بين الفلسفة والتربية
لا يخلو نظام فلسفي جدير بهذا الاسم من جانب عملي تطبيقي، ويعتقد كل فيلسوف أن مذهبه لا يتم إلا إذا تناول فيه موضوع الحكمة الخلقية والحكمة السياسية، والتفكير في الأخلاق وفي طرق التربية الصالحة والحكم العادل يعتمد على ما وصل إليه التأمل الفلسفي في طبيعة العالم الكبير والعالم الصغير، أي في طبيعة الكون والإنسان، وحسبنا أن نشير إلى فلسفة أفلاطون وأرسطو والفارابي وديكارت ولوك وهبز وكانت وهربرت ورينوفييه وجون ستوارت مل وسبنسر وبرجسون وديوي؛ لنقف على العلاقة الوثيقة التي تربط الفلسفة النظرية بالفلسفة العملية وخاصة التربية التي هي أهم جزء من الفلسفة العملية، وكان ديكارت — هذا الفيلسوف الجبار الذي توغَّل إلى أقصى حد في التفكير الميتافيزيقي — يقول أن لا فائدة من الفلسفة إذا كانت لا ترشدنا إلى أفضل الطرق وأقومها لإسعاد الإنسانية.
ولكل نظام في التربية أسس فلسفية يعتمد عليها، ومبادئ ميتافيزيقية يستند إليها في التطبيق، وقد تكون الصلة بين فلسفة ما ونظام ما في التربية غير واضحة ولكنها موجودة، وأحد أغراض هذه المحاضرة توضيح الصلة التي تربط كلًّا من النظامين، القديم والجديد، في التربية بالمذهب الفلسفي الذي يستند إليه كلٌّ من هذين النظامين.
ألححت في المحاضرة السابقة في التقابل الموجود بين النشاط الحسي والنشاط العقلي، بين الفهم الحسي والفهم العقلي، وقد أشرت إلى أن النشاط الحسي يكون متغلبًا في سني الطفولة ولكني أشرت في نفس الوقت إلى ضرورة تنحي النشاط الحسي إلى حد ما؛ لكي يترك للنشاط العقلي مجاله الذي تتغلَّب فيه النزعة الحسية على النزعة الفكرية، ليس إلا مرحلة يجب أن تؤدِّي بالضرورة إلى مرحلة تتغلب فيها النزعة الفكرية المجردة، ولا داعي إلى أن أبيِّن أن التعارض الموجود بين الحسي والعقلي يجب أن يزول في مرحلة ثالثة ينتظم فيها السلوك الإنساني ويتكامل بحيث يصبح التعاون بين الحسي والعقلي ممكنًا؛ لتحقيق أمور تسمو على الواقع الحسي وهي القيم الخُلُقية الجمالية.
نعلم أن أشد المعارك الفكرية عنفًا هي التي تقوم بين أنصار القديم وأنصار الجديد، والصراع بين القديم والجديد كان من أهم عوامل رُقي الإنسانية وتقدمها، فالأمة التي تطمئن إلى تقاليدها اطمئنانًا أعمى وتستسلم لسلطان القديم استسلامًا كليًّا فإنها تقضي على نفسها بالخمول والانحطاط؛ لأنها تقاوم أهم ناحية من نواحي النشاط الفكري وهي التجديد والاختراع والإبداع، وكذلك الأمة التي تنساق وراء كل جديد بلا روية ولا تبصر وتقطع صلتها بالقديم بحجة أن التحرر من كل قيد من مستلزمات الرقي تقضي على نفسها بالاضطراب والفوضى والتفكُّك.
فالصراع الذي يقوم بين القديم والجديد هو عنوان الحيوية الصادقة، ويجب أن يبعث الأمل في القلوب؛ لأن هذا الصراع لا بد وأن يؤدي إلى تحسين وإصلاح، ونشاهد اليوم بكل اغتباط أن الحياة الفكرية في مصر في نشاط مستمر متزايد، خاصة في ميدان الإصلاحات الاجتماعية، ومشكلة التربية جديرة بكل عنايتنا؛ لأنها من أهم وسائل الإصلاح الاجتماعي.
والصراع بين القديم والجديد في ميدان التربية يشتد عنفًا كلما اتسع مجال الفكر وازداد المشرفون على شئون التربية تطلُّعًا إلى النظم المختلفة القائمة في الدول المتحضرة، وكلما ازداد تأثرًا بالتيارات الفلسفية المختلفة التي تتنازع التفكير الحديث.
وقبل أن نشير إلى أهم المذاهب الفلسفية التي تحاول التأثير في توجيه التربية ووضع نظمها يُستحسن أن نقف أولًا على ما نسميه بالنظام القديم والنظام الجديد.
يمكن حصر موضوع التربية في مشكلتين أساسيتين: المشكلة الأولى صلة المعلم بالتلميذ. المشكلة الثانية مواد الدراسة وطرق تعليمها.
في النظام القديم المعلم هو الذي يمثل السلطة المطلقة، ومن أعماله أن يحدَّ حرية التلميذ، وأن يوجهه في جميع خطواته، وأن يعيِّن له كل ما يجب عليه أن يقوم به من أعمال مدرسية، وأن يحثَّه على بذل المجهود مهما كان شاقًّا لتحصيل المعلومات واستيعابها، وذلك بغض النظر عما قد تفيده مادة الدراسة في نفسه من اهتمام أو رغبة أو ملل.
أما مواد الدراسة فتكون منصوصًا عنها بالتفصيل في البرامج الموضوعة، ويكون جميع المعلومات المطلوب استيعابها مدوَّنة في كتب بطريقة منظمة متسلسلة بحيث يسهل فهمها وحفظها.
أما في النظام الجديد فمركز الأهمية ينتقل من المعلم إلى التلميذ. يجب حد سلطة المعلم وتوسيع مجال حرية التلميذ وتلقائيته. اختيار موضوعات البحث يتوقف على رغبة التلميذ ونوع اهتمامه. ليست مهمة المعلم تكوين عقل تلميذه وتوجيه عواطفه، بل مساعدة شخصية التلميذ على أن تتكوَّن بنفسها وفقًا لقوانين النمو، وذلك بفضل التجارب العديدة المتجددة باستمرار التي يقوم بها التلميذ في ميادين النشاط المختلفة داخل المدرسة وخارجها.
أما مواد الدراسة فإنه لا يصح تعيينها وضبطها ووضع برامجها وتدوينها في كتب. مهمة التربية في نظر أنصار المدرسة الجديدة ليست تحصيل المعلومات بطريقة منظمة متسلسلة، بل تدريب العقل على الملاحظة والتفكير بمناسبة الملاحظات الخارجية والتجارب التي تُجرى على كل ما يقع في المجال الإدراكي وكيفما اتفق. في حين أن المعلم والكتاب كانا الركنين الأساسيين في نظام التربية القديمة يفقد المعلم في النظام الجديد سلطته وأهميته، وتصبح الطبيعة الكتاب الكبير الذي يتحتَّم على التلميذ الباحث أن يفكَّ ألغازه بنفسه وأن يحصِّل من المعارف العملية ما يمكِّنه من مواجهة مشاكل الحياة بنجاح.
شعار النظام القديم هو: «كوِّن عقل التلميذ وقوِّم خُلُقه، واجعله يفهم معنى السلطة والطاعة، معنى الثواب والعقاب، اجعله يشعر بنقصه وبعجزه عن أن يسدَّ هذا النقص بنفسه، وأنه لا بد من وسيط يهيئ له الغذاء العقلي والعاطفي ويساعده على أن يتمثل بقدر المستطاع وفي أقل مدة ممكنة أكبر قسط من التراث الثقافي الإنساني، سواء في ميدان العلم الخالص أو التطبيق أو الفن أو الآداب. التربية هي إعداد للحياة.»
أما شعار النظام الجديد فهو: «دع التلميذ يكوِّن نفسه بنفسه، ويتعلم بالتجربة ما هو خير له وما هو شر، قوِّ في نفسه ثقته بنفسه واجعله يشعر بوجود ميول مغروزة في طبيعته ستوجِّهه حتمًا — وبدون ضلال أو خيبة — إلى ما يلائم طبيعته. خير مدرسة لتكوين الشخصية الحياة اليومية، وخير كتاب كتاب الطبيعة الذي لن تتمَّ أبدًا فصوله، ليست التربية إعدادًا للحياة، بل هي الحياة نفسها.»
إذا عُرِض علينا هذان النظامان وقيل لنا أن نختار أصلحهما لَتَرَدَّدنا ووقعنا في حيرة؛ لأننا سنلاحظ في كل منهما مزايا ونقائص، ولاقترحنا أن نأخذ بجميع المزايا وأن نتجنب كل ما يبدو لنا متطرفًا أو مضرًّا.
والواقع أنه يوجد بين أنصار الطرفين المتعارضين أنصار الوسط والاعتدال، ولكن موقفهم أكثر حرجًا واضطرابًا من موقف المتطرفين، فهم في حالة تذبذب يميلون حينًا إلى جانب ثم يُجذَبون حينًا آخر نحو الجانب المقابل، هم ضحية الصراع القائم بين أنصار الطرفين المضادين.
لنتأمل قليلًا في طبيعة هذا الصراع، فإنه غير محصور في ميدان التربية، ولم ينشأ أولًا في ميدان التربية، ولم يستمد حججه وأدلته من الوقائع التي تشاهَد في مجال التربية، فالصراع القائم بين أنصار النظام القديم في التربية وأنصار النظام الجديد هو صراع فلسفي في صميمه، حُججه وأدلته نظرية قبل أن تكون تجريبية، ويشتد الصراع عنفًا كلما ابتعد عن العالم الواقعي وتوغَّل في عالم المعاني والنظريات.
أ | (١) التغيُّر ويقابله الثبات. |
(٢) التجديد ويقابله المحافظة. | |
(٣) التفكير ويقابله التعوُّد. | |
ب | (٤) الطارئية ويقابله التوجيه. |
(٥) النشاط ويقابله المضمون. | |
(٦) المشروع ويقابله الموضوع. | |
(٧) الإدراك ويقابله التصور. | |
ﺟ | (٨) الحرية ويقابلها السلطة. |
(٩) الاهتمام ويقابله الجهد. | |
(١٠) التعبير ويقابله الكبت. |
من السهل أن نلاحظ أوجه الشبه الموجودة بين معاني هاتين المجموعتين، فالصلة واضحة بين «أ»: التغير والتجديد والتفكير، و«ﺟ»: الحرية والاهتمام والتعبير، كما أنها واضحة بين المعاني المقابلة، وهي: «أ» الثبات والمحافظة والتعود، وفي «ﺟ»: السلطة والجهد والكبت، أما المعاني الأربعة الباقية فإنها في حاجة إلى بعض التوضيح، وستتضح لنا بعد الوقوف على ما وراء هاتين المجموعتين من نظريات فلسفية.
وأهم أزواج المعاني التي نحن بصددها هو الزوج الأول: تغير – ثبات. نعلم أن مشكلة التغير والثبات من المشاكل الفلسفية الكبرى التي شغلت بال الفلاسفة، فيذهب بعضهم إلى أن كل شيء في الكون في حالة تغير مستمر، وأن جوهر الوجود الصيرورة والتحول والتطور، وأن لا وجود لما نسميه بالماهيات الأبدية، أو على الأقل بالماهيات الثابتة المتعيَّنة تعيُّنًا ذاتيًّا. اتخذ هذا المذهب صورًا عدة بمر القرون، ومن أحدث صوره ما يُعرف بالفلسفة البراجماسية أو البراجماتيزم، ومعناه باللغة العربية المذهب العملي. ومذهب الذرائع فرع من المذهب العملي. والقضية الأساسية التي يقوم عليها المذهب العملي هو أن الحقائق المطلقة غير موجودة، بل كل ما يمكن عمله نسبي قابل للتغيير؛ فالحقائق في تغير مستمر وما كان يعتبر حقيقة قد يصبح خطأ.
أما المذهب الفلسفي الذي يقول بوجود حقائق ثابتة، بوجود ماهيات غير قابلة للتغير فهو المذهب الواقعي. لا يدعي هذا المذهب أنه في قدرة عقل الإنسان أن يكشف الحقيقة المطلقة وأن يصل إلى العلم الكليِّ، بل يقول: إن في قدرة العقل الإنساني أن يكشف بعض هذه الحقيقة؛ لأن هذه الحقيقة موجودة في ذاتها؛ ولأن طبيعة العقل الإنساني ملائمة لطبيعة هذه الحقيقة.
ولننظر مرة ثانية في قائمة المعاني السابقة، فالمعاني الموجودة في الطرف الأيمن، أي التغير والتجديد والتفكير … إلخ، هي المعاني التي تعتبرها المدرسة العملية أكثر خطورة وأجدر بعنايتنا من المعاني التي تقابلها، الثبات والمحافظة والتعود … إلخ، والتي تدافع عنها المدرسة الواقعية.
- (١)
ليس الغرض من التفكير كشف الواقع أو كشف حقيقة من الحقائق مستقلة عنا، بل الغرض منه خلق الحقائق.
- (٢)
وبما أن الحقائق نسبية غير ثابتة وقابلة للتلاشي والزوال، فالأمر الهام ليس مضمون التفكير — أي ليس الموضوع الذي نفكِّر فيه — بل الأمر الهام هو النشاط، والنشاط لذاته، العمل للعمل.
- (٣)
وعلى ذلك يكون المنهج الوحيد لخلق الحقائق هو ما يُعْرَف بنظام المشروعات الذي يسمح للتلميذ بأن يستخدم حريته وأن يختار المشروع الذي يلائم رغبته واهتمامه، وأن يعبِّر بصراحة وتلقائية عن كل ما يطرأ في باله من الأفكار والمعاني التي تُثار بمناسبة الإدراكات الخارجية.
والآن يمكننا أن نفهم المقصود من المعاني التي وضعناها في مجموعة ب، الطارئية والنشاط والمشروع والإدراك، وما يقابلها من المعاني وهو: التوجيه – المضمون – الموضوع – التصوُّر.
إذا تأملنا في القائمة كلها وخاصة في الزوجين الثالث والسابع، فستبدو لنا أنه يجب عكس ترتيب معاني الزوج السابع؛ لأن التصور الذهني يناسب التفكير أكثر من مناسبة الإدراك له.
هذه النقطة جديرة بأن تستوقفنا قليلًا، خاصة وهي ترجع بنا إلى ما قلناه في المحاضرة السابقة. يجب أن نعلم أولًا أن المذهب العملي ينتمي إلى مدرسة خاصة من مدارس علم النفس، وهي المدرسة الوظيفية التي تهتم خاصة بدراسة غرض التفكير، وهو حل المشاكل لا بتحليل عملية التفكير في حد ذاتها.
ويجب أن نذكر ثانيًا أن المدرسة الجديدة تنبذ الكتب من بين وسائل التعليم، وتلجأ إلى استخدام الأجهزة والأشكال والنماذج المجسمة. وتذهب مانتسوري إلى أن استخدام الأجهزة والنماذج يجب أن يستمر في مرحلة التعليم الثانوي؛ وعلى ذلك تكون عملية الإدراك الحسي العملية الأساسية.
فالمقصود من التفكير هو التفكير في المحسوسات والمشخَّصات، في الطوارئ الحسية المجسمة والتجارب الخارجية التي تكون لها صلة وثيقة بالحياة العملية؛ ولهذا السبب يقول أصحاب المذهب العملي: إن التربية هي الحياة نفسها، وإن على التربية أن تستوحي دائمًا الحياة وألا تبتعد عن الحياة، وما إليه من العبارات التي تؤثر في عواطفنا ولكنها غير قابلة لأن تُتَصوَّر في الذهن تصوُّرًا جليًّا واضحًا.
والآن إذا تذكرنا ما قلناه عن التعارض القائم بين الحس والعقل، وعن أن حياة العقل هي في نهاية الأمر تعقُّل المعقولات وتصوُّر المعاني المجردة الكلية لا مجرد التفكير في المحسوسات والجزئيات، فإن موقفنا بإزاء الفلسفة العملية وبإزاء نظام التربية التابع لها هو موقف المعارضة والإنكار.
لا أُقِرُّ ما يُعْرَف بالنظام الجديد؛ لأني لا أُقر الفلسفة العملية، ولا أُقر الفلسفة العملية لعدة أسباب بعضها نظرية وبعضها عملية، ومن الأسباب النظرية: عدم فهمها لطبيعة العقل ولطبيعة الحقائق العقلية، عدم التسليم بوجود حقائق ثابتة، بوجود قيم سامية ثابتة بالرغم من الأعراض المتغيرة المتقلبة. ومن الأسباب العملية: لأنها لو طُبِّقت فعلًا وبدون قيد فستؤدي حتمًا إلى انحطاط الإنسانية وتلاشي المدنية وتغلُّب القيم المادية العابرة على القيم الروحانية الأبدية.
هل موقفي هذا يعني أنني من أنصار المحافظة على القديم كما هو وفي حالته الراهنة؟ كلا، لأنني من الذين يعترفون بانحطاط مستوى التعليم في مصر، ولكني لا أعتقد أن العلاج الناجع هو أن نستبدل بالنظام القديم نظامًا جديدًا كالنظام الذي تدافع عنه الفلسفة العملية، ولا أن نقتبس من النظام الجديد ما يبدو لنا طريفًا مغريًا وأن نُقحمه في النظام القديم. العلاج هو إصلاح القديم مع المحافظة على الأسس التي بُنِي عليها هذا النظام، وهذه الأسس هي التي تصدَّعت في نظامنا الحالي، وهي التي أشرت إليها بإلحاح في المحاضرة السابقة، وهذه الأسس هي التي تنص عليها الفلسفة الواقعية التي تقول بوجود حقائق عقلية ثابتة وبإمكان الوصول إلى هذه الحقائق وبضرورة بذل الجهد للوصول إليها. الفلسفة الواقعية هي عدوة التبسيط والتيسير، عدوة الطارئية والاتفاقية، عدوة الحرية المطلقة والاستسلام الأعمى للرغبات الراهنة، بل هي تقول: إن في مجال التربية كل ما هو سهل فهو سيئ، وإن الجهد الطريق الوحيد للوصول إلى المعرفة والعلم ولتحقيق الأخلاق السامية الإيثارية، وإن التوجيه وتعيين موضوعات الدراسة من عوامل النجاح سواء في الميدان النظري أو في الميدان العملي.
ولأعداء هذه الفلسفة حجج كثيرة لعدم قبولها، ومن بين هذه الحجج حجة تبدو للقائلين بها كأنها الضربة القاضية التي ستقوِّض بناء الفلسفة الواقعية وبناء النظام التربوي التابع لها، فيقولون: إن مثل هذا النظام بعيد كل البعد عن الحياة، لا يفهم معنى الحياة، وبالرغم من تسميته بالواقعي فإنه نظام وهمي خيالي نظريٌّ مجرَّدٌ تعسُّفيٌّ، نظام القرون الوسطى، قرون الظلام والضلال واللغو اللفظي الأجوف.
وجواب الفلسفة الواقعية على هذا الهجوم العنيف بسيط جدًّا، هو حقيقة أولية يسلِّم بها كل شخص مخلص في تفكيره، لا يمكن فهم الحياة إلا إذا ابتعدنا أولًا عن الحياة لنعود إليها بعد فهمها وليست هذه الحقيقة مجرد مجموعة من الألفاظ. هي حقيقة واقعية تجريبية يُعلِّمها إيانا لا الفلاسفة والمفكرون بل الأطفال الصغار بل الحيوانات نفسها.
هذا كلام يثير الدهشة حقًّا، ولكني سأزيل دهشتكم في الحال. ربما سمعتم عن تجارب كوهلر على القردة المعروفة بالشمبانزيه. إليكم إحدى هذه التجارب وسأختار أبسطها. القرد في قفصه خارج القفص وراء قضبان الحديد يضع المجرب موزة. تثير الفاكهة رغبة القرد في الحصول عليها فيندفع نحو الموزة ولكنها بعيدة عن متناول يده، ينفعل القرد ويمسك بقضبان الحديد محاولًا تحطيمها. ما يريد أن يصنعه القرد هو الاتصال المباشر بالموزة، هذا الاتصال المباشر محال. استمرار القرد في محاولاته يعني أنه لم يفهم الموقف. يقضي حل الموقف، أي فهم الموقف، أن يبتعد الشمبانزيه عن الطُّعْم، أن يتغلب على الفتنة الحسية الصادرة عن الشيء المغري ويقوم بحركة التفاف ويخرج من القفص للحصول على الموزة.
فهم المحسوس يتطلب التجرد من المحسوس. الحصول على الثمرة يتطلب أولًا الابتعاد عنها. فهم الحياة لا يتم إلا بعد التحرر من الأغراض المادية، من المنافع المحسوسة.
والمطالبة بالجهد لا تعني إماتة جميع رغبات التلميذ ومعارضة اهتماماته. المسألة الأساسية هي تصنيف هذه الرغبات والاهتمامات وإخضاع بعضها لبعضها الآخر. مهمة المربي الذي يعتقد أن غرض التربية الأعلى هو تمكين الإنسان من أن يتذوق التراث الثقافي وأن يساهم في تنمية هذا التراث، مهمته هي تنشيط ميل التلميذ إلى الفهم العقلي، إلى تذوق المعاني المجرد واختبار فضل المعاني المجردة الكلية على المعاني الحسية الجزئية في كيفية وضع المشاكل وكيفية حلها.
يتضح لنا مما سبق أن صلة الفلسفة بالتربية صلة جوهرية أساسية، فالفلسفة لا تكتفي بأن تنظر في القيم الخُلُقية والجمالية التي يجب على المربي أن يساعد الناشئة على تفهمها وقبولها، فإنها تذهب إلى أبعد من ذلك، فقد رأينا كيف ترتبط نُظُم التربية بالحلول التي تقدمها الفلسفة لنظرية المعرفة.
وصلة الفلسفة بالتربية كما حاولنا أن نبيِّنها تحتِّم على كل مصلح في هذا الميدان أن ينظر أولًا في الأسس الفلسفية التي تنطوي عليها النُّظُم الجديدة التي يقترحها. وسواء حاول المصلح أن يعيِّن أغراض التربية أو يعيِّن وسائل تحقيق هذه الأغراض فعليه قبل كل شيء أن يتفلسف. التفكير الفلسفي من مقومات الحياة الاجتماعية. هو ضرورة حيوية لا يمكن الاستغناء عنها، كما أنه لا يمكن الاستغناء عن الأكسيجين والهواء النقي لحفظ الحياة، وبقدر ما تكون الروح الفلسفية منتشرة في وسط من الأوساط يكون الرجاء برفع مختلف المستويات الاجتماعية قويًّا.
وهنا يخطر ببالنا سؤال هام: هل نالت الفلسفة في مصر ما هي جديرة به من العناية والاعتبار؟ أخشى أن تكون بَعْدُ نظرتنا إلى الفيلسوف وإلى التفكير الفلسفي شبيهة بنظرة الطفل إلى حيوان غريب جيء به من بلاد نائية ووُضِع في حديقة الحيوانات لإثارة دهشة المارِّين.
- (١)
جُعِلَت الفلسفة مادة اختيارية لطلبة شعبة الآداب.
- (٢)
اعتبار الفلسفة من المواد الأدبية ومنافية لروح المواد العلمية.
- (٣)
أُدخلت المواد الفلسفية في البرنامج كأنها مادة جديدة وكأن التلاميذ لم يقوموا بعد في دراستهم السابقة بشيء يشبه التفكير الفلسفي.
ولننظر الآن في هذه النقط الثلاث:
جعل الفلسفة من المواد الاختيارية لشعبة الآداب هو اعتراف ضمني بأن الفلسفة من الكماليات، كأنه من الكماليات أن يعرف التلميذ الذي درس مجموعة غير قليلة من العلوم كيف يفكر الفكر وما هي المشاكل التي حاولت العلوم حلها والمشاكل الكبرى التي تثيرها العلوم وتتركها إلى حين بدون أن يعرف طبيعة نفسه وعوامل سلوكه ومختلف الدوافع التي تحمله على العمل.
ليس من الكماليات أن يعرف المرء نفسه وأن يبتدئ في هذه الدراسة في سني المراهقة التي يكون التطلع إلى العالم الداخلي قويًّا والميل إلى التحليل والتعليل شديدًا، وجميع طلبة المدارس الثانوية سواء كانوا من شعبة الآداب أو العلوم أو الرياضية في حاجة إلى دراسة علم النفس الذي هو أقرب العلوم إلى أنفسهم، ويجب أن يُدْرس هذا العلم بطريقة جدية كما يُدْرس علم الأحياء مثلًا، لا عن طريقة القصص والحكايات والأمثلة فقط.
ليس من الكماليات أن يعرف التلميذ كيف حاول الفلاسفة والعلماء توحيد العلوم واستنباط صورة شاملة للكون، وكيف يلتقي تفكير الفلاسفة وتفكير العلماء في نقطة واحدة وهي محاولة الوصول إلى نظريات أعم فأعم، وعلى ذلك يكون الجزء من الفلسفة المعروف بمناهج البحث وبفلسفة العلوم من أكثر العلوم الفلسفية تشويقًا وترغيبًا، ويجب أن تكون هذه الدراسات من نصيب جميع تلامذة المرحلة الثانوية.
وليس من الكماليات أن يعرف التلميذ الذي سيترك بعد سنة المدرسة الثانوية كيف حاول الفلاسفة أن يحلُّوا المشاكل الخُلُقية والاجتماعية التي ما زالت تواجه الإنسانية، وليس من الكماليات أن يزوَّد بالمبادئ القويمة المسلَّم بها من الجميع؛ لتساعده على فهم هذه المشاكل وعلى إبداء رأيه على أساس من الرويَّة والتفكير.
والواقع أن الفلسفة وإن كانت لا تدرَّس بصفة صريحة إلا في السنة الأخيرة فإن روحها يجب أن يسود جميع المواد وخاصة دراسة الأدب والتاريخ، فإن مدرس الأدب والتاريخ يجد دائمًا الفرصة لتوجيه الذهن نحو الاعتبارات الفلسفية ولتعويد الفكر التأمل العميق.
وبهذه الطريقة يصل التلميذ إلى المرحلة الأخيرة وهو مشوق إلى دراسة الفلسفة؛ لأنها ستساعده على فهم كثير من المشاكل التي انبرت أثناء دراساته السابقة.
والشوق إلى الفلسفة هو أقوى حافز للمطالعة بعد الانتهاء من مرحلة الدراسة الثانوية، ولمطالعة الكتب الجدية التي تقدِّم غذاءً عقليًّا راقيًا.
وأخيرًا أود أن أقول: إن الروح الفلسفية متمِّمة للروح العلمية؛ لأنها أكثر مرونة من الروح العلمية التي قد تمتاز بشيء من الصرامة والإطلاق، فالدراسة الفلسفية تنمِّي في طالب الرياضيات أو العلوم روح الفوارق اللطيفة والاحتمالات، وتزوِّده بالمرونة التي لا بد منها لمواجهة المواقف العاطفية والخُلُقية.
إني أعتقد أن الدراسة الفلسفية من ضروريات الحياة العقلية لكل شخص متعلم. لا يمكن أن تكمُل الشخصية وترتقي إلا بفضل الدراسات الفلسفية وبالاتصاف بالروح الفلسفية، ورُقي الشخصية الفردية يؤدي إلى رُقي الأسرة وإلى رُقي الأمة. هذه الحلقات متماسكة متضامنة، ومن العبث أن نُصلح جانبًا ونترك الجوانب الأخرى بدون إصلاح، وبصدد هذه الحقيقة الأولية أريد أن أختم هذا الحديث بالإشارة إلى أمر هام يشغل بال المشرفين على مستقبل بلادنا في جميع مرافق الحياة.
هذا الأمر الهام هو الاستعداد لمواجهة المشاكل التي ستواجهنا بعد الحرب. نلاحظ أن قادة الفكر في العالم تفكر منذ الآن في أحسن النظم الاجتماعية التي يجب تحقيقها بعد الحرب لضمان سعادة الأمم ومستقبل ثقافتنا الروحية، وعلينا كغيرنا أن نفكِّر في الأحوال الجديدة التي ستُسفر عنها الحرب بعد انتهائها، ربما طالعتم في جرائد صباح (١٦ / ٢ / ١٩٤٣) أن مصر أصبحت الآن بلاد الرخاء رقم واحد، ومن المنتظر أن يزداد هذا الرخاء بعد بضع سنوات من انتهاء الحرب، هذا الرخاء سيكون نتيجة لازدياد النشاط الصناعي والزراعي والتجاري، غير أنه سيتولد عن هذا الرخاء المادي مشكلة خُلُقية خطيرة؛ لأني أخشى ألا ترتقي الحياة الخُلُقية بمقدار ارتقاء الحياة المادية، بل من المرجَّح أن تهبط هذه الحياة وأن يُزاد طغيان المنافع المادية على الأغراض الروحانية السامية. فعلى المشرفين على الصحة الاجتماعية والخُلُقية وعلى مستقبل الثقافة في مصر أن يعدُّوا العُدَّة منذ الآن لمواجهة المشكلة الخُلُقية والثقافية. ومن وسائل الاستعداد إصلاح نُظُم التربية بحيث تؤدي وظيفتها المزدوجة وهي تكوين شخصية الفرد تكوينًا منسجمًا متكاملًا، وتهيئة الجو العلمي والفلسفي الذي سيسمح ببزوغ العبقريات، ولكن يجب ألا ننسى أبدًا أن هذين الغرضين المتضامنين لا يمكن تحقيقهما إلا إذا تجنَّبنا التسهيل المتناهي والتبسيط المُخِل، وتجاوَزْنا مرحلة الفهم الحسي وارتقينا إلى مستوى الفهم العقلي، إلا إذا فهمنا ضرورة بذل الجهد وخاصة الجهد العقلي والجهد الخُلُقي.