الانفعالات وبوادرها السيكوفسيولوجية
ليس العلم مجموعة من التجارب والحقائق، بل هو في صميمه مبدأ لتنظيم التجارب والحقائق، ومبدأ التنظيم هو الذي يربط بين الحقائق الجزئية ويمنحها دلالتها، ولا تختلف مدارس علم النفس في سرد الحقائق السيكولوجية قدر اختلافها في تنظيمها وتفسيرها، وتنظر المدرسة التكاملية إلى سلوك الحياة النفسية نظرة ديناميكية تطورية تأليفية، فمجال السلوك ميدان تفاعل بين عدة مصادر من القوى الدافعة والجاذبة المحرِّكة والمانعة، قوى تتضارب قبل أن تأتلف ولا تكاد تأتلف حتى تتضارب من جديد، وذلك خلال أنماط متعاقبة من السلوك تبرز من ثنايا حركة النمو والتطور، ويضم مجال السلوك الإنسان والعالم الخارجي في وحدة لا يمكن تحطيمها، والعلاقات التي تربط بينهما تزداد أحيانًا شدة كما تزداد أحيانًا ضعفًا تبعًا للمستويات التي يستقر عندها السلوك حينًا أثناء حركته الصاعدة أم الهابطة، حركة الترقي والتقدم أم حركة التقهقر والنكوص.
والقطبان اللذان تتأرجح بينهما الحياة النفسية هما: الآلية من جهة والخلق من جهة أخرى، آلية الأفعال المنعكسة والتعودية وخلق التفكير المبدع والفعل التكيُّفي الإرادي، وهذان القطبان متضاربان متآلفان في وقت واحد، شأنهما في ذلك شأن كل عملية حية، فالتضاد القائم بينهما هو التضاد نفسه القائم بين الضرورة والحرية، وكما أن الفعل الحر لا يؤتي ثماره إلا باستخدام الوسائل الخاضعة لقوانين الطبيعة، فكذلك لا يثب الخلق وثْبته إلا بالاعتماد على ما تقدِّمه الآلية من وسائل وعناصر وظيفية.
غير أن الانتقال من الآلية إلى التفكير المبدع لا يتم إلا بفضل العقبة وعلى الرغم منها، ومن شأن العقبة التي تعترض السلوك التكيُّفي وتحول دون مواصلته زيادة التوتُّر في الموقف وإثارة الانفعال، وإن كان الانفعال من جهة دليل الفشل فإنه يصبح من جهة أخرى حافزًا جديدًا لإعادة تنظيم قوى المجال ورفع شدة الشعور بالذات تمهيدًا للتغلُّب على العقبة وتحقيق التكيُّف الجديد؛ وعلى ذلك يحق لنا أن نعد الانفعال محورًا رئيسيًّا يدور من حوله سلوك الإنسان في صراعه مع نفسه ومع العالم الخارجي، أن ننظر إليه بمثابة المفصل الذي يصل بين حركات الجسم وحركات النفس لمزجها مزجًا تامًّا، بحيث لا يصبح هناك جسم ولا نفس، كل في مقابل الآخر، بل لنكون بصدد إنسان واقعي يشعر في آن واحد بضعفه وقوته.
تسترعي الانفعالات انتباهنا عندما يفاجئنا بها الغير أو عندما تعترينا، وقد هزت بعنف صدمتها كياننا كله، أو ولدت بتغلغلها في أعماقنا اضطرابات غامضة تجعلنا نبدو لأنفسنا كأننا غرباء عن أنفسنا، وفي كلتا الحالتين تثير المظاهر الانفعالية شيئًا من الدهشة؛ لأننا نعجز في بادئ الأمر عن إدراك تمام الصلة بين المثيرات — التي تبدو أحيانًا تافهة — وما تستتبعها من استجابات عنيفة شاذة.
لا ريب في أن القيم التعبيرية الأولى، أو بعبارة أصح «البدائية»، هي القيم العاطفية والتعبيرات الوجدانية، يفهم الحيوان بالفطرة بعض الهيئات التعبيرية أو على الأقل يستجيب لها استجابة تضمن له حفظ كيانه، فإنه يدرك معنى العداوة المنبعث من شكل مخيف منفِّر، كما أنه يدرك معنى الأمان والاستئناس الذي ينطوي عليه منظر الشيء الهادئ الظريف المنسجم، والأمر كذلك فيما يختص بالطفل الرضيع الذي لا يحتاج إلى تعلُّم معنى الخوف أو معنى الاطمئنان، تلك حقائق واقعية أثبتتها التجارب التي قامت بها مدرسة حديثة في علم النفس هي مدرسة الجشطلت أو مدرسة الصيغ الإجمالية، وقد أشار كوفكا — وهو أحد مؤسسي هذه المدرسة — بإلحاح إلى ما يسميه بالقيم الفراسية التي يدركها بضرب من البديهة دون الروية بعض الأشخاص السُّذَّج، ومما هو جدير بالذكر هنا هو أن ما يقوله كوفكا يؤيد ما ورد في الكتب القديمة في علم الفراسة عن مقدرة بعض الأشخاص ذوي النفوس المشرقة الصافية على التعاطف واستشفاف خبايا النفوس. ربما يتراءى لنا أن هذه الحقائق عسيرة التصديق وهمية المنشأ، والواقع أن مثل هذا الاستعداد — وإن كان متوفرًا في بعض الحالات — أصبح فيما يختص بسواد الناس نادرًا جدًّا؛ لما حالت دون تنميته الحواجز والفواصل الناشئة عن ظروف الحضارة المادية المصطنعة التي تغمرنا من كل جانب، والعالِم في هذا المضمار أقل الناس بديهة وأقصرهم بصيرة لميله إلى التحليل المستقصى، ولاتخاذه موقف الشاك المرتاب إزاء الظواهر المعقدة الغامضة، وبما أننا مضطرون أو مدفوعون بحكم كوننا أفرادًا في مجتمع إلى تفهُّم سلوك الغير وتعرُّف حالاتهم وخاصة سلوكهم الانفعالي وحالاتهم العاطفية، فيتحتَّم علينا أن نبحث عن منهج آخر يكون أكثر شمولًا وأيسر تطبيقًا وآمن استدلالًا من البديهة والحدس، وأن نسأل علماء النفس عما استبدلوه بالمنهج البديهي من طرق التعليل العلمي والتحليل النفساني.
إن ضرورة اللجوء إلى التعليل العلمي وتطبيق الاختبارات شعر بها العلماء عندما أرادوا أن يدرسوا الشخصية وأن يصنِّفوا الطبائع البشرية، فإن ثمة صعوبات عدة تعترض الباحث في دراسة الشخصية، ومن الواجب أن نفرِّق بين مقوِّمات الشعور بالأنا وبين مظاهر الطبع والخلق، وإذا كانت مظاهر الطبع تخضع إلى حد كبير لطرق البحث الموضوعي فإن مدى تطبيق هذه الطرق ينحصر ويضيق عندما نتخذ الشعور بالأنا موضوعًا للبحث، غير أنه اتضحت لنا مزايا المنهج التكويني في تتبُّع مراحل نشوء الشخصية بما فيها الشعور بالأنا، وقد انتهى بنا البحث إلى أن المعدن الأول الذي تتكون منه الشخصية بادئ ذي بدء هو الحالات الانفعالية وخاصة الإحساسات العضوية العميقة من حشوية وعضلية، كما أنه انتهى بنا إلى ما قاله البعض عن أن اضطرابات الشعور بالأنا وأمراض الشخصية عامة ترجع ابتداءً إلى اضطرابات الحاسة الحشوية، فتوضيحًا لما وصلنا إليه وتمحيصًا للرأي الأخير الخاص بمنشأ اضطرابات الشخصية أرى من الواجب أن ندرس بالتفصيل نشوء السلوك الانفعالي ومراحله المتباينة ومظاهره المتعددة في الحيوان والطفل أولًا كما يقضي به المنهج التكويني، ثم في المراهق وفي البالغ حتى يتيسر لنا بعد تتبع تلك المراحل ووصف تلك المظاهر فهم طبيعة الانفعال النفساني والدور الهام الذي يقوم به في تكييف السلوك عامة.
من بين المشاكل الفلسفية الكبرى مشكلة صلة النفس بالجسم، وهي في نظري أكثرها تعقيدًا وغموضًا، إن لم تكن أهمها. هي المشكلة التي تحطَّمت عند صخورها أمواج الفلسفات المختلفة، هي القلعة المنيعة التي حاول اقتحامها وغزوها أفلاطون وأرسطو في العصور القديمة، وديكارت وسبنوزا وليبنتز وكنت في العصور الحديثة، لنتأمل مثلًا في موقف ديكارت المتناقض، فقد شعر — بعد أن فصل بينهما فصلًا تامًّا — بضرورة إيجاد نقطة تصل بينهما، وكانت الوصلة — في رأي ديكارت — تلك الغُدَّة الصنوبرية التي ورد ذكرها مرارًا في مؤلفات فلاسفة اليونان والعرب وأطبائهم، تلك الغدة التي كانت في نظر الفيلسوف بمثابة محطة توزيع الأرواح الحيوانية التي بدونها لا تتم حركة ولا يتولد إحساس، ولا تعتقدوا أن علم النفس الحديث قد حلَّ المشكلة بجرَّة قلم عندما قرر البعض أن لا وجود للنفس، وأنها من وهم الأقدمين، وأن الاعتقاد بوجودها لم يرسخ إلا بفضل تواطؤ الفلاسفة وتشاعرهم، فمهما يقال عن انفصال علم النفس عن الفلسفة أو عن ضرورة هذا الانفصال لإدخال علم النفس في جمهرة العلوم الموضوعية، فهناك أمر لا يمكن إنكاره، وهو أن مشكلة صلة النفس بالجسم تندلع نيرانها فجأة كلما اعتقد العالم النفساني أنه قضى عليها، ولنا شاهد على ذلك فيما وصلت إليه مدرسة التحليل النفساني، وخاصة مدرسة يونج في دراساتها للاشعور، هذا فضلًا عما نشاهده في تطور موقف العلوم الفيزيائية إزاء يقينية قوانينها وحتميتها، ولو كان المجال يتسع لغير الاكتفاء ببسيط الإشارة لبيَّنت لكم كيف تلاشت الموضوعية واصطبغت بالذاتية، وأن علم النفس الذي لا يكتفي بدراسة حركات السلوك بل يعيد للشعور مركزه أصبح نموذجًا لجميع العلوم بعد أن أمسى في نظر البعض مجموعة من الأوهام والخرافات.
إننا نلمس جليًّا مشكلة صلة النفس بالجسم في موضوع الحياة الانفعالية، إذ يقتضي معنى الانفعال معنى الفاعل فهناك إذًا فاعل ومنفعل، هناك تبادل بين عالمين: عالم النفس، وعالم الجسم، ويبدو لنا أن منطقة الاتصال بين هذين العالمين هي الناحية الوجدانية في طبيعتنا، ناحية النزعات والغرائز والميول والتأثرات والانفعالات والعواطف والأهواء والشهوات، وكما أن لكل كائن حي تاريخًا له بداية ونهاية يتطور بينهما قاطعًا مراحل معينة مميزة، وكما أن المراحل اللاحقة تستند إلى سابقتها ولا تفهم إلا بإرجاعها إليها، يقتضي البحث العلمي إزاء كل موضوع يتعلق بالكائن الحي الرجوع إلى المراحل الأولى، إلى البوادر الفسيولوجية والنفسية.
موضوعنا هو الإنسان، هو طبيعة هذا الكائن الوضيع الرفيع، الضعيف القوي، العاجز القدير، طبيعة أحد من هؤلاء الأفراد الذين يساهمون في تمثيل المأساة البشرية، فلنوجه نظرنا إلى المهد الذي يرقد فيه واحد من بني الإنسان، ولنحاول أن ننفذ ببصرنا خلال الحركات والسكنات، خلال الأصوات الصارخة والابتسامات، خلال مناغاة الطفل وتلعثماته حتى نصل إلى عالم الوظائف العضوية والنبضات الفطرية التي ستشكِّل سلوك الطفل والمراهق والراشد بالاشتراك مع عوامل البيئة والتربية.
من العوامل الرئيسية التي تؤثر في تشكيل الخلق المواقف المختلفة التي تضطر الفرد إلى الاستجابة لها أو التكييف بينه وبينها، وبما أن الطفل الرضيع يعيش في بيئة تكون فيها ظروف التبادل بينه وبينها قليلة غير متنوعة فمن الصعب أن نتحدَّث عن خلق الطفل الرضيع وطبعه، زِدْ على ذلك أن أهم صفة من صفات الخلق، وهي ثبات الشخص في كيفية استجاباته للمواقف الخارجية، من العسير مشاهدتها في الطفل؛ نظرًا لقلة التجارب التي تتيح له ظروف حياته المحصورة القيام بها، ونظرًا لعدم اتصال مظاهر سلوكه بعضها ببعض، إذ إنه ينتقل بسرعة من شكل سلوكي إلى شكل آخر، وهذا يرجع إلى عدم اكتمال إرادته وضعف قابليته لحفظ آثار تجاربه وعجزه عن مواصلة نشاطه وتركيز انتباهه.
الإجابة على هذا السؤال تضطرنا إلى النظر في مراحل تكوين الجنين، نلاحظ أن أهم الوظائف المنوطة مباشرةً بحفظ كيان الشخص هي التي تتكوَّن آلاتها العضوية أولًا، هذه الوظائف هي التي تقوم بعملية التغذية غير أن هناك وظيفة ترتسم معالمها منذ البداية، ثم تترك المجال لتكوين الأحشاء فتبطؤ سرعة نموها، ثم تستأنف سيرها بعد أن يقترب تكوين الأحشاء من الاكتمال، وهذه الوظيفة هي الوظيفة العصبية، والسبب في هذا السبق واضح؛ لأن النسيج العصبي هو نتيجة التغاير الذي يحدث في البشرة الخارجية للجرثومة الملقحة.
هذه إشارة صريحة منذ البداية إلى أهمية الجهاز العصبي فيما يختص بالتبادلات التي ستحدث بين الكائن الحي والعالم الخارجي، إشارة إلى الدور الهام الذي ستؤديه العوامل الخارجية في تكييف السلوك وتوجيهه، غير أن هذا الدور لم يحِن بعدُ وقته، ولن تتضح آثار العوامل الخارجية في السلوك إلا بعد الولادة بمدة تتراوح بين أسبوعين وثلاثة أسابيع، وهذه الظاهرة تفسر لنا من جهة أخرى تخلُّف نمو الأنسجة العصبية عن نمو الأنسجة الحشوية والأنسجة العضلية (الملساء أولًا ثم المخططة)، إذ إن الوظائف التي ستنشط مباشرةً عقب الولادة هي وظيفة التنفس ثم وظائف التغذية المختلفة من مص وبلع وهضم وتمثيل وإخراج، ثم تليها الوظائف التي ستحقق صلة الكائن الحي بالبيئة الخارجية، أي النشاط الحسي الحركي، غير أن هناك فئة أخرى من الوظائف تتوسط الوظائف الحشوية من جهة والوظائف الحسية والحركية من جهة أخرى، وهذه الوظائف هي الخاصة بتحقيق وضع العنق وعضلات الوجه والأطراف واتزانها، أو بعبارة أخرى بتحقيق تشكيل الجسم وإعطائه صورة تعبيرية معيَّنة كما يعطي الفنان شكلًا وتعبيرًا للمادة المرنة التي يعالجها.
والآن يمكننا الإجابة عن سؤالنا الأخير، وهو: ما هو العامل الذي يخضع له نظام نضج المراكز العصبية؟
هذا العامل هو اضطرارية تحقيق الوظائف الخاصة أولًا بحفظ الحياة العضوية، ثم الوظائف التي يقوم عليها تنوُّع أشكال النشاط الموجَّه نحو العالم الخارجي مع سبق الإشارة إلى درجة أهمية كل وظيفة بالنسبة إلى تحقيق النموذج الإنساني بيولوجيًّا وسيكولوجيًّا واجتماعيًّا، اتضح لنا إذن السبب الذي من أجله لا تظهر جميع الوظائف الفسيولوجية وما يصاحبها من وظائف سيكولوجية وسلوكية دفعة واحدة، بل تتابع في ظهورها وفق نظام معين، ويترتب على هذا التتابع أن تسيطر كل وظيفة جديدة عقب نشوئها وأثناء نموها على سلوك الطفل كله فتستغرق جلَّ نشاطه، وتحد من نشاط الوظائف الأخرى التي سبق أن نشأت وتنظَّمت، ولا تلبث الوظيفة الجديدة عقب ظهورها أن تعمل بشدة وعنف كأنها تستند إلى تلقائية لا تغذيها المؤثرات الخارجية إلا بين حين وآخر، فتتكرر الحركات وتتابع بلا نظام معين، كأنها لا ترمي إلى غرض سوى التمرين والنشاط الصِّرْف، ثم يعقب هذا النشاط الذي هو من قبيل اللعب نشاط آخر أكثر تنظيمًا وخضوعًا، إذ تندمج الوظيفة الجديدة في الوظائف الأخرى تحقيقًا للتعاون والتنسيق بين جميع الوظائف.
والأمثلة على ذلك عديدة، نذكر منها: تحريك الذراعين واليدين ونشوء وظيفة القبض على الأشياء، فتكون الحركات في البداية غير منظمة عديمة الغرض، أو إن كانت ترمي إلى غرض فتتجاوز الحركات التي يقوم بها الطفل من حيث العدد والعنف الحد الذي ستقف عنده فيما بعد عندما يتحقق التنسيق بين حركات العين والحركات اليدوية.
والأمر كذلك فيما يختص بوظيفة مكتسبة كالوظيفة اللغوية، نلمس بوادر هذه الوظيفة من حيث الحركات الصوتية في صراخ الطفل ثم في مناغاته، يجد الطفل — بلا شك — لذة معينة في تنشيط عضلات الفم والحنجرة والأوتار الصوتية، فيصدر الأصوات المختلفة وينوِّعها بلا قيد ولا نظام حتى يتحقق الارتباط بين السمع والأصوات، فيوجِّه السمع الأصوات ويهذِّبها، ثم تتلاشى الأصوات التي لا تُحْدِث صدًى في كلام الآخرين تاركة المجال لأصوات وألفاظ ذات قيمة اجتماعية، أي تلك التي تؤثر في المستمعين وتسهِّل للطفل تحقيق رغباته.
وبقصير العبارة يمكن القول بأن الطفل في نموه يجتاز مراحل معينة مميزة محدَّدة تحديدًا زمانيًّا ومكانيًّا، وكل مرحلة من المراحل الكبرى تمتاز بظهور وظيفة جديدة تحتكر عندما تكون في طور التكوين معظم نشاط الطفل، ثم تنتظم في مجموعة الوظائف الأخرى التي سبقتها، وتستمر هذه العملية حتى تكتمل جميع الوظائف، وبالتالي تتحقق جميع مقوِّمات الشخصية، وحينئذٍ يمكن التحدُّث عن خُلُق الطفل والتنبؤ بالاتجاه العام الذي سيتبعه في مراحل ترقيته المستقبلة.
والوظائف الوجدانية لا تخالف هذه القاعدة ولا تشذ عنها، فإن مظاهرها المختلفة من تأثُّر عام سواء أكان مصحوبًا بانبساط أم انزعاج ومن انفعالات شتى مثل الغضب والخوف والفرح والحزن والضحك والبكاء والحب والكراهية وما إلى ذلك تكون في بداية نشوئها مفككة مضطربة غير معينة، ثم تتهذَّب وتنتظم وتخفض تحت تأثير العوامل العليا من فكرية وإرادية واجتماعية، غير أن الصلة التي كانت تربط الظواهر الوجدانية بالعوامل العضوية لا تنعدم أبدًا، بل تظل محتفظة بصفتها التعبيرية الأولى.
- الأولى: بالحاسة المستقبلة للمؤثرات الداخلية Interoceptive sensibility.
- والثانية: بالحاسة المستقبلة للمؤثرات الخاصة أو الذاتية Proprioceptive sensibility.
- والثالثة: بالحاسة المستقبلة للمؤثرات الخارجية Exteroceptive sensibility.
فتحاشيًا للبس يُستَحْسَن استعمال عبارة الحاسية الحشوية بدلًا من الحاسية الباطنية، إذ إن الإحساسات العضلية والإحساسات التيهية تعتبر إحساسات باطنية بالنسبة إلى المحيط الخارجي للجسم، وبالنسبة للعالم الخارجي الذي تصدر عنه المؤثرات المصوبة نحو الجسم.
أما فيما يختص بوظيفة كل حاسية فإن تقسيم شرنجتون لا يشير إليها صراحةً، غير أنه من السهل تحديد وظيفة كل واحدة من هذه الحاسيات الثلاث إذا نظرنا إليها من الوجهة الفيسيولوجية، فالإحساسات الباطنة تبعًا لتسمية شرنجتون هي التي تنتج عن حالة الأحشاء من حيث الامتلاء والفراغ، وتمتاز هذه الإحساسات بكونها غامضة ومنتشرة في الجسم أو متشعبة فيه، تلك الإحساسات هي التي تكيِّف الحالة التأثرية الأولية، وتكون مصحوبة بإحساس مبهَم بالانبساط أو الانزعاج، بالراحة أو التعب، هي بمثابة الأرضية التي تبرز منها وتنفصل عنها الحالات الانفعالية المتفرعة المميزة، ولكن هذا الإحساس العام، سواء أكان بالانبساط أو بالانزعاج، لا يصحب الحالات الانفعالية المميزة فحسب، بل جميع ألوان نشاطنا النفسي من تخيل وتصوُّر وتفكير وتنفيذ، فإننا لا نتكلم عن العمليات العقلية أو التفكيرية الصِّرْفة إلا على سبيل التبسيط فإنها لا تتحرَّر كليةً من صبغة وجدانية مهما ضعفت هذه الصبغة وتلاشت.
أما الحاسية العضلية الاتزانية فإنها — كما هو واضح من تسميتها — تحقِّق التوتر الجسماني ووضع أجزاء الجسم بالنسبة إلى بعضها واتزانها، غير أن هذه الإحساسات تندمج في الإحساسات الحشوية شأنها في ذلك شأن جميع الإحساسات الأخرى والحركات وسائر العمليات الذهنية، بيد أن صلتها بالإحساسات الحشوية تكون أوثق وأوضح من صلة العمليات الذهنية العليا بها.
أما الإحساسات المحيطية فإنها تستقبل مؤثراتها من الخارج، والحركات التي تعقبها تكون مصوَّبة ناحية العالم الخارجي بما فيه الجسم، إذ إن الجسم من حيث هو آلة كبقية الآلات التي نستعيرها من العالم الخارجي، ومن حيث هو موضوع الفعل أو الجزء المنفعل، يكوِّن جانبًا من عالمنا الخارجي، هو الحد الفاصل بين الأنا واللاأنا الخارجي، ومن حيث هو حد فإنه مشترك بين المفصول والمفصول عنه.
•••
ليست الإحساسات الخارجية وما يصحبها من عمليات إدراكية في مرتبة واحدة من حيث قدرتها على تنظيم العالم الخارجي وتحليله، ومن حيث قدرتها على تهييئنا لمعرفته والتأثير فيه، فمن بين الحواس الخمسة ثلاثة نسميها بالحواس العقلية هي: البصر، والسمع، واللمس السطحي، أما الذوق والشم فإنهما أقرب إلى العمليات الوجدانية منها إلى العمليات العقلية، ولكن هذه التفرقة لا تعني أن الحواس العقلية عاجزة عن استثارة الوجدانات، أو أن يكون العنصر الوجداني معدومًا فيها، فقد أسلفنا أن الحالات التأثرية الأولية من انبساط أو انزعاج تصحب جميع ألوان نشاطنا، وأن العمليات العقلية العليا تعجز عن أن تتحرَّر كليةً من ربقة الجسم.
بمَ يمتاز تصنيف هذا الثنائي عن تصنيف شرنجتون الثلاثي؟ نلاحظ أولًا أن الحاسية التأثرية الأولى تقابل الحاسيتين الباطنة والخاصة في تصنيف شرنجتون أي الحاسيات الحشوية والعضلية والاتزانية، أما الحاسية المميزة الحاكم فتقابل الحاسية الخارجية.
ولم تقتصر أبحاث هد على دراسة وظائف كل من هاتين الحاسيتين، بل حاول أن يربط هذه الوظائف بأجزاء معينة من الجهاز العصبي المركزي، وقد أتت الأبحاث التشريحية والفسيولوجية التي قام بها مدعِّمة لما وصل إليه فيما يختص ببدائية الحاسية التأثرية الوجدانية، وسبق أن أشرنا إلى أن نضج أجزاء الجهاز العصبي يتبع ترتيبًا معينًا، وأن نقطة البدء موجودة في النخاع المستطيل الذي يضم المراكز العصبية المسيطرة على عمليتي: التغذية والتنفس، ثم تنتشر عملية النضج من النخاع المستطيل نحو طبقات الجهاز العصبي العليا من جهة ونحو النخاع الشوكي من جهة أخرى، والنتيجة النهائية هي إخضاع المراكز السفلى للمراكز العليا إخضاعًا جزئيًّا لا كليًّا، أي أن المراكز السفلى تظل محتفظة بالمقدرة على التنشيط الذاتي؛ نظرًا لعدم وصول جميع المؤثرات إلى المراكز العليا الموجودة في القشرة الدماغية، أو في المراكز المتوسطة ومركز الانفعالات والتأثرات الوجدانية الموجودة تحت القشرة مباشرةً والمعروف بالتلاموس، فإذا كان نضج التلاموس سابق لنُضْج المراكز اللحائية فهذا معناه أن الإحساسات الوجدانية تسبق الإحساسات الخارجية المميزة من حيث تاريخ ظهورها، فتكون إذن بدائية التأثرات الانفعالية قائمة على أسبقية مراكزها في النضوج.
تلك النظرة البسيطة إلى المراكز العصبية ووظائفها توضح لنا بعض الشروط اللازمة لما نسميه بضبط النفس، هذه الشروط هي — فضلًا عن سلامة المراكز العليا — وصول المؤثرات إلى المراكز العليا محصورة في مسالكها الطبيعية دون إشعاع عنيف ودون تحطيم للسدود الفرعية الموجهة للسيال العصبي والمحوِّلة له، وقد صدق التعبير العام عندما شبَّه الانفعال العنيف بسيل جارف يحطِّم في سيره الحواجز والروادع.
والآن وقد أخذنا فكرة عن أنواع الحاسيات المختلفة وعن العلاقات القائمة بينهما نشرع في وصف بعض مظاهرها المختلفة متتبعين مراحل ظهورها، ومشيرين إلى معنى كل ظاهرة بالنسبة إلى السلوك.
يظل المولود الحديث عدة شهور وهو عاجز عن تحقيق أية صلة فعَّالة بينه وبين العالم الخارجي، ولا يتحقق التعاون والتنسيق بين حركات العينين ثم بين حركات الجفن وحركات العينين إلا بعد حوالي شهرين، كما أنه لا يتم التنسيق بين حركات العينين وحركات الرأس إلا ابتداءً من الشهر الرابع، وفي هذه السن تظهر الأفعال المنعكسة الاتزانية التي تحدث بطريقة آلية كلما توفرت شروطها المحيطية، ويلي هذا الترقِّي التعاون بين العين واليد ثم بينها والقدمين عندما يصبح الطفل قادرًا على المشي.
فيتضح لنا من هذا العرض السريع أن نشاط المولود الحديث محصور في دائرة النشاط العضوي والتأثرات الوجدانية، ومن بين مظاهر النشاط العضوي يجب أن نخص بالذكر النوم الذي يستغرق حوالي عشرين ساعة في الشهر الأول، ليس النوم بظاهرة سلبية، بل هو ضرب من النشاط له مراكزه في الدماغ، لا يكف النائم أثناءه عن النشاط إطلاقًا، فإن العضلات لا ترتخي كليةً بل تظل محتفظة بدرجة معينة من التوتر، وهذا التوتر يختلف شدةً وموضعًا حسب السن، ولوضع النائم دلالة كبيرة بالنسبة إلى طبعه وخلقه، بالنسبة إلى مرحلة الترقي الجسماني والنفسي التي وصل إليها، يتخذ جسم المولود الحديث أثناء النوم الوضع الذي كان عليه أثناء المرحلة الجنينية، وهو ضمُّ الأطراف على الجذع، ثم تستقل الذراعان في وضعهما دون الفخذين والساقين، وقد يحتفظ بعض البالغين بهذا الوضع المنكمش، وقد ينمُّ هذا الوضع على المزاج القلق، في حين يفيد الوضع المنبسط معنى الثقة والإقدام.
أما فترة اليقظة فيقضيها المولود الحديث إما في الرضاعة وإما في الصراخ، أو يظل مدة هادئًا ما دامت عملية الهضم منتظمة، ثم يستأنف صراخه عند معاودة الجوع، فتكاد تشغل وظيفة التغذية جميع أوقات اليقظة، ومما يسترعي النظر هو كمال حركات الرضاعة والبلع وإحكامها بالنسبة إلى حركات الأطراف المضطربة غير المنتظمة.
ولكل منطقة من القناة الهضمية درجة معينة من الحساسية تكيِّف الحركات بالنسبة إلى طبيعة المؤثر، وأشد المناطق حساسية هي منطقة الشفاه واللسان والبلعوم، أي الطرف الأعلى للقناة الهضمية، ثم يليها من حيث شدة تركيز الحساسية الطرف السفلي، أي منطقة الاست.
ومما هو جدير بالذكر أن حركات منطقة الفم تكون مصحوبة بتعابير وجدانية تميزها طبيعة المؤثر وموضعه، فإذا نبهنا الشفة تنبيهًا لطيفًا تتحرك الشفتان دون أن تتمَّ عملية البلع، وإذا نبَّهنا طرف اللسان تمتد الشفتان إلى الأمام ويتخذ اللسان شكلًا أسطوانيًّا كأنه يهيئ مجرى لتناول السائل المغذي بينما تتفتَّح الجفون اغتباطًا، وكل هذه الحركات تعبِّر عن الإحساس بالحلو، وإذا نقلنا موضع التنبيه إلى مؤخر اللسان قبيل قاعدته ترتسم على ملامح الرضيع تباشير الاشمئزاز التي تحدثها عادةً المواد المُرَّة، فتنقبض الجفون وترتفع زاويتا الفم وجناحا الأنف، أما إذا وقع التنبيه على قاعدة اللسان أو على أعلى الحنك ينفتح الفم ويخرج اللسان، وترتفع الحنجرة ويزداد إفراز اللعاب، وتصحب هذه الحركات محاولة للتقيُّؤ، وجميع هذه الحركات تعبِّر بصراحة عن التقزز والنفور، فإن الإحساس بالمرارة هو عبارة عن سلوك الدفع والتجنُّب، في حين يعبِّر الإحساس بالحلو عن الإقبال والجذب والضم.
هذا شأن عمليتي التبوُّل والتبرُّز أيضًا، فإنها تكون في بادئ الأمر منعكسة ثم تندرج الحركات الخاصة بها في دائرة الأعمال الإرادية، فيتعلم الرضيع تنظيم حاجاته، ويعد تحقيق هذه المرحلة في سن مبكرة من أهم مراحل تكوين خلق الطفل وشخصيته.
أسلفنا أن المنطقتين اللتين تنحصر فيهما الحاسية بطريقة واضحة هما منطقة الفم ومنطقة الاست، وتوجد في الواقع مرحلة فمية-استية كما يقول فرويد، يمر بها الطفل، يتركز أثناءها في هاتين المنطقتين نشاط الطفل الذي ينزع إلى إشباع رغبة اللذة.
نعلم أن أول مظهر من مظاهر الحياة لدى المولود هو الاستهلال أو صراخ الطفل عند الولادة.
لا يخرج الاستهلال — من الوجهة الفسيولوجية — عن كونه اختلاجًا زفيريًّا، فإنه يصحب أول حركة تنفسية انعكاسية تعقب فصل المولود عن أمه، غير أن الفلاسفة والشعراء أوَّلوا هذه الصرخة تأويلات مختلفة، فقال لوكريشيوس الشاعر اللاتيني: إن صرخة المولود الأولى هي صرخة استغاثة إزاء ما سيلاقيه من بؤس وضنك.
وقال ابن الرومي:
ويقول كَنْت: إنه صيحة الغضب على كارثة الميلاد، ويرى فرويد وأتباعه أن صدمة الميلاد تكون مصحوبة بإحساس الحصر والضيق، وإن كل ما يلحق بالمرء فيما بعد من قلق وجزع نفساني ليس إلا صدًى ضعيفًا للصدمة الأولى.
ولو سلَّمنا بأن استهلال الطفل لا يحمل أي معنى نفساني، فإن صراخه فيما بعد لا يلبث أن يرتبط بوظائف وجدانية وعقلية، مثل التعبير والكلام وانفعالات الغضب والفرح والحزن … إلخ، ولكن ثمة وظيفة أخرى للصراخ لها صلة وثيقة بالحياة الوجدانية، وهي تأثير للصراخ في تخدير الألم، ويرجع هذا التأثير إلى التعارض الموجود بين ازدياد التوتر العضلي الناتج عن الاختلاجات الصوتية وبين حساسية الجسم بالمؤثرات المحيطية، وهذه الظاهرة تؤيد ما سبق أن قلناه بصفة عامة عن التعارض القائم بين الإحساسات الباطنية والإحساسات الخارجية.
- أولًا: الدوار.
- ثانيًا: الارتعاد أو الانتفاض.
- ثالثًا: التثاؤب.
للدوار درجات ومراتب من حيث الشدة، فالرضيع الذي تهزُّه مرضعته بلطف بين ذراعيها لا يلبث أن يكفَّ عن البكاء وأن ينام، وذلك راجع إلى تأثير الهدهدة أو التأرجح على تيه الأذن الباطنة والقنوات الهلالية، فبتأثير الهدهدة يتحرك السائل الليمفاوي الموجود في التيه وفي القنوات الهلالية، ومن شأن تذبذب السائل أن ينبه الأطراف العصبية المنتهية عند عدة نتوءات وانتفاخات موجودة على سطح التيه، ثم ينتقل التنبيه العصبي إلى بعض النوى الموجودة في المخ المتوسط، ثم إلى بعض المراكز الموجودة في المخيخ، وينجم عن تنبيه هذه المراكز المختلفة ما يُعْرَف بالدوار، وقد يكون خفيفًا كما في حالة الطفل الذي تؤرجحه أمه، أو قويًّا كالدوار الذي يعتري المبتدئ الذي يتعلَّم رقصة الفلس مثلًا، والإحساس بالدوار عندما يكون معتدلًا أو متقطعًا يُحدِث نوعًا من اللذة يعرفه الهواة الذين يُقْبلون على الألعاب المدوخة في الأسواق وفي لونابارك كالأراجيح والحبال الروسية … إلخ.
والدوار بمعنى آخر هو فقدان الاتزان أو الشعور بتوقُّع هذا الفقدان، غير أن تنبيه الأذن الباطنة — وبالتالي المراكز الدماغية المتصلة بها — لا يُحدث الإحساسات الاتزانية مباشرة، بل يُحدث أرجاعًا خاصة هي العلة المباشرة للإحساسات الاتزانية، هذه الأرجاع تحدث في الأنسجة العضلية — ملساء كانت أو مخططة — وهي عبارة عن تغييرات في شدة التوتر العضلي، فبجانب الانقباضات العضلية التي تحقق حركات الأطراف وحركات ملامح الوجه توجد انقباضات أخرى بطيئة لا تُحدث التعب بسرعة، ووظيفتها تحقيق الأوضاع التي نعطيها للجسم أو لبعض أجزائه، ولا يجهل أحد الدور الهام الذي تلعبه الأوضاع — فضلًا عن الحركات — في التعبيرات الوجدانية والانفعالية.
أما الانتفاضات أو منعكس مورو — نسبة إلى الفسيولوجي الإيطالي الذي اهتم بدراسة هذا الفعل المنعكس — فهو عبارة عن حركة فجائية تعتري المولود أو الرضيع عندما ينخفض تحته السطح الذي يكون مُلقى عليه، وهذه الحركة تشبه الحركة التي تعترينا عندما يهبط بنا الأسنسور دفعة واحدة وبسرعة، يرى البعض أن حركة الانتفاض أو الارتعاد لدى الرضيع هي عبارة عن حركة خوف منعكسة فطرية تصدر عنه قبل أن تثيره مواقف الخوف، غير أن التجارب العديدة التي أُجريت لدراسة طبيعة هذا السلوك أفضت إلى أن التمرين عاجز عن أن يغير من مظاهر هذا السلوك حتى الشهر الرابع، أي أن حركة الانتفاض هي حركة منعكسة بحتة مصدرها التأثيرات التيهية، وهذه الحركة لا تفيد معنى الخوف مطلقًا، ثم تسيطر المراكز الدماغية العليا الخاصة بالحركات الإرادية على هذا الفعل المنعكس رويدًا رويدًا تبعًا لعملية نضوج هذه المراكز، فيصبح في إمكان الطفل أن يغيِّر من مظاهر هذا الانتفاض إلى حد ما، وأن يربط بينه وبين المواقف التي تثير الخوف والذعر في الوقت الذي يسمح له نموه العقلي بإدراك معنى تلك المواقف، هذا لا يمنعنا أن نعتبر هذه الأفعال المنعكسة بمثابة المادة الغفل التي ستتكوَّن منها فيما بعد مظاهر الانفعالات المختلفة.
أما الظاهرة الثالثة والأخيرة المرتبطة بالحاسية الخاصة وهي التثاؤب فيرى البعض أنه مجرد تغيير في نظام حركات التنفس، هو في نظرهم عبارة عن شهيق عميق يدوم فترة طويلة من الزمن عقب حركات شهيقية قصيرة سطحية، غير أنه من السهل أن نلاحظ على أنفسنا أن التثاؤب وإن كان مصحوبًا دائمًا بشهيق عميق طويل فإنه ليس في جوهره فعلًا تنفسيًّا، فإنه بالأخص عبارة عن حركة مط تُحدثها حالات التعب والملل ومقاومة النعاس، ويتكون التثاؤب من عدة انقباضات توترية بطيئة تثبت عضلات الصدر من جهة، وتشمل من جهة أخرى عضلات العنق والعمود الفقري والأطراف التي تنبسط بطريقة جبرية، ويلاحظ أيضًا انقباض الجفون على العينين وضغطهما لها، وقد يزيد الشخص من شدة الضغط بفرك عينيه، أما الحاسية التي تثيرها هذه الحركات فهي الحاسية المفصلية المركَّزة في المفاصل، وقد ينجم عن التغيرات التي تطرأ على الحاسية المفصلية إما تنشيط عمل يوشك أن يتلاشى، وإما تصريف إحساسات مكدرة ناشئة عن ضيق أو عن تركيز الانتباه.
تكون الحاسية المفصلية لدى الرضيع مبهمة منعكسة خاضعة لحاسيات أخرى، غير أن الطفل سيتخذ فيما بعد هذه الحاسية موضوعًا لنشاطه ووسيلة لجلب اللذة كما في بعض الألعاب، وسبق أن رأينا عندما تكلمنا عن الإحساسات الاتزانية والدوار أن بعض الألعاب والرقصات ترمي إلى تنشيطها، كذلك توجد رقصات مثل الرقصة الكمبودجية في الهند الصينية وفي السيام تحرك فيها الراقصة جميع أجزاء جسمها وذراعيها فتنشأ مثلًا التموُّجات من الجذع، ثم تتعاقب على العضُد والمرفق والساعد واليد حتى أطراف الأصابع مجتازة جميع المفاصل برشاقة ولين.
هناك مظاهر مرضية تحاكي بطريقة جليَّة هذه الألعاب الفنية كالرقصات الاتزانية أو الرقصات التفكُّكية، وهذه المظاهر تشاهَد في سلوك بعض البُلْه والمعتوهين، ومن الأشياء التي تسترعي انتباه الشخص الذي يزور لأول مرة ملجأ للمجانين منظر هؤلاء البُلْه وهم جالسون القرفصاء على الأرض يدقون برءوسهم الحائط حتى يُحدِثون حفرة بتأثير هذا الدقِّ، وهم يرمون بهذه الحركة إلى استثارة إحساسات الأذن الباطنة لتحقيق نوع من الدوار يستمتعون به، ويوجد أيضًا مرض يسميه أطباء العرب برقص الشق أو القُناع، ومن خواصه حركات مستمرة متموِّجة في أصابع اليدين والقدمين يحدث غالبًا في الأطفال، والأمر الذي يهمنا معرفته هنا هو علة هذه الاضطرابات المرضية، فالمعلومات التي يمدنا بها علم التشريح الباتولوجي تنص على أن علة هذه الأمراض ترجع إلى إصابات عصبية في الدماغ تفصل بين اللحاء وبين الأجسام الموجودة تحته أي منطقة الثلاموس والجسم المخطط، فتحرر هذه الإصابة تلك المنطقة من سيطرة المراكز العليا، ونتيجة هذا التحرير هي تلك الحركات الاختلاجية المنعكسة، وإذا تذكرنا أن مثل هذه الحركات تظهر لدى المولود والرضيع حتى نضوج المراكز الدماغية العليا يتحتَّم علينا إذن أن نسلِّم — كما سبق أن أشرنا — بأن الحياة الوجدانية تسبق في ظهورها الحياة الإدراكية الموجهة نحو عالم العلاقات الخارجية، وأن علة هذه الأسبقية راجعة إلى تخلُّف المراكز اللحائية عن المراكز تحت اللحائية في عملية النضج، أي راجعة إلى عوامل فسيولوجية بحتة.
هناك نتيجة أخرى لا تقل أهمية عن النتيجة الأولى، وهي أن الاضطرابات الوجدانية والانفعال القوية العنيفة هي عبارة عن تراجع أو تقهقر إلى مرحلة دنيا من مراحل التكوين والترقي، غير أن للانفعالات المعتدلة أو بعبارة أخرى للعواطف وظيفة سيكولوجية هامة لها أثر كبير في تنشيط في السلوك وتوجيهه.