يكون مبتسمًا … هناك أناس لا يموتون كليًّا، وخاصة منهم الشعراء. لن أستمع أبدًا لصوت حافظ، لكني سأستمع دومًا إلى روحه، وسأراها في كل مرَّة أشعر بالفرح أو بالحزن، وهو ما يعزِّيني قليلًا.
كانت هناك وفيات ظالمة أخرى. فالأحداث التمهيدية للمأساة الكبرى التي كانت على وشك أن تقع لم تكن غائبة عن هموم طه ومشاغله فيما أعتقد.
وأخيرًا، لماذا لا أعترف وأقول إنه بدلًا من أن يحتمي وراء همومه الخاصة لم يكفَّ قطُّ عن بذل وقته لأولئك الذين كانوا يطلبونه منه، وعن بذل تشجيعه لأولئك الذين كانوا يبحثون عنه عنده، حتى ولو لم يكن يستطيع أن يقدِّم سوى المودَّة كما فعلَ مع السنهوري مثلًا عندما وجد نفسه محطمًا تمامًا ومعزولًا كليًّا لدى إحالته على المعاش بصورة تعسفية؟! لقد بذل طه كل جهده ليجعله يجتاز هذه الأزمة. لقد استبقاه للعشاء، ثمَّ أخذا يثرثران بعد ذلك حتى الساعة الواحدة أو الثانية صباحًا. إنَّ طه، وهو الذي لم يكن ينجز أشغاله اليومية دائمًا، لم يكن يستعجل اللحظة التي يفترقان فيها.
لكنَّ الانتصار مرٌّ؛ فقد كان طه يحمل الصحيفة على ساعديْه وحده، مثقلًا بالديون، ولم يكن يتلقَّى أي مساعدة. وكان ثمة حديث عن تعويض كان يمكن أن يسدَّ ثغرة لو أنه جاء على الأقل. ويتخبَّط طه في تصفية الصحيفة التي كانت عمليَّة أكثر من صعبة. كان متعبًا متقززًا، وكان الناس يتوافدون علينا. لا شكَّ أنه كان من بينهم مخلصون، ولكن كم كان أولئك الذين تحاشونا مِنْ قَبْلُ بحرصٍ أكثرَ الناس الآن عجلة في المجيء إلينا! كانوا يجلسون على راحتهم ويثرثرون ويماحكون ويَعُبُّون كيلوجرامات عديدة من القهوة، ونحن مرهقون.
في الساعات الأخيرة من تلك السنة العصيبة، كنت أشعر أنني مثقلة القلب، قلقة إلى حدٍّ ما … لكني لن ألعن هذه الأيام السيِّئة؛ ذلك أننا كنا خلالها، أربعتنا، موجودين نقف على أقدامنا بصلابة.
٨ سبتمبر ١٩٧٥، ريفا دل جاردا
لم تكن محطة التوقف الأخيرة قبل الوصول إلى جنوة سوى إقامة قصيرة. وهناك أيضًا كانت غرفتي بالقرب من «غرفتنا». وصلتُ إلى هذا المكان مع مؤنس الذي تركني في الغداة بعد أن خصَّني بالأسبوع الأخير من إجازته. كان ثمة حضور عذب على طريقي المتوحد، كما كانت هناك باقة من القرنفل الأحمر تنتظرني تحيةً لطه أكثر مما هي تحية لي. لم يكن الجو رائعًا؛ فالبحيرة رمادية وكذلك السماء، بَيْدَ أنَّه عند بزوغ الصباح، كانت السماء تغدو للحظة ورديَّة رقيقة على القمم كما لو كان ذلك وعدًا بنهار أشد إشراقًا وبسماء أخرى!
وأتلقَّى من أمينة رسالة تحكي لي فيها عن إجازتها في اليابان. فقد رأت لدى سفير سابق لليابان في القاهرة، كان قد ظلَّ صديقًا لمؤنس، ترجمة يابانية لكتاب «الأيام» صدرت مؤخرًا في حلة قشيبة كما تقول، مُزَيَّنة بصورة جميلة لطه. كانت سعيدة جدًّا بذلك وكانت تعرف أنَّها تسعدني بما ترويه لي؛ فهذه الطفلة الرصينة جدًّا لم تكن تكشف عن مشاعرها. ومع ذلك فقد تركت نفسها تقول لي عندما كنتُ في باريس: «إنني (هي) الوحيدة في الأسرة التي لها يد أبي.» وكان ذلك حقًّا. فَيَدَاهَا رائعتان أكثر دقة، بالطبع، من يديْ جدِّها الذي قِيلَ لي عن يديْه إنهما كانتا جميلتيْن.
أينما حللتُ يعذبني هذا الجو الرماديُّ الراكد. إني بلا شجاعة. كان الجو جميلًا جدًّا قبل سنتيْن. لكنَّ إرهاق طه كان كبيرًا؛ كان يريد أن يكون ممدَّدًا على الدوام، وكان ذلك مخالفًا لأوامر الطبيب. ولقد اضطررتُ لخوض معركة حقيقية لكي أجعله يبقى، ولكن لا لوقتٍ طويلٍ للأسف، مستندًا إلى أهرام من المخدَّات، ومعركة أخرى ليبتلع عدَّة قطع من تفاحة كنتُ أُقَطِّعها له قِطَعًا رقيقة جدًّا، وكانت أعصابه تثور كلما كان الراديو غير واضح الصوت، كما كان يتعب بسرعة عند القراءة. لكنَّ هذه الساعات كانت ثمينة للغاية؛ ذلك أنه كان موجودًا.
كان موجودًا. هنا سمعته للمرات الأخيرة يقول لي من سريره: «عودي، عودي.» فقد كنتُ أبقى كل مساء حيثما كنا على الشرفة فترة من الوقت أتأمَّل الليل، وكان يخشى أن يؤذيني البردُ عندما كنتُ أطيلُ البقاء. وكان يلحُّ: «قلتُ لكِ: عودي، عودي.» وما زلتُ أتأمَّلُ كل مساء الجمال المثير لليلٍ نقيٍّ جليلٍ على الريفا، وأتوجَّعُ حين أصغي في أعماق قلبي لصوت الحنان الذي سكت.
١١ سبتمبر ١٩٧٥
منذ سنتيْن وشيلي ليست حرَّة، في حين يتألم أربعة آلاف سجين في السجون … ولكن سيأتي يوم …
لم يبحث طه عن الشعبية قطُّ، بل كان يحدث له أحيانًا ألا يشجِّع الناس على ذلك. لكنَّ الجميع كانوا يتحسسون استقامة هذه الحياة ولا شك في وضح النهار، وهذه الشجاعة المعنوية والجسدية، وهذه التصرفات الحرَّة الكريمة. ولم يحدث لي قطُّ أن التقيتُ بإنسان بقي غير مكترث به؛ إذ بمجرد أن يُقَال له «السيدة طه حسين»، تبدو منه حركة خفيفة ونظرة سعيدة، فخورة إلى حدٍّ ما، تعبِّر مباشرة عن إعجاب لا حدَّ له بالإنسان الذي أحمل اسمه.
بدأ يساعد طلبته ويساعد الشباب الذين كانوا يبدءون مهنة الكتابة أو التعليم، أولئك الذين كانوا يُنسَوْن في أوضاع لم تكن رواتبهم فيها تكفي حاجاتهم، أولئك، واللواتي خاصة، الذين كانوا ينتظرون زمنًا طويلًا جدًّا معونةً لا غنى عنها. ما أكثر المقدمات التي كتبها لكتب الكتاب الجدد! وما أكثر الجهود التي كان يبذلها دون أن يقنط! ولأكن عادلة بحقِّ المسئولين أيضًا؛ فنادرًا ما كانوا لا يلبون طلبه. إنني لا أعرفهم جميعًا، فضلًا عن أنه لم يكن يُحَدِّثني عن هذه الطلبات قطُّ إلا إذا كان بوسعي أن أكون ذات فائدة.
كنتُ معه يوم جاءوا يطلبون إليه التوسُّط في أمر يستحيل تحقيقه على نحوٍ مأساويٍّ؛ فقد حُكِمَ على عدد من مرتكبي جرائم القتل بالإعدام. وقبل عدَّة ساعات من التنفيذ، عند العشية، كان ثمة امرأتان تُلِحَّان على مقابلة طه. كانت أمُّ أحدِ المحكوم عليهم وأخته يرجوانه الحصول على عفوٍ عن المسكين! وكان ذلك يُمَزِّق القلب. لقد كتب لي طه يومًا: «هو ذا الألم الحقيقي: أن تكون لدى الإنسان الرغبة ولا تكون لديه القدرة.» لقد عانق بعض هؤلاء الرجال الجلَّاد الذي كان يتهيَّأ لإعدامهم والذي لم يكن يكرههم.
لاحقتني هذه الحادثة زمنًا طويلًا. لقد قال عبد الناصر لطه حين كان يُحدِّثه عن إدانة الإخوان المسلمين: «صدِّقْني، لقد مضَتْ عليَّ ليالٍ عديدة لا أستطيع فيها أن أنام.»
كان طه يقدِّر تعلُّق المصريين وغيرهم به حق قدره. أما الخصوم الذين لم تكن عزيمتهم تفتر فقد كان لا يهتمُّ بأمرهم، ولم يَرُدَّ قطُّ تقريبًا على ما وُجِّهَ له من شتائم شخصية.
ولقد بدا لي يوم ٣١ أكتوبر ١٩٧٣، عندما أُقِيمَ له مأتم مهيب في الجامعة للمرَّة الأولى في تاريخها أنه لم يكن هناك أعداء له. كنا نشارك في ثناءٍ جماعيٍّ متعاظم، ويكاد المرء أن يقول إنَّ خمسين عامًا من حياة مصر كانت تُستعاد في الذكريات وفي القلوب. كان ذلك مثيرًا لا سيما أن الصمت كان مطلقًا؛ ففي القاعة الكبرى المكتظة، لم نكن نسمع حتى خطوات الناس الذين كانوا يدخلون.
إننا نصنع على كل حال، فيما وراء مشاغلنا اليومية، أشياء ستبقى ولن يستطيع أحد فيما أظن أن يقوِّضها.
وما إن أصبح طه عميدًا من جديد، عميدًا كان العزيز «جرانت» يحبه حبًّا جمًّا، حتى لم يَعُدْ يسمح لنفسه بأي لحظة من الراحة، وسوف يستمرُّ الأمر على هذا النحو خلال السنوات التالية. كانت أنواع الأفكار كلها تدور في رأسه، وكان عليه أن يضعها موضع التنفيذ. ولقد باتت الاقتراحات والإصلاحات والإنشاءات التي قام بها خلال العديد من السنوات معروفة جيدًا من الجميع. بات معروفًا أنه ضاعف من عدد المدارس، وأنه أسَّسَ المعاهد والجامعات … إلخ. كما أنَّ كتبه تشهد على جهده؛ فقد صدر الكتاب السابع والثلاثون في عام ١٩٤٥، في حين أنها تقرب اليوم من خمسين كتابًا. أما من محاضراته، فلم يَبْقَ للأسف منها سوى المقالات التي كتبتُ عنها، كما بقي منها، بالنسبة إلى الذين استمعوا إليها، سحر صوتٍ جليل وعميق وواضح كانوا يصغون إليه إصغاءهم للموسيقى، وأسلوب لم يكن ثمة ما يوازيه. وقليل من الأشرطة التي سُجِّلت عليها هذه المحاضرات ما احتفظ بهذا الصوت حقًّا. وإني لا أكاد أتعرفه عَبْرَ هذه الأصوات القاسية المبحوحة أحيانًا التي تخرج من هذه الأشرطة، وآسف لذلك أشد الأسف. وإني لأودُّ لو يتمُّ الاحتفاظ منها بأكثرها أمانة لهذا الصوت فقط.
كنا قد تركنا مصر الجديدة التي كانت بعيدةً جدًّا حقًّا، لنستأجر بيتًا في حيِّ الزمالك ما لبثنا أن تركناه أيضًا، بعد وقت قليل. وفيه سنتابع درب الشرِّ الذي سيُفْقِدنا صديقنا العزيز المرصفي، الرفيق المرح الذي امتزجت حياته بحياتنا منذ البداية. عندما رأيته للمرة الأخيرة قبل ثمانية وأربعين ساعة من النهاية، كان قد تغيَّر إلى درجة كنتُ لا أستطيع أن أتعرَّف عليه بها لو أنني مررتُ من جانبه عابرة في قاعة المستشفى. وعندما غادرنا غرفته تابَعَنا بنظراته حتى أغلق الباب وراءنا. كانت نظراته المفعمة بالحب محزنة إلى الحد الذي استحوذت فيه عليَّ زمنًا طويلًا. وكان الدكتور سامي يشرف عليه بإخلاص لا يعرف الكلل، وهو إخلاص لم يكن يدهشنا على كل حال.
كان الشيخ مصطفى معنا، ويمكن القول إنَّ أحدنا لم يكن يفارق الآخر. ولديَّ صور تُمَثِّلنا جميعًا في ميدان روما أنظر إليها الآن بابتسامة حزينة. كان هذا الصديق الذي لا مثيل له قد نزل في فندقنا المتواضع لكي يبقى بالقرب منا. كنا أربعة، بالإضافة إلى فريد. ولم تكن المصاريف مغطاة إلا بالنسبة لاثنين فقط، وكان علينا أن نتخلَّى من ناحيتنا عن الفنادق الفاخرة. وعندما انتهى المؤتمر، فعل مصطفى الأمر نفسه عندما ذهبنا معًا إلى فلورنسا. معًا، نعم، لكننا وصلنا منفصلين على الرغم منا. ولا أدري كيف حدث أنه عند انطلاق القطار استطاع مصطفى أن يتسلَّق وسط الزحام عربة القطار. وما زال وجهه المذعور يتراءى لي على باب العربة، وإشاراته الآسفة في حين كان القطار يسير ونحن نصيح به أن ينتظرنا حتى القطار التالي. وعندما دخلنا محطة فلورنسا، كان هناك حاملًا بيده باقة من الزنبق الأحمر.
وصعدنا إلى فييزول في الغداة. وبينما كنا نستريح ونتناول الشاي على شرفة جميلة، رأينا كتلًا متراصَّة من الغيوم تغطِّي السماء كمجدلة تظهر وتتقدَّم فجأة بسرعة لا تُصدَّق. وكانت تلك الظلمات السائرة تبدأ أجمل عاصفة رأيتها في حياتي؛ فقد هطل المطر مدرارًا عنيفًا، فأعارونا مظلات، لكنها لم تُغْنِنا شيئًا، ثمَّ أعادتنا سيارة أجرة عثرنا عليها أخيرًا إلى فلورنسا شبه مبللين.
عندما عُدْنا إلى مصر، واجهنا جمهورًا من الزوار بلغ من الكثرة حدًّا أني كتبتُ لأمي: «لو لم نكن نعرف هؤلاء الناس على حقيقتهم لكان بوسعنا القول إنهم يحبوننا بشدَّة.» غير أنَّ البعض منهم كان يحبنا حقًّا.
كان مرسى الإسكندرية حافلًا بالسفن الحربية، منذ ذلك الوقت.
على أنه بعد فحص هذه الحيَّة في المختبر تبيَّن أنها من نوع غير سامٍّ، وبعد التفتيش بدقة على السطح، لم نعثر على شيء آخر.
وسرعان ما شهد هذا البيت حياة مضطربة. فقد كانت أيامنا تُلتَهَمُ بسرعة فائقة، إلا أن ذلك كان أخَّاذًا، وخاصة تلك اللقاءات التي كانت تتمُّ بوجه خاص مع أناس قادمين من خارج مصر والتي كانت تزداد بنسبة مثيرة. وكان ينتج عنها محاورات خصبة بالنتائج وتبادل الأفكار وإسهامات مختلفة بقدر ما كان ينتج عنها أيضًا حجارة جديدة من أجل البناء الذي كان طه يتابع إنشاءه بكتبه ونشاطه … حجارة جديدة للآخرين أيضًا ولا شك.
وكان الطفلان يقاسماننا هذه الحياة الخصبة؛ فقد كانت أمينة تبدأ دراساتها الجامعية، وتَبِعَها مؤنس بعد ذلك بسنتيْن.
وكانت آحاد الزمالك تتضخَّم، وكان من الصعب أحيانًا إنزال كل الناس في البيت. ويبدو لي أننا كنا مسرورين بهذه اللقاءات التي كانت تجري في جوٍّ من الود والبساطة، وكان ثمة أصدقاء جدد ينضمُّون إلى الأصدقاء القدامى. ولم تكن صداقتهم في أغلب الأحيان تضيع خلال سنوات الحرب القادمة وحتى عودة السلام.
في هذه الاجتماعات، كان ثمة شخصية تدَّعي لها حقوقًا، وأعني بها عنتر — كلبُ ابنتي الضخم. كان عندما يتوصَّل إلى دفع بابٍ بقوَّة، يدخل مُبَعْثِرًا كل شيء في طريقه. وكان دريوتون يقول: «هو ذا الأسد!» كان هذا الأسد يحبُّ الكاهن لكنه كان يختص مع ذلك بحنانه العظيم طه، ومحمد الطباخ الذي كان يميل إليه لسببٍ آخر لا يمتُّ إلى الطبخ بصلة! فعندما كان محمد في إحدى السنوات يعود من المستشفى انفعل عنتر انفعالًا عظيمًا؛ إذ ألقى بنفسه عليه ما إن رآه معرضًا الناقِهَ المسكين لأن يسقط على الأرض، ثمَّ وقف على قدميْه ووضع طرفيه الأمامييْن على كتفه وعانَقَه. وكان كل صباح يصعد إلى غرفة طه، وبعد أن يبذل كل جهوده في تحيته والتعبير عن عاطفته، فإنه يقاسم طه فطوره بدقة رياضية: قطعة خبز لطه وقطعة أخرى له. فإذا أخذ طه قطعتيْن، فإنَّ عنتر كان يتناول أيضًا قطعتيْن. ولم يكن يطلب زيادة على الإطلاق. وقد قام ذات يوم بفاصل عاطفي فيما أظن؛ فقد اختفى اختفاء كليًّا خلال أربعة أيام لم نَرَه فيها، وظننا أنه ضاع، وكانت ابنتي تبكي كما غدا طه كئيبًا، في حين لم يرضخ محمد للأمر الواقع. وها نحن نجد ذات صباح على سور الحديقة كلب شارع مسكينًا يرافق بحنانٍ عنترًا مثيرًا للرثاء، قذرًا، مسلوخًا، مخبولًا. فأخذناه وأصلحنا من حالته، وعُدْنا للاهتمام به.
كان ثمة مسافرون يضعون في بنود برامج زيارتهم للقاهرة بندًا خاصًّا بزيارة طه حسين!
ومن بين الناس الذين عبروا سراعًا، هناك بعض من أفكر فيهم في أغلب الأحيان، وإنك لتعلمين ذلك يا مارتا. فلم نكن نلتقي خلال أكثر من سنة إلا قليلًا جدًّا، ثم عدتِ إلى بلدكِ مع زوجكِ في ربيع عام ١٩٥١، ثمَّ لم نَلْتَقِ بعدها. وها هي خمسة وعشرون عامًا تمضي على آخر لقاء لنا، ومع ذلك فإننا نتبادل الرسائل كما لو كنا نثرثر في صالون الزمالك! لقد تحوَّلت هذه العاطفة المدهشة في قوتها إلى صداقة عذبة. مارتا الجميلة تحت قبعة الشعر المبيضِّ باكرًا، الذكية، المثقفة، الشجاعة في الأوقات الصعبة … كنتِ تحبين، وما زلتِ، طه، وتحدثينني عنه في كل رسالة من رسائلك. لم تَنْسي صوته على الهاتف يومَ رحيلكِ، وهو أيضًا كان يحبكما كليكما. وأحب أيضًا طفلكما الذي لم أرَ وجهه قطُّ والذي تحملان معه الوعد المثير.
•••
ما إن تركنا البيت الذي سكنَّاه في شارع البارودي حتى أصبح ملحقًا بمعهد الفنون الجميلة. إنَّ المعهد القديم الذي أُعِيدَ بناؤه هو الآن بناء حديث وجميل. ولا أدري أين أُقِيمَ «المرسم الحر»، الذي حلم به طه ثم حقَّقَه في عام ١٩٤٣؛ ليُتيحَ للفنانين الشبان الذين لا يحملون الشهادات إمكانية العمل واكتشاف طريقهم.
وهناك الآن في البيت الصغير المجاور للمعهد الجميل شبانٌ وفتياتٌ يُحْدِثون ضوضاء هائلة في الغرف التي عمل فيها طه كثيرًا. ذلك والحق لا يزعجني، بل على العكس من ذلك.
في دوامة التيارات الثقافية المتضادة اتخذتم موقفًا وناديتم بشجاعة نادرة بحق التفكير بحرية. وسرعان ما غدوتم رجل الساعة، ووجهتم القوى الروحية في هذا البلد في اتجاه لا يستطيع أحدٌ أن يتنبَّأ بمآله.
لم نكن آنذاك قد التقينا به قطُّ.
وخلال تمرين على الإنقاذ، لَمَحَ قائد السفينة أنني أحمل كيسًا جلديًّا تحت زناري؛ فقال لي مبتسمًا: «إنها ولا شك مجوهراتك يا سيِّدتي؟!» فقلت: «لا، يا سيدي القائد، إنه مخطوط كتاب لزوجي.» كانت هذه المخطوطة تؤلف الجزء الثاني من كتاب «الأيام».
كانت الحياة في القاهرة عاديَّة، وكنا نفكر بحزن بالبولينيين والفلانديين. أما الحرب بالنسبة إلى فرنسا، فقد كانت أكثر الحروب غرابة. كانت الرسائل البريدية تصل، وكنا نستمع جيدًا إلى إذاعة باريس. ففي ليلة عيد الميلاد، استمعنا إلى قدَّاس منتصف الليل يُقام على خط ماجينو. كان الجنود ينشدون: «منتصف الليل يا مسيحيون.» وكانت الأبواق النحاسية تعزف لحن «إلى الميدان».
كانت العزلة النسبية في تلك السنة نعمة أكثر من أي وقت مضى، لكنَّ العزلة الحقيقية لم تكن بعيدة جدًّا. على مسافة ثلاثين كيلومترًا، حيث قادنا سامي ذات صباح، كانت الرمال تتلألأ تحت النور الذهبي كشذرات من الذهب. لم تكن السيارة تجري مسرعة، كنا ذاهبين إلى دير قبطي صغير. أهو دير حقًّا؟! ليس ديرًا على وجه التدقيق، وإنما هو أشبه بصومعة متواضعة، كان يعيش فيها راهب واحد، وكان هذا الراهب شابًّا، وسيمًا، اختار الإقامة في الصحراء ليقوم بصلاته على نحو أفضل. وقد مال إليه طه على الفور، وتحدَّثا مطولًا. لم ينسَ طه هذا الصباح، وقد تحدَّث عنه في كتبه.
أكتب في عام ١٩٧٥. وتخبرني رسالة وصلتني قبل عدَّة أيام من القاهرة بوفاة لوريت جبرة. إنَّ ذكريات البيت الصحراوي ترتبط بها بشكل وثيق، فقد قضت فيه أسابيع طويلة وكانت سعيدة فيه. ومن منا يستطيع أن ينسى لطفها المؤثر؟! كنتُ أحب السير بصحبتها عندما توشك الشمس المتوهجة على الانطفاء مع اقتراب الليل وبدء النجوم إرسال نور سري آخر عبر السماء الواسعة.
كان أطفالها في أغلب الأحيان بصحبة طفلينا. وقد اكتشفوا ذات يوم أنَّ للخيمة سحرًا يَفُوق سحر البيت، فخيَّموا. وقد نسي الدكتور كامل، الذي حضر مرَّة لقضاء عدَّة أيام، مزاجه القاسي كطبيب شهير وتقاسم معهم بعض وجبات الطعام، لكني لا أظنه وصل إلى حدِّ القبول بأن ينام مثلهم في الكيس!
كنا نأمل دومًا بالطبع اكتشاف شيء ما، وكانت هناك اكتشافات مهمة تحدَّثَ عنها سامي في كتابه الجميل «مع آخر عبدة هرمس»، على أنَّ ما أسعدني منها لم يكن يُعتبَر شيئًا في نظر العلماء، وكان عبارة عن سلة صغيرة ملأى بالبيض الذي كان مصفوفًا بعناية منذ ألفَيْ سنة، وكان ينكسر بسرعة بمجرد أن يتعرَّض للهواء. لقد كان هذا القربان المتواضع الخارج من باطن الأرض أمامنا — مع ما يتضمنه من الالتماس المرفق به — يدهشني.
وكان طه، الذي ظلَّ مسئولًا أمدًا طويلًا عن كافة أراضي الحفريات، يحبُّ على نحوٍ خاصٍّ هذه الأرض التي كانت تبدو له وكأنها تخصُّه؛ فقد كان يجد فيها حضارة يحبها ما دام العالم الفرعوني كان يتحوَّل هنا تحت تأثير الاندفاعة الهيلينية. كانت مومياءات القرود في الأنفاق تهمُّه بشكل عابر، غير أنه كان يتوقَّف في معبد بيتوزيريس. كان يمشي ببطء بين أكثر القبور تواضعًا أو بين النصب الجنائزية. وذات يوم، دخلنا إلى واحد من هذه القبور، كان يشبه القبور الأخرى بدرجه الخارجي الضيق. صعدنا إلى الغرفة الصغيرة، وكان قد وُضِع فيها قديمًا جسدٌ نحيفٌ لفتاة كانت قد أَلْقَتْ بنفسها في النيل اسمها إيزيدورا، وتقول الكتابة الموجودة على قبرها إنَّ أباها قد طلب من أجلها القرابين والصلوات، وفجأة لاحظنا أنَّ طه قد ابتعد عنا، ثم طلب إلينا أن نحمل إليه مصباحًا قديمًا (وكان ذلك متوفرًا) وأن نشعله بالبخور وأن نستمرَّ في إشعاله. لم يَعُدْ سامي يدير أشغال تونا، ولا أدري إذا كان مصباح إيزيدورا لا يزال يشتعل أحيانًا.
كان الكثير من أصدقائنا قد رحلوا مُخَلِّفين وراءهم فراغًا كبيرًا؛ فقد كنا نتقاسم معهم الهموم نفسها في تفاهم كامل، كما كان ودُّنا المتبادل يزداد في تلك الساعات المأساوية، أما الأصدقاء المصريون فقد كانوا قريبين جدًّا منا. فقد كانت فرنسا بالنسبة إلى كثيرٍ منهم عزيزة، وكان اللطف الذي يبدونه نحوي يمسُّ بلدي في جزء عظيم منه.
وكان هناك عدد لا بأس به من الفرنسيين. فقد تلقَّيْتُ يوم سقوط باريس باقة هائلة من الأزهار. كان جورج ريمون الذي كان بورجونيًّا مثلي، يُعَبِّر لي عَبْرَها عن آلامه وصداقته.
لم أكن أستطع البقاء في مكانٍ ما، ولم أكن أريد أن أرى جماهير ولا أناسًا غير مكترثين بما يجري في العالم. كنتُ أريد البكاء وحدي، وكان طه الذي لم يكن يقلُّ عني تأثرًا يفكِّر في السكنى في بيت كان قد بُنيَ مِنْ قِبَل بعثة أثرية أمريكية وكانت على وشك التخلِّي عنه. كان يقع في حوش ممفيس، وحيدًا على أكمة صغيرة في حالة غير ثابتة. وكان هناك في الأسفل، على الجانب الآخر من الطريق، تمثال رمسيس الذي يقوم الآن أمام محطة القاهرة والذي واجه نقله إليها صعوبات كبيرة؛ فالجسور التي كانت على القنوات كانت هشة وكان بعضها ينهار. أما رمسيس الضخم الذي ينام تحت السقف الذي يحميه والذي لا يزال موجودًا هناك، فقد كان على مسافة أبعد بقليل. أما معبد بتاح فإنه كان يقوم بالقرب من أجزاء قديمة غرقت في الماء المتسلل إليها، وكانت عبارة عن أجزاء مقوَّضة. وفوق المعبد، كانت تقوم قرية ميت رهينة التي كانت حيَّة تمامًا. كنتُ أعرف أن زوجة أستاذ فرنسي كانت تتأسف لاستحالة الذهاب إلى فرنسا؛ فاقترحتُ عليها مقاسمتنا حياتنا التي كنا نعيشها هنا. فالريف أفضل على كل حال للفتيات الصغيرات من المدينة الكبيرة القائظة. كان البيت فارغًا إلا من عدَّة أَسِرَّةٍ حديدية ونحو عشرة كراسيَّ؛ فجئتُ إليه بطاولات وكراسيَّ طويلة وأدوات مطبخ وراديو وأصص من إبرة الراعي. كانت ج. موسيقية؛ فوضعت البيانو في غرفة منعزلة ولم يكن يستخدمه أحدٌ سواها، وفي أثناء هذه العزلة سمعنا صوت ديجول، لكن لم يكن ما سمعناه نداءه الأول.
ذات صباح بدت القرية الهادئة في هياج كامل، ولم يكن لذلك أية علاقة بالحرب؛ إذ بينما كان أحد الرجال يعمل في حقله، إذا به يصطدم بشيء قاسٍ في قاع حفرته الملأى بالماء، وقد بدا له ذلك قطعة من تمثال؛ فأخطرَ بذلك دريوتون الذي كان يقيم على سطح سقارة في مواجهة الحقل والذي كان يزورنا غالبًا في المساء لقضاء فترة من الوقت معنا. وفي اليوم التالي دُعِينا للمشاركة في احتفال حقيقي؛ فقد هيَّأ لنا العمدة مقاعد من المخمل الأحمر أمام حقل الكنوز هذا، وكان موظَّفو قسم الآثار القديمة منهمكين حول آلة لرفع الأثقال كانوا يأملون أن تكفي لإخراج التمثال الضخم. وشيئًا فشيئًا رأينا ظهور جزء من الجرانيت، ثمَّ جزء ثانٍ، ومع الجزء الثالث كان أمامنا تمثال رمسيس بأكمله. كان من الجرانيت الوردي، ولما كان يستحيل نقله إلى المتحف (خشية القصف؛ إذ كانوا قد خبأوا القطع الثمينة أيضًا في القبو) فقد تقرَّر وضعه في باحة دارنا، وسار أطفال القرية جميعًا في موكب نقل التمثال وهم يرقصون ويضحكون ويغنُّون. وفكَّ دريوتون الرموز الكتابية: كان الملك يطلب أن تُوضَع عند قدميه شجرتان تبقيان على الدوام، غير أنَّ هذا النوع من الأشجار الذي يطلبه لم يَعُدْ موجودًا على الإطلاق في مصر؛ فوُضِعَتْ تحت قدميه شجرتان من أشجار الزيتون، وأعتقد أنهما لم تَعُودا موجودتيْن! على أنه لا يمكن لرمسيس وهو في المتحف أن يتوقَّع وضع شجرتين عند قدميْه!
كان لا بد من العودة على كل حال. وهكذا فإنَّ كلًّا من أمينة ومؤنس يعودان إلى الجامعة من جديد، في حين أنَّ ابنتيْ ج. عادتا إلى المدرسة الثانوية. وكنا نعود إلى القرية من حين إلى آخر؛ الأمر الذي كان يتيح لطه أن يتخلص خلال يوم واحد على الأقل من إرهاق كان يقلقني، لكن هذا البيت كان مشبعًا بذكرى الأيام المظلمة. وقد أغرق الألم طه في واحدة من هذه الأزمات السوداوية التي لا يمكن تخيُّلها إذا لم يعشها الإنسان معه، ولما كان غارقًا في مأساة لا يستطيع منها فكاكًا فقد كان مرعبًا ولا سبيل للتفاهم معه، وكان يبدو وحيدًا في العالم، ولم يكن ينتبه إلى أنني كنتُ بحاجة إليه. وعندما كنتُ أعود إلى ميت رهينة كنت بمجرد أن أدفع باب غرفتنا، أُصابُ بتثاقل وعجز عن الحركة لا فكاك منهما. وانكمش طه داخل نفسه، ولم يكفَّ عن الألم حتى نهاية الحرب، لكنه لم يكن الوحيد الذي كان يتألم.
غدَتْ أخبار فرنسا نادرة. وقد علمت في شهر ديسمبر أنَّ أمي وأختي اللتين استطاعتا الوصول في يونيو إلى البيرينيه قد عادتا إلى باريس حيث استقرَّتا فيها بشكلٍ ثابتٍ. وكان بوسعي الكتابة لهما لوجود منطقة حرَّة بفضل خالة لي كانت تسكن في «كليرمون فيرَّان»، وكانت تبذل أقصى جهدها لإعلامي عن بعض أخبارهما بمختلف الوسائل.
وفي أبريل ١٩٤١ جاء الجنرال ديجول إلى القاهرة وتحدَّث في الجامعة الأمريكية. وقد استقبله طه الذي كان يراقب إذاعة فرنسا الحرَّة (والتي كانت مصر كريمة إذ سمحت بها) في دار الإذاعة.
كما استمعنا إلى أوركسترا فلسطين التي كانت قيد التكوين تقريبًا آنذاك … لقد استُقبِل أعضاء الفرقة يومها استقبالًا جيدًا.
وبعد الحرب، ذهب جميع هؤلاء الشباب تقريبًا إلى الخارج في بعثات كانوا سيبدءونها أو كانوا سيستأنفونها بعد اضطرارهم لقطعها. ولقد تركَتْ تلك الأعمال في نفوسهم ذكرى جميلة انطبعت كذلك في نفوس الآخرين.
أما طه فقد انصرف برغم مدافع العدو القريبة إلى تأسيس جامعة الإسكندرية. ولقد ظلت الإسكندرية فخورة ومعترفة بهذا الجميل الذي تذكره له في كل مناسبة؛ ففي أثناء الاحتفال بذكراه في العام الماضي بقصر الثقافة، تمَّ التعبير عن ذلك بكلمات سعيدة واعية. وعندما قال المحافظ — وكانت خطبته هي كلمة الختام: «كانت له على الإسكندرية أيادٍ بيضاء.» كنتُ أشعر بتأثر الجميع.
غداة هذا الاحتفال، عُدْنا من الإسكندرية ليلًا عَبْر طريق الصحراء. وشعرتُ لدهشتي بحزن لا يُطاق، حزنٌ كان يعقب العديد من الشهادات الرائعة التي قِيلَتْ بحقه. وكنتُ أَزِنُ ما ضيعته وأحاول أن أخفي وجهًا غمرته الدموع في حين كنتُ في طريقي عائدةً إلى بيت ابنتي.
كان يؤسس جامعة الإسكندرية، لكني لم أكن أستطيع أن أتجاهل أنَّ إذاعة ألمانيا كانت تذكر اسم طه حسين غالبًا وأن التهديدات كانت حقيقية. وكان كامل وماري القلقان عليَّ يتصرَّفان نحوي كما لو كانا أخويَّ، حتى إنَّ ماري كانت تصرُّ عليَّ بإلحاح أن آتي للإقامة في بيتها.
تلك السنة، كانت سنة العيد الفضي لزواجنا، لكنَّ طه لم ينتبه إلى ذلك إلا لمامًا!
كنا في بيت مري عند تحرير باريس. ولقد تحدثت عن تلك الأيام المؤثرة في أثناء حديثي عن لبنان.
وبعد ثلاثة أشهر سقطت وزارة النحاس، ولم يَعُدْ طه مراقب ثقافة ولا رئيس جامعة الإسكندرية. وكان بوسعي — بمعنى ما — أن أستمتع بذلك؛ فقد كانت مهمته في الوزارة ثقيلة أصلًا. ولكن عندما أفكر أنه كان يذهب إلى الإسكندرية يومين في الأسبوع يقوم خلالهما بعمل ستة أيام وبالمكافأة الضئيلة التي كانت تُدفَعُ له والتي لم تكن تسمح له بالذهاب إلى الفندق لقضاء الليل؛ الأمر الذي يضطره للنوم في الإدارة المؤقتة للجامعة، في غرفة صغيرة وُضِعَ فيها سريران حديديان من أَسِرَّة المستشفى، وأنه كان يأكل كيفما اتفق … عندما أفكر بكل ذلك، أعايش الأمر من جديد، وتزداد قناعتي بأنَّ الإيمان يصنع المعجزات.
وفي إحدى عوداته إلى الزمالك، وكان يصل منهكًا من التعب، استوقفته رنات غريبة عند الدَّرَج. كنتُ أعرفُ أنه يرغب في ساعة ذات بندول، ولقد سعدتُ إذ عثرتُ على واحدة منها كانت جميلة وغير مزعجة. لقد بقي هذا البندول منذ ذلك الحين قرب سريره ولا يزال حتى الآن، ولا أريد له أن يتوقف؛ فقد كان يَطلبُ إليَّ عند وصولنا إلى البيت عائديْن من رحلة ما أن أجعله يعمل على الفور. وكنتُ أفعل ذلك باستمرار وما زلت.
لم يكن طه سعيدًا جدًّا إلا عندما يمارس نشاطه الغالي عليه. لقد كان يُعَزِّي نفسه بالكتابة وبالحديث من حينٍ لآخر عبر الإذاعة البريطانية.
وذات يوم استمعنا من الراديو، ونحن نرتعد، إلى تصريح تشرشل: «لقد انتهى كل شيء.» وظننا أنَّ المدافع سوف تطلق نيرانها على الفور احتفالًا بذلك، وانتظرنا ساعتين. وعندما سمعناها كانت ذات أصوات مخنوقة؛ فقد كان الجنود محجوزين في ثكناتهم، كما كانت الشوارع هادئة.
وتعمُّ الفرحة الجميع. كان آل سيرفيه يسكنون على الجانب الآخر من الشارع؛ فذهبنا إليهم مع كامل وخالد عبد الوهاب. وفي المساء حضروا جميعًا إلى بيتنا كما حضر بالإضافة إليهم جين وريمون، فالتصقنا بالراديو محاولين التقاط إذاعتي باريس ولندن.
وكان هناك آخرون أيضًا. ولن أنسى الجندي الإنجليزي الصغير المسكين الذي كان في أوج الفرح برغم مرضه وهو يعلن لي: «سأرحل غدًا.»
•••
كان كتاب «المعذبون في الأرض» قد نُشِر كمقالات. أما نشر الكتاب فقد مُنِع. ثمَّ تمَّ نشره في لبنان في عام ١٩٤٩.
كان ولداي يكتبان من حين إلى آخر. وبما أن ابنتي قد غدت مدرَّبة على الكتابة؛ فقد أقدمَتْ على إلقاء محاضرة كان عنوانها «أحداث الساعة»؛ بدأت قراءة نصها بسرعة كبيرة بسبب خجلها واضطرابها الكامل، وظلَّتْ على هذا النحو عشرين دقيقة، ثمَّ ما لبثت أن استعادت رباطة جأشها واستطاعت المضيَّ على نحوٍ جيِّدٍ حتى النهاية. كنتُ أَجِدها جميلة في ثوبها الكحليِّ الذي كان يُضِيئه قميص أبيض وزهرة كاميليا.
وكان علينا أن نقوم بتنظيم سفر مؤنس الذي لم يتخلَّ عن هدفه في تحضير شهادة الأستاذية برغم تأخره أربع سنوات. كانت الحكومة الفرنسية قد قَبِلته في معهد المعلمين العالي بوصفه طالبًا أجنبيًّا، وكنتُ مضطرة لاصطحابه لأنني كنتُ أستعجل عناق أمي.
كيف يمكننا الذهاب إلى فرنسا؟! لم تكن ثمة طائرات ولا بواخر منتظمة المواعيد. لم تكن ثمة طائرات ولا بواخر منتظمة المواعيد، وكانت الأولوية بطبيعة الحال للعسكريين. وبعد أن خاب أملنا بعدَّة وعود، انتهينا إلى صعود سفينة بضائع فرنسية «ساجيتير»، وكان ذلك في ٢٥ أكتوبر، فوصلنا مرسيليا في ٣٠ نوفمبر! لا بد من القول إننا كنا نتوقَّف كثيرًا على الطريق لحمل بضائع أو لانتظار أوامر؛ فقد عُدْنا من بيروت إلى بورسعيد لعدَّة أيام، هُرِع خلالها كلٌّ من أمينة وطه لمعانقتنا، ثمَّ قضينا في الجزائر عشرة أيام. ولقد صدمني الهزال الشديد لعمال مينائها، كما اضطررنا فيها لاحتمال الكثير من الحرمان.
استقبلنا في الجزائر جورج ديلو وزوجته التي لم أكن أعرفها بَعْدُ، وقد صحبانا للنزهة في هذه المدينة ذات الجمال الرائع. لم يكن منظرها الشهير مخيِّبًا للآمال، ولقد أحببتُ منه وأنا أنظر إليه من أعلى المتحف الحدائق التي كانت تنحدر حتى شاطئ البحر. كما صحبانا إلى الأوبرا، فقد كانت العروض قد استُؤْنِفَتْ مُجَدَّدًا آنذاك، واستمعنا إلى أغنيات وأناشيد فرنسية لم نَعُدْ نعرفها منذ ست سنوات، ثم رافقانا في المساء إلى المركب. ولحظة وصولي إلى فرنسا، قمت بصلاة خاشعة في كنيسة قائمة على لسان جبلٍ مطلٍّ على البحر، حيث جاء إليها الكثير من البحَّارة للصلاة أيضًا.
لم يتوقَّف جورج ديلو طيلة الفترة التي كانت الحياة خلالها صعبة في باريس عن إرسال اليوسف أفندي، والتمر، والهدايا الأخرى لمؤنس. كان ذلك لفتة طيبة منه نحو مؤنس؛ لقد كان يختصُّ طه بودٍّ حقيقي، وبعد وفاته عاشت سيمون السنوات المأساوية من المعركة الجزائرية؛ إذ لما كانت قد وُلِدَتْ في الجزائر وعاشت فيها دومًا فقد تألمت الألم الذي يتألمه كل من عانى حُبَّيْن متعارضَيْن. وعاشت في فرنسا لا كما عاش هؤلاء الفرنسيون الذين طُرِدوا من الأرض التي كانوا يعتبرونها وطنهم غير قادرين على التكيف مع وطنهم الحقيقي … بكل تأكيد؛ ذلك أنها فرنسية حقًّا، غير أنها لن تُشفى أبدًا من حبِّها للجزائر. إنها تكتب لي رسائل طويلة بشجاعة وحنان، وإني لأحب رسائلها.
كان هناك الكثير من العسكريين على ظهر الباخرة، وكنا نتبادل الأحاديث في الموضع الوحيد الذي يمكن لنا أن نلتقي فيه، وأعني في بارٍ صغيرٍ. كان البحر هائجًا بين مرسيليا والجزائر، وكانت مرسيليا عندما وصلناها رمادية وباردة، لكن … ها هي فرنسا أخيرًا.
إن المرء ليظنُّ أنه قد تناول ذراعي كي يجعلني أمسُّ بيدي كل الأشياء.
كان الجو في منتهى البرودة، لكن أمي كانت تملك مدفأة على الغاز. ومن حسن الحظ أن استهلاك الغاز لم يكن محددًا بكمية مُعَيَّنة آنذاك، وعانينا كذلك من انقطاع الكهرباء، وكان لا بدَّ من السير على الأقدام كثيرًا. أما الأصدقاء الذين التقينا بهم من جديد فقد كانوا يدعوننا، وينجحون، بالرغم من كل ما كان ينقصهم، في إعداد وجبات طعام جميلة وحافلة، الأمر الذي كان يمسُّ شغاف القلب منا أكثر مما كان يمسُّنا ما كنا نأكله، ولم يكن يتركنا دون أن يخلِّف في نفوسنا شيئًا من الحيرة.
كل شيء كان يؤثِّر فيَّ في باريس التي لم تَبْدُ لي مِنْ قَبْلُ على مثل هذا الجمال، بحيث أردتُ أن أتعرَّف إلى كل شيء فيها وعنها. تعرفتُ إلى أناس شاركوا أمي كثيرًا من الأيام الصعبة، وعرفتُ كيف وفرت عليها أختي شرَّ الأشياء، كما علمتُ بوفيات قاسية تحمِّلها أصحابها بنبل؛ لقد كان الجميع في منتهى العظمة.
كان كويري وطه يتمازحان بعفوية. ولقد ذكرتني «دو» في العام الماضي بمساء أحد الأيام عندما طلب طه إلى زوجها في القاهرة إلقاء محاضرات عن ديكارت، وكيف أن سعادة طه بلغت حدًّا بعد المحاضرة الأخيرة أن قال له: «إنني أرغب حقًّا في أن أجعلك تقوم بدورة محاضرات أخرى!»
فأجاب كويري: «آه! إنك لن تفعل بي هذه الفعلة!»
فقال طه: «أتعلم! عندما كنا نعمل في الصحافة لم تكن تعنينا هذه الفعلة في شيء!»
لم نلتقِ بعد ذلك «شوري»، وكنتُ أتحدَّث مع «دو» عنه وعن طه، وكانت «دو» مكتئبة دومًا؛ لأنها لم تَنْسَ وطنها الأصلي روسيا. وقد قالت لي في الأيام الأولى من صداقتنا: «إذا أراد الله أن يعاقب الإنسان فإنه ينفيه من وطنه.»
لقد عثرت في فرنسا على وطن جعلت منه وطنها على نحو كامل، غير أنها لن تلقى «شوري» ثانية على هذه الأرض.
لم يكفَّ كلٌّ من طه وأمينة بطبيعة الحال عن الكتابة لي، غير أن البريد كان لا يزال مضطربًا؛ فقد تلقيتُ كافة رسائلهما، في حين لم يتلقَّيا سوى ثلاث رسائل من رسائلي. وفي ١٤ نوفمبر وجد طه هدايا كنا أعددناها له بمناسبة عيد ميلاده، وقد أعدَّتْ له أمينة التي كانت ربَّة بيت ممتازة حقًّا حفلة غداء خاصة بمناسبة هذا العيد، وتلقَّى الأزهار والأمنيات، لكنه يشكو من أنه لا شيء من ذلك كان يجعله ينسى غيابنا.
•••
كانت المجلة في وضع ممتاز برغم المؤامرة الجديدة: حرب الورق الخفية، ومستوى المجلة الذي كان لا يزال في نظر البعض رفيعًا أكثر مما يجب!
كانت أيام الآحاد تتوالى عليَّ جميلةً، وكانت القاهرة حافلة بالأجانب، صحفيين ومسافرين. كان كل الناس يبحثون، وكان كثيرٌ من الباحثين عن المعلومات الصادقة يتوجَّهون إلى طه بالأسئلة، فكان يستقبلهم جميعًا: مراسلي «اللوموند» و«كومبا»، ومبعوث المكتب الثاني، والإنجليز، والأمريكان. حتى إنَّ الروس أيضًا جاءوا إليه، ولكي يُعبِّروا له عن شكرهم أرسلوا إليه هديةً، عددًا من مؤلفات جوركي باللغة الروسية.
كانت أمينة تتناول الغداء يوم الثلاثاء، وكان يوم الروتاري، في بيت جين. وتلك مسرة كانت لا تزال تستمتع بها حتى بعد عودتي، وكان عنتر يشاركها فيها في أغلب الأحيان.
عُيِّنَ مصطفى عبد الرازق شيخًا للأزهر، ولم يتمَّ تعيينه في هذا المنصب بلا صعوبات. فقد تخلى عن لقبه كباشا، ولم يَعُدْ سوى مجرد شيخ الأزهر. وابتسم طه بودٍّ قائلًا: «إنَّ ذلك يسلِّيني قليلًا، ولا أدري لِمَ أتذكر الآن البابوات في عصر النهضة.»
عندما وصلتُ بورسعيد كنتُ في حالة تدعو للرثاء؛ فالعاصفة لم تهدأ خلال سبعة أيام من السفر. كان مؤنس قد رافقني بحبٍّ حتى مرسيليا، وهناك علمنا أن المركب سيبحر من طولون؛ فاضطررتُ لوداعه بسرعة وأنا أتسلق الشاحنة الكئيبة المغلقة بغطاء، والتي كانت ستنقلنا إلى طولون مع سبعة عشر مدنيًّا آخرين، وأنزلنا على ساحل رملي معزول ومتوحد. كانت باخرة الإمبير باتل إكس غير أنها كانت أصغر من اسمها! وأعلنت سيدة مصرية من فورها وبشكل صارم أنها لن تصعد إلى هذه الباخرة، ونصحها زوجها متوسلًا فترة من الوقت، حتى انصاعت في النهاية لرجائه. ونزلت في الحجرة التي نزلتُ بها، وتفاهمنا تمامًا مع المسافرين الأربعة الآخرين؛ فقد كنا ستة مسافرين في مقصورة واحدة! وكنا نتقاسم مغسلة عرضها ثلاثون سنتيمترًا تقريبًا، ولم يكن هناك بطبيعة الحال ماء ساخن أو حمَّام تحت تصرفنا. كانت الباخرة حافلة بالجنود الذين لم نكن نراهم، ولم نكن نتحدث نادرًا إلا مع الضباط، كما أنَّ الطعام لم يكن شهيًّا جدًّا، إلا أنَّه لم يكن لذلك أهمية كبيرة بما أن الجميع كانوا مرضى تقريبًا. ولم يكن بوسع العسكريين الذين كُلِّفوا بالاهتمام بنا أن يفعلوا شيئًا مهمًّا لنا، على أن ما كانوا يفعلونه، كانوا يقومون به بلطف.
لم نكن نعلم قبيل الوصول فيما إذا كنا سننزل في الإسكندرية أو في بورسعيد (كانت الباخرة تتابع رحلتها إلى الشرق الأقصى). وكان بصحبتنا دبلوماسيان مسافران إلى الهند، وكنتُ أحاول عبثًا أن أبرق لطه الذي كان عليه المجيء لانتظاري مع أمينة. وكانا، هما الآخران، لا يتلقَّيان سوى معلومات متناقضة. وأخيرًا قادوهما إلى الإسكندرية في حين رست الباخرة في بورسعيد، وقاما خلال الليل بسباق عنيف للوصول إليَّ، وعندما توجَّبَ علينا مغادرة الباخرة والنزول منها إلى الزورق لم يكونا قد وصلا بعد؛ ومن ثَمَّ، لم يكن ثمة بانتظاري زورق يحملني حتى الشاطئ؛ فقدَّمَتْ لي إحدى رفيقاتي — بعد أن أَخْطَرَتْ بذلك زوجها — مكانًا في زورقهم. وفي مكتب الجمارك الذي كان سيِّئ الإضاءة، كان أحدهم يركض نحوي صائحًا: «لا تقلقي؛ فهما على وشك الوصول.» والحقُّ أنه لم تَمْضِ لحظةٌ حتى وصلا لاهثَيْن، ضالَّيْن، لكنهما كانا سعيدَيْن.
وعلى امتداد سبعة وعشرين عامًا منذ ذلك الفراق، لم يفترق أحدنا عن الآخر إلا عندما كان طه يُضْطَر للذهاب إلى العربية السعودية أو إلى تونس أو إلى دمشق لعدَّة أيام.
•••
كنا نقوم بنشاط هائل في القاهرة، وكانت حفلات الاستقبال والمحاضرات وفيرة (فقد كانت المحاضرة حتى ذلك الحين حدثًا اجتماعيًّا)، ولم يكن الناس يريدون أن يفوِّتوا شيئًا. وكنتَ ترى الناس عجولين، لاهثين، يدلفون إلى المصعد الذي تركته لتوكَ، وترى آخرين ضائقي الأنفاس يتقاطرون وراءك في الدهليز حيث تتناول معطفك.
كنتُ أُفَضِّل على هذا النشاط تلك الاجتماعات البسيطة في ملجأ العَجَزَة بشبرا.
ففي ١٩ مارس، وكان يصادف عيد القديس يوسف، راعي هذا الملجأ، أُقِيمَتْ حفلة عشاء متواضعة في الحديقة في الساعة الخامسة بعد الظهر. لم يكن المدعوون إليها شبانًا بطبيعة الحال، فقد كان المونسنيور جيرار الذي منح بركته في الكنيسة في الخامسة والثمانين من عمره، أما الرئيسة فقد تجاوزت السبعين؛ كانت امرأة ممتازة وذكية وحيوية. وألقى أحد النزلاء خطابًا تقليديًّا، لا يتغير مع الأعوام — وإنْ نوَّع فيه قليلًا على كل حال — ثم سلَّم الخطاب بعد ذلك معقودًا بشريط إلى سفير فرنسا الذي شكره بتهذيبٍ بالغٍ. وأخذت تعزف فرقة موسيقية تبرَّعَتْ بالحضور، كانتْ مؤلَّفَةً من إيطاليين يسكنون الحيَّ الذي يقوم فيه الملجأ. كان الاحتفال قد افتُتِح بالنشيد الوطني المصري والنشيد الوطني الفرنسي (المارسيلييز)، ثم اختُتِم بأغنية «أو سولو ميو»: يا شمسي!
ويُخيَّل إليَّ أن الجميع كانوا سعداء، على أنَّ الرجال كانوا سعداء أكثر من النساء. ويرجع السبب في ذلك، فيما يبدو لي، إلى أن النساء أقل تحملًا للشيخوخة من الرجال وأقل صبرًا على الافتقار للبيت العائلي، ولا يمكن للمرء إلا أن يلاحظ ضيقهنَّ ومرارتهنَّ القصوى أحيانًا. لقد كنتُ دومًا أشعر بذلك بألم، وكانت أمي تُدهَش عندما كنتُ أكرِّر على مسامعها ولم أكن قد تجاوزت سنَّ الطفولة: «إنه لمن السهولة بمكان أن يهتمَّ المرء بالصغار؛ فهم مرحون. إنهم المستقبل، كما أنهم في أغلب الأحيان وسيمون. ما أكثر ما أُعجَب بأولئك الذين يكرِّسون أنفسهم للعجائز، وهم غالبًا، مرضى ومزعجون!»
كان الملجأ قد نُقِل إلى مصر الجديدة، ولم أَعُدْ أذهب إليه كما كنتُ أفعل مِنْ قَبْلُ، ثمَّ انقطعتُ عن الذهاب إليه نهائيًّا منذ أن لم يَعُدْ بوسعي أن أترك طه فترة طويلة.
ومع ذلك، لم تكن مصر هادئة تمامًا. كانت وزارة صدقي في الحكم آنذاك. وقد كتب مؤنس لأبيه وهو الذي لم ينسَ أحداث ١٩٣٢: «لا تسبِّب لنفسك السجن!» ثم تلقَّى مؤنس بعد ذلك رسالة من أبيه وصلته بعد أن تمَّت مراقبتها؛ فغضب لذلك. لا أدري إذا كانت وزارة صدقي لا تزال في الحكم إذ ذاك، على أنَّ الحريَّة لم تكن موجودة على كل حال.
ثمَّ ستغمرنا الأحزان من جديد، وكان أكثرها إيلامًا الموت السريع والمفاجئ لمصطفى عبد الرازق. لم يكن ذلك سرًّا بالنسبة لأحد، لقد كانت الفترة التي قضاها شيخًا للأزهر كارثة؛ إذ إنه كان أكثر تنوُّرًا من أن تحتمله العقلية التي كانت لا تزال سائدة في الجامعة القديمة؛ ولذلك بقي فيها غير مفهوم يواجه الأحاديث الجارحة والظالمة بحقه، تلك التي كانت تؤلمه بصورة خطيرة.
كنتُ قبل وفاته بفترة قصيرة قد رجوته الحضور لتناول العشاء مع جورج ديهاميل الذي كان في زيارة للقاهرة؛ إذ لم يكن يلتقي بطه كثيرًا تلك الأيام لانشغال كلٍّ منهما في عمله، فكتبتُ له: «تعالَ إذن مرَّة أخرى كما كنتَ تفعل.» (أو شيئًا من هذا القبيل)، فأجابني: «مرَّة أخرى سيسعدني المجيء.» «مرة أخرى»؟ لقد كانت المرَّة الأخيرة!
وبوفاة مصطفى بعد وفاة حسن باشا وحسين بك تنتهي مرحلة كاملة من حياتنا بشكل نهائي. لقد بقي علي خلال حياته بالنسبة إلينا صديقًا عزيزًا جدًّا، غير أنَّ صداقتنا معه لم تكن تنطوي على تلك الصداقة الحميمة التي تُولَد من اللحظات التي يعيشها الأصدقاء معًا.
لم نَعُدْ إلى «أبو جرج»؛ فالحياة قد تغيَّرَتْ مثلما تغيَّر هذا الريف الذي أحببناه.
ذات يوم من أيَّام الخريف في قرية «أبو جرج» تركنا بيت العائلة الكبير، وها نحن في «بيت الماكينة» وعلى الشرفة الكبرى التي تحيط به من كل جهاته، فوق المحرِّك المغلق، كان الهواء يهبُّ فوق الخِيَم الكبيرة، يعبث بشعرنا ويقلب صفحات كتابنا. كان الأطفال يلعبون في الحديقة، وكان احمرار البلح متألقًا، في حين يتناهى إلى السمع صوت ارتطام الرمَّان المتساقط بالأرض، ويملأ العين اخضرار الليمون الصغير، والشمس التي تغيب على حين تذهِّب العنب على الكروم. لم تكن نظراتي تصطدم أمامها بشيء يحدُّ منها على امتداد الوادي الواسع، كما لو كنتُ على ظهر باخرة في عرض البحر. كان النسيم رقيقًا، والليل يوشك أن يخيِّم، وكان لا بد من العودة بهدوء. ربما كان مصطفى بصحبتنا ذلك اليوم، أو لعلَّه كان عليًّا. لم يكن مصطفى يمشي بسرعة مطلقًا، وسيقوم الآخرون باستقبالنا ببساطة وحرارة الصداقة الأليفة المشتركة، وربما أوقد الموقد وربما شويت بعض أكواز الذرة، وسيهجع الأطفال عمَّا قريب.
تلك كانت بلدتك تقريبًا يا طه. أحلم بها أحيانًا، كما لو أني أُنْعِم النظر الحالم في صورة قديمة جدًّا.
كما سيرحل عنا علي باشا إبراهيم أيضًا. كان جرَّاحًا شهيرًا، لكنه كان أيضًا صديقًا حقيقيًّا، إنسانًا لا يخشى الحياة؛ كان مرحًا، وكنا سعداء حين كنا بصحبته.
وفي نهاية عام ١٩٤٧ كنا نتخلَّص بالكاد من الخوف الكبير من الكوليرا، وكان يمكن لهذا المرض أن يسبِّب كارثةً لولا حكمة وفعالية الإجراءات التي اتُّخِذَتْ على الفور؛ فقد علمنا بذلك عندما كنا في مرسيليا لحظة إبحارنا. وأظنُّ أننا، ونحن على ظهر الباخرة، بعيدين عن الأخبار الدقيقة، كنا في منتهى القلق. لم نكن وحدنا القلقين، وككل ربَّات البيوت، قمتُ باتباع القواعد الصحِّية الضرورية المطلوبة في مثل هذه الحالة بدقة. وكان الجميع في بيتي يطيعني، بَيْدَ أنَّه لم يقبل أحدٌ منهم تناول الموز المغلي، وكان ذلك منهم سلوكًا طفوليًّا.
وتطوَّعَت ابنتي مع غيرها من الفتيات والنساء للمساعدة في التطعيم العام. لم تكن قد مارست إعطاء الحقن مِنْ قَبْل قطُّ، وكانت أولى زبائنها التي اختارتها امرأة قوية من الدرب الأحمر بدا عليها الذعر. قالت لها أمينة بصوت حاسم: «هيا معي! لا تخافي؛ فمعي لن يؤلمك ذلك أبدًا.» وغرزت إبرتها بجرأة في ذراعٍ على قدرٍ كبير من السُّمنة أتاح للإبرة أن تدخل وحدها. وبعد هذا النجاح، قامت بتطعيم مئات الناس حتى الوجه القبلي؛ حيث ذهبت بصحبة فريق من الصليب الأحمر.
وكان عددٌ من أصدقاء أمينة أعضاء سابقين في جماعة «الطلبة» فيما أظنُّ، قد قرروا أن يقدِّموا عرضًا لمسرحية «أوديب» لأندريه جيد، لا بشكل تمثيلي، وإنما بإلقاء حوارها إلقاء. فحضر جيد إلى البيت للاستماع إلى تمارينهم.
فجأة انتبهنا إلى أننا لم نَعُدْ نرى بوضوح، وأنَّ السماء غَدَتْ في منتصف النهار سوداء تمامًا، تَعْبُرها من حين لآخر نقاط حمراء غريبة. وأذكر أنَّ آنية أزهار رقيقة كانت تحوي فيما أظن أزهار الخوخ، غدت وهي فوق البيانو الأسود، جميلة بشكل غريب. كنا مذهولين إلى حدٍّ ما، وظنَّ أناس أنها نهاية العالم؛ فشهدنا اعترافات علنية. وكان جيد الذي أثار ذلك اهتمامه إلى حدٍّ بعيد يستمرُّ في متابعة هذا المشهد الغريب لا يصرفه عن متابعته شيء آخر؛ فقد جلس على دَرَج المدخل ولم يَرْضَ بالعودة إلا عندما عادت الشمس إلى الظهور ثانية بشكل تدريجي.
كان جيد يوجِّه أكبر قدر من اهتمامه لما كان يكتبه طه. وقد طلب إلى مؤنس بعض الإيضاحات المفصَّلة عن «الشعر الجاهلي»، هذا الكتاب الذي كان له دويٌّ هائل، وكذلك حول تأملات أبيه في التصوف الإسلامي التي عرضها في مقدِّمته للنص العربي من كتاب جيد «الباب الضيق».
لقد خصَّ جيد مؤنس بلفتاته اللطيفة؛ فدعاه إلى التمارين على مسرحية «المحاكمة» وقدَّم إليه مقاعد لحضور حفلة موسيقية في مسرح الشانزيليزيه، كما أهدى إليه ترجمته لمسرحية «هاملت».
كانت الصداقة الحارَّة التي عبَّر عنها جيد بأسلوب بليغ برغم تحفُّظه المعروف والأخَّاذ، أمرًا عظيم القيمة في نظر طه على وجه اليقين.
وجاء كوكتو بدوره إلى مصر. وقال لطه على الهاتف عندما اتصل به: «أنتظر بفارغ الصبر أن أُقبِّلك.» ووصل وقبَّله. وتناول العشاء في البيت، ثمَّ قام بزيارتنا مرَّتيْن، واستمرت زيارته في كل مرة ثلاث ساعات. لم يكن ساكنًا على الإطلاق، بل كان حيويًّا في إشاراته وفي كلماته، وكان يختار الجلوس حين يدخل الصالون ليس على مقعد وإنما على درجة طويلة من الخشب تحاذي الفتحة ذات الباب الزجاجي التي ننزل منها إلى الحديقة. كنتُ أجلس قربه وأبقى مأخوذة أستمع إليه وهو يلوِّح بيديْه الذكيَّتيْن اللتيْن كانتا تتحركان بشكل لا يُصدَّق، واللتيْن كانتا ترسمان أمامه أشكالًا غير مرئية.
ذات يوم، جلستْ إلى جانب طه على الأريكة ذات اللون الوردي الهادئ امرأةٌ صغيرةُ الحجم، وكانت هذه المرأة إديث بياف. كنا قد حضرنا حفلتها الغنائية، ولكني لم أكن أتصوَّر على كل حالٍ أنَّها بهذا الحجم، فقد كان العرض والإضاءة يزيدان من حجمها. كما لم أرَ أنَّ عينيها الزرقاوين على هذا القَدْر من الصفاء، هاتين العينين اللتين كادتا أن تَفقدهما ذات يوم، ولقد حدَّثتْنا عن ذلك.
كان لهذا الاحتفال الذي أُقِيمَ بعد الحرب مباشرة تقريبًا طابعٌ خاص وحميم وأخَّاذ.
وكان أكبر تأثير علينا منه الذكريات التي لنا في هذه المدينة؛ فقد عدنا إلى هذا المكان بعد واحد وثلاثين عامًا من لقائنا. وخلال هذه الأيام القليلة، وبمصادفة غريبة، كنا هناك يوم ١٢ مايو (يوم لقائنا الأول). ذهبنا إلى «كاريه دوروا»، إلى النزل الذي رأيت فيه طه للمرَّة الأولى؛ كان مغلقًا ولم يكن لدينا وقت للعودة إلى دروب أيامنا الأولى، لكنَّ مؤنس وأمينة كانا معنا؛ فبِمَ يسعنا أن نحلم بأفضل من ذلك؟!
استقبلنا عمدة ليون في مدينته كأصدقاء. وكان حديثه، كما هو معروف، عيدًا. كان كل ما يقوله مثيرًا، بل إن طريقته في قول ما يقول كانت أكثر إثارة. وأُقِيمَتْ بالطبع عدَّة ولائم، غير أن وليمته كانت ممتازة، وكان أيضًا ذوَّاقة شهيرًا للأكل، ولقد حدَّثني بإطناب عن الحدائق خلال الغداء، وكان يقول إنَّ في عالم النباتات كما هو الأمر في العالم الإنساني نباتات وأشجار غير متحابة بوضوح. لقد قرَّر أن يبتكر زهرة في مزرعة الورد التجريبية حيث كانت تُجرى تجارب علمية عظيمة، وسوف يُطلَق على هذه الوردة «سوزان طه حسين»، والحق أنَّ مدير المختبر أعلمني بعد ذلك بسنة واحدة تقريبًا عن ولادة زهرة شاي مهجَّنَة تحمل اسمي. لم أَرَها قطُّ؛ فقد قامت الحرب ولم نَعُدْ إلى ليون.
كان هيريو أيضًا مرحًا بقدر ما كان بليغًا عندما منحته جامعة القاهرة الدكتوراه الفخرية. وبدأ ينادي طه منذ ذلك الوقت: «يا عزيزي العميد.»
رأيناه ثانية في نهاية الحرب. فقد قضى أربعًا وعشرين ساعة في القاهرة في طريق عودته من روسيا إلى فرنسا، وقد تلطَّفَ وزير فرنسا المفوض؛ فدعانا لتناول الغداء بصحبته في جلسة خاصة، وعندما لمحته في الحديقة حيث كان يتمشى إلى جانب الوزير بدا لي إنسانًا متغيِّرًا كليًّا، متهالكًا، قد شاخ بشكل لا يُصَدَّق. وعندما التقى طه به تعانقا. وانفعلتُ من لقائي به فعانقته بدوري، فقال لي السيد ل. مبتسمًا: «إنَّ الرئيس محظوظ.» أما زوجته السيِّدة هيريو فقد بدَتْ لي أقلَّ إنهاكًا، وكان زوجها يردِّد: «لقد كانت رائعة رائعة؛ فبفضلها ما زلتُ أعيش، إنها بطلة!»
وفي العام التالي، كان مؤنس يحضر في باريس محاضرة لهيريو الذي كان قد استعاد صحَّته. وعندما تقدَّم لتحيَّته، قام هيريو بتقديمه مطولًا إلى كل من كان حوله، متحدثًا بإطناب عن أبيه. كان مؤنس عفوي الإعجاب بهذا الرجل المسنِّ المُتْعَب الذي كان يجد في غمرة هموم الحياة السياسية الوسيلةَ للذهاب إلى المكتبة الوطنية لمراجعة المخطوطات.
ثمَّ ذهبنا في أحد الأيام لزيارته. كان رئيسًا للمجلس النيابي، لكنه كان مريضًا جدًّا. كان ينتقل بصعوبة، وكنا مضطرين لمساعدته على المشي، وكان لقاؤنا ذاكَ به هو لقاءنا الأخير.
•••
ما إن عادت أمينة من الريف بعد جولة التطعيم ضد الكوليرا حتى تقرر مصير حياتها، وكان لا بد من إعلان ذلك. فمنذ ثماني سنوات وهي، فيما يبدو، تبادل محمد الزيات المودَّة دون أن تلتزم نهائيًّا بالارتباط به. ومع ذلك فإنَّ محمدًا لم يكن يشكُّ قطُّ في مشاعره، منذ تقديم «إليكترا»، نحو الفتاة الطويلة الشامخة الرأس، والتي كانت تقف باستقامة أخَّاذة وسط ثنيات سترتها البيضاء ذات الحزام الفضِّي.
وتركناهما وراءنا متألقيْن، وبعد عدَّة أيام تُوفِّي والد صهري فجأة … وقد تألمنا من ذلك كثيرًا، أما ابنتي فقد كانت مبلبلة، لكنها وجدت لدى حماتها تفهمًا نادرًا؛ فقد تمكَّنَتْ هذه المرأة الشجاعة الطيبة من كبت حزنها الشخصي كي لا تكدِّر سعادة وليدة.
فعندما وصلنا باريس، كانت «أندريه» لا تزال تَأْمَلُ. كانت مضطرمة النشاط تضفي على كل ما تقوم به فيضًا من الحيوية! وكانت تردِّد: «أعبد الحياة.» وكان ذلك يُحطِّم قلبي. وفي العاشر من شهر أغسطس، لم تكن قد تخلَّصَتْ بَعْدُ من آثار المورفين على وعيها عندما مدَّتْ إليَّ مع ذلك يدها بباقة من الورود الحمراء، وهمست لي: «عيد سعيد!» ولا تزال وريقات هذه الزهور المسودة والمسحوقة معي حتى الآن.
كان قد قُبِلَ لتحضير شهادة الأستاذية، وكانت أندريه تعرف ذلك. ولما كانت بلا أطفال فقد كانت فخورة به جدًّا.
منذ ستة وعشرين عامًا وأنا أتألم كلما فكرت فيها، ومع ذلك فإنَّ الرجفة لا تزال تعتري كياني كله عندما تنفجر الأنشودة الطاهرة «هليلويا» في جناح كنيسة نوتردام دي فيكتوار حيث تمَّت المراسم الدينية: «إلهي، امنحني أن أُحِبَّ حتى يومي الأخير، ولا تدَعْ قلبي يا إلهي أبدًا. أتوسَّل إليك لا تدعه أبدًا قلبًا جافًّا أو قلبًا أصم!»
عندما عُدْنا لمصر كان هناك حشد حقيقي بانتظارنا في الميناء، وكان طه الذي كان لا يزال مغضوبًا عليه مِنْ قِبَل السلطة، ممسوكًا مِنْ قِبَل صهره من جهة ومِنْ قِبَل الأصدقاء والصحافيين من جهة أخرى، يواكبهم طلبة ومجهولون حتى وصوله إلى السيارة.
وفي منزل ابنتنا وجدنا «حسن» قد كبر. كان طه يطلبه غالبًا، وكانت أجمل صفعات الصغير مخصصة له، وكان سعيدًا.
•••
نعم؛ إنني أدافع عن سياسة الوزير وسوف ألازمه في ذلك. وسألقي خُطَبًا من أجل الدفاع عن الوزارة؛ ذلك لأنني أدافع عن سياستها التعليمية التي هي سياستي، ولن يستطيع أي إنسان أن يَحُول بيني وبين ذلك سواء كنتُ موظفًا أم لم أكن (رسالة مفتوحة).
كان دون أي شكٍّ سعيدًا لاستطاعته أن يحقِّق عددًا من مشاريعه. فقد اجتاز بنضال عنيف الخطوة الحاسمة من أجل تحقيق مجانية التعليم التي كان قد طالَبَ بها منذ عام ١٩٤٢. وكان قد تقرَّرَ قبول المبدأ غير أنَّه لم يُطبَّق، وكان الناس في الخارج على وعي كامل بما كان يعنيه هذا التحوُّل الهائل. أما في مصر فقد سبَّبَ الأمر هيجانًا، وقد تسلَّى طه عندما نقلت له كلمة تاجر بسيط لامرأته: «فلنأتِ بأولاد يا امرأة؛ فالآن يسعنا أن نعلمهم!»
وأمكن بعد ذلك المساعدة في تغذيتهم؛ وذلك عن طريق تقرير وجبة مجانية في المدرسة.
كما تأسست كلية جديدة للطب، وكذلك جامعة جديدة هي جامعة إبراهيم — جامعة عين شمس حاليًّا — وأُنشِئ المعهد الإسلامي في مدريد. وفي أثينا أُنشِئ كرسيٌّ جامعيٌّ للغة وللثقافة العربيتين، وكان يأمل تأسيس معهد في الجزائر.
وقد استخدم كل الوسائل الممكنة كي يزيد من عدد المدارس الابتدائية التي لم يكن عددها كافيًا حتى وصل به الأمر أن قام بجولة مخيفة في محافظة الدقهلية وأراد أن يقوم بجولات أخرى أيضًا. كانوا يريدون الاستماع إليه، وكان يَقْبَل الكلام شريطة دفع مبلغ معيَّن لبناء مدرسة، وكان بعض الوجهاء المأخوذين به يدفعون بشكل عفوي؛ فكان يعود إليَّ في حالة نفسيَّة ممتازة.
لم يكن ثمة أبنية كثيرة في أكتوبر من أجل افتتاح المدارس، وكنتُ متوترة النفس قلقة؛ إذ كيف سيتدبَّرون أمرهم أمام هذا المدِّ، هذا السيل من الأطفال الذين كانوا ينتظرون هذا الوعد الرائع؟ هذا دون حسبان الطلبة الذين قُبِلوا بكثرة في الكليات، وخاصة في كلية الطب. وبسبب انشغاله بالأبنية الجديدة وبالأساتذة الجدد لم يكن طه ينام مطلقًا.
وتمَّ افتتاح المدارس، وبدأت الآلة تمشي. لم تكن تتحرَّك دون هزَّات بالطبع، لكنها لم تكن تتوقف.
عندما توجَّبَ مناقشة ميزانية وزارته في البرلمان، كان النوَّاب ينتظرون بفارغ الصبر أن يروا كيف سيتصرَّف الأعمى في أثناء المناقشات، وخاصة كيف سيدافع عن ميزانيته. ولقد دافع طه حسين عن الميزانية وحده تمامًا في خطاب استمرَّ أربع ساعات ولم يرتكب فيه أي خطأ حتى في الأرقام التي أوردها.
كان يحمل هذا الحرص على الدقة في كل مكان يذهب إليه، وقد كتب أحدهم في مجلة المصور: «إنَّ رؤية طه حسين في وزارته هي رؤية قائد على رأس جيوشه.»
وأُقِيمَ احتفال هائل لوضع حجر الأساس في جامعة الإسكندرية تحت رعاية الملك، وكان طه في ثوبه كأستاذ جامعة، بالغ الشحوب والجمال معًا.
ثمَّ احتُفِل بزواج الملك. وعندما ذهب طه إلى قصر القبَّة كنتُ مهمومة؛ إذ إنَّ إحدى أسنانه كانت فاسدة إلى حدٍّ كبير، وقد خُلِعَتْ في اليوم التالي، وكانت تسبِّبُ له أسوأ الآلام. غير أنَّ كل شيء تمَّ لحسن الحظ على ما يُرام. وعندما عاد إلى الزمالك كان متعبًا، لكنه كان متأثرًا؛ إذ لم يكفَّ الناس على طول الطريق عن الهتاف: «يحيا وزيرنا، يحيا صديقنا، يحيا أبو المساكين … ذلك الذي ينوِّرنا!»
كان على زوجات الوزراء أن يُقدَّمْنَ بعد الظهر إلى الملك والملكة الجديدة. وبانتظار لحظة الدخول إلى قاعة الاستقبال، كانت زوجة النحاس باشا تبذل جهدها في تعليم الخطوة التراجعية التي يجب القيام بها في أثناء تحيَّة الملكيْن لامرأة لم يسبق لها أن قامت بها قطُّ، وقلتُ على الفور أنني عاجزة عن القيام بها، وبدَتْ إحدى صواحباتنا متمرِّدة على هذا التقليد. بَيْدَ أنَّ ذلك لم يحدث فضيحة؛ فتنفَّسَتْ مدام النحاس المسكينة الصعداء، فقد كان الملك والملكة في منتهى اللطف، وكانت حفلة الشاي التي تلَتْ مراسم التقديم مرحة. لم يحضر حفل التقديم هذا سوى رجليْن فقط: الأمير محمد علي، والأغا خان. وكان كلاهما يملك الحق في الجلوس؛ فقد كانا إلى حدٍّ ما متعبيْن.
لم يكن هناك وقت طويل من أجل إعداد اليوبيل الفضي لجامعة القاهرة في يناير ١٩٥١. كان الجميع مرهقين بالعمل في نهاية شهر ديسمبر، وكان يجيء إلى بيتنا أربعة عشر عميدًا وأستاذًا ينهمكون ويناقشون ساعات وساعات وسط غيوم من الدخان، وأُعِدَّ لطه ثوبٌ خاصٌّ بالبلاط! وكان ثوبًا أكثر زخرفة من الردينكوت الأسود المعتاد. أما توفيق الذي كان يعمل في مكتب الوزير آنذاك، فقد كان يبذل ما في وسعه. وكنا نتفاهم جيِّدًا، ولم أكن آخذ عليه سوى تَنَاسِيهِ من حينٍ لآخر لبعض الأمور وكان يعترف بذلك.
وفي سهرة قصر عابدين كنا هذه المرَّة امرأتين مصريَّتيْن: زوجة وزير قبطي مسيحية، وأنا.
وقال الملك بابتسامة ساحرة لطه على إثر خطابه في افتتاح معهد الصحراء خلال هذه الأعياد: «أشكرك يا باشا.»
كانت الأعمال تنفذ وتتتابع، ولم تكن الاحتفالات المختلفة تَحُول بيننا وبين الأسفار الرسمية؛ ففي الربيع قُمْنا برحلتين إلى نيس وروما، كما قُمْنا في الخريف برحلتين إلى مدريد ولندن، وفي السنة التي تلتها إلى أثينا وفلورنسا وفينيسيا.
وصحبنا الديواني الذي جاء للاشتراك في ندوة المركز المتوسطي إلى باريس بسيارته مع مؤنس الذي كان قد جاء هو الآخر. ولقد أتانا الربيع، ربيع جزيرة فرنسا (إيل دو فرانس)، مع العربات المحمَّلة بالليلك حين كنا نجتاز غابة فونتنبلو؛ فاشتريت منها باقات عديدة.
وحضر طه إلى روما ليتسلم الدكتوراه الفخرية. وكانت ماريانا لينو هي التي رحَّبت بوصولنا؛ فكتبت لي: «لا أريد لأوَّل تحيَّة تتلقيانها من روما أن تكون تحيَّة رسميَّة، وإنَّما أن تكون تحيَّة الود. تحيَّتي وتحيَّة أبي الذي كان سيعبِّر لكم عنها والتي كان سيكون سعيدًا لو كرَّر التعبير عنها لكما.»
كانت الجلسة في الجامعة مؤثرة. وقد ألقى الرئيس الفخري كلمة جميلة، وأعطى وهو واقفٌ إشارةَ التصفيق.
وأقام سفيرنا لدى الفاتيكان حفلة عشاء ضخمة، رَأَسها الكاردينال تيسيران وحضرها خمسة أو ستة من أَشْهَر الأساقفة كانوا يلبسون المعاطف القرمزية والجبب البنفسجية والأحزمة الأرجوانية. أما «المدنيُّون» فكانوا يلبسون الملابس الرسمية، وكان الخوان يختفي تحت الأزهار الحمراء.
«سيِّدي، أريد أن أصلِّي من أجلك، ومن أجل أُسْرتك، ومن أجل بلدك.» كما أنه كلما تذكَّر هذه اللحظة، كان يتوقَّف دومًا عند هذه العبارة: «لقد قال: من أجل بلدك».
أعرف أن الهجوم انصبَّ ولا يزال ينصَبُّ على إنسانٍ قِيلَ عنه إنه متحفِّظ. هو الذي لم يكن يرفض أيَّ يدٍ تمتدُّ إليه، إنسان لم يخشَ أن يستقبل وأن يحمي يهودًا كانوا تحت الخطر. إنه لمن السخرية أن أُلِحَّ على ذلك، ولستُ أملك أن أحكم على سلوكه بوصفه رئيسًا للكنيسة، لكني أقول إنني لم أَلْتَقِ بكثيرٍ من الشخصيات التي أثارت إعجابي إلى هذا الحد.
سافرنا في شهر نوفمبر إلى مدريد. لم تكن تلك أوَّل رحلة لنا إلى إسبانيا؛ فقد سبق لنا أن جئنا إليها في عام ١٩٤٨ بناءً على دعوة من الجامعة. وكان طه قد تحدَّثَ في مدريد وفي غرناطة.
ومع ذلك — بما أنَّ الذكريات تتداعى — فقد كان على الطريق من غرناطة إلى إشبيلية مجموعة من الناس كانت تمشي بطريقة مؤلمة: رجل، وامرأة، وطفلان. وفجأةً سقطت المرأة أرضًا؛ فوقفنا. وساعد السائق الرجل في حمل امرأته المغمى عليها إلى السيَّارة، في حين حمل مؤنس الطفليْن، وأمكننا أن نودِّعهم جميعًا في أوَّل مركز للإسعاف. وسألتُ السائق: «لا شك أنَّ سقوط المرأة كان بسبب حملها برضيع آخر؟»
فجاءني الجواب كضربة سوط: «لا، إنه الجوع.»
كان وجه الرجل مرعبًا بقدر ما كان مرعبًا صوت السائق. لم ينبس بكلمة واحدة طيلة الرحلة. كان يحدِّق في الطريق، هادئ الأعصاب، متحصِّنًا وراء كبرياء عنيفة، رافضًا حتى علبة السجائر التي قدَّمها له مؤنس.
أمَّا الرحلة الرسمية التي قمنا بها في عام ١٩٥٠، فقد كانت إلى مدريد وطليطلة فقط. ودشَّن طه خلالها معهد الدراسات الإسلامية الذي أسَّسه في جوٍّ ساده أعظم الود، وهناك قلَّده وزير التربية الوشاح الأكبر لصليب ألفونس العاشر الحكيم، يساعده في هذه المهمَّة المعقدة وزير الخارجية.
وفي الأكاديمية الملكية للتاريخ وضع دوق إلبا، الذي كان رئيسها، حول رقبة طه وشاحًا آخر أصغر بكثير لكنه رائع الجمال. إنها ذكرى مخلصة تلك التي تربطني إلى دوق إلبا؛ فقد قام بيننا ودٌّ عفوي. كنا قد تعرَّفنا إليه في رحلتنا الأولى، غير أنه لم يكن ثمَّة ما يشير إلى أننا سوف نشعر معه بالراحة منذ اللحظة الأولى للقائنا، كما لو كنا مع صديق قديم. لقد تحسَّسنا جميعًا هذا التَّماسَّ المباشر الذي سرعان ما اكتسب طابعًا عاطفيًّا. وكان سلوكه مع مؤنس ساحرًا حقًّا.
كنَّا نريد دعوته للعشاء الذي كان على طه أن يُقِيمه بهذه المناسبة، وكانت الصعوبة التي واجَهْناها أنه لم يكن بالوسع أن نحجز له المكانَ الذي يليق بمَن في مقامه أن يحتله؛ فقد كان موقفه من نظام الحكم أنوفًا بقدر ما كان رصينًا … وكانت الحكومة هي التي تستقبلنا. ففاتحْتُه بذلك في منتهى البساطة، وأجابني بالبساطة نفسها ألَّا أقيم اعتبارًا لمثل هذه الأشياء، وجاء إلى الحفلة وجلس في المكان الثالث، إلا أنَّه جاء إليَّ عندما قمنا من على المائدة وقدَّمَ لي ذراعه، وتبعنا المدعوون جميعًا إلى القاعة حيث كنَّا سنتابع الأمسية مع الموسيقى.
سحرَتْ طليطلة ابني تقريبًا؛ فقد تحدَّثَ عنها عبر الإذاعة بعاطفة يستشعرها المرء دومًا حاضرةً إزاء جمالها المأساوي. توقَّفنا ثلاثتنا مليًّا في باحة الدار العذبة في بيت الجريكو، وجلسنا على المصطبة الآجرية؛ كوخ حميمي، نصف مغلق، منفصل عن الحديقة، لكنه مطلٌّ على أوراق الشجر وأريجها.
كانت هناك، لدى مغادرتنا مدريد، وفرةٌ من تحيات الوداع ترافقنا. ثمَّ أسرعنا إلى لندن.
ثمَّ صحبونا إلى مانشستر، واستقبلنا اللورد — العمدة — في قاعة المدينة العامة، وبَدَا مظهره احتفاليًّا في طقمه ومع السلسلة الضخمة من حول عنقه، لكنه كان كثيرَ الأنس في حديثه. ولقد بقيتُ مدهوشةً لرؤيتي مدينةً كانت بفضل حيوية وذكاء سكَّانها في منتهى المرح برغم قتامتها وبللها وحزنها المحتوم الذي لا بد منه؛ إذ بمجرد أن تُغلَق الأبواب دون السماء الكدرة والظلمة المغمَّة، تُدفِئُنا الأنوارُ وصخب الأحاديث الدائرة وسعادة اللقاء بوجوه باسمة متفتحة وعظيمة الود.
كان هذا العميد مضيافًا مثلما كانت امرأته أيضًا. لم يكن بوسعه أن يعرف أنَّ طه يصاب بداء الحساسية إذا ما تناوَلَ الفِطْرَ؛ فبعد العشاء الذي أقامَه على شرفنا ذلك المساء، وبينما كان طه يستقبل معي مدعوِّينا للأمسية التي أقمناها، إذا به يتهافَتُ فجأةً ويسقط على الأرض، وعمَّ الانفعال والبَلْبلة، وسرعان ما حضر الطبيب ورجلان ليحمِلاه إلى المصعد فاقدًا وَعْيَه، ثمَّ إلى غرفته لاتخاذ الإجراءات المعتادة. وفي اليوم التالي أعلنَتْ صحفُ لندن أنَّ وزير التربية المصري أُصِيب بإغماء في أثناء حفلة استقبالٍ، كما أذاعت ذلك الإذاعةُ البريطانية، وتهافَتَ علينا سيلٌ من البرقيات القَلِقة.
واستمرَّتْ أيامنا حافلةً بشتَّى البرامج، وقد تفاهَمَ طه على نحوٍ جيِّدٍ مع وزيرة الشئون الاجتماعية؛ فقد وجَدَا نفسَيْهما على اتفاق تام حول نقطة تتعلَّق بالتربية البدنية، أظنُّ أنَّها كانت الملاكمة، وكانت راضيةً عن ذلك إلى حدٍّ بعيد؛ لأننا لم نكن نتفق معها بشكل عام في الأمور الأخرى.
زرنا عددًا من الكليات، وأُخِذت لنا فيها مجموعةٌ من الصور تروق لي؛ ففيها بَدَا طه في منتهى الحيوية والسعادة، مثلما كان دومًا بين طلَّابه وتلامذته.
وعلى طريق العودة، قبلنا أمي على عجل.
أما أنا، وقد كنتُ طائشةً دومًا إلى حدٍّ ما، فقد كنتُ أنعم النظرَ طويلًا عند مدخل الملعب في العلامة المطبوعة على الحجر، التي خلَّفَتْها أقدامُ العدَّائين الذين كانوا ينطلقون في سباقهم من هناك. في المساء، نزلنا حتى البحر، وحاذَى طه على الشاطئ رجلًا عجوزًا حيَّاه، مناديًا إيَّاه بالشاعر، ولعله هو الآخَر واحدٌ من الشعراء المنشدين القدامى العائدين. كانت الجبال من الجانب الآخَر من خليج كورنيثه لا تزال مغطَّاة بالثلوج.
وببساطة متناهية، بل أكاد أقول بطيبة متناهية — إذ إنه كانت ثمة طيبة في سلوك هذا الإنسان — قلَّدَ الملكُ طه صليبَ العنقاء الأكبر.
على أنَّ الشيء الهام كان احتفال الجامعة؛ لقد كان باهرَ الجمال. كان الطلاب والطالبات من حولنا يشكِّلون موكبًا طويلًا، ولعلَّ صورة بالاس أثينا التي تطل على المنصة قد أوحت ولا شك لِطه الذي كان في منتهى الانفعال؛ فلقد ألقى خطابًا مؤثرًا إلى الحد الذي رأيتُ فيه الدموعَ تترقرق في كثيرٍ من العيون بما في ذلك عيون جنرال عجوز.
كان هناك واحدٌ من الحاضرين لم يكن مسرورًا، وأعني به سفير تركيا. لقد كان طه يتألَّم دومًا — دون أن يعاني ذلك بنفسه — من التصرفات التي مارستها الإمبراطورية العثمانية في مصر خلال قرون، هذا فضلًا عن أن هذا الاحتفال كان يُقَام على إثر الاحتفال باستقلال الشعب اليوناني. واستاء السفير التركي من جملةٍ لم تكن — لوجه الإخلاص والأمانة — فظَّةً، غير أنَّ عدلي أندراوس أخذ على عاتقه أمرَ إقناعه بذلك.
وغمرنا مضيفونا بالعناية، ولم يكن أقلها رقةً أن عرضوا علينا فيلمًا مستوحًى من كتاب طه «الوعد الحق».
وعُدْنا بطريق البحر.
أودُّ أن يتعلَّمَ كلُّ الأطفال في المدارس اليونانية عدَّةَ صفحات عن حياتك … إنه أجمل الدروس …
لم يكن طه يستريح إلا في «القناطر»، عندما كان بوسعنا قضاء يوم في أحد بيوت الاستراحة، وقد حملتُ إلى هذا البيت ذات مساء هديةَ عيد ميلادي، وكانت عبارة عن تسجيل لقداس من مقام سي لباخ؛ كنَّا نستمع إليه ليلًا والنوافذ مفتوحة المصاريع، وكان النوتيون يدهشون دون شكٍّ من هذه الموسيقى الغريبة، على أني أذكر أنه لدى إجراء تحقيقٍ مع الناس الذين يجهلون الموسيقى الغربية، لُوحِظ وجود جاذبية واضحة غير متوقَّعة لموسيقى باخ في نفوسهم.
وهناك تحقيق آخَر أُجرِيَ هذه المرة في القرى التي كان طه يفكِّر تزويدها بجهاز راديو ليستخدمه جميع الناس. لم يكن الفلاحون يريدون ذلك، فقد كانوا يقولون: «لا حاجةَ بنا إلى هذا، فعندما نعود من العمل نريد أن نأكل وننام.»
لقد تغيَّرَتِ الأمورُ الآن إلى حدٍّ كبير؛ فأجهزة الراديو في كل مكان، وسترتفع احتجاجات جميلة لو تمَّ إلغاؤها!
عندما توجَّبَ علينا — خلال السنة الأولى من عمل طه كوزيرٍ — المجيءُ إلى الإسكندرية حيث تنتقل الحكومة كلَّ صيف، استأجرنا دارة صغيرة في بولكلي. كان صهري قد أوفد إلى واشنطن كملحق ثقافي، وقبل أن تلحق به ابنتي أمضَتْ بعضَ الوقت بيننا بصحبة طفلَيْها، إذ كان قد ولد لهما بنتٌ صغيرة قبيل فترة، وعندما جاء طه لرؤيتها في مستشفى كوتسيكا بالإسكندرية، كان الأطفال في الغرف المجاورة يُحدِثون ضجيجًا كبيرًا بصراخهم، في حين كانت هذه الطفلة ساكتةً؛ فصرخ طه غاضبًا بسخرية: «إنها لا تبكي! ماذا يقول الناس عنا!»
كان هناك في الدارة أيضًا مؤنس الذي وصل من باريس مع رفيقه وصديقه هنري بوييه. كان هنري يأتي كلَّ يوم، وكان الشابان يسليان الطفلة الرضيعة بمنتهى اللطف، وخلال نزهةٍ قمنا بها إلى رشيد، كان هنري شديدَ الانتباه على وجه الخصوص لهذه الطفلة الصغيرة، ولابتسامتها، ولغمازتَيْها.
كان طه مولعًا بها، وكان يزعم أنها لم تكن تبكي قطُّ عندما تكون بين ذراعَيْه (بعد أن تعلَّمَتِ البكاءَ!)
كانت هذه النَّضَارة عذبة بالنسبة إليه خلال الغمِّ العظيم الذي ألَمَّ به آنذاك؛ فقد تُوفيت أمُّه العجوز بعد أن نامت خلال يومين لم تستيقظ بعدهما. كانت مقبرة المنيا فيما وراء النيل، وكان الطريق إليها رديئًا، ومشى طه وقتًا طويلًا تحت أشعة شمس لاهبة، وصافَحَ آلافَ الأيدي.
عندما كنتُ في المنيا في شهر نوفمبر من العام الماضي؛ حيث ذهبتُ للمشاركة في الاحتفال الذي أُقِيم في محافظته تخليدًا لذكراه، أردتُ الذهابَ لزيارة قبر أبوَيْه، ورغبتُ السيْرَ هناك، أنا الأخرى، والاقتراب من هذا الصخر القاسي العاري الذي ينتصب عموديًّا في النيل في هذا الموضع الذي يتسم بشِدَّة الاتساع والزرقة، لكني لم أستطِعْ، فنحن دومًا سجناء المواعيد والبرامج والضرورات المستقلة عن إرادتنا.
وقد حكى لي صهري أنه خلال الجنازة قام نزاعٌ حول أرض المقبرة؛ فقد كانت مقابر العائلة في مكانٍ تتسرَّبُ إليه المياهُ، وكانت عائلة الأم تريد أن تدفن حماتي في مدفن جديد كانوا قد بَنَوْه، في حين كان الآخرون يرفضون؛ فقال طه: «حسنًا، سأشتري منكم هذا المدفن الجديد.» لعائلة الأم (فيصير بذلك لعائلة الأب)، وتُدفَن الوالدة فيه (كما تريد عائلةُ الأم) وينتهي الإشكال! وقد كان.
وأضاف صهري: «هكذا كان الدكتور طه يحسم المشاكلَ ويتغلَّب على المصاعب خلال دقيقتين.»
آه! أين هو الزمن الذي كان يرأس فيه مجالس الكليات! ففي أقلَّ من ساعة كان يحلُّ كلَّ شيء … على أفضل نحوٍ …
ومحمد الزيَّات هو الذي قصَّ عليَّ أيضًا كيف أمكن إرسال طالب لدراسة اللغة العبرية في القدس قبل حرب فلسطين؛ كانت لوائح البعثات تنصُّ على عدم إرسال بعثة إلا للبلدان المحدَّدة لهذا الغرض مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، ولم تكن فلسطين من بين هذه البلدان، فاعترض رجال البعثات على ذهاب المبعوث الشاب إلى الجامعة العبرية.
فقال طه: «أَلَيست فلسطين تحتَ الانتداب البريطاني؟»
– دونَ أيِّ شكٍّ!
فقال طه: «حسنًا، سيذهب إذن إلى القدس، إلى جامعة من جامعات بريطانيا العظمى!»
وتوجَّبَ عليَّ ذات يوم أن أصحب ابنتي وطفلَيْها إلى الباخرة. كان قلبي مفعمًا بالحزن؛ إذ إنَّ أمريكا كانت تبدو لي في منتهى البُعْد، لكني كنتُ أقول لنفسي مع ذلك إنَّ من الأفضل لأمينة ولزوجها أن يوسِّعَا من أفقَيْهما، وكان ذلك بالنسبة إلى صهري بدايةَ درب متألِّق؛ أما بالنسبة لي فقد كان بداية الفراق الذي لم يكفَّ قطُّ عن التكرار. عندما كنتُ أغادر الباخرة حيث ودَّعتُهم، كنتُ أحمل في عينيَّ الصورةَ الرائعة للصغيرة سوسن في ثوبها الورديِّ الواسع ذي التويج ضمن مهدها الخشبي.
وبعد عدَّة سنوات، كتب لنا عاملٌ فرنسي، كان قد قرأ مقالًا عن طه — لعله مقال موريس دريون — رسالةً مثيرة؛ فتحت تأثير دهشته وإعجابه الشديد بما قرأه عن طه، كان يعرض تقديمَ إحدى عينَيْه إلى طه بكل بساطة! وشكره طه بأفضل ما استطاع متأثِّرًا من عرضه إلى حدٍّ كبير، فعادَ وكتب مرَّة ثانية أيضًا. هذا العرض الذي كان في منتهى الكرم، كانت عروضٌ مماثِلةٌ له قد قُدِّمت عدَّة مرات، لكن ذلك كان من قِبَل مصريين أو عرب عرفوا طه جيدًا، وكانوا يملكون الكثيرَ من الأسباب ليحبُّوه؛ أما أن يأتي هذا العرض من قِبَل عامل فرنسي في السادسة والثلاثين من عمره إثر مجرَّد قراءة مقال يتحدَّث عمَّا كانه هذا الأعمى … فقد كان ذلك أمرًا رائعًا …
طرأت اضطرابات خطيرة، ولما استفحلت كان لا بدَّ من إغلاق الجامعة، ولم تفتح أبوابَها إلا في يناير، حيث استطاع مؤنس أخيرًا بدء دروسه فيها.
كان يوم حريق القاهرة يومًا حافلًا بالقلق والأسرار أيضًا؛ إذ لم نكن نعرف حقًّا ما الذي كان يجري. كان نظام منع التجوُّل الطاغي مستمرًّا، وخلال الأشهر التي تَلَتْ جَرَتْ محاولات عدَّة لإقامة حكومة جديدة، لكنها لم تنجح، ثم كانت نهاية الملكية.
لم يَخْلُ بيتنا من الزوَّار عند سقوط الوزارة. كنَّا نتلقَّى كمياتٍ من الأزهار والرسائل، وكنَّا نرى أنواعًا من الثناء والمديح غريبة؛ فقد أهدى إيطالي مثلًا إلى طه معزوفةً عسكرية من تأليفه، وجاء مصريٌّ إلينا بلوحة مؤطرة بإطار فخم لجدِّ جدِّه الذي كان فكَّرَ في تأسيس مدرسةٍ للُّغات، فكان من العدل إذن إهداء هذه الذكرى لطه الذي قام بتأسيس مثل هذه المدرسة!
كانت هذه اللفتات، وهي في معظمها اعتراف بجميلٍ، تمسُّ شغافَ قلبه بالتأكيد، لكنه كان مع ذلك ينظر للأمور من علٍ إلى حدٍّ ما، أعني فيما يتعلَّق بسقوط الوزارة. كان له في الوفد أصدقاء حقيقيون سمحوا له بتحقيق عدد من مشروعاته، لكنه لم يكن سياسيًّا، ولم يكن عضوًا في الوفد. وفي فترةٍ، وربما في فترات كثيرة، انتقَدَ عددٌ من الوفديين الحزبيين تعيينَه وزيرًا «على حساب» أعضاء الحزب؛ فقَدَّمَ طه استقالته للنحاس الذي رفضها محتجًّا بأن المسألة — وقد كتَبَ له ذلك — ليسَتْ مسألةَ حزبٍ، وإنما هي مسألة وطن.
كان النحاس ودودًا باستمرار، يحترم طه ويتعامَلُ معه في جوٍّ من الألفة البسيطة السائغة التي عُرِفت عنه دومًا. وإني لَأذكر رحلةً قمنا بها معًا وبمحض الصدفة قبل زمن الوزارة بوقت طويل، وعندما كان «الوفد» العدوَّ رقم واحد للحكومات القائمة، كنَّا قد أمضينا أسبوعًا في أسوان، ولم نكن نعلم أن النحاس سيعود إلى القاهرة بالقطار نفسه الذي كنَّا سنعود به، وكانت السلطات تخشى قيام مظاهرات بهذه المناسبة، فمنعت الدخول إلى المحطة على كلِّ مَن لم يكن مسافرًا؛ فلم يحدث شيء، إلا أنه عند وصول القطار إلى المحطة التالية، كان هناك سيلٌ بشريٌّ يتدفَّق على طول الرصيف، وصعد المتظاهرون متدافعين إلى المقصورة التي كان الزعيم فيها — أعني مقصورتنا؛ إذ كان النحاس قد جاء إلينا للجلوس بالقرب من طه — وكانت هتافات الترحيب تختلط بباقات الورود، وكانت زجاجات «الشربات» تُقذَف بصورة خطيرة عبر باب المقصورة، وتمكَّنَ بعضُ الجسورين من اقتحام المقصورة، فجُرِحت قدمُ مؤنس المسكين — وكان طفلًا آنذاك — وكادَتْ تنسحق؛ فتسلَّقنا على المقاعد. وكان ذلك يتكرَّر في كل مكان كان القطار يتوقف فيه حتى هبوط الليل، وكان هناك نفر من الناس كانوا يرقصون بصورة رائعة على خيولهم الجميلة على امتداد الطريق، وقد بَدَا النحاس متأثِّرًا على الرغم من اعتياده على مثل هذه التظاهرات، ولقد تأثَّرْتُ أنا الأخرى.
كانوا يبدون نحوه الاحترامَ والثقةَ (وكانوا يسمُّونه «أبو الثورة»). كان أحد أعضاء لجنة صياغة الدستور، وطُولِبَ من جديد بإلقاء محاضرات، وألقى منها عددًا لا يُنسَى، كمحاضرته عن حرِّيَّةِ الكاتب، أما محاضرته في نادي الضباط فكانت داوية؛ فلدى خروجه ألقَتِ امرأة بنفسها على عنقه، وأرسلت له في الغداة سلةً رائعة من الورد.
كان قد استأنف الكتابةَ في كتابه عن «عليٍّ» الذي صدر في عام ١٩٥٣، واستأنف العمل في الجزء الثالث من كتاب «الأيام».
•••
كانت أحداث ١٩٥٢ قد هزَّتْني تمامًا، وقد كتبتُ لأمي: «تبقى حياتي إلى جانب طه شيئًا مثيرًا؛ فكل ما يحدث يؤثِّر عليه بصورة تختلف عن تأثيرها في الآخَرين، وهذا طبيعي؛ لكني أشعر بصدى ذلك أحيانًا أكثر مما يشعر به هو نفسه. إنني أستمتع برؤيته ينفرد بنصوصه القديمة التي سيستخلص منها تاريخ الخليفة عليٍّ وبَنِيه.»
كنتُ أهنِّئ نفسي أكثر بكثير أيضًا على الوقار الخارق الذي تمَّتْ به الثورة (١٩٥٢). أية سيطرة على النفس وأية فطنة! لم تكن هناك أية شتيمة أو أية قطرة من دم. كنتُ فخورةً؛ فقد عاشت مصر تلك اللحظة — ربما — أجمل ساعات تاريخها.
إلا أنه لا بدَّ من الحديث، ويا للأسف، عن السويس (١٩٥٦). كنتُ ممزَّقة؛ أن يحبَّ المرء بلده، وأن يتوجَّبَ عليه أن يقول إنَّ فرنسا لا تملك الحقَّ في تصرُّفها، كان أمرًا مؤلمًا وصعب القبول. على أن المصريين لم يغيِّروا شيئًا من مواقفهم نحوي؛ فلم أسمع أية كلمة جارحة أو حتى عدائية، وعندما توجَّبَ عليَّ الحصول على بطاقة هوية (وكنتُ أحمل الجنسيةَ المصرية منذ زواجي، إلا أنه كان يتوجَّبُ على المرء في مثل هذه الظروف أن يعلن عن أصله)، فإن مدير الجيزة كان أكثر من ودِّيٍّ في سلوكه نحوي. كنتُ أتألَّمُ بقسوة؛ في ثقتي ببلدي التي كانت وتبقى مطلقة، وفي الإساءة التي وُجِّهت إلى مصر.
إنَّ من الحق أن نقول إنَّ بلدًا ما لا يتجسَّد كله فيمَن يمثِّلونه، بل ربما لا يتجسَّد فيهم على الإطلاق، لكنَّ ذلك لا يحول بين الأخطاء المجرمة والشريرة وبين أن تسبب الدمار.
عندما طُرِد سلطان المغرب من بلده قبل ذلك حزن طه حزنًا عميقًا؛ فقد كانت لديه فكرة رفيعة عن فرنسا، وكان قد ناضَلَ كثيرًا للدفاع عنها في كثير من المناسبات، كما عمل الكثير لنشر ثقافتها، وبذل كلَّ ما يستطيع للإبقاء على مؤسسات التعليم الفرنسية في أثناء الحرب … وكانت هناك مسألة الجزائر التي كانت جارحةً إلى أقصى حدٍّ؛ فبعد أن قطعت له الحكومة الفرنسية وعدًا بالسماح له بتأسيس معهد الدراسات الإسلامية فيها، جاءه منها رفض قاصم. ولم يستطع أن يقبلَ الهجومَ على السويس، وقد أعاد وسام جوقة الشرف إلى فرنسا، ولم يكن ذلك أمرًا يسرُّ القلبَ، كما آلَمَني ذلك جدًّا.
كانت هناك ندوات ومؤتمرات في الخارج من جديد توجب علينا الاشتراك فيها، وفي سبتمبر ١٩٥٢ عُقِد مؤتمر الفنانين والكتَّاب في البندقية.
الكتابة هي أيضًا العمل … كل كاتب وكل فنان لا يستطيع التقدُّمَ إلا بالإخلاص … شأنه شأن بطل دانتي يحمل المصباح معلَّقًا إلى ظهره ليضيءَ طريقَ الذين يتبعونه.
ليس من الممكن وصف الأنوار أو التعبير عن الهدوء في نهاية هذا الإبحار البطيء الحالم على سطح مياه رقراقة. عند اقتراب الغسق، كانت البحيرة تغدو مظلمة، في حين تدخل الأشرعة الحمراء والصفراء عالَم الليل، وكذلك زورقنا. كان لا بد من النزول. كنتُ في حالة ذهول كاملة، ولعلني كنتُ كذلك حين وصولي القاهرة؛ إذ قلت لصديق مصري: «لو تعلم ما كان أجمل ذلك!» فأجابني قائلًا: «إنني أرى جمالَ ذلك في عينَيْك.»
وقد عُقِدت جلسات الندوة في سان جيورجيو أيضًا، وعندما لم نكن نملك الوقتَ للعودة إلى الفندق — وكان ذلك أمرًا معقَّدًا عندما نكون في جزيرة — فقد كان المؤتمرون يتناولون طعامَ الغداء في قاعة الطعام بالمؤسسة، وكان الكونت تشيني يتناول في كلِّ مرَّة ذراعَ طه ولا يتركها قبل أن يطمئنَّ إلى جلوسه جلسة مريحة.
استأثرَتِ ابنة مضيفنا — وهي امرأة شابة — بِطه، وتفاهَمَا على نحوٍ جيِّدٍ، وقد وجد طه نفسه على سجيتها في هذا الوسط الذكي المرهف بلا ادِّعَاء، وعند عودتنا أراد الكونت أن نعود بقاربه، فصحبنا إليه، وافترقنا عند هذه الكلمات: «كم سأفتقدكم!»
كانت «ماريا ناللينو» تلك السنة معي في أكثر الأوقات؛ فقد كانت فيما أظنُّ إحدى سكرتيرات المؤتمر. كنَّا نخرج غالبًا معًا، وكانت قد فقدَتْ عمَّتَها التي ربَّتها بعد وفاة أمِّها، ولم تكن لديها أية عائلة قريبة، وذات يوم قالت لي محمرَّة الوجه: «أودُّ أن أطلب منك شيئًا، ولا أُجِيز لنفسي ذلك.»
– بل أجيزي لنفسك يا ماريا … قولي!
فقلتُ لها على الفور: أنتِ. وصرتُ أخاطبها بصيغة المفرد منذ ذلك الحين.
كنَّا في عوداتنا المتأخرة نمشي في مدينة شبه خالية. كنَّا نجتاز ساحة سان مارك، وكانت تبدو لي — وقد خلت من الجماهير ومن الحمام — وكأنني أكتشفها من جديد، وأذكر ذاتَ مساءٍ كنَّا نمشي فلا نسمع سوى وقع خطواتنا؛ لم يكن أحدٌ منَّا يتكلم، وربما كان القمر يرسل أشعته بهدوء على الواجهات وبلاط الرصيف، ولعلنا كنَّا نصغي إلى الليل.
وكذلك عدنا إلى فلورنسا مرَّة أخرى بعد رحلتنا التي لا تُنسَى في عام ١٩٣٥ مع الشيخ مصطفى عبد الرازق.
أودُّ لو أعرف في أية لحظة من الزمن عهدَتِ العنايةُ الإلهية لإنجلترا بأمر القيام بمهمَّةِ البوليس في العالم.
كانت فلورنسا قد رفعَتْ بجرأةٍ في أوج الحرب الباردة الرايةَ المبشِّرة بالأمل والوحدة والعدالة والسلام … وكان طه حسين، خلال أربع سنوات، داعيتَها الرئيسي … وهذا هو السبب في وجودي هنا شاهدًا، وإلى حدٍّ ما حامِلًا رسالةَ طه حسين التي دوت دومًا على المنصَّات العالية حيث أعلن عنها … رسالة مبشِّرة بالوحدة والرضا والعدالة والسلام … لقد كان يبشِّر بها من أجل جميع شعوب البحر المتوسط، ومن أجل الأسرة الإنسانية كلها.
كلمات أُلقِيت في فبراير ١٩٧٥ خلال الاحتفال بذكرى طه.
إنَّ واجبنا يتجلَّى في عقْدِ روابط الأخوة بين العالم الإسلامي الذي أمثِّله هنا — بما أنَّه بوسع أصغر مسلم، إذا قال الحقَّ، أن يقوله باسم الجميع — وبين العالم المسيحي، ومدِّها إلى كل الناس؛ ذلك أنه لا وجود في نظر الله لشرق أو لغرب، ولا للجنوب أو الشمال، وإنما العالم والناس. وعندما يمنح الله العدالةَ للناس، فإنه لا يمنحها للمسيحيين فقط، أو للمسلمين فقط، وإنما لجميع الناس. إنني أطالبكم بمحاسبة أنفسكم …
ويضيف الصحفي الذي كتب أحد المقالات عن المؤتمر: «نهض لابيرا الذي كان قد استمَعَ إلى هذا الخطاب دون أن يستطيع مداراة فرحه، وقال له: «أنت أخي حقًّا.» وعانَقَه.»
كان كلامه، بل أكثر من ذلك، شخصيته نفسها تستأثر بانتباه الجميع؛ ذلك أن الدين والثقافة قد أوجدَا فيه نقطةَ التوازن والاتحاد الكاملين.
وخرج علم المدينة من الكنيسة يتبعه العمدة والمندوبون وكافة المشتركين، وكان ثمة خارجَ الكنيسة جماهيرُ غفيرةٌ فَرِحة تنتظر وتصفِّق، ثمَّ استُؤنِفت الحياة العادية؛ حياة كل يوم. أما نحن، فقد كنَّا بحاجة إلى بعض الوقت لكي نعود من العالَم البعيد الذي كنَّا فيه.
كان الكاردينال دالاكوستا شخصية باهرة؛ كان متحفظًا، رزين الكلام، رصين الحركات، زاهدًا. واجَهَ النظام الفاشي بشجاعة بطولية، وكان خلال الحرب كل شيء بالنسبة إلى الجميع. كان يسعف أبأسَ الناس، ويحمي اليهود المهدَّدين، وكان تواضعه على قدر هذه النفس العظيمة، ولقد عرفت فلورنسا أن تعبِّرَ عن عرفانها بالجميل له عند موته، وقد قرأتُ كلمةَ ممثِّل الحزب الشيوعي في رثائه وتقديره؛ ولم تكن أقلَّ الكلمات جمالًا.
وفي الليل أيضًا عُزِفت موسيقى أخرى في ساحة سانتا أنونتسياتا، وكنَّا نسمع من وقتٍ لآخَر صوتَ قطرات المياه الرقيق؛ فقد كنَّا بالقرب من واحد من الينابيع. تلك هي الأصوات التي كنَّا نسمعها في الليل: مياه الينابيع، وجزالة باخ العاطفية أحيانًا، والمدى الشاسع لإيقاعات براهمز، وكل ما يمكن لنجوم ليلة صيف في توسكانا أن تضيفه أيضًا!
لم أكن أستطيع بالطبع مرافقة طه إلى جدَّة. كانت فرحة عميقة بالنسبة إليه أن يعيش قليلًا في الجزيرة العربية، في أماكن عرفها فكره وقلبه وأحَبَّها حبًّا قويًّا، وقد وصف لي الاستقبال الحماسي الذي استُقبِلَ به؛ فما إن نزل من المركب، حتى استقبلته الهتافات، تمتزج بها هتافات العمَّال المصريين الذين كانوا على ظهر المركب. جاءت وفود كثيرة لحضور هذا المؤتمر الذي نظَّمته الجامعة العربية فيما أعتقد، كما قدم شعراء من مكة بقصد إلقاء قصائد نظموها من أجله، وانهالت عليه تحيات الطلاب والمارة والتلاميذ الذين جاءوا مع فَرِقهم الموسيقية. كان الجميع يريدون رؤيته والإصغاء إليه، وتوصَّلَ برغم كل شيء للذهاب إلى مكة، وإلى اختلاس ساعتين للذهاب إلى المدينة المنوَّرة على متن طائرة صغيرة رديئة تثير العجب! (وقد غدَتِ الأشياءُ أسهلَ اليوم بكثير). وما كان يواسيه شيء لو لم يتمكَّنْ من رؤية المدينة المنوَّرة، وأعرف كم كان منفعلًا عندما كان يقول لي: «حقًّا، إنَّ الإسلامَ دينُ الصفاء والتسامح.»
لم يستطع فريد أن يرافقه في هذه الرحلة لكونه مسيحيًّا، وإني لَأعترف بفضل أمين الخولي الذي لم يتركه خلال هذه الرحلة، وسهر على راحته بأخوَّةٍ.
كانت تلك هي المرَّة الأخيرة تقريبًا التي كتب فيها لي؛ لقد فعل ذلك مختلسًا بعضَ اللحظات خلال الأيام التي لم يكن يملك فيها وقته، وكانت آخِر رسالة من الجزيرة العربية تقول: «تعالي إلى ذراعي، وضَعي رأسكِ على كتفي، ودَعِي قلبك يصغي إلى قلبي.» كان عمره آنذاك خمسةً وستين عامًا.
ولستُ أستطيع أن أتحدَّث كثيرًا عن زيارته السريعة لتونس؛ فقد أصابه فيها ألم أسنان رهيب جعله يتألَّم إلى درجة اضطروا معها أن يعطوه كميةً كبيرةً من المسكِّنات، الأمر الذي عكَّرَ عليه هذه الرحلة، غير أن ودَّ الجميع، كما هو الأمر دومًا، عرف أن يعبِّرَ عن نفسه، وخاصَّةً ودَّ الرئيس الحبيب بورقيبة الذي كنَّا نعرفه منذ زمن بعيد.
أما المغرب، فكان هو المرحلة الأخيرة من الطريق الذي كان يحمل على امتداده غالبًا تحية مصر وكلمتها، وأتطلَّعُ برضًا إلى صورةٍ يبدو فيها الملك محمد الخامس وهو يعانقه؛ كان الوجهان معًا جميلَيْن.
ثمَّ أبحرنا إلى طنجة، واصطحبونا إلى مقرِّ حاكِمها بأقصى سرعة محفوفين بجنود على درَّاجاتهم البخارية التي لا تكفُّ فرقعتها العالية وبصفارات حادَّة تثقب الأسماع؛ إنه أمر معتاد بالنسبة إلى كبار هذا العالَم — ولم نكن منهم — ولهذا سررنا عندما تخلصنا من هذا الضجيج الكثير.
كانت دار الحاكم دارًا ساحرة، وكانت أعلى من المدينة، وكنَّا نلمح عبر أشجار الأوكاليبتوس والصنوبر على شرفاتها البحر ومضيق جبل طارق. كان مضيفونا تجسيدًا للُّطْفِ. أما في الرباط، فقد سمحتُ لنفسي — لأنَّ طه لم يكن حرًّا كما هو واضح — بالقيام بنزهة شاعرية ومتوحدة أمام المحيط الذي لم أره منذ سنوات عديدة.
الدار البيضاء: بعد أن ألقى حديثه، احتفظوا بطه وقتًا طويلًا بحيث إنني — وقد رأيته تأخَّرَ عن العودة — بتُّ هلعةً من القلق، ولا بدَّ من القول إنه قد أخافني مرَّة أخرى عندما أُغمِيَ عليه في محلٍّ تجاري بمدينة جنوة عشية عودتنا، فأعدناه إلى الفندق ضمن عربة إسعاف؛ لم تكن ملامح الطبيب الشاب المتوجِّسة — وقد دُعِيَ على عجلٍ لإسعافه — لتطمئِنَني، فقمتُ بكل هذه الرحلة وأنا أشعر بالاضطراب.
أما هو فقد كان مفعمًا فرحًا؛ إذ وجد نفسه في فاس. كان السيد علال الفاسي معنا، وتدبَّرْنا أمرنا للحصول على السيارة الصغيرة التي كانت في خدمة الملك قبل فترة من ذلك الوقت، فسيارة عادية لا تستطيع السير في هذه المدينة، كما أنه لم يكن من الممكن أن يخاطر طه بالسير وقتًا طويلًا في طرقاتٍ ضيِّقَة تفصل بينها سلالم غير منتظمة، في جوٍّ حارٍّ جدًّا، فيتعب ويرهق؛ إذ إننا كنَّا في شهر يونيو.
وعصر ذات يوم، صعدنا إلى مدينة صغيرة تقوم على الطريق إلى الأطلس. لم يكن لدينا وقتٌ كافٍ للأسف للمضيِّ صعدًا في هذه الجبال؛ كان الجو جميلًا ونديًّا، وكان المنظر يختلف تمامًا عن منظر مدينة فاس الذي يتسم بالخشونة العارية، وكان هناك رجل لطيف أعتذر عن عدم تذكُّري اسمه، يملك دارة استقبَلَنا فيها بأروع ما في العالم من طرق في الاستقبال، وكنتُ سعيدةً لتنزُّهِي في إحدى هذه الحدائق ذات المسطحات المتدرجة التي أحبها كثيرًا، والتي كانت مزروعة بأشجار الصنوبر والسرو. كان ظلُّ الأوراق الضعيف على مياه المسبح الزرقاء يرسم صورًا غير مستقرة، في حين كانت تطفو بعض الأغصان الصغيرة.
ودُعِيَ طه للحضور إلى تطوان، فتوجَّبَ الذهاب إليها. واجتزنا خلال وقت طويل — على الأقل بَدَا لي طويلًا — مساحاتٍ واسعةً قاحلة. كان الطلاب مَرِحين ودودين، ولن أنسى أنني تلقَّيْتُ منهم عند وفاة طه رسالةً مؤثِّرةً جدًّا.
وفي المساء تحدَّثَ طاغور في الأزبكية، أما في الغداة فقد قضى الشيخ مصطفى وطه بصحبته نصفَ ساعة في جلسةٍ اقتصرت عليهم ثلاثتهم.
كان ذلك منذ زمن بعيد لم تكن فيه ليلى قد وُلِدت بعدُ …
يتبع مسار حياتنا أحيانًا دروبًا غريبة، فنصادف فيه لحظاتٍ كنَّا حسبناها قد توارت في أعماق ذاكرتنا، الأمر الذي يزعزعنا إلى حدٍّ ما.
استُؤنِفَ إيقاع الحياة والموت، «الموت، إشارة تعجب للحياة» كما كتبَتْ لي ذات يوم صديقتي «مارتا»؛ فبعد ستة أشهر من زواج مؤنس توفيت والدتي فجأةً تقريبًا؛ كان قد أُغمِيَ عليها، واستغرقها الإغماء الذي لم تصحُ منه بحيث وفَّرَ عليها أمرَ انتظاري عبثًا. أمي، يا وجهًا عزيزًا ما كنتُ لأراه مرَّة أخرى — يا كلمات ما كنتُ أستطيع سماعها … ولكن، ماذا سمعتُ من أندريه في الساعة الأخيرة؟ ماذا سمعتُ من طه؟
وفي وقت هذا الحداد لم تكن أمينة هناك، بل لم يكن هناك تقريبًا أيُّ إنسان كان يعرف تلك التي أبكيها. لقد كان هناك طه، وكان هناك مؤنس، وكان هناك جان، وكانت هناك ماري.
وقد مات معاصِرها تقريبًا، بول كلوديل، في شتاء السنة نفسها، وقد تنفَّسَ طه الصعداء وهو يفكِّر في جيد عندما تلقَّى خبرَ وفاته، وبصراعاتهما التي لم تنتهِ، وقال: «حسنًا، ها قد وفَّقَ الموتُ بينهما!»
عندما غَزَا الألمان روسيا، كنَّا نرى بعضَ المنفيِّين يتبادلون التهاني آملين من وراء ذلك هزيمةَ الشيوعية. وحكت لي ماري:
تصوري! اقترب مني أمس صباحًا بعد القداس أحدُ شبابنا متهلِّل الوجه، وهتف بي: «يا أميرة … إنَّ الألمان دخلوا روسيا!»
فأجبته: «الألمان غزوا روسيانا المقدَّسة؟! فَلْتتكسر أسنانهم إذن وَلْتَحُلَّ عليهم اللعنة!»
تمنَّيْتُ لو أستطيع إعادة اللهجة المتقدة حنقًا التي لفظت بها جوابًا ما كان ليدهشني صدوره عنها.
كانت قد تبنَّتْ — هي التي لم تكن تكفي نفسها إلا بالكاد — صبيًّا صغيرًا كان ابن أحد القوزاق، غير أنه سبَّبَ لها للأسف خيبةَ أملٍ شديدة.
ثم ماتت في أحد مستشفيات القاهرة، وقد نثرنا على نعشها المفتوح جميعًا أزهارَ ربيع مصر النديَّة.
كان على مس طومسون أن تهتمَّ بهندام هيلين بحنان، ولعلها هي — فيما أفترض — التي اشترت لها القبعة الصغيرة المزهرة ذات الألوان المشرقة التي رأيناها تضعها على رأسها.
والتُقِطت لنا صور معها، بَدَتْ فيها هيلين كيلر من المرح بحيث لا أسمح لنفسي أن أنظر إليها بحزن.
شُغِلنا تلك السنوات وغبنا عن مصر كثيرًا إلى درجةٍ لا أذكر معها شيئًا عن الحياة التي تُسمَّى بالعادية اليومية.
عندما تقرَّرَ زراعة غابة في الصحراء التي تصل إلى وادي الفيوم، سعدتُ للخبر جدًّا، ورأيتني أمشي عبر الغابة على بُعْد ستين كيلومترًا من القاهرة! بصحبة مؤنس وثلاثة من أصدقائه ورفاقه، وقد حمل كلٌّ منَّا أربعة أصص صغيرة من الكزورينا والأوكاليبتوس، وغرسناها بعناية كبيرة في الأرض الرملية إلى جانب أصص عديدة غيرها. هل نمَتْ وكبرَتْ؟ لن أعرف ذلك. كان يمكن لتلك الأشجار الصغيرة إذا ما كبرَتْ أن تؤلِّف غابةً … غير أنها ليست سوى مجموعات أشجار تصنع ما تقدر على صنعه!
•••
لم أكن لأشكَّ وأنا أصعد على ظهر الباخرة «أوسونيا» في البندقية في شهر أكتوبر ١٩٦٠ أنَّ حياتنا مُقبِلة على انعطاف مفاجئ سوف يغيِّرها تمامًا. فجأةً، غَدَا قرصان منخمصان في العمود الفقري العنقي بمنزلة تهديد للنخاع الشوكي بالنسبة إلى طه، على أنَّ عملية جراحية صعبة أُجرِيت له حالَتْ دون الشلل، غير أن طه لم يَعُدْ يستطيع استخدامَ ساقَيْه استخدامًا عاديًّا. عندما أصبح يمشي بصعوبة، ثم عندما لم يَعُدْ يمشي إلا قليلًا جدًّا، ثم عندما لم يَعُدْ يستطيع القيامَ إلا بخطوات مؤلمة مترددة؛ فقد قامت عقبة أخرى في وجه فعالية لم تكن تعرف التعب، ولم تكن تستسلم إلا ببطء. عندما غَدَا هذا الرجل بلا عينَيْن، رجلًا شبه مقعد، يزيد من ضعفه تقدُّم العمر والآلام، كان لا بد من القبول بالتخلي عن كثيرٍ مما كان يقوم عليه وجودنا.
ومع ذلك فلم تكن هذه السنوات الاثنتا عشرة، التي كانت سنوات نعمة، عقيمةً كلها؛ كانت مفيدة في كثير من الأحيان، وجميلة أحيانًا. كنَّا أكثر قربًا واحدنا من الآخَر؛ إذ لم يكن يخرج قطُّ إلا للذهاب إلى المجمع الذي ظلَّ رئيسه حتى يومه الأخير، وكنتُ أصحبه في ذهابه إلى مقرِّه، كما أني لم أكن أترك البيت إلا من أجل المشتريات الضرورية.
ولكن قبل أن أتحدَّثَ عن عذوبة هذه السنوات الكئيبة، أودُّ أن أبتسم لصور إيطاليا التي كانت بردًا وسلامًا بالنسبة له حتى النهاية.
«أَلَا يسعنا البقاء أيضًا فترةً أطول قليلًا؟» هذا ما قاله لي عندما كنَّا نصعد على الباخرة «إسبيريا» … أربعة أسابيع قبل …
إذ على الرغم من الصعوبات المتزايدة، كنَّا نذهب إليها كلَّ سنة، ولم تكن الرحلات الأخيرة سهلةً حقًّا. كان طه يظنُّ — وهو الذي تُرهِقه الحرارة المرتفعة — أنه لا يقدر على الذهاب، وكنتُ أوشك أكثر من مرَّة أن ألغي الحجز، والحزن العميق يأكلني؛ لأنني كنتُ أعرف كم كان ضروريًّا أن يتنفَّسَ هواءً أكثر تنشيطًا. كان هناك أيضًا هموم الساعة الأخيرة التي تسبق السفر: إجراءات تحويل النقد الأجنبي المعقدة، كما أنه فجأةً لم يكن ثمة سكرتير يرافقنا، على أنه أمكن تدبير كل شيء تقريبًا، بَيْدَ أنه لولا الدكتور سيرج غالي ما كنَّا استطعنا السفر؛ إذ بإقناعه طه بكثير من الصبر واللباقة والود، مانحًا إياي في الوقت نفسه الشجاعةَ والثقةَ، قد أتاح لنا هذه المنافذ كيما نلتقط أنفاسنا.
مدن صغيرة، وقرى الأودية والجبل تحتفظ دومًا بشهادة الماضي المثير بين اندفاعات الأشياء الجديدة، ولا أدري بأية معجزة كان يبقى دومًا البرج القديم أو الجسر القديم أو الكنيسة القديمة أو المركب القديم في المكان الذي يجب أن تكون فيه؛ وبمعجزة أخرى، فإنك تلتقط في المشهد الذي وقفتَ أمامه خطوطًا، هي من الكمال بحيث لا يستطيع أي رسام مهما حاوَلَ أن يتخيَّلَها.
ما أكثر ما أحببناك! ما أكثر ما أحببنا مباهجك، ورقة استقبالك المحبوبة، وأجراس آحادك وأيام أعيادك المألوفة!
ما أكثر ما أحبك! وما أكثر ما أنا ممتنة لما منحتنا من سلام!
على أنه كان يُسرُّ لتناوُلِ بعض الأشياء: قطعة كبد باللفت — آه، مجرد قطعة صغيرة جدًّا — أو فطيرة نخاع، وخاصة إذا كنتُ أنا التي قامت بتحضيرها، أو حلوى اللوز وفطيرة السوزيت. وكان هناك رئيس خدم في الأدرياتيكا يأسف لرؤيته حين لا يتناول من الطعام إلا القليل مما كان يُعده له دومًا، ويسألني بلطف بالغ: «متى أُعِدُّ الفطائرَ لمعاليه؟» بَيْدَ أنه كان من العبث خلال السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة أن نفكِّرَ بفطائر السوزيت.
– لا، إنه الفليرس الذي يصبُّ في الإيزاركو!
كان يعرف ذلك جيدًا، لكنه كان يحبُّ معابثتي، شأنه في ذلك شأن مؤنس … كانَا يدَّعِيَان أنني أشرب قهوتهما بانتظام بعد الغداء. كنتُ قد نُصِحتُ بعدم تناول القهوة، أو تناول القليل منها؛ ولذلك كنتُ أشرب قطرةً من فنجانِ كلٍّ منهما، ويبدو أنني بذلك كنتُ أُفرِغ فنجانَيْهما معًا!
ما أكثر ما كان طه يمسُّ شغاف قلبي في تلك السنوات الأخيرة! فبينما كنَّا نتنزَّه على ضفة «الفليرس»، أراد أن يحمل محفظتي بأيِّ شكل مثلما كان يفعل في السابق لمساعدتي، بما أنني لم أكن أملك سوى ذراع حرَّة واحدة، إلا أنه عندما كان يتوجَّب على ذراعي اليسرى أن تسند ذراعه اليمنى أيضًا، فإنه لم يكن ممكنًا أن يحملها فضلًا عن أنَّ ذلك كان يسبِّبُ له إرهاقًا كبيرًا.
أملك صندوقًا صغيرًا لوضع أدوات الزينة؛ ليس صندوقًا عريضًا، لكنه عالٍ بما فيه الكفاية. لا أستطيع أن أنظر إليه الآن بلا مبالاة؛ فعندما كنَّا نذهب في «رحلة خاصة»، كان يحمله بعناية وبفخر رقيق حنون يؤثِّر في نفسي تأثيرًا عميقًا. إنَّ هذه الأشياء هي أكثر من عاديةٍ إذا ما جرَتْ بين زوجَيْن عاديَّيْن، بَيْدَ أني كنتُ أُقِيمُ لها اعتبارًا عظيمًا إذ أراها تصدرُ عنه!
في عام ١٩٥٤ جاءت ابنتي وصهري وطفلاهما للقائنا في «كول»، وتعرَّفنا إلى ابنتهما «منى» التي وُلِدت في أمريكا، والتي كان لها من العمر آنئذٍ ثلاثُ سنوات. كانت لها نزوات لا تطاق، غير أنه كانت لها أيضًا لحظات مؤثِّرة؛ ذات عصر، تُرِكت وحيدةً مع مربيتها، إذ كان الآخَرون يقومون بجولة قصيرة، وكنتُ مضطرة للخروج وطه أيضًا، فما إنْ رأت سيارة الأجرة تصل حتى ألقَتْ بنفسها عليَّ رافعةً ذراعَيْها بحركةٍ بلغت من التوسُّل والرجاء — بلا بكاء — أنها دفعتني إلى حملها إلى السيارة ووضعها قرب طه الذي كان قد ركب، مخالِفةً بذلك أوامرَ أمِّها القاطعة!
وكان لا بد من انتظار عدَّة سنوات قبل أن يعودوا إلينا في إجازة، في مدينة «ميرانو» هذه المرَّة. لم تَعُدْ منى آنئذٍ طفلةً رضيعة؛ وكانت القصص التي يقصها عليها جدُّها تسحرها. كانت تستمع إليه ساكتةً فاغرةَ الفم، ولم تكن كل هذه القصص مبتكرة؛ بل كانت غالبًا أخبارَ العصر الأول من الإسلام ومن تاريخ العرب.
كانت دومًا عفوية وحسَّاسة. وكان ينزل في الفندق كونتيسة إيطالية، لا أدري مَن هو الذي قال عنها إنها أميرة. كانت الأميرة في مخيلة مُنى شخصيةً قويةً مخيفةً؛ وقد خافت لذلك من هذه السيِّدة خوفًا كبيرًا، في حين أنها كانت في الحق امرأةً متميزة ساحرة الشخصيَّة.
في كول، قمنا بعقد صِلَاتٍ جميلة مع عددٍ من نزلاء فندق بالاس، وذات يوم اندفع واحدٌ منهم في الصالة ملوحًا بمجلة إيطالية وقال: «انظروا! انظروا! … أليس هذا عظيمًا؟ أية مفاجأة!»
وقبل عدَّة سنوات أُعِيد طبع هذا الكتاب ثانيةً، فأُضِيفت إليه بعض الأسماء وحُذِفت منه أسماء أخرى، أما طه فقد بقي اسمه ماثِلًا فيه.
في يوم من أيام يوليو ١٩٥٢ تلقَّى طه مخابرةً هاتفيةً من سفارة مصر في روما تُعلِمه أن الملكية قد أُلغِيت، وأنَّ الثورة قد تمَّتْ. كان من الدهشة بحيث سقط مغشيًّا عليه، مُخِيفًا بذلك الناس كلهم، وأستطيع القول إنه أخافني بوجه خاص، بل حتى الدكتور الطيِّب «لومباردو» الذي غَدَا شبه صديق لنا إثرَ هذا الحادث.
كان طه متعلِّقًا بالقرية المتواضعة؛ كلُّ شيء فيها كان يروق له، وعندما كنَّا نغادر الفندق للذهاب إلى وسط المدينة لتناوُلِ فنجان من القهوة في المقهى الذي كان — والحق يقال — يذكِّرنا بالتيرول أكثر مما يذكرنا بإيطاليا، كنَّا نتوقف برهة على الجسر الصغير فوق الإيزاركو الذي كان يشكِّل بانحداره هناك شلالًا. كان طه يعبد هذا الصوتَ المجلجل الإيقاعي، وكان يعبد مثلي النباتات التي تفرش أرض الغابات.
وقد قضينا هناك صيفًا كان جميلًا على نحوٍ خاصٍّ. كنَّا في ساعة متأخرة ذات مساء من شهر أغسطس في الحديقة، وكان هناك مذياع لا أدري من أين يبثُّ لحنًا هادئًا من ألحان موزار، وقد أثَّرَ هذا اللحن النقي الذي كان يصل في الليل في نفس طه بشكل عميق، وأعتقد أنه لم يسمع ثانيةً هذا اللحنَ مرةً دون أن يتذكَّر تلك الساعة.
مَن كان يحسب أننا رأينا هناك — مؤنس وأنا؛ إذ لم يكن طه معنا هذه المرَّة — بحيرتَنا تتحوَّل إلى بحرٍ هائج؛ محيطٍ صاخب تتكسر أمواجه على الصخور بصوت كصوت الرعد، تحت سماء يحسبها المرء سماء بحر المانش في يوم عاصف؟!
إنَّ لبحيرة «جارد» عواصفَ مرعبة ومفاجئة. ضربة رياح قوية، وها هو ذا الماء أسود كالحبر، يبدأ ثورته، فتبدأ تحت الزوابع خيم الشرفات بالرقص وتنقلب الكراسي والموائد، في حين تتناثر أوراق الشجر بعنف وتستعيد البحيرة جلالها؛ فحين يتلألأ الماء كالماس المتألِّق تحت الشمس، أو هو البدرُ، يرسم على سطحه خطًّا طويلًا مرتعشًا فضيَّ اللون.
«إنَّ أي بيت لا يكون صغيرًا إذا ما جعله إنسانٌ عظيمٌ كبيرًا.» هذا ما نقرؤه على جدار إحدى الغرف. لا شك في ذلك، لكننا نشعر بالحيرة إذ نقرأ ذلك في هذا المكان.
آه يا إيطاليا الإخاء!
جاردونيه، ٢٤ يونيو ١٩٧٥
شرفة واحدة تفصلُ بين شرفتي والشرفة التي كانت لنا في المرَّة الأخيرة. ما أكثر ما أنظر إليها! كنتُ أغيِّرُ مكان مقعدك باستمرار، فأضعه أحيانًا في منتصف الغرفة — كنتَ تشعر بالبرد أو بالحرارة — وكان الهواء قويًّا … وكنتُ أريد بأيِّ ثمن أن تشعر بقليل من الراحة، أن تبقى قليلًا أمام الأشجار والبحيرة مستمعًا إلى طيور السنونو ساعة جولانها، لكنك لم تكن على ما يرام. وأتساءل الآن فيما إذا كنتُ على حقٍّ، وفيما إذا كنتُ أسبِّبُ لك في كثير من الأحيان الإزعاجَ والتعبَ، في حين كنتُ لا أبغي سوى راحتك. تعبكَ، أعيشه ثانيةً بمجرد أن أدفع هذا المقعد الشبيه بالمقعد الذي كنتَ تجلس عليه مرتعشًا في الصباح لتتمكَّن من تناول الفطور (لا أستطيع أن أجلسكَ وحدي في سريرك خوفًا من أن تسقط).
ولا أستطيع الآن أن أبدأ في أن أقرأ لكَ الأخبارَ في صحيفة الكوريير، ولا أن أعطيك البسكويت الذي تحبُّه … و… و… لم يَعُدْ ثمة شيء قطُّ.
•••
نلتقي بالتاريخ، الماضي والحاضر، غالبًا في أثناء السفر. في سبتمبر ١٩٣٥، كنَّا في القطار الذي كان يقودنا إلى جنوة؛ إذ كان يتوجَّب علينا أن نبحر منها في الغداة، عندما استمعنا دَهِشين إلى أجراس كافة الكنائس في البلدة التي كنَّا نجتازها تقرعُ بشدَّةٍ؛ كانت تنادي — وقد عرفنا ذلك لدى وصولنا — الإيطاليين لسماع خطاب موسوليني الذي كان سيعلن الهجومَ على الحبشة، ورأينا الجمهور الضخم الذي كان يتجه نحو ساحة فيراري. كان هناك الكثير من الأطفال مع آبائهم، وكانوا يلبسون الثياب الفاشية، وكان ثمة — في المطعم الذي كنَّا نتناول فيه غداءنا — صبيٌّ يؤكِّد بلهجة قاطعة للشيخ مصطفى، الذي كان معنا، الإبادةَ القريبة لبريطانيا العظمى. كان طه يصغي إلى ذلك حالمًا.
وفي مرَّة ثالثة، حملتنا سيارة أجرة حتى غابة صنوبر كثيفة قضينا فيها ساعة من الوقت، قام خلالها بالسير عدَّة خطوات في درب ضيِّق تحت الغابة كان يذكرنا بكول. كانت الأشياء الصغيرة، الأشياء المتواضعة، تمنحنا الفرح، ولم يكن قد بقي له منها إلا القليل، فكنتُ أتألم لرؤيتها تتناقص كل يوم.
على أنني ألقى في كل مكان نفسَ الودِّ الرصين ونفس الاهتمام؛ فالأزهار تنتظرني على الطاولة، وقد وضعت أمامها صورة طه. جاردون، ريفا، جنوة، ما أجمل الرجوع إليكِ!
وإني لَأميل إلى الذكريات بشغف؛ في «موينا» لم يعرف طه سوى شرفة وزاوية صغيرة من العشب، وامتداد السيل الجاري أمام الفندق. ذات صباح جميل كان الناس فيه يتنزهون، استطعْتُ إقناعَه لمغادرة الغرفة قليلًا؛ كنتُ مع سليم قد وضعنا على العشب، إلى جذع شجرة رقيق على حافة الماء، المقعدَ الصغير الذي حملناه بواسطة المصعد حتى ذلك المكان. كل شيء كان صافيًا ولامعًا ونديًّا، وكنتُ سعيدة لرؤيته على هذا النحو مغمورًا بالنور والسلام.
وفي العام الماضي، كنت أعودُ إلى الفندق وأمشي عيناي تنظران إلى الأزهار الوحشية التي تهبط حتى الماء، وفجأةً رفعتُ عينيَّ؛ كان هناك في المكان نفسه، تحت الشمس، جالسًا على المقعد الصغير، واضعًا شاله على ركبتَيْه، ومسندًا عصاه إلى جذع الشجرة، في حين وضع قبعته القماشية على الكرسي. كلُّ ذلك كان من الوضوح بحيث إنني توقَّفْتُ فجأةً وقلبي يخفق، ونظرت إلى شرفتنا القديمة بشكل غريزي. نظرتُ إليها طويلًا، ولم يكن فيها أحدٌ تلك اللحظة لحُسْن الحظ.
يوم الأحد الأخير الذي قضيتُه في «موينا»، خلال أوَّلِ صيف أقدم إليها وحيدةً، دهشتُ في الكنيسة أثناء القدَّاس عندما رأيتُ أحدهم يصحب ضريرًا إلى المنصة، وتقدَّمَتِ امرأة ضريرة أيضًا للقراءة الثانية التي قامت بها وفق طريقة بريل، كالقراءة الأولى؛ وبعد تلاوة الإنجيل، جاء دور ضرير آخَر، فتحدَّثَ بإيجاز عن عميان إيطاليا الذين انخرطوا في الحياة العادية، ثم تحدَّثَ بإطناب عن عميان العالم الثالث والضرورة الملِحَّة لمساعدتهم. لا أستطيع رؤية أعمى دون انفعالٍ؛ إذ عندما بدأ هذا الإنسان الوقور أمامي كلامَه بأريحيَّة، لم يكن هو الذي كنتُ أراه، وإنما أنتَ، أنتَ الذي كنتَ تثير انفعال الجماهير، في كثيرٍ من المرَّات ولكثير من الأسباب، وهي التي كانت تتزاحم للاستماع إليك. وقد تأثَّرْتُ من هذا الموقف تأثُّرًا جديدًا، اضطررتُ معه للمقاومة شديدًا كيما أستمرَّ في امتلاك زمام نفسي كما يجب في مثل هذه المواقف.
ها هي ذي دروب الله. في هذا اليوم الأخير، يدٌ كانت تمتدُّ إليَّ تدعوني للاقتراب من الآخرين؛ لا لأني وضعت سلة من الأزهار أمام قدم المذبح حيث جاء الناس لتقديم القربان فحسب، لا، وإنما لأني كنتُ أشعرُ بقوة لا تُوصَف بكمال النعمة التي أغدقت عليَّ، أنا التي وجدتُكَ على طريقي.
وقد أسَرَّتْ له بواحدة من خيباتها: «التقيتُ اليومَ على الدرب بحلزون، فقلت له بمنتهى اللطف: «صباح الخير يا سيِّد حلزون!» هل تتصور أنه لم يردَّ عليَّ! إنها فظاظة!»
وفي أرباض ترييست، كانت الأشجار والأدغال تنحدر حتى تحاذي أمواج البحر. وعلى اليسار، كانت أشجار الصنوبر تتسلق الشواطئ الصخرية.
وندخل المدينة عبر قبَّة جسر بديعة.
وتأثَّرَتْ أمينة أشد التأثُّر بهذا التناسق الرائع. كنا نعود من «سيستيانا»، وكان ثمة أشرعة ملوَّنة على البحر الهادئ ذي الزرقة الغامرة، كانت الشمس على وشك المغيب، وكان الهواء النديُّ يحمل أريج الصنوبر، فبَدَا الوجه الصغير رصينًا، وكانت تقول بعذوبة، كما لو كانت تحدِّث نفسها: «هذا جميل!»
كانت على الدوام مَرِحة قادرة على إدراك أكثر الأمور جدِّيَّة؛ ذات عصر ماطر قررنا الذهاب إلى السينما، وكان هناك فيلم واحد يفتننا، لكنه كان يبدو لي أكثر جدِّيَّةً من أن يسليها، كان اسمه «أنا، أنا … والآخرون»، غير أنها شاهدته باهتمامٍ جالسةً في هدوء متسلية بالفصول الضاحكة منه، دون أن تشعر قطُّ بالسأم مما لم تكن تفهمه. كانت أخاذة!
وفي «ترييست» قامت بالقراءة لجدِّها لأوَّلِ مرة.
من وقت لآخَر، كانت تجلس على شرفتنا حاملة على ركبتيها الدبَّ الصغير الذي تعبده، والذي لم يكن يفارقها. كانت تنظر إلى البحر، وتتأكد من أنَّ الدبَّ ينظر معها أيضًا، وكان يمكنها البقاء على هذا النحو فترةً طويلةً دون أن تلفظ كلمة واحدة.
كان طه، في عودتنا الأولى إلى إيطاليا، يستطيع المشي ببطء ولا شك، لكنه كان يسير عن طيب خاطر من الفندق حتى شرفة القهوة الصغيرة على الرصيف؛ حيث كان بوسع أمينة الجري.
أكثر من عشرين قرنًا مضَتْ على هذه الهضبة، وكلما أتينا إليها كنَّا نجد فيها ثوبًا أبيض لعروس. لماذا؟ من الطبيعي أن نشهد مراسم الزواج في الكنيسة، غير أنَّ المآتم تقام فيها كذلك وحفلات التعميد …
عاد مؤنس عدَّة مرَّات بصحبة ليلى وأمينة، لكني كنتُ وحيدة يوم وصلنا بالباخرة، ولم أكن أعرف أنه لم يكن هناك محطة بحرية أو خدمات معتادة أو سيارة أجرة إذا لم تحجز مقدَّمًا. ذهلتُ لرؤيتي الرصيف خاليًا، ولم يكن ثمة أي هاتف ولا أي مقعد أُجلِس عليه طه الذي نزل الجسر بشجاعةٍ متوقِّعًا أن يستقر بسرعة في سيارةٍ ما. ذهب فريد للبحث عن سيارة أجرة. كان الركاب جميعًا قد غادروا الميناء، فغمرني غمٌّ حقيقي، وقمنا بالسير مائة خطوة ببطء شديد، أشدُّ خلالها على ذراع طه كما لو كنتُ أريد أن أسندها خشيةَ السقوط المفاجئ؛ كنتُ أخشى أن تتلاشى قواه في كل لحظة، فأشجعه، فيردُّ قائلًا: «إنني بخير، لا تقلقي.»
لم أَرَه ثانيةً على الإطلاق مصمِّمًا على الصمود مثلما رأيتُه ذلك اليوم.
وأخيرًا مرَّ أحد موظفي الباخرة في سيارة فيات صغيرة، فتعرَّفَ علينا وتوقَّفَ وصحبنا بسيارته. لم يكن ذلك سهلًا لأن السيارة كانت أصغر من أن تتسع لساقَيْ طه، لكن هذا الموظف ساعَدَه وساعدني بلطف ورعاية لا يُصدَّقان، وعندما وصلنا الفندق كان طه يبتسم، وفي ذلك المساء تناوَلَ عشاءَه في قاعة الطعام.
ربما كانت تلك هي المرَّة الأخيرة التي يتناول العشاء فيها في قاعة الطعام؛ إذ لم يَعُدْ يتناول بعد ذلك وجباته إلا في غرفته وأنا بصحبته، وذلك في الفنادق التي كانت تقبل القيامَ بأداء هذه الخدمة المزدوجة.
على هذا الرصيف الفارغ حيث وقفنا وحيدين، كان هناك الكثير من الشجاعة والحنان لا يزال قلبي دافئًا من حرارتهما. بعيدة هي ترييست؛ لم أستطع العودة إليها، وللسبب ذاته لم نذهب إليها على كل حال منذ ثلاث سنوات؛ فالذكريات الإيطالية الأخيرة، وبقية المعالم الأخيرة لم تكن فيها.
«ريفا دل جاردا Riva del Garda»، ٣٠ سبتمبر ١٩٧٥
لم يأتِ طه قطُّ إلى الديابليريت. وفي «مونترو» عثرتُ ثانيةً حيث مررنا بسرعة على وفرة الأزهار والعطور على شاطئ البحيرة حيث سرنا ذات مساء معًا.
للمرَّة الأولى، منذ سنوات، ركبتُ القطار (عندما قدمت من البندقية إلى باريس، كنتُ مع مؤنس شبه لا واعية)، وعندما اختفى وجه مؤنس العزيز في محطة مونترو شعرتُ ببعض الذعر (كنتُ وحيدة، غير شابة، وغير سعيدة). ومرَّ القطار في «بريج» و«السامبلون» و«الدومودوسولا» التي كانت سوداء تحت المطر، أما «ستريسا» فكانت تختفي تحت الغيوم وهطول المطر المدرار. ما أكثر السنوات والمرَّات التي مررنا بها هنا! وما أكثر الأفراح التي عشناها! وما أجمل ما كانت عليه غبطة الأطفال!
أعددتُ حقائبي ووضعتُ صورتكَ. كانت قوارب النزهة تحت الشرفة تتمايل وتهدر من حول القلعة. لا أرى عند منابت الجدران العتيقة أزهارَ الغار، لكني أعرف أنها حمراء بشكل رائع.
قلبي يثقل عليَّ؛ عندما أغادر هذا المكان أشعر وكأنني أنفصل عنك من جديد. عليَّ أن أغادر الشرفة، وأن أغلق النافذة، وأن أسدل الستائر …
«عودي، عودي! …»
وأعود.
جنوة، ٦ أكتوبر
عليَّ أن أقوم ببعض المشتريات، لكن أين حميَّة السنوات الأولى؟! ليس ثمة شيء للأسف أبحث لك عنه، لكني سأحاول مع ذلك أن أعثر على أسطوانة جميلة، وبذلك لا تكون غائبًا عني كليًّا.
على الباخرة
«الأسبيريا» لم تَعُدْ موجودةً، ولم يسبق لكَ أن سافرتَ على الباخرة «فيكتوريا»، فكرة رحلتنا الأخيرة تلازمني. أسمع، أسمع صوتك: «أَلَا يسعنا البقاء أيضًا فترةً أطول قليلًا؟» كانت لديك رغبة عميقة في البقاء، وكنتَ تقول ذلك بخجلٍ. لم نكن نستطيع؛ فقد حاولنا عبثًا النزولَ في فنادق متواضعة في الجبل وفي الريف وألَّا نبذر في مصروفنا. عبثًا … فالموارد تتلاشى، ولم تكن لحسن الحظ تعرف أن تحسب قطُّ، ولم تكن تتبيَّن ذلك. ما أكثر حنانك حين شعرتَ بي مهمومة، فقلتَ لي بسذاجة: «معي نقود في محفظتي … خذي منها …» كان معه مائة جنيه؛ مائة جنيه أحملها بعناية، ولا تزال موجودةً في محفظته القديمة الزرقاء.
اعتاد مؤنس المجيء لمساعدتنا عند الإبحار الذي كانت تتزايد صعوبته من يوم إلى يوم، كان هذا اللقاء القصير خيرًا لنا، إلا أنَّ مؤنس اضطر لسوء الحظ أن يسافر في مهمَّةٍ إلى زائير لحظة إبحارنا تمامًا؛ فحزن طه بسبب ذلك حزنًا شديدًا، وأثارته باقة الورود الهائلة التي كانت تنتظرنا في المقصورة، لكنها لم تُواسِه.
لم نكن نعلم أننا سنجد بيتنا فارغًا؛ فالخدم السابقون هاجروا نحو بلاد غنيَّة، كما غادرتنا أمينة في اليوم التالي إلى نيويورك، أما سليم فقد أخذ إجازة لعدَّة أيام، وكان قد بقي لنا أربعة أسابيع نعيش فيها معًا! لم أكن لأصدِّق تعجُّبَ الناس من حولي لدى وصولنا الإسكندرية وفرحهم وهم يقولون: «ما شاء الله، الباشا بخير!»
لا أنظر تقريبًا إلى البحر، وإنما أرى صورًا أخرى، وثمَّة منها الكثير، بل أكثر من الكثير. ذات مساء، كان طه يتألم على ظهر «الأسونيا»، شأنه غالبًا، وبدأ الصراخ بعصبية بالغة: «إنني أموت.» فأردتُ ألَّا يفقد أعصابه، وقلتُ له حتى أهدِّئَه وأنا أجهد نفسي لأضحك: «اسمع، لا تفعل بي ذلك على الباخرة! لننتظر على الأقل حتى نصل مصر …»
كنتُ أريدُ ممازحته، غير أنه رسم ابتسامة غامضة، وهدأ قليلًا.
عدتُ ألقي نظرةً على الأشجار والموائد، ولا أملك الشجاعةَ للدخول.
نزلتُ إلى نابولي لوضع رسالة في البريد، وعدتُ من فوري، ثمَّ إن السماء كانت تمطر مطرًا مدرارًا. لا أنزل هذا السلم الكبير للمحطة البحرية دون أن أتذكَّرَ رحيلَ المهاجرين؛ كنَّا على الباخرة «كولومبا» المسافرة إلى نيويورك، غير أننا كنَّا سننزل منها في طنجة. كان هناك حشد كبير من الرجال فقط يصعدون إلى الباخرة، وحشد آخَر من النساء والأطفال على رصيف الميناء ينظرون ويلوِّحون بأيديهم ومناديلهم، وكانت العيون في الأعلى وفي الأسفل حمراء جميعًا، وكان يقف على الجسر موسيقِيُّو الساحل يعزفون دون توقُّفٍ أكثر الألحان مرَحًا جاهدين عبثًا ولا شك، وعندما أُعلِن أخيرًا أن «الباخرة ستبحر»، أحسستُ بالقطيعة؛ كانت قلوب الأمهات والزوجات تتحطم. أعرف كيف كنَّ يبكين وهنَّ عائدات منحنيات على الدرج الكبير … كانت الباخرة تبتعد بسرعة؛ كانت جميلة، لكن جمالها الباذخ بَدَا لي ذلك المساء عيبًا.
سنصلُ الإسكندرية قريبًا. كنتَ تقول: «تزعمين أننا لا نرى الإسكندرية فقط حين نكون بها.»
وكان ذلك صحيحًا، فوصولنا إليها كان يختلف تمامًا عن وصولنا إلى جنوة أو بيروت بالتأكيد؛ إذ بمجرد أن نلمح الشواطئ، نكون قرب المدينة، وفي الصباح النديِّ تبدو الإسكندرية رائعةً وخياليةً إلى حدٍّ ما، كما لو كانت خطًّا ورديًّا لطيفًا موضوعًا على الماء شبه البنفسجي.
عليَّ أن أتخلص من التخيُّلات، ولا بدَّ من الظهور بمظهر طبيعي أمام هؤلاء الناس الذين يقومون بنزهة بحرية مفعمين جذلًا وفرحًا، لكني أعرف جيِّدًا أنني ذاهبة إلى لقاء الصمت. لم أشعر قطُّ بمثل هذه الحاجة إلى سماعك؛ ذلك أني أصطدم بجدارٍ لا يمكنني النفاذ منه، وأحيا — دون أن أعيش — حياةً لم تَعُدْ حياتي، ولا أجد العذوبةَ فيها إلا عبر الدموع.
كنتُ أودُّ لو حملتُ معي هذه الصفحات من الذكريات وقد اكتملت — وإنْ كانت ستبقى ناقصةً على كل حال — كنتُ آملُ إنجازَها في بيتنا ﺑ «رامتان»، بَيْدَ أنه كانت هناك جماهير من الزوَّار طيلة الصيف؛ ولم يَعُدِ البيت قابلًا للسكنى. ها أنا ذا من جديد عند ابنتي في المعادي. أريد أن أكون شجاعةً، كما كنتُ في إيطاليا؛ وما دمتُ أستذكر، ما دمتُ أحاول التحدُّث عنك، فسنبقى معًا.
رامتان
حلم قديم لم نستطع تحقيقه إلا في عام ١٩٥٦ عندما كان لِطه ستة وستون عامًا؛ كانت مدرسة الفنون الجميلة القائمة بالقرب من البيت الذي كنَّا نسكنه في الزمالك تطالب بهذا البيت لتجعل منه ملحقًا بها، وكان شبه مستحيل إيجاد بيت للإيجار؛ فقررنا بناء فيلا تضمُّ شقةً مستقلة يسكن فيها مؤنس وليلى. ولما كنَّا نريد حديقة كبيرة، وكان ذلك مستحيلًا في الزمالك، فإننا اتجهنا نحو طريق الأهرام، وكان ثمة على درب صغيرٍ متفرِّعٍ من الطريق الرئيسي أرضٌ محاطة بالكازوارينا، فأغرتنا. لقد تغيَّرَ هذا المكان منذ ذلك الحين للأسف! لكنه كان ساحرًا آنذاك؛ كان الدرب الضيق عبارة عن ممشًى عبر أشجار العندم الهندي، وكان في الجهة المقابلة لحديقتنا حقل برسيم تُرعَى فيه من حينٍ لآخَر جاموسة كانت تُفرِح — وتخيف — أمينة عندما كانت في الثانية من عمرها. كان هناك قليل من البيوت السكنية؛ فإذا ما ذهبنا في المساء حتى الطريق الرئيسي، فإن بوسعنا أن نرى أمامنا امتداد الريف في البعيد، وكانت السماء تبدو لي عظيمة الاتساع.
ووضعت المخططات؛ بيت طويل أبيض ذو طابق واحد يقوم على الأرض مباشَرةً ليتمكن طه من الذهاب إلى الحديقة بسهولة، وواجهات متلاصقة، وشرفة من الحديد المطروق الأسود، دهليز صغير يؤدي إلى المكتب الذي ينفتح على صحنٍ من الآجر مع مقعد من الآجر أيضًا، ونافذة من الحديد المطروق تطل على القاعة المجاورة، وذلك لتذكرنا ببيت جريكو، ومجموعات من الشجيرات ذات الأريج العطر. وفيما وراء المكتب عند البهو، هناك قاعة فسيحة وغرفة طعام مشمسة لا تفصل بينهما سوى ستارة وتكعيبات عنب كبيرة تنقل الحديقة إلى داخل الغرف، وفي أمسيات الشتاء كنَّا نوقد الحطبَ في المدفأة الجدارية المدهونة بالأبيض ببساطةٍ تامةٍ شأن الدار كلها. وفي قاع البهو هناك دَرَج أبيض ذو درابزين من الحديد المطروق يؤدِّي إلى غرفنا وإلى شقة الزوجين الشابين اللذين كان لشقتهما سُلَّم خارجي خاص بهما تمامًا، وعندما أردنا تسمية هده الدار طلبت والأولاد إلى طه أن يساعدنا في البحث في النصوص القديمة عن اسم لها، وهكذا عثرنا على اسم «الرامتان»؛ فهذه الكلمة الغريبة مثنى يميز خلال مراحل الصحراء مخيمين وخيمتين وناري المخيمين. وبما أننا أردنا أن تحتوي الدار على بيتين … فقد كتبنا على الباب الأبيض على الشارع هذا الاسمَ بالحروف العربية والحروف اللاتينية.
كانت الهداهد في «الرامتان»، كما كان الأمر في هليوبوليس، تتنزه على المرج براحة واطمئنان، وكانت الجداجد تذكِّرنا بوجودها الدائم. أما في المساء، فكان ثمة ضفادع صغيرة تأتي من القناة المجاورة وتقفز على الشرفة وتدخل أحيانًا عبر النوافذ المفتوحة!
على أن ضيوف الحديقة الحقيقيين لم يكونوا ضيوفَ الأرض بل العصافير؛ لم أرَ ولم أسمع في بيوتنا الأخرى كثيرًا منها كما أرى وأسمع هنا، وكانت العصافير أيضًا تدخل إلى الغرف وتجن عندما تجد نفسها ضمن الجدران. ولا بدَّ أن أدع الكروان جانبًا؛ فقد كان طه الذي أحَبَّ دومًا عصفور بلده هذا يستقبل تحيته كلَّ مساء بفرح، ويظن المرء أنَّ صرخة واحدة أو خفقة جناح واحدة تجتاز السماء كلما مرَّتْ طيور الكروان من فوقنا بسرعة.
ها أنا ذا من جديد على الدرب القصير الهادئ حيث تغني الجداجد تحت أقواس الأشجار المغلقة …
ألاحظ أنني أتحدَّث عن هذا البيت بصيغة الماضي، والحق أن «الرامتان» لن يُبعَثَ ثانيةً؛ فمؤنس مستقر في باريس، وأمينة وزوجها يسكنان بيتهما في المعادي، أما أنا … فربما سأعود إليه وسأستمع آنذاك إلى صدى الأصوات الخرساء. ربما استطعت الابتسامَ للصنوبرة التي زرعتها؛ ففي أيامه الأخيرة من ربيعه المصري الأخير نجحتُ مرة أخرى أن أضع إلى ظلها مقعدَ طه، لكنه لم يُرِدْ أو لم يستطع البقاءَ طويلًا في هذه الحديقة التي أقمْتُها خصوصًا من أجله. ولقد مرَّتْ ثلاثة أعوام لم تَعُدْ تراه فيها الدروب التي شققْتُها من أجله ليمشي عبرها دون تعب.
وأتذكر بعذوبة ذات صباح من مايو ١٩٥٧؛ لم أكن قد نمتُ كثيرًا منذ بداية الليل حين اضطر مؤنس لاصطحاب ليلى إلى دار الشفاء، ولم يكن الوقت متأخرًا عندما فتحتُ نافذتي وخرجتُ إلى الشرفة. كان مؤنس في الممشى الكبير، يمشي ببطء ويدخِّن سيجارة، ورفع عينَيْه وابتسم لي وسمعته يقول: «إنها بنت صغيرة …» كان صباحًا منيرًا من مايو حين تلقَّيْتُ هذه السعادة النقية على هذا النحو ببساطة وجدِّيَّة …
لعلَّ وعسى …
كنَّا قد عشنا في بيتنا في شارع مونكرييف بالزمالك عشرين عامًا، وفي الصباح الذي تركناه فيه، وكنَّا منهمكين بالطبع في جلبة الاستعداد للانتقال، قال لي طه فجأةً، وشعرتُ به متأثرًا: «أَلَا أستطيع الذهاب قليلًا إلى الحديقة؟» … وشعرتُ بأني أتزعزع إزاء ما كان يشبه التوسُّل؛ كان نادرًا ما يطلب شيئًا ما، فتناولْتُ ذراعه، وحملت كرسيًّا، وبقينا برهة على الأرض المعشوشبة.
وعندما انسحبنا في المساء إلى غرفنا الجديدة، شعر للمرَّة الأولى بالخوف في بيت مجهول، وقال لي — بنفس الصوت الخجول الذي خاطبني به في الصباح: «هل تسمحين لي أن أقضي هذه الليلة في غرفتك؟»
كنَّا في السنوات الأخيرة نقضي أمسياتنا في غرفته نستمع إلى أسطوانات الموسيقى؛ كان يحبُّ ذلك ويسألني: «ما الذي سنستمع إليه هذا المساء؟» كما لو كنا نستعدُّ للذهاب إلى حفلة موسيقية.
عندما كان على مؤنس وليلى أن يستقرَّا في باريس، فتحتُ بابًا في الجدار الذي يفصل غرفتهما عن غرفتي، وغدَتْ هذه الغرفة غرفةً لطه؛ كانت أكبر وأكثر عرضةً للشمس من الأولى، وتابعنا فيها حفلاتنا الموسيقية وقراءاتنا حتى الليلة الأخيرة تقريبًا، تلك الليلة الفظيعة التي كانت تقطعها أصوات وكلمات واعترافات لم أفهمها تمامًا حتى الآن. وفي إحدى المرَّات التي كنتُ أنام فيها قليلًا على الرغم مني، حلمت بحلم لم أفهمه على الفور أيضًا؛ فقد رأيت فيما يرى النائم أنَّ خاتمَ زواجي قد تحطَّمَ بطريقةٍ لا تُفسَّر، وأنني إذ كنتُ أنظر إليه حزينةً لاحظتُ أنه كان ثمَّة داخلَ الدائرة المكسورة شيءٌ من السواد كما لو كان غبارَ فحمٍ.
مضَتْ أربعُ سنوات عادية حفلت بالرحلات الرسمية والعمل الشخصي، أما السنوات الاثنتا عشرة التالية فقد كنَّا نسافر فقط طلبًا للراحة والنسيم العليل. كان طه قبل ذلك قد تخلَّى — لعدم قدرته على أن يسافر دومًا — عن عدَّة دعوات لزيارة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة والأردن والكويت وغيرها، ثمَّ اضطرَّ أخيرًا ذات يوم أن يكفَّ عن متابعة العملِ نفسِه الذي كان يقوم به.
الأمر الذي كان صحيحًا تقريبًا، لأجلٍ من الوقت.
ما سأقوله ليس سارًّا لي، لكني أريد أن أقوله مع ذلك؛ فقد كان المصريون يعتقدون — وما زالوا — أن الحكومة قد تحمَّلَتْ مصاريف هذه العملية، وكان ذلك يبدو لهم أمرًا طبيعيًّا. ربما كان الأمر على هذا النحو، لكنه لم يحدث؛ فقد دفعنا مصاريف ونفقات الإقامة في المستشفى كالعادة كاملةً، بل بشكل مضاعف باعتبار أنني لم أترك طه لحظةً واحدةً.
جاء لزيارته خلال العملية مجهولون، كما جاء أناس لم نكن قد رأيناهم منذ عشرين عامًا. كان مؤنس في باريس، فكنتُ أعتمد على أمينة وزوجها، وكذلك على ليلى وماري وجان اللواتي كنَّ مخلصات بطبيعتهن؛ إذ كنَّ صديقات موثوقات ولم يكففنَ يومًا عن أن يكنَّ كذلك؛ صديقاتٍ كان مجرد النظر إليهن يعود بالخير. كان ريمون حاضرًا أيضًا، يجهد في السيطرة على انفعاله واضطرابه.
لا يذكر الأب قنواتي — الذي كان من أوائل مَن جاءوا لزيارة طه — ما قاله لي، لكني أذكره؛ كان ذلك عشيةَ العملية الجراحية، فقد عانَقَ طه، ثم رافقته حتى الدهليز، وإذ رأى القلقَ على وجهي، ذكَّرَني ببساطة قائلًا: «أنتِ مسيحية، وهذه هي اللحظة التي تبرهنين فيها على ذلك!»
كانت عصافير «رامتان» تغني بقوَّةٍ صباحَ اليوم الربيعي الذي عاد فيه طه إلى البيت، ورافقت ساعات نقاهة طويلة لا تزال مثقلة بالهموم، لكنها كانت أكثر سرعةً مما كنَّا ننتظر، ولقد عبَّرْتُ عن ذهولي عندما وصلنا «بادو» معًا، وكلانا مفتون لا يكاد يصدِّق.
كنت سعيدةً لرؤية طه سعيدًا، ولا سيما أنه تألَّمَ كثيرًا عندما اضطر مؤنس لأن يتخلَّى عن الجامعة بعد أن غَدَا هو الآخَر هدفًا للغيرة السافلة والمناورات الشريرة. كان ولا يزال المصريَّ الوحيد الذي يحمل شهادة الأجريجاسيون في الأدب، وقد نال درجةَ الدكتوراه في السنة التالية بعد الدفاع عن رسالته، وهي إحدى الرسالات النادرة التي كتَبَها مصري حول موضوعٍ شرقي وقُدِّمت للسوربون وعنوانها: «الرومانتيكية والإسلام». لم يكن بوسعنا أن نكون هناك، فقصَّ علينا الأصدقاء جلسةَ الدفاع عن الرسالة بتفصيل واسع، وقد وصل الأمر بدانييل أنْ وصفَتْ لي الطقمَ الذي لبسه يومها، أما «دو» (مدام كواريه) فقد كتبت لي: «كنَّا — شوري وأنا — نختال كالطواويس!»
وعرض عليه في القاهرة منصب بائس، فلم يقبله؛ كان ذلك زهيدًا، كما كان معيبًا.
كان طه يتعاون مع اليونسكو منذ سنوات، وقد اهتمَّ كثيرًا بالمشروع الكبير (الشرق-الغرب)، فكان أحد أعضاء اللجنة الاستشارية التي اشترَكَ فيما أظن في جلساتها الأربع الأولى، أما بالنسبة للاجتماع الخامس في عام ١٩٦٣، فإنه اضطرَّ للاعتذار برغم الإلحاح والإصرار، مقترحًا أسماء يمكن لها أن تحتلَّ مكانه؛ إذ لم يَعُدْ قادرًا على المشاركة في الاجتماعات والمؤتمرات، وإنْ لم يقطع كلَّ صلةٍ له بها.
وقد طُلِب إليه أن يكتب دراسةً عن «الإسلام والعنصرية»، لكني لا أظنُّ أنه استطاع إنجازها.
كان يتابع كتابة كثير من المقالات، والإجابة على العديد من رسائل الطلاب التي يتلقَّاها، وخاصةً منها رسائل الطلاب الأجانب التي يطلبون فيها منه معلوماتٍ أو إيضاحاتٍ أو توجيهاتٍ. لا أدري ما الذي حصل بدراسة «دراسة وتقديم الثقافة العربية» التي كانت موضعَ بحثٍ.
لقد أفادته كثيرًا الرحلات الأولى التي قمنا بها عقب الهزَّة العنيفة عام ١٩٦١ إلى حدٍّ كبير، ومع ذلك فقد كان بحاجةٍ للرعاية والمراعاة، ولقد قلقت كثيرًا ذات مساء حين قَبِلَ التحدُّثَ في التليفزيون. والحق أن هذه المقابلة معه قد تمَّت إثرَ خروجه من المستشفى تمامًا، لكنه اكتفى بالإجابة عن بعض الأسئلة. ذلك المساء، نصبت في المكتب أجهزة معقَّدة، وكنتُ أخشى المصابيح الضخمة التي ترسل حرارة قوية ومؤلمة، لكن الفنيِّينَ أقسموا لي أن ذلك لن يدوم أكثر من ساعة، إلا أنه مضَتْ ساعتان وهو لا يزال يتحدَّث؛ فانتهزت فرصةَ راحةٍ وتوسَّلْتُ إليه أن يتوقَّفَ، لكنه ابتسَمَ لي ابتسامة جذلى وقال لي مَرِحًا: «دعيني، فإن عمري ثلاثون عامًا!»
وبعد دقائق وصلت ممرضة كانت تحضر للعناية به ليلًا، وإذ أذهلها ما رأته من أسلاك وأناس يملئون الدهليزَ، تجاسَرَتْ فأطلَّتْ على المكتب؛ نادرًا ما رأيتُ وجهًا مشدوهًا على هذا النحو!
ذلك أنه لم يكن يتحدَّث فحسب، وإنما كان يتابِع النضالَ.
كان قد مرَّ بمثل هذه التحوُّلات المثيرة. ذات مساء، كنَّا نتنزَّه في «جاردونيه»، وكان الجو شديدَ الحرارة؛ فانتابته نوبةٌ، وظلَّ بلا وعي على المقعد حيث مدَّدناه، وهرع فريد للبحث عن طبيب وسيارة، فوصلَتِ السيارةُ أولًا، واستطعنا إعادة طه إلى الفندق، وعندما حضر الطبيب، الذي أخطر بحالة إغماء، ودخل الغرفة، وجدَ فيها إنسانًا عاديًّا جالسًا على سريره يستقبله بودٍّ؛ دهش لرؤيته وقال لي بشيء من الإعجاب: «إنَّ زوجك يا سيَّدتي إنسان يثير الفضول.» … إنه يثير الفضول حقًّا! لكن هذا الطبيب اللطيف عادَ مع ذلك في الغداة للاطمئنان عليه، وكان كل شيء على ما يرام.
في عام ١٩٦٦، كان أشدَّ تعبًا ممَّا كان عليه ذلك المساء، يومَ كان يهاجم بعنف الانتصارات المزيَّفة والمؤسسات المنخورة، ومع ذلك لم يَخْشَ التليفزيون أن ينظم ندوةً بينه وبين اثني عشر كاتبًا وصحفيًّا وجامعيًّا، وجرَتِ الندوة في الصالون الذي كان أكثر اتساعًا من المكتب؛ لقد قلبوه رأسًا على عقب تقريبًا وبكثير من النشاط! … واستغربوا قلقي عندما كانوا يجرون — بلا احترام — صوانًا قديمًا كاد أن يتحطم، كما لو كان كرسيًّا عاديًّا؛ أقول «كرسي»، بما أنَّ أحدهم وجَدَ فيه أداةً يصعد فوقها لتثبيت ما لا أدري!
ليس هذا هو المهم على كل حال؛ فخلال ثلاث ساعات تقريبًا أجاب طه بإسهابٍ على الأسئلة الكثيرة التي طُرِحت عليه، عالمًا تمامًا بمَن يحدِّثه دون اضطرابٍ من توجيه أسئلة مفاجئة له.
ولقد عشتُ ثانيةً تلك الساعات هذه السنة في أثناء بثِّ تحقيقٍ تليفزيونيٍّ. لم نكن نعرف شيئًا عن البرنامج، ولا عن موعده، فلم نَرَه منذ بدايته. كان ذلك بالنسبة إليَّ انفعالًا عظيمًا؛ فقد كانت عيناي الدامعتان تريانه ثانيةً في كرسيِّه بالقرب من المدفأة، متنبهًا، واثقًا من نفسه، دقيقًا. وفي النهاية، عندما وجَّهَتْ له مقدِّمةُ البرنامج سؤالًا إضافيًّا، قال بهدوء وبمزيد من اللطف: «مش كفاية؟» اضطربت؛ فصوته كان — بشكل استثنائي — هو هو … صوته الذي عرفت، وكان هذا الصوت يعيده إليَّ … لثوانٍ عدَّة، ما يلبث بعدها أن يتوقَّف.
وسجلت معه أيضًا عدَّة مقابلات للراديو، لكنها كانت أقصر من الأولى، وانتظمت من حوله — هو الذي كان خروجه يقلُّ أكثر فأكثر — اجتماعات حيَّة تناقش فيها موضوعات مختلفة.
وفي نهاية ١٩٦٥ منَحَه جمال عبد الناصر قلادةَ النيل.
كان من المفروض أن يقلده رئيس الجمهورية هذا الوسامَ خلال مهرجان الآداب والعلوم والفنون، غير أنَّ طه لم يكن قادرًا على حضور الاحتفال؛ فحضر إلى البيت رئيسُ التشريفات وحمَلَه له.
كانت هذه القلادة جميلة، لكنها اختفَتْ خلال السطو المفجع على «رامتان» بعد أربعة أشهر من وفاة طه، وقد عُثِر عليها محطَّمة، لكنها كانت كاملة بصورة عامة، مثلما اختفَتِ الساعة «اللونجين» أيضًا، التي سبَّبَ لي فقدانها كثيرًا من الشجن. كان ضابط البوليس الذي أعاد لي هذَيْن الغرضَيْن يعلم تمامًا كم كنتُ متعلِّقة بالساعة التي لم تفارق يد طه منذ خمسين عامًا، وإني لَأشكره ثانيةً على ذلك.
كانت هذه السرقة هامة، لكنها لم تكن الأولى؛ فقد كانت هناك سرقات أخرى أقلُّ أهميةً، بَيْدَ أني أسفت على كلِّ حال حين سُرِقت فضيات المائدة، ولم نتمكَّن من العثور عليها.
وجدت هذا في مجرى ماء، وحين رأيتُ ما يحتويه، رأيتُ إعادته لك، لكنني احتفظتُ بواحدة من …
والحق أنه كان هناك إحدى عشرة صورة في المظروف.
كل الناس يعرفون حياةَ لويس ماسينيون الطويلة، حياته الحماسية المثيرة للحماس؛ فذكراه ومؤلَّفاته حاضرة باستمرار، وليس لديَّ حتمًا ما أضيفه إليها، وإنما أستدعي بعضَ الذكريات لنفسي.
طيلة الفترة التي قضاها مؤنس في معهد المعلمين العالي بباريس، كان مواظبًا على حضور محاضراته التي كانت تفتنه، وعند الخروج كانَا يمشيان معًا، وكان ماسينيون يستعلم باهتمام ودِّي عن كل ما يقوم به طه من عمل أو يخطِّط للقيام به، وقد عرفنا من رسالة مؤنس مدى سخطه إثرَ سحب «الكوليج دو فرانس» دعوتها لطه لإلقاء عدَّة دروس فيها عام ١٩٤٩ (لأسباب سياسية بالطبع). كان حقًّا قد خرج عن طوره.
وأنا أيضًا صار عندي بنت!
ثمَّ بعد ذلك صرخة الألم المرعب يُطلِقها الأب الذي كان يرى ابنه يموت.
كنتُ أتردَّدُ دومًا في محادثته بحميمية زائدة؛ فقد كان مشغولًا بكثيرٍ من الأشياء! ومع ذلك فقد اضطررت — وكنَّا ذات يوم وحدنا — أن ألمح إلى مرارة طه وألمه — خلال إحدى أسوأ سنوات حياتنا — فسكَتَ لحظةً، ثم قال لي بصوت رصين أبطأ من صوته المعتاد: «نعم! أتصوَّر. آه، أتصور ما يعانيه هذا القلب، وأتصوَّر أنكِ الوحيدة التي تعرف …»
… أكتب لكَ اليوم لأعبِّر عن إعجابي وفرحي بمشاريعكم؛ ففي عالم المبتزين والجبناء تتألَّق شجاعتكم لتواسي بعض مَن لا يتوصَّلون إلى قتل أنفسهم في الشهادة من أجل العدالة، شأنهم في ذلك شأني. إنني أدعو الله أن يبارك طه حسين لقاءَ الزكاة الروحية التي يؤدِّيها للشعب المصري … أقبلك يا صديقي، وَلْيبارِك الله زوجتك العزيزة بسببك، وكذلك أولادك وأصدقاءك، بل حتى أعداءك الذين لولاهم ما كنتَ لتنتبه إلى المهمَّة الملقاة على عاتقك …
يوم وفاته، أرسل «آراجون» برقيةً يطلب فيها كلمةً من طه لتُنشَر في العدد الذي كانت «الآداب الفرنسية» تكرِّسه لهذه الذكرى العظيمة، وقد أرسلنا له هذه الكلمة برقيًّا أيضًا.
وقد أسف طه كثيرًا لعدم قدرته على المشاركة في المحاضرة العظيمة التي ألقاها الرئيس في القاعة الكبرى بجامعة القاهرة؛ كان موضوعها يدور حول «الخصائص الزنجية» بشكل خاص، وكذلك عن جوانب أخرى من العالم والحياة، وقد استمعتُ إليها وكنتُ متحمِّسةً.
لم يَرَ طه سنغور ثانيةً؛ لكنه تلقَّى منه رسائلَ تفيض بمشاعر الصداقة.
وصباح ٢٨ أكتوبر، حمل لي سفير السنغال منذ اللحظات الأولى، تعازي صديق جاء متأخرًا في حياته.
لا أنسَ بالطبع المدائحَ، وكلها جميلة، خلال السنوات الأخيرة، وليس من اللائق أن أقوم بتعدادها جميعًا، لكني أظلُّ ذاكرةً ما يقوم به المصريون والفرنسيون والإيطاليون والآخَرون ممَّن يعملون بجدٍّ على نشر مغزى ودلالة نشاطٍ ومؤلَّفاتٍ لم تُنشَر في رأيهم بما فيه الكفاية في الغرب.
ذات يوم، غَدَا من الضروري الحدُّ من الزيارات، ومع ذلك كان هناك مَن يريد رؤيته ولقاءه؛ ذلك تقريبًا ما تمنَّوْه في مدرسة داخلية في مصر الجديدة أرسلَتْ لنا وفدًا كاملًا؛ فقد صعدت اثنتا عشرة فتاة بصحبة مديرتهنَّ ومعلماتهنَّ إلى الطابق الأول من الدار محمَّلات بالأزهار التي أهدَيْنَها له مع التهنئة، ثمَّ أخذْنَ في الغناء، وكان ذلك في منتهى الجمال.
وكان يريد رؤيته أيضًا ذلك القاضي الذي قَدِمَ من نيجيريا بصحبة شابٍّ في رحلة إلى مصر؛ كان ذلك في السنة الماضية، ولم يكن وجه طه الحيُّ مرئيًّا … لقد كانَا يتخيَّلَانه ولا شك حين ذهَبَا إلى القبر حيث طلَبَا أن نصحبهما، وعند زيارتهما ﻟ «رامتان»، وعند تصويرهما تمثاله البرونزي الذي صنعه الفنان رزق، وعند التقاطهما لأنفسهما صورةً قربَ الوجه المنحوت، قال لي القاضي هذه الكلمة التي ما كنتُ أنتظرها: «رحمة بنفسك يا سيدتي؛ لأننا إذ نراك إنما نراه!»
كنَّا في «جاردونيه» يوم الخامس من يونيو ١٩٦٧، وعلمنا بالاعتداء الإسرائيلي، وكانت الأيام التي تلَتِ الكارثةَ مفعمةً بالقلق؛ فلم نكن نلتقط إذاعة مصر، وكنا — بطبيعة الحال — بلا خبر عن أمينة وأسرتها الذين كانوا في القاهرة، أما الإذاعات الأجنبية فقد كانت تنقل لنا تفاصيلَ مرعبةً عمَّا جرى في سيناء، ولم تكن الصحف والإذاعات موضوعيةً فيما كانت تنقله، بل لقد كانت أحيانًا مزدريةً كارهةً بحيث كان يتضاعف تمزُّقنا.
أما أنا فإني أذكر اللهجةَ المؤلمة التي قال لي بها في عام ١٩١٨ إثرَ قصف «الجماح»: «إنَّ خسائر بلدنا تبقى بلا مقابل، أَوَلَنْ يأتي اليوم الذي تدافع فيه مصر عن نفسها بنفسها؟»
لا أستطيع أن أنهي الحديثَ عن أيام «رامتان» دونَ أن أتوقَّفَ قليلًا عند بعض الذين عرفوا هذه الدارَ، ثمَّ اختفوا قبل اختفاء طه.
وكان طه يعابث غالبًا سكرتيره الشاب على اضطرابه عندما يضطرُّ للتعبير عن فكرةٍ من أفكاره فلا يتوصَّل للعثور على الكلمات المناسبة، فيغمغم متلجلجًا: «إنه الشيء … الشيء … إنه شيء الأشياء!»
كان يجعل من عيد طه عيدَه الشخصي، فيختار بعناية كبيرة الهديةَ التي يقدِّمها له، غير أنه كان هناك دومًا شيء ما ينقص هذا العيد!
ومنذ أن لم يَعُدْ ولداي بقربي، كان يصحبني إلى رؤية الأفلام التي تهمني. كنَّا كلانا نحب أفلام «جاري كوبر»، ولم نكن نفوِّت واحدًا منها، لكني منذ وفاته لم أَرَ واحدًا منها.
أما محمد، فلم يكن له من العمر عشرون عامًا عندما تقدَّمَ للعمل عندنا كطباخ تحت التمرين في بيتنا بالزمالك، وسرعان ما غَدَا طباخًا ممتازًا، وعرف أن يساعدنا جيدًا عندما جئنا للسكن في «رامتان». كنَّا نحبُّه جميعًا، لكن الشاب المسكين كان يملك قلبًا ضعيفًا، وكنَّا نعرف أنه لم يكن قويًّا تمامًا، فكان غالبًا موضع اهتمام أصدقائنا من الأطباء؛ وذات صباح دخل «السفرجي» قاعة الطعام حيث كنَّا نُنهِي وجبةَ غدائنا وقال لنا: «محمد مريض جدًّا!»
فهرعت مع مؤنس إلى المطبخ؛ كان يبصق دمًا، فحاولنا استدعاء طبيبٍ، وهيَّأنا له بسرعة السيارةَ لنقله إلى أقرب مستشفى، ثمَّ قمتُ بإعطائه إبرةً — بلا فائدة — وكان ينظر إليَّ بعينين هلعتين، لكنه ما لبث أن اطمأنَّ بطريقةٍ مؤثِّرةٍ عندما قلتُ له: «إنه الدواء الذي يتناول منه الباشا.» وحُمِل إلى المستشفى ولم أرَه بعد ذلك، وقال لي كامل: «لم يكن بوسعنا إنقاذه حتى على طاولة العمليات!»
كان ذلك حدادًا حقيقيًّا بالنسبة إليَّ، ولقد بقيتُ زمنًا طويلًا أحاول الاعتيادَ على ألَّا أرى في «رامتان» هذا الوجه البشوش الطيب.
•••
بالقرب من السفارة الفرنسية، قاموا بهدم دار جميلة جدًّا هي دارة آل واصف غالي الذين كانوا أصدقاءنا على الدوام؛ فبعد موت واصف باشا، لم تَعُدْ زوجته تخرج من الدار إطلاقًا بسبب مرضها شبه الدائم. لم تكن الدارة بعيدة جدًّا عن «رامتان»، وكان بوسعي الذهاب إليها بسهولة؛ كانت الساعات التي نقضيها معًا وحدنا في أغلب الأحيان ساعات ساحرةً، لم تكن السيدة غالي تلبس في ذلك الحين سوى قميص طويل أبيض ذي أكمام عريضة صمَّمَتْ طرازه هي بنفسها، كانت تجتاز بقامتها اللطيفة البهوَ الفسيح القاتم والعالي بسرعة، سعيدة بمشيتها الرشيقة دومًا، وما دامَتْ قادرةً على الوقوف، لم أكن قادرة — إلا في أمسيات الشتاء — على منعها من مرافقتي حتى العتبة لوداعي ومراقبة عودتي! وكان أقصى ما أستطيع الحصول عليه منها ألَّا تنزل معي الدرجات الست أو السبع المسيجة بالخضرة، التي تؤدِّي إلى الحديقة.
أحببتها كثيرًا، وأعجبتُ بشجاعة هذه الفرنسية المطمئنة عند نفي الوفديين وقلقهم (وكان زوجها واصف باشا أحد أعضاء الوفد). بعد ذلك بسنوات كثيرة، عُثِر ذات مساء في الحديقة على طفل لقيط فحُمِلَ لها، وروَتْ لي كيف دفَّأت ولفَّت وغذَّت هذا الوليد الجديد، هي التي لم يكن لديها طفل؛ فدهشتُ وقلتُ لها: «وكيف عرفتِ القيامَ بكل ذلك؟» فأجابَتْ بلهجة طبيعية: «إنها الغريزة!» كان لها من العمر خمسة وسبعون عامًا، وكان هذا الطفل قد أصبح صبيًّا رائعًا في السنة التاسعة أو العاشرة من عمره عندما تركَتْه؛ إذ لم يكن بوسعها تبنِّيه.
من المعلوم أنَّ لبعض البيوت نفوسًا، وهي نفوس ترحل دون أي شكٍّ مع رحيل أولئك الذين يغادرونها؛ كانت نفس هذه الدارة على طريقي عند ذهابي للمدينة، فكنتُ أتوجَّهُ إليها في أثناء مروري بتحيَّة صغيرة ودودة. لم يَعُدْ ثمَّة سوى أرضٍ خالية تقوم بين الشارع الرئيسي والنيل، عليها عدَّة شجيرات فقط. عندما كنتُ أمرُّ، مثلما كنتُ أمرُّ أمام «موقف السيارات» الحزين حيث أنشأَتِ السيدةُ هدى شعراوي شيئًا لا يُعوَّض — مشربيات من الخزف المزخرف ومصنوعات زجاجية بحثَتْ عنها بصبرٍ — وأتذكر، هنا أيضًا، حيث كان الاستقبال القلبي شديدَ الحرارة، شديدَ الطيبة؛ أقول عندما كنتُ أمرُّ وأدرك عبثًا أنَّ امِّحَاء آثارنا بسرعة هو القانون، كان قلبي ينقبض لمجرد تفكيري في أنني لن أعثر ثانيةً على آثار أولئك الذين أحببتهم.
مضى زمن طويل وعوضٌ واحدٌ منَّا، كان يواظِب على قضاء ساعات كثيرة مع طه في «رامتان»، وكان حاضرًا بطريق الصدفة صباح تقليد طه قلادةَ النيل، ولقد تأثَّرَ تأثُّرًا عميقًا هو المريض أصلًا، وقبل أيام من الأزمة التي أودَتْ بحياته، كان في «رامتان» أيضًا.
لم يكن عوض ينسى حتى النهاية أن يقدِّم لنا أمنياته مصحوبةً بباقات الأزهار يوم الثاني عشر من مايو في كل عام، يوم أول لقاء لي بطه.
•••
قال لطفي لدى إحدى عوداتنا من أوروبا: «هيه! نعم أنا ما زلتُ من هذا العالم!» كان يتعجَّب، ويكاد يعتذر — بلهجة هازِئة دومًا — ويمزح أيضًا، لكني كنتُ أعرف أنَّ الظلَّ كان هناك، وأنه سيطويه عمَّا قريب ويخفيه عن أنظارنا؛ فإذا ما ابتسمتُ في أثناء تفكيري في الوجه العزيز مثلما كنتُ أبتسمُ له عندما يجلس في سيارته بصورة مؤلمة ويرفع يدَيْه علامة وداع ودِّيَّة، فإنما أبتسم بكآبة عذبة، شديدة العذوبة.
•••
لم يكن الموتُ وحده هو الذي يخلف الفراغ؛ فهناك أناسٌ لم يعرفوا في السنوات الأخيرة الطريقَ إلى بيتنا إطلاقًا، وكنَّا نظنُّ البعض منهم أصدقاء حقيقيين، لكننا كنَّا نخدع أنفسنا. لقد اعتاد طه على «الهجران»، ولربما باتَ مع مرضه وضعف نشاطه، يستشعر ذلك أكثر فأكثر، على أنهم كانوا نادرين. ثمة أسماء تَرِدُ خاطري على الفور، لكني لا أذكرها؛ فأولئك الذين كانوا أبعد الناس هم المدينون لطه أكثر من غيرهم، وكان هناك آخَرون بالمقابل ينسون، ثمَّ يبدءون بالتذكُّر، وهناك لفتة من أحدهم كان قد هاجَمَ وربما شتم طه الذي سبق له أن ساعَدَه، وكانت هذه اللفتة علنيَّة؛ ففي إحدى المقدِّمات التي كتبها، كان هذا الرجل الشريف يعتذر بنبلٍ عن ضلال عاق.
وفي المؤتمر السنوي للمَجْمَع، التقَى طه بالمؤتمرين — المدعوين هم أيضًا — ما استطاع خلال ترؤُّس الجلسات الاستثنائية، لكنَّ أحدًا بعد ذلك لم يكلِّف نفسَه أيضًا مشقةَ المجيء إلى بيته.
خلال حرب ١٩٤٠، غادر أصدقاؤنا «آل كواريه» مصرَ وسط حزن عظيم، ودَّعونا وهم يبكون ويكرِّرون القولَ إننا كنَّا أسرتهم الثانية، ويقول طه: «إننا لا نهجر أصدقاءنا!»
وكان طه يقول في أغلب الأحيان: «لن أنسى أبدًا.» كان معتادًا على قول ذلك حتى بمناسبة أشياء لا أهمية لها.
عندما لم يَعُدْ قادرًا على النزول، أعددتُ له ما يشبه «استوديو» بالقرب من غرفته ليتمكَّن من استقبال الزوَّار والكتَّاب والصحفيين فيه، وبطبيعة الحال أيضًا ليتمكَّن من استقبال أكثر أصدقائه الحميمين، وكنَّا قد هيَّأنا له كرسيًّا قديمًا منجد المساند والظهر لكنه مريح، وكان من قبلُ مهملًا؛ وضعناه قرب المدفأة التي كنَّا نوقد النار فيها عندما يكون الجوُّ شديدَ البرودة ولا تكفي المدافئ الكهربائية لتدفئة البيت؛ وكانت النوافذ الأربع تنفتح على الحديقة.
في كل مرَّة كنَّا نعود فيها من أوروبا كانت تنهال علينا الترحيبات بالعودة مصحوبةً غالبًا بالأزهار؛ كانت آخِر عودة لنا في أثناء الحرب، ومع ذلك فقد كان هناك واحدٌ فكَّرَ أن يرسل لطه باقةً من الورد الأحمر، وأعني به يوسف السباعي الذي كان آنذاك وزيرًا للثقافة، وهو على كل حال لم يقصِّر مرَّة عن ذلك في كل مناسبة؛ كانت تلك الأزهار آخِرَ أزهار تلقَّاها طه، وقد أتَتْ من صديق مخلص على الدوام، عبَّرَ عن نفسه بشكل رائع إذ افتتَحَ احتفالَ فبراير بادئًا بقوله «أبي»! خطابًا يتوجَّه به إلى طه، وقد تلفَّظَ هاتين الكلمتين بلهجة سأبقى أرتعش كلما ذكرتُها.
•••
وبرغم معرفته العميقة به، فإنه لا يزال يدهش. ذات يوم، قال لي خلال لقاء تمَّ بيننا صدفةً: «إنني في هذه اللحظة مع الدكتور طه بمناسبة دراسة أقوم بإعدادها. ما أكثر ما أعجب به! وأية شجاعة احتاجَ إليها لكي يخوض معركته! وما أكثر ما اجتاز من عقبات!»
«… إنها فرحة عظيمة أن أقرأكِ، ذكراكِ وأخباركِ مرتبطة بشكل حميمٍ بذكرى وأخبار الدكتور طه، بحيث إنني أتخيَّلُ أنني أتلقَّى أخباركما معًا.» يا للإخلاص الثمين! أَوَلَيْسُوا جميعًا مخلصين أولئك الذين عرفهم «الاستوديو»؟
لقد وُلِدْتِ في السنة نفسها التي وُلِد فيها طه، وكنتما تريان في ذلك نقطةً مشتركةً بينكما. منذ فترة والسلالم تتعبكِ! ومع ذلك، فلِلذَّهاب لرؤية صديقكِ — أنتِ التي لا تستخدم في بيتها سوى المصعد — كنتِ تصعدين إلى الاستوديو. ما أكثر ما أحببتكِ عندما كنتِ تتسلقين الأدراج مستندةً على عصاكِ وعلى الدرابزين، أو تقبلين أحيانًا الاستنادَ إلى ذراعي! كنتِ تحملين القشدة والمربى والتمر أيضًا؛ تدخلين وتعانقيه ثمَّ تجلسين بمهابة، ويبدأ تدفُّقُ فصاحتكِ الجذَّاب عبر ما تقصِّينه من أخبار تعكس طاقتك التي لم تخمد قطُّ؛ فتُعلِنين مشروعًا جديدًا، وتردِّين على الذين يتناقشون، وتقصِّين إحدى ذكرياتكِ التي لا تُنسَى. كنَّا نتحدَّث عن المستقبل والماضي، ولم تكوني تنسين شيئًا، حتى إبزيم مؤنس عندما كان في الرابعة أو في الخامسة من عمره (وكنتِ لا تزالين تعجبين به!) ونتحدَّث عن دار السلام التي تبقى شغلَ عقلكِ الشاغل. ومن بين مشاغلكِ التي اهتممتِ بها على الصعيد المادي، عنايتكِ بأولئك المعوزين. ونستشعر بقدر من الحنان إذ نتحدَّث عن ماسينيون، لكنه يبقى بالنسبة إلينا حيًّا بحيث لا نستسلم للكآبة. كنتِ تلقين إلى طه بنصيحة حكيمة، ثمَّ تعانقينه وتغادرين البيت، مستصحبةً معكِ كالعادة عددًا من الزوَّار لا سيارات لهم.
بعد اللحظة الرهيبة التي كنتُ أتحدَّث فيها إلى طه الذي لم يَعُدْ يستطيع فيها الإنصات إليَّ، عند وصول الدكتور غالي، قال لي على الفور: «سأنادي جان.»
كان يدرك تمامًا أنني بحاجة إليها.
فهي لم تتركني لحظة واحدة خلال الأيام التي تلَتْ، والتي كنتُ أعيش فيها كتمثالٍ متحرِّكٍ؛ كانت هي الأخرى متألمة، لكنها كانت مسيطرة على أعصابها، منيرة ومستنيرة، أخويَّة وحنونة، حنونة نحونا كِلَيْنا، وهي التي أخذَتْ من إصبع طه خاتمَ الزواج، الذي كنتُ سأنساه دون أيِّ شكٍّ، كيما تعطيني إياه.
لم تدعني أذهب إلى المقبرة، أما هي فقد ذهبت مع الركب، وعادت بسرعة إلى قربي وقالت إنَّ لديها ما تقوله لي، ومنذ تلك اللحظة صرنا نذهب لمقبرة معًا، متوحِّدَتَيْن أكثر من ذي قبلُ — في الذكرى، وفي صلاة صامتة.
معها أيضًا، مشينا كثيرًا على مدى الأيام المطرزة غالبًا بالأفراح نفسها، والآمال نفسها، والهموم نفسها، والسخط نفسه؛ وكلها مختلطة بطريقة لا أستطيع معها دون مشقة أن أفصل إحداها عن الأخرى؛ عشنا معًا قلق الحرب، وتقاسمنا عاطفتها وعاطفة ريمون يوم زواجهما ويوم سعادتهما الكبرى بولادة جان مجدي، هذه الولادة التي كان مؤنس ينتظر حدوثها، بيقينٍ خارقٍ وُلِد من تعاطُفٍ عميق، في الثامن من سبتمبر؛ أي في يوم عيد ميلاده، إلا أنها تأخَّرت ثلاثة أو أربعة أيام. معًا غالبًا، عبرنا البحر المتوسط على ظهر «الأسونيا» وعلى «الإسبيريا» فَرِحتَيْن بالذهاب نحو وطننا فرنسا، تسيطر علينا الحماسةُ نفسها على مدى إبحارنا.
كان لطه سكرتير وقارئة، وكنتُ أسهم في هذا المجال ما أستطيع، على أنه كانت تبقى دومًا نصوصٌ لا بد من الاطِّلَاع عليها، ولقد سدَّتْ جان الكثيرَ من الثغرات؛ فهي التي قرأَتْ له بوجه خاص كتابَ سان بول «مدينة الإله» و«اعترافات» القديس أوغسطين؛ كانا يتبادلان تأمُّلاتهما، وكانت جان — التي كانت أكثر تعمُّقًا منه في هذا الميدان — تضيف تعليقاتها العميقةَ على ما تقرأ. كان ذلك يجري في الزمالك، وكنَّا يومها جيرانًا، فاستفدنا من جيرتها لنا إلى حدٍّ كبير؛ أما دارنا «رامتان» فقد رأتها كثيرًا، وكانت الأزهار التي تحملها إليها جميلة.
أما ريمون، الذي كان يعمل في فرنسا، فقد كان مجيئه نادرًا بطبيعة الحال، وخلال زيارته الأخيرة التي قام بها لمَن كان يسمِّيه معلِّمه، معبِّرًا بذلك عن ودِّه وولعه اللذَيْن لا يقلان عن ودِّ وولعِ سهير به. أخذ علينا تشاؤمنا قائلًا: «ولكن ماذا تقولون؟ ها هي ساعة مضَتْ لم يكفَّ المعلمُ خلالها عن النقاش، وعن تذكيري بكثير من الأشياء، وعن الاستشهاد بنصوص كاملة …»
بالتأكيد! فعلى هذا النحو كان يبدو في لحظات الانشراح.
لم يكن جان وريمون لينزعجَا من اللقاء بكامل، لو أن هذا الأخير لم يختَرْ لمجيئه دومًا ساعات الصباح. معه يبدأ موكب الذكريات، وفي الوقت نفسه موكب المشكلات المعاصرة التي لم تكن تنتهي. كان طه وكامل يتحدَّثان غالبًا عن أشياء وعن أناس لا أعرفهم قطُّ، وكانا في الأيام الأولى من سكنانا في «رامتان»، يستقران كلاهما في مؤخرة الحديقة، في ظلِّ شجرة كزورينا؛ كان كامل عطشًا دومًا، ويطلب كأسًا من الماء كل برهة. مَن تُراه ذلك الذي قدَّمَ له ذات يومٍ صينية صُفَّتْ عليها ستةُ أقداح ملأى بالماء بصورة كاملة، فجعله يضحك من أعماق قلبه؟
كانت لديه آراء مُسبَقة عني، شأنه في ذلك شأن لطفي باشا، فيقول لي كلمات في منتهى اللطف. آنذاك، كان طه يوبِّخه مازِحًا ويستشهد له في صرامةٍ بآية من سورة «المنافقون»: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ.
وكان يحدث أن يتوقَّع كامل منه ذلك فيستشهد هو نفسه بالآية! ولقد كان «نفاقًا» رائعًا يوم صحبنا جميعًا لتناوُلِ الغداء في مطعم قارون بمناسبة أحد أعياد ميلادي؛ قضينا وقتًا طيبًا ثَمَّ، عندما حلَّ المساء، وكان الجو جميلًا، تأخرنا في البقاء … غير أنَّ عجلات سيارتنا تخلَّتْ عنَّا عندما كنَّا في طريق العودة؛ كان ذلك في عام ١٩٤٥، ولم يكن من السهل تغييرها، وحين حلَّتِ الساعة الواحدة صباحًا كنَّا لا نزال حيث توقَّفت بنا السيارة، لكننا عدنا في ضوء قمر جميل كان ينعكس على صحراء غدَتْ واسعة، وبتُّ من الصفاء والبُعْد عن الناس والوحدة بحيث وجدتني أشعر — بعد إذ عيل صبري وانتابني الضيق — أننا نعود إلى البيت أبكر مما يجب!
عزيزي! أيها العزيز جدًّا كامل! لا أستطيع أن أراك أو أن أرى جان وماري دون أن أرى في وجوهكم جميعًا طه على الفور؛ لقد عرفتموه معرفةً حملتموه بها في أعماقكم بطريقةٍ ما، مثلما أحمله؛ لقد اقتربتم منه كثيرًا، ولم تكونوا تنسون شيئًا، وكنتم تردِّدون لي أحيانًا كلماتٍ ووقائعَ نسيتها، وكنتم تعلِّمونني أحيانًا أيضًا ما لا أعلم؛ فلم يَغِبْ عني قطُّ بسبب حنانكم الذي يغلفني. كان «دو» و«شوري» يقولان: إننا كنَّا بالنسبة إليهما أسرتهما الثانية؛ فأيُّ كلمة أعبِّر بها عمَّا تَعْنُونَه ثلاثتكم لي؟
أستطيع أن أضع في عداد الأفراحِ النادرةِ، تلك الأفراحَ التي منحَتْها الطبيعةُ له؛ فعلى امتداد ذكرياتي، هناك غابات ومروج وبحيرات وجبال وسهول وبحار، كانت بعض المناظر عزيزة علينا وأليفة إلى أنظارنا بحيث كانت تبدو وكأنها ملكنا في لحظات الغبطة، فنقف ونطيل الوقوفَ أمامها؛ كنَّا نلقاها بفرح كما لو كنَّا سنلقى أصدقاء أعزاء، وهذا هو السبب في أنني أحاول أن أستمرَّ في الذكرى ماضيةً إلى لقاء بعض هذه الأماكن التي كان فيها سعيدًا.
وقد بقي حتى النهاية يحبُّ — كلما اضطر للبقاء في السيارة — أن يكون على طريقٍ خالٍ ليستنشق الهواءَ الطلق والرياح، وحتى هنا — حيث الهواء ليس رقيقًا أو نديًّا — كانت النزهات تمنحه راحة أكيدة. في البدء، يبدأ الاعتراض بقوَّةٍ؛ فهو تعب ولا يريد الخروج، وعندما أملك القوَّة أتصرَّفُ معه بطريقة حاسمة، ثمَّ بمجرد أن تمضي ساعتان على النزهة، تبدأ اعتراضاته الجديدة حين يتوجَّب علينا العودة، فيقول: «لكن لا، أرجوكِ، لنستمرَّ في البقاء فترةً أطول قليلًا!»
وهكذا، فإنه بمجرد أن نصل إلى البيت وتستقبلنا تحيات فرقة عصافيرنا المنشدة، يكون في راحة تامة، جائعًا إلى حدٍّ ما!
أدَّتْ بنا إحدى نزهاتنا الأخيرة ذات يوم إلى بحيرة قارون؛ لم نكن قد خرجنا باكرًا، لكنه لم يكن يريد العودة، وكانت ساعة الغداء قد مضَتْ منذ فترة طويلة عندما عدنا أخيرًا، وعلى الطريق كان الخادمان القلقان يقفان لرصد السيارة!
كم هي عزيزة علينا سيارة «البويك» القديمة التي اشتريناها في عام ١٩٤٧، وكانت آنذاك متألقة، فلم تتخلَّ عنا قطُّ! صحيح أن العطل الذي أصابها عدَّة مرَّات في السنوات الأخيرة قد أرغمنا على انتظار سيارة أجرة عابرة، غير أنها صمدَتْ بعد كل شيء حتى النهاية. كانت أقدم من أن أسمِّيها عربتنا، وكان صهري يدَّعِي أن بوسعنا أن نبيعها في الولايات المتحدة بثمن باهظ باعتبارها قطعةً أثريةً! كانت مريحة وواسعة، وكان بوسع طه أن يمدِّد فيها ساقَيْه براحةٍ، وكان على كل حال يحبها حقًّا؛ فنحن مدينون لها أنْ سارَتْ بنا زمنًا طويلًا — في مصر بالطبع — على طرق مألوفة. وكنَّا عندما نسير بها في طريق الإسكندرية، نذهب بها أحيانًا حتى طنطا؛ كنتُ أختار عندما يكون الجو حارًّا، حقلًا جميلًا من البرسيم أو القمح الوليد ونتوقَّف في ظلِّ شجرة أوكاليبتوس. ولما كنَّا لا ننزل منها، فقد كنَّا نفتح أبوابها على مصاريعها ونستنشق أريج العشب والأرض؛ كنتُ أحمل القهوةَ في الترمس وشيئًا من البسكويت، وكان طه يشرب القهوة ثمَّ يدخن سيجارة يرغبها بقوة، لكنه ما يلبث أن يرميها قبل أن ينهيها، ونعود بعد ذلك آملين أن نسمع على طريق العودة طاحونةً كنَّا قد حدَّدنا مكانها.
كنتُ بالتأكيد أستشعر كآبة هذه النزهات، لكني كنتُ سعيدةً أنَّ طه كان يتحدَّث خلالها أكثرَ ممَّا يتحدَّث في البيت، لا بل إنه يتحدَّث خلالها بحماسٍ.
كان أحيانًا كثيرَ المرح! شأنه في ذلك اليوم الذي ظلَّ شهيرًا بالنسبة إلى جان وريمون وإلينا؛ كان يمشي آنذاك، ولم يكن قد مضى علينا زمن طويل في «رامتان». كان جان وريمون عندنا، وكان الجو جميلًا، فخرجنا جميعًا للنزهة؛ مشينا على محاذاة القناة التي تمرُّ بين الحقول المجاورة في أرض متربة يبدو أنها لم تُزعِج طه كثيرًا هذه المرَّة. كان شديد المرح، وبعد مرور بعض الوقت أرادَتْ جان العودة، غير أن ريمون الذي كان سعيدًا باستئثاره ﺑ «المعلم» لوحده، تناوَلَ ذراعَه «للقيام بعدَّة خطوات، ثم اللحاق بنا على الفور بعد ذلك»، وجلسنا في البيت ننتظر بصبر، وبشيء من الدهشة، المتنزهَيْن اللذَيْن لم يعودَا؛ ثمَّ بدأ القلق ينتابنا بحقٍّ شيئًا فشيئًا، وأخيرًا عادَا بسيارة أجرة مضطربَيْن حائرَيْن، هما أيضًا، وبدآ يُكثِران من الاعتذارات. لقد كنَّا على ما يرام، أليس كذلك؟ إنه لَجميل أن يتنزَّهَ المرء في الريف، فقد كنَّا نتحدَّث حديثًا هامًّا. والخلاصة … أنَّ ريمون ضاع مع طه الذي عهدنا به إليه! … لكن العناية الإلهية أرسلَتْ لهما سيارة أجرة!
•••
•••
هو وحده القادر على أن يقول ما كانَتْه الموسيقى بالنسبة إليه! لم يعرفها قطُّ، لكنه كان يفهمها دومًا؛ كان يتوجَّه إليها بفرح وبثقة، وأحيانًا بجهد، كيما يفهمها، وكان في أحيان أخرى يستسلم لها استسلامًا كاملًا، كذلك المساء الذي استمَعَ فيه إلى «فيديليو»، وكان فعلًا في «مكان آخَر»!
أمس مساءً في الأوبرا، في أثناء أداء «أنطونيو وروزاريو»، تأثَّرْتُ لا من رؤيتك تستمع فقط، وإنما من رؤيتك وأنت تنظر إلى الرقصات. وإني أريد أن أشكرك بحرارة على هذا الدرس الخارق في الحياة الذي استخلصْتُه من ذلك أمس. بئست الكلمات الكبيرة؛ فهي من القصور والجمود بحيث لا تسعفني على التعبير عن مدى إعجابي بك وبالصفاء الذي تغلَّبْتَ به على العقبات في حياتك؛ فأنا الآخَر لديَّ عقبات كنتُ أظنها فريدة وكبيرة، لكنها منذ الأمس، تضاءلَتْ بفضلك وكبرتُ أنا …
… كنتُ في المدرسة الثانوية في الوقت الذي كان فيه ولداك فيها، وفهمتُ الآن معنى تألُّق الفخر الإنساني الذي يصعبُ تحديده، والذي كنتُ أراه في قاع نظراتهما؛ إنه الفخر بأنهما انحدَرَا منك، والفخر بأنهما يعيشان بالقرب منك، يا أبي … منذ الأمس … يا أبي!
كان طه شديد الحساسية للأداء الموسيقي، وما زلتُ أسمعه يدهش خلال عزف الحركة الثانية من الكونشرتو الأول لبراهمز قائلًا: «أيُّ عازف على البيانو!» لم يكن العازف شهيرًا على ما أعلم على الأقل، لكنه كان ممتازًا في الحقيقة، وهذا الحكم كان شخصيًّا وعفويًّا بصورة مطلقة.
ووقف جميع مَن في القاعة.
ومؤخرًا، قدَّمَتْ فرقة الإذاعة الفرنسية حفلتَيْن موسيقيتين في القاهرة، وقدَّمت «السمفونية الخيالية» لبرليوز في البرنامج الثاني. كان طه يحب برليوز، وكنتُ أصغي كما أصغي الآن: نهبًا لعاطفة مزدوجة من العذوبة والتمزُّق.
لن يتحقق هذا مرَّة أخرى أبدًا؛ أصغي إلى باخ وأنظر إلى صورتك، فيتفجَّر قلبي. لن نسمع أبدًا معًا التعابيرَ القويَّة التي تتولد من تجاوزٍ للنفس رائعٍ … فتلك لحظات خُتِمت إلى الأبد وتلاشت، وتلك وحدة مشاعر لن أعرفها إطلاقًا مرَّة أخرى.
ذات مساء من أمسيات الأيام الأولى لسكننا في «رامتان»، كنَّا على الشرفة وحيدَيْن تمامًا أمام الحديقة الكبيرة الهادئة، وكنَّا نسمع من القاعة السمفونية السادسة لتشايكوفسكي بقيادة «فون كاريان»؛ كانت الحركة الثالثة تبدأ شبه مَرِحة، ثمَّ تبدو شيئًا فشيئًا إيقاعية، متلاحقة الضربات بشكل منهك، مجلجلة، تستحوذ على الليل وعلينا نحن اللذين كنَّا قد بلغنا مستوًى من الحماس والتوتر بسبب هذا التصعيد الذي لا يُقاوَم، والذي يقوم به «فون كاريان» بحيث إننا في الائتلاف الأخير كنَّا نلهث تقريبًا.
لا تُتاح للمرء دائمًا هذه المستويات الرفيعة. لقد أحبَّ طه الأجراسَ وأجراس «البندقية» منها على نحو خاص، وعندما بُنِيت كنيسة جديدة في «ميرانو» سخط لوضعهم فيها مجموعةَ آلات موسيقية كهربائية؛ فقد كانت هذه الموسيقى تغيظه، لكنها كانت قريبة من فندقنا، ولم يكن بوسعنا أن نتفادى الاستماع إليها.
تمامًا كما فعل كامل ذات مساء عند تمثيل إحدى المسرحيات الميلودرامية؛ فقد قال الممثل — الذي كان يفترض أن يكون نهبًا لرعب فظيع — بهدوء عظيم وبأشدِّ الأصوات عذوبةً: «إنني خارج عن طوري، لم أَعُدْ أتمالك نفسي!» ذلك أنَّ كامل — الذي لم تكن الموسيقى تهمُّه كثيرًا — كان يصحبنا أحيانًا إلى المسرح.
كان طه يذهب إلى المسرح كثيرًا، وكان محبًّا للمسرح منذ ذلك الزمن البعيد الذي كنَّا فيه لا نستطيع الذهاب غالبًا إلى المسرح لمشاهدة العروض، فكنَّا نعوض عن ذلك بالتهام المسرحيات التي كانت تنشرها مجلة «لابتيت إيلستراسيون». وبفضل الأسطوانات لم يُحْرَم كثيرًا من الموسيقى، لكنه لم يتمكَّن منذ ١٩٦٠ من رؤية أي عرض مسرحي، وكان ذلك أحيانًا شديدَ القسوة عليه.
•••
جاء في السنة الماضية مجموعةٌ من شباب كلية الأسرة المقدَّسة لرؤيتي، وكان أوَّل سؤال ألقوه عليَّ هو: «إننا نعرف طه حسين الكاتب، المفكِّر، المُصلِح … إلخ، ولكن كيف كان طه حسين أبًا؟»
فأجبتُ: «رائعًا!»
فلم يكن هذا الأب يستخدم لهجةً رسميةً أو متحفظةً مع أولاده؛ كان يتحدَّث دائمًا مع ولدَيْه على قدم المساواة، حديث الندِّ للندِّ، وعند الحاجة بوصفه حاميًا لهما. والحق أننا كنَّا نعيش معًا في علاقة حميمة خالصة أدهشَتْ غالبًا أصدقاءنا؛ أَوَلَمْ يكونَا معنا على امتداد هذه الصفحات منذ ظهور «السيد كرالس» و«السيد كرالا» طفلَيْن هشَّيْن، حالمَيْن، حنونَيْن، ثمَّ تلميذَيْن جادَّيْن، ثمَّ طالبَيْن في منتهى الجدِّيَّة، ثمَّ أبوَيْن يحملان على أذرُعِهما طفلًا؟ الحق أن ذكرياتنا تخصنا أربعتنا على امتداد سنوات طويلة. طه! فَلْنتذكرْ قليلًا! هل تسمح؟! لقد استمرَّتْ علاقاتك بهما طبعًا على ما هي عليه عندما كان لهما من العمر سنَتان، ثم عندما كان لهما من العمر عشرون عامًا، ومع ذلك فقد كنتَ تصغي لأحاديثهما في الثانية من عمرهما بجدِّيَّة، كما أنَّ حرِّيتك في الحديث لم تتغيَّر. لقد تسليتم معًا تمامَ التسلية، وكانت لكَ ضحكات مجلجلة كنتَ لا تزال تذكرها حتى الأشهر الأخيرة وتضحك لذكراها أيضًا.
إنهما مثلك حتمًا، بما أنَّ الألفةَ المستمرَّة — التي لم يكن لها أن تقبل عدم الاحترام والوقاحة — والتأنيبَ النادر المعتدل قد آتَتْ أكلها بشكلٍ لا بأسَ به.
كيف كنتَ تتصرَّف وقتَ امتحاناتهما وأنتَ المعلمُ الصارم الذي كان صيته يرعبُ طلابه؟
إنْ نجحْتَ أكُن سعيدًا، وإنْ رسبتَ فسأهديك هدية!
كنتَ تحبُّهما بحنان عظيم! تذكر ما قالته ابنتنا الصغيرة التي لم تكن تستطيع النوم ذات ليلة: «سقط نومي في الباحة»؟ كانت تبكي، فأخذتها بين ذراعيكَ، وغنيتَ لها: «يا ليل، يا ليل!»
تذكر: يأسنا المشترك المضحك كوالدَيْن بلا تجربة، عندما كانت تملأ منخرَيْها بقطع القطن، الأمر الذي لم يكن ذا أهمية إزاء محاولتها أيضًا أن تملأ فمها بالنفتالين!
كنَّا نمشي على طريق ريفي بخطوات سريعة، وكنتُ أدندن لحن «المادلون … لكي أطلب منها يدها …» لقد أثَّرَتْ هذه الجملةُ فيها فمدَّتْ لكَ يدها الصغيرة قائلةً: «ها هي ذي يدي! …»
هل أجبْتَها عندما سألتنا ذات يوم: «لماذا نقول لماذا؟»
عندما كنَّا نسكن في شارع الحواياتي، كانت تجد ضروريًّا أن تقذف بقرشٍ إلى ذلك الذي كان يأتي كلَّ خميس ويعزف على «الأورغن الصغير المتنقِّل» تحت نوافذنا. لفتة لم تكن تعني شيئًا، لكنك عندما كنَّا في فرنسا واضطرت هي للبقاء هنا، غَدَا سماعُ هذه الموسيقى يمزِّقُ قلبك، وكنتَ ترفض أن تفتح النافذة … ثمَّ صرتَ تفتحها وتُلقِي بالقرش لذلك الذي كان ينتظره من يدٍ صغيرةٍ.
أصحبها إلى حديقة الحيوانات، لكنها تعود ساخطةً: «فالذئاب صغار بشكل مضحك!»
أما مؤنس، فإنه يخاطبني بحنانٍ وهو في الثانية أو في الثالثة من عمره قائلًا: «عندما تصبحين صغيرةً وأصبح أنا كبيرًا سأعطيكِ كلَّ شيء … كلَّ شيء!» كيف أمكن له أن يتصوَّرَ هذا الانقلاب؟!
قلقتُ ذات مرَّة من هدوئه المريب؛ إذ مضى وقت طويل دون أن أسمع صوته، ثمَّ اكتشفته تحت مائدة غرفة الطعام ساكنًا سكونًا مطلقًا؛ قلتُ له: «ولكن ماذا تفعل هنا؟» فأجابني: «إنني أرقد فوق البيض حتى يفرخ!»
ثمَّ حلت سنوات الدراسة الثانوية، والاحتكاك الأول، ربما مع سماجة ما؛ هناك رفيق له كان يردِّد ولا شك حديثًا سمعه، قال عنكَ أشياءَ فظَّةً — وكان ذلك في فترةٍ كنَّا نعاني فيها من مصيبة كبيرة — كان مؤنس نحيفًا غيرَ قويٍّ، في حين كان الآخَر ضخمًا قويَّ الجسم، لكنَّ ابنكَ طرحه أرضًا منذ الضربة الأولى مذهولًا مما فعله!
قولي لأبي إنه إنسان رائع.
هناك رجال خُلِقوا من أجل قِيَمٍ مطلقة وخالدة، وآخَرون من أجل قِيَم عابرة ونسبية، وليس للأوائل الحق في أن ينسوا رسالتهم.
ولم يكن ذلك يمنعك من أن تناديه بحنان مازحًا: «بالاجوست!»
هذا الجو من الثقة والحرية كان سائدًا دومًا. لم يكن المرح يسوده دائمًا، ومنذ أن تجاوزَا سنَّ الطفولة، صارَا يعانيان من صدى مراراتك ومِحَنكَ التي لم يكونَا ليجهلَاها، ولقد مرَّتْ علينا أيامٌ أظلَمَ خلالها البيت؛ كنَّا نتألم جميعًا لأننا كنَّا متحابين.