الفصل الرابع

الأسس النفسية للتكامل الاجتماعي

كل عصر من العصور يمتاز في تفكيره بطابع خاص، ويتجه اتجاهًا بارزًا تصطبغ بصبغته الاتجاهات الأخرى التي تكوِّن في مجموعها الثقافة السائدة في وقتٍ من الأوقات، ولا بد من أن ننظر إلى عصرنا هذا نظرة شاملة واسعة؛ لكي نكشف عما يتميَّز به من طابع قوي أصيل، فإذا استعرضنا مختلف نواحي النشاط الإنساني فإن أول ظاهرة تسترعي انتباهنا هي — بدون شك — اضمحلال الفن الخالص وفقر الإنتاج الأدبي كأن مَعِين الوحي قد جفَّت مياهه، أو — وهو الأصح — كأن قلب الفنان أو الأديب قد فقد القدرة على تلقي الوحي من ينبوعه قبل أن يُشوه ويكتنفه الظلام، وإذا كان الفن أو الأدب أمسى في المرتبة الثانية، هل معنى هذا أن الصدارة أصبحت للعلم؟ وأقصد هنا بالعلم معناه الاصطلاحي، أي العلوم الطبيعية خاصة، تلك العلوم التي جنَّدت في سبيل تقدُّمها آلاف الباحثين في معامل الفيزياء والكيمياء، يجب أن نتريَّث قليلًا قبل الإجابة عن هذا السؤال، إن النتائج التي وصل إليها العلم باهرة حقًّا، والإنسانية في مجموعها لا تزال كالطفل الذي يتوق إلى كل ما يثير في نفسه الدهشة والتعظيم، هل يجوز لأحد أن يشك في سيطرة العلم على مدنيتنا الحاضرة وقد غمرتنا من كل صوب ثمار التفكير العلمي فقهرنا الزمن أو كدنا، وسخَّرنا المكان وحطَّمنا حدوده، ثم نفذنا إلى مكمن الطاقة فحررناها من قيودها وأطلقناها من حصنها المنيع بتحطيم الذرة وتغيير بنائها؟ كل هذا صحيح، ولكن يبدو أن صيحة الفرح التي استقبلت انتصار العلم على الطبيعة المادية قد ازدادت عنفًا وقوةً حتى تحولت إلى تشنُّجات أشبه ما تكون بصرخة الرعب والفزع، وعلى هذه الصرخة التي غمرت أصداؤها أنحاء الأرض وأرجاء السماء أفاق العلماء من عزلتهم، ولأول مرة في تاريخ الفكر تساءلوا عن قيمة اكتشافاتهم من الوجهة الإنسانية، وحاولوا أن يزِنوها بغير ميزان المعرفة البحتة، إنه لأمر عجيب حقًّا أن نسمع عن عالم يتردد قبل نشر بحوثه متسائلًا عما عساه أن تؤدي إليه هذه البحوث من سعادة أو تعاسة لإخوانه من بني البشر، إن هذا الأمر الأخير الدليل القاطع على أن العلم البحت لم تعد له الصدارة في تقدير الناس له، وكذلك أخذ الناس يشكون في قيمة التطبيقات القائمة على العلم البحت عندما ينظرون إلى البون الشاسع الذي يفصل بين ما كان يُرْجَى من هذه التطبيقات وبين ما حقَّقته فعلًا من طمأنينة وراحة وسعادة، كأن تطبيقات العلم تجاوزت أغراضها فأصبحت حِمْلًا ثقيلًا فاستعبدت الإنسان بدلًا من أن تمنحه الحرية التي كانت تعِده بها.

أعتقد أنني لا أقول بدعة إذا قررت أن العلم أيضًا في وقتنا هذا فَقَدَ مركز الصدارة؛ ليفسح المجال لاهتمام آخر أخذ يزداد ويبرز بشيء من العنف والإصرار، وهذا الاهتمام المسيطر الآن على العقول ينحصر في نقطة مركزية واحدة هي المشكلة الاجتماعية، ومن المعلوم أن الشعور بخطورة مشكلة من المشاكل لا يزداد إلا بقدر ازدياد تعقُّد هذه المشكلة واضطراب نواحيها، وفي الوقت الحاضر — في الأقطار التي عانت ولا تزال تعاني من آثار الحرب الأخيرة — لا شك في أن المشكلات الاجتماعية وصلت إلى أقصى درجة من العنف والاضطراب كأن الإنسانية أصبحت في مأزق يتعذَّر الخروج منه، ليست الحرب في مختلف مظاهرها: حرب الأسلحة، أو حرب الأعصاب، أو حرب الكلام، ليست الحرب سوى عَرَض من أعراض الأمراض الاجتماعية التي تشكو منها الإنسانية، وفي ضوء هذا الاهتمام الوحيد أخذ الفنان والأديب، كما أخذ العالم، يعيد كل منهم النظر في طبيعة رسالته وأغراض مجهوده، متسائلًا عن وظيفة الفن أو الأدب أو العلم لا من الناحية البحتة المستقلة، بل من الناحية الاجتماعية ومن حيث ارتباط آثار الفن والأدب والعلم بالحياة الاجتماعية كنظام موحَّد لا يتجزَّأ؛ وذلك لأن الإنسان الذي يتوق إلى تحقيق إنسانيته كاملة لا يمكن أن يحيا حياة منسجمة متكاملة إلا من حيث هو نظام موحد لا يتجزَّأ.

•••

تلك هي الاعتبارات التي كانت تجول في خاطري عندما طُلب مني أن أعيِّن موضوعًا لمحاضرة هذا المساء، وقد دهشت في بادئ الأمر عندما اتجه ذهني نحو الموضوعات الاجتماعية، وها هي موضوعات علم النفس على اختلاف أنواعها تقدِّم لي مادة غزيرة للعرض والتحدث، ولكن هذه الدهشة لم تدُمْ طويلًا، إذ من السهل أن يتبيِّن المرء أنه قلَّما يوجد موضوع في علم النفس لا ينتهي فيه الباحث إلى اعتبارات اجتماعية، بل يقف فيه الباحث على الدور الكبير الذي تقوم به العوامل الاجتماعية في أثناء تكوين الوظائف السيكولوجية ونموها، كما أنه قلَّما يوجد موضوع في العلوم الاجتماعية لا يؤدي بالباحث إلى كشف جذوره السيكولوجية، وليس مما يدعو الآن إلى ذكر عشرات المؤلفات الحديثة التي تعرض للصلات الوثيقة التي تربط بين علم النفس وسائر العلوم الاجتماعية، وحسبي أن أذكر هنا أن المنهج التكاملي الذي أخذ به أعضاء جماعة علم النفس التكاملي في مصر يضع — كأساس أوَّلي لدراسة طبيعة الإنسان — عدم الفصل بين النواحي البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية، وبما أنه توجد أوجه شبه عديدة بين الكائن الحي والمجتمع فلا بد أن يوجد هناك مجال لتطبيق معنى التكامل في الحياة الاجتماعية كما هو يطبَّق في المجالين: البيولوجي والسيكولوجي، ولكن مع مراعاة الخصائص التي يمتاز بها النظام الاجتماعي دون غيره من الأنظمة الحية والنفسية، فالتكامل الاجتماعي إذن هو موضوع هذا الحديث، ولكن أريد أن أصرِّح في بادئ الأمر أنني سأقتصر على تعريف التكامل الاجتماعي وبيان بعض شروط تحقيقه بصورة تخطيطية عامة، مقتصرًا على أهم الشروط السيكولوجية، فإن في مثل هذا الموضوع المعقَّد يجب أن نضمن أولًا متانة الأساس الذي ستقام عليه نظرية النظام الاجتماعي، وبما أن الحياة النفسية لا يمكن أن تدرك في حقيقتها إلا بالاستناد إلى معرفة الطبيعة الإنسانية من الوجهة البيولوجية، فكذلك لا يمكن فهم الحياة الاجتماعية إلا في ضوء معرفة العوامل النفسية التي تعين مظاهرها الأساسية.

يجدر بنا في بادئ الأمر أن نحدِّد بقدر الإمكان مفهوم الألفاظ التي سيدور عليها البحث، وأن نعرف: (١) التكامل. (٢) الاجتماعي. (٣) السيكولوجي:
  • (١)

    التكامل: لا يمكن التحدث عن التكامل إلا في مجال الكائن الحي أو ما هو شبيه بالحي، أي بصدد نظام يقوم على تنسيق مقوِّمات جزئية أو على تآزر أعضاء لتأدية مجموعة من الأفعال ترمي إلى حفظ هذا النظام وتنميته وفقًا لنموذج معين، فمعنى التكامل يتضمن معاني مختلفة منها الأجزاء ثم الصلة بين الأجزاء، ثم الصلة المنظمة بين الأجزاء، ثم التنظيم الديناميكي، وأخيرًا تأدية وظائف وفقًا لنموذج معين، وأعتقد أن النقطة الأخيرة (وهي تأدية وظائف وتحقيق غرض) هي النقطة الأساسية التي تميز التكامل عن سواه من أنواع التنظيم، وستختلف أنواع التكامل باختلاف المقومات التي تتكامل داخل النظام الكلي فيكون لدينا التكامل البيولوجي والتكامل السيكولوجي والتكامل الاجتماعي.

    يمكننا أن نشر هنا إلى أن أوجه الاختلاف بين عمليات التكامل في هذه المجالات الثلاثة ستنحصر خاصة في طبيعة العوامل التي تحقق التكامل، كما أن محاولة تحديد الغاية التي تؤدي إليها هذه العمليات ستزداد صعوبة كلما ابتعدنا عن القطب البيولوجي واقتربنا من القطب الاجتماعي.

  • (٢)

    ما هو المقصود بالاجتماعي؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن نذكر أولًا أن طبيعة الصلة التي تربط بين أفراد جماعة هي التي تعيِّن طبيعة الجماعة نفسها، فقد تتفاوت الصلات في قوتها كما تتفاوت في بقائها واستمرارها، فهناك جماعات مؤقتة عابرة ضعيفة التنظيم، لا تترك استجابات أفرادها بعضهم لبعض آثارًا عميقة، جماعات تتكوَّن بسرعة وتنحل بسرعة؛ وذلك لاضمحلال الغرض الذي ترمي إليه وتلاشيه بعد فترة من الوقت، وعلى العكس من ذلك توجد جماعات قوية التنظيم تقاوم عوامل التشتيت والانحلال؛ وذلك لتعدد الصلات التي تربط بين أفرادها وتنظيمها حول غرض واضح أصيل ينبعث من جوانب الجماعة ذاتها غير مفروض عليها من الخارج، وفي مختلف هذه الجماعات مهما اختلفت درجة تماسكها وبقائها، فإن العامل المشترك بينها هو اتصال أشخاص بعضهم ببعض وتبادل التأثير بينهم؛ وعلى ذلك يمكن تعريف علم الاجتماع: دراسة العمليات والوسائل التي بواسطتها تتصل الأشخاص والجماعات بعضها ببعض، ولا يهتم علم الاجتماع بالأشخاص من حيث هم أفراد أو كائنات حية، بل من حيث هم كائنات بشرية تشترك في تجارب وخبرات واحدة، وتكتسب عادات الجماعة أو الجماعات المختلفة التي قد تنتمي إليها إما بصورة مستديمة أو بصورة متقطِّعة، وبقدر اندماج الشخص في جماعة ما وتعاونه مع الآخرين في تحقيق غرض الجماعة تتعيَّن درجة التكامل الذي يحققه هذا الشخص مع سائر شركائه، وسوف نرى أن هناك صورًا متنوعة للتكامل الاجتماعي ترجع إلى أن في اختيار الشخص إلى حد بعيد الاندماج في مجتمع أو الانفصال عنه، ولكن مع تعدد هذه الصور يوجد لها أساس واحد مشترك يرجع إلى قدرة الشخص على التكامل إطلاقًا، وهذا الأساس هو في صميمه أساس نفسي يتوقَّف في نهاية الأمر على مدى تكامل شخصية كل شخص من الوجهة السيكولوجية.

  • (٣)

    ما هو المقصود بالسيكولوجي؟ يلاحظ أننا تدرَّجنا من الاجتماعي إلى السيكولوجي، وعندما نتجه هذا الاتجاه نرى تعريف السيكولوجي أو تحديده أكثر صعوبة من لو أننا صعدنا من البيولوجي إلى السيكولوجي، ففي هذه الحالة الأخيرة يكون التمييز سهلًا بين الوظيفة الحية والوظيفة النفسية، فالاستجابة الحية هي دائمًا استجابة لمنبِّه من حيث هو عامل فيزيائي أو كيميائي، في حين تكون الاستجابة النفسية لمنبه ما من حيث هو رمز أو دلالة، أو بعبارة أخرى عندما تشمل الاستجابة عنصر التعلم والاكتساب، ولهذه النظرة نتائج عامة منها أنها تضع مشكلة الصلة بين الفطري والمكتسب وضعًا جديدًا، فالسيكولوجي يبدأ عندما تتدخل عوامل التعلم، وهذا ينطبق بوضوح على العمليات العقلية التي نسميها عادةً بالعليا — مع العلم بأن القدرة على التعلم أمر فطري غير مكتسب — كما أنه ينطبق على أشد الوظائف صلة بالتركيب الفسيولوجي وأقصد بالذات الانفعال، فالانفعال من حيث هو عملية نفسية أمر مكتسب، أي من حيث هو أداة تعبير وتأثير في البيئة الخارجية، ولهذه النقطة أهمية كبرى لفهم الأثر البليغ الذي تقوم به العوامل الانفعالية في تكامل الشخصية.

    فالاستجابة للرمز أو الدلالة هي إذن ما يميز السيكولوجي عن البيولوجي، أما إذا أردنا إقامة التمييز بين السيكولوجي والاجتماعي فالأمر عسير جدًّا؛ لأن كل استجابة اجتماعية هي استجابة موجَّهة نحو شخص أو نحو مجموعة من الأشخاص، فهي في صميمها استجابة سيكولوجية، ومن جهة أخرى فإن عوامل التعلم التي تؤدي الدور الرئيسي في النمو السيكولوجي قلَّما تكون منفصلة أو مستقلة عن العامل الاجتماعي، فالنمو النفسي لا يمكن أن يتمَّ إلا في كَنَف المجتمع، ولا يمكن أن يتم تنظيم الدوافع الفطرية وتعديلها وتهذيبها إلا بتأثير العوامل الاجتماعية، فالنمو النفسي إذا نظرنا إليه من الخارج هو عملية تكوين الذات الاجتماعية في الطفل والمراهق، وبالتالي نمو قدرته على التوافق الاجتماعي وهذا هو موضوع علم النفس الاجتماعي، أما في نظر علم النفس العام فدراسة النمو النفسي قاصرة على معرفة كيفية تنشيط الوظائف النفسية وكيفية عملها، سواء كانت المنبهات عوامل اجتماعية كالأشخاص والجماعات أو مجرد أشياء غير مشخصة، فعلم النفس العام أكثر تجريدًا من علم النفس الاجتماعي، ولكنه يستند في محاولته سَن قوانين عامة إلى الدراسات التي يقدمها لنا علم النفس الاجتماعي، والواقع إذا تصفَّحنا كتابًا في علم النفس العام فإننا نجد أن الدراسات التي تتناول موضوعات الانفعال والعاطفة والتعلم واكتساب اللغة والتفكير والإرادة والشخصية هي في صميمها دراسات نفسية اجتماعية، أما الموضوعات الأخرى كالإحساسات والإدراك فإنها أقرب إلى علم النفس الفسيولوجي منها إلى علم النفس العام، فإن السيكولوجي البحت ينحصر في دراسة القدرات التي تعيِّن الطبيعة البشرية في جوهرها، أما عندما تأخذ هذه القدرات بالتنشيط فإننا نرى العوامل الفسيولوجية من جهة والعوامل الاجتماعية من جهة أخرى تقتحم الميدان؛ لتسمح لهذه القدرات بأن تعمل وبأن تعبِّر عن نفسها.

نخلص من كل ما سبق إلى أن الأسس السيكولوجية للتكامل الاجتماعي لا بد أن تبحث أولًا في دائرة القدرات الطبيعية أو الميول أو النزعات الفطرية، وهذا ما سنبيِّنه بعد أن نزيد موضوع التكامل توضيحًا وتفصيلًا.

لا شك في أن الكائن الحي يكوِّن نظامًا متكاملًا، أي أنه وحدة أو نظام يعمل بكليته بحيث يتحقق الانسجام بين جميع أعضائه، فكل وظيفة خاضعة في عملها لنظام الكل ترمي إلى الاحتفاظ بتوازنه، كما أن مجموعة الوظائف تعمل متعاونة لتحقيق هذا التوازن.

وبما أن الكائن الحي هو عبارة عن بيئة داخلية متصلة عن طريق أعضاء الحس ببيئة خارجية فسيكون لترابط الوظائف وتماسكها — أو بعبارة أخرى لتكاملها — وجهان: وجه داخلي خاص بالبيئة الداخلية الكيميائية، ووجه خارجي خاص بتكييف الكائن الحي مع البيئة الخارجية. ولتكامل الكائن الحي عاملان: أولهما الجهاز الدوري المتشعب في جميع أنحاء الجسم، وما ينصب في الدورة الدموية من إفرازات الغدد الصم، أما العامل الثاني وهو الذي يحقق تكيُّف الكائن الحي مع الخارج فهو الجهاز العصبي الدماغي الشوكي الذي يصل بين التنبيهات الحسية والاستجابات الحركية التي تقوم بها العضلات المخططة، وهناك عامل ثالث يصل بين الجهاز الدوري والجهاز العصبي الحسي الحركي هو الجهاز السمبتاوي الذي يُشرف على النمو وعلى الحساسية الحشوية.

فعندما تعمل هذه العوامل بنظام وانسجام محقِّقة من جهة ثبات البيئة الداخلية، ومن جهة أخرى التكيف الخارجي بتثبيت المنبهات الخارجية بقدر الإمكان وما تثيره من استجابات يقال عن الكائن الحي: إنه في حالة تكامل وإن نشاطه متكامل، أما عدم التكامل — أو بعبارة أخرى التفكك — فإنه يحدث عندما تتحرر وظيفة من الوظائف من النظام الكلي وتعمل منحرفة، أو بأن يقلَّ نشاطها أو يزيد، أو بأن تعمل مستقلة مسيطرة كما في حالة تكاثر الخلايا السرطانية، أما التكامل السيكولوجي فيمكن تعريفه بأنه تنظيم الدوافع والعادات والأفكار والسمات الخلقية وسائر مقوِّمات الشخصية، بحيث تكوِّن وحدة ديناميكية متماسكة الجوانب مركَّزة بقدر الإمكان حول الذات الشاعرة، والمقصود هنا بالديناميكي أن هذا النظام الموحد لا يمكن الوقوف عليه وتحديده إلا عن طريق أساليب الاستجابات الصادرة عنه، وإذا أردنا أن نبحث عن العامل الرئيسي للتكامل السيكولوجي فلا بد أن يكون عامل ثبات وترابط كما هو شأن عوامل التكامل البيولوجي التي تحقق ثبات البيئة الداخلية وثبات الاستجابات الخارجية في دائرة لا يمكن تجاوُزها، وإلا أدى التفاوت الكبير بين تغير البيئة الخارجية وقدرات الكائن الحي البيولوجية إلى الهلاك.

وعامل الثبات والترابط الذي يحقق توحيد مقومات الشخصية هو — بلا نزاع — الذاكرة أو القدرة على تركيز خبرات الشخص في الذات الشاعرة وربط هذه الخبرات في الزمان.

وبما أن الإنسان لا يعيش في لحظته الحاضرة بل تكون كل خبرة راهنة بمثابة امتداد للماضي وإعداد للمستقبل، فالشخصية المتكاملة أو بعبارة أصح الساعية نحو التكامل — إذ إن التكامل توازن يجب أن يتحقق في كل لحظة — هي التي تنتظم فيها ما هو عليه الإنسان في لحظة ما وما سيكون عليه في المستقبل القريب أو البعيد.

وأريد أن ألحَّ على أن الشخصية المتكاملة أمر مثالي، وأن ما نشاهده هو السعي نحو تحقيق التكامل، أي السعي نحو تحقيق هذا التوازن غير الثابت الذي لا يثبت إلا بقدر ما يقاوم كل ما يهدده من عوامل الانحراف والتفكك والانحلال، هذا ما يشير إليه المنهج التكاملي عندما يقرر أن كل نمو أو كل تقدُّم لا يتم إلا بفضل كذا … وعلى الرغم منه كأن نقول مثلًا: إن الجديد لا يتم إلا بفضل القديم وعلى الرغم منه، أو أن الصحة لا تتم إلا بفضل المرض وعلى الرغم منه.

ربما يكون هذا الأمر أوضح في المجال البيولوجي عنه في المجال السيكولوجي، ولكن مما لا شك فيه أن معنى الصراع أو معنى اشتراك المتقابلين في سلوك ما من المعاني الأساسية التي تسمح لنا بكشف اللثام عن أسرار الحياة في مظهريها: البيولوجي والسيكولوجي.

وقبل أن نبحث عن عامل التكامل الاجتماعي أريد أن أشير هنا إلى الخصائص العامة التي يتصف بها السلوك المتكامل كما سبق أن وضحنا، فالخاصة الأولى هي أن كل سلوك في جميع الكائنات الحية هو سلوك وظيفي، أي أنه يرمي إلى إزالة التنبيه أو إلى خفض التوتر الذي أثار السلوك، والخاصية الثانية هي أن كل سلوك يتضمن صراعًا أو اشتراك النقيضين، وبحوث مدرسة التحليل النفسي قد ألقت ضوءًا جديدًا على الدوافع اللاشعورية أو المكبوتة ليس الآن مجال توضيحها.

أما الخاصية الثالثة فهي أن السلوك لا يمكن فهمه على حقيقته إلا إذا ربطنا بينه وبين المجال الذي يحدث فيه، وغنيٌّ عن القول: إن مدرسة الجشطلت أبرزت بوضوح أهمية المجال أو الإطار لفهم أي مظهر من مظاهر السلوك، ومعنى المجال شبيه بمعنى البيئة، غير أنه يشير خاصة إلى كيفية تنظيم هذه البيئة وأثر هذا التنظيم في السلوك.

أما الخاصية الرابعة فهي نتيجة الخصائص الثلاث التي ذكرنا، وهي أن الكائن الحي ينزع على الدوام إلى المحافظة على أقصى درجة من التماسك الداخلي أو من التكامل، وهذا يذكرنا بقول الفيلسوف سبينوزا عندما يقرِّر أن كل كائن ينزع إلى الاستمرار في كينونته أو إلى المحافظة على كيانه.

جميع هذه الخصائص تزداد وضوحًا إذا انتقلنا إلى النظر في التكامل الاجتماعي، فالشخص في المجتمع يؤدي مجموعة من الوظائف وهو لا ينفك يواجه ألوانًا من الصراع بين نزعاته الشخصية وما يفرضه المجتمع من أوضاع ومعايير، ثم إن السلوك الاجتماعي يحدث بحكم الواقع في مجال اجتماعي، بل ينتقل من مجال إلى مجال، وقد تضيق المجالات أو تتسع أو تتغير خصائصها بحيث يضطر الشخص على الدوام إلى بذل المجهود لتحقيق التوافق الذي سيصون كيانه الفردي والاجتماعي، وأخيرًا كل شخص في مجتمع ينزع بطبعه — إن لم يكن منحرفًا — إلى توثيق العرى بينه وبين الأشخاص الآخرين على أساس من التفاهم والانسجام.

وما ذكرنا الآن عن التفاهم والانسجام يمهِّد لنا السبيل إلى كشف عامل الثبات الذي يحقق التكامل الاجتماعي، وهذا العامل هو — بدون شك — اللغة، اللغة ذات المفاهيم الثابتة إلى حد كبير والتي تقوم بين المتكلمين بها بالدور عينه الذي تقوم به العملة في المعاملات التجارية.

ولكن لا تؤدي العملة وظيفتها إلا إذا كانت سليمة غير مزيَّفة، ولكن شتَّان ما بين عملة الورق والفضة وعملة الكلام، وما أكثر التزييف الذي يصيب ألفاظ اللغة في حديثنا اليومي، ربما تذكرون الآن حديث لقمان الحكيم عندما قرر أن اللسان هو أحسن شيء وأسوأ شيء، قد يساهم في الخير أو ينشر الفساد، الواقع أن التكامل الاجتماعي أمر أصعب تحقيقًا من التكاملين البيولوجي والسيكولوجي، وإن كانت القدرة على التعبير بوجه عام من خصائص الإنسان فإن التعبير اللغوي وظيفة مكتسبة، فهي خاضعة في تكوينها لظروف اكتسابها، ثم ككل أمر مكتسب هي قابلة لكي تصبح آلية فضلًا عن كونها أداة للتصنُّع والادعاء والكذب، ولكن لا تزال اللغة في الظاهر العامل الاجتماعي للتكامل الاجتماعي، ولا بد أن يتمَّ هذا التكامل بفضل اللغة وعلى الرغم منها، ولكنه عامل ناقص؛ ولهذا السبب أشرت في بدء هذه المحاضرة إلى أنِّي سأتحدث عن الأسس النفسية للتكامل الاجتماعي، يجب إذن أن نبحث فيما وراء الألفاظ، وأن ننفذ إلى الدوافع الدفينة التي تحرِّك سلوك الشخص لكي نقف على الشروط التي يجب أن تخضع لها اللغة لكي تصبح الوسيلة الناجحة لتحقيق التكامل الاجتماعي، فدراسة هذا الموضوع تعود بنا إلى تحليل الدافع الفطري الرئيسي أو الدوافع الفطرية التي تقوم على أساسها الحياة الاجتماعية، ودراسة الظروف التي تؤثر شتى التأثيرات في تنشيط هذه الدوافع وتوجيهها وتعديلها.

لسنا في حاجة إلى عناء كثير لكي نتبين المشقة التي يعانيها الباحث عندما يريد تحديد ما يجب أن يكون عليه التكامل في المجالات الاجتماعية المختلفة التي ينتمي إليها الشخص كمجال الأسرة ومجال المدرسة ومجال المهنة ومجال الحب الجنسي … إلخ، فقد يحقق الشخص شيئًا من التكامل في أحد المجالات دون غيره أو على حساب مجال آخر، فقد يكون التكامل سطحيًّا لا يتطلب مجهودًا كبيرًا كما في حالة وجود الشخص في جماعة غير مستديمة، وقد يكون عميقًا يقتضي مساهمة إيجابية متواصلة في تحقيق أغراض الجماعة وتذليل العقبات التي تحول دون التفاهم والانسجام، وهذا النوع هو الذي ينطبق عليه معنى التكامل الجدير بهذه التسمية.

وقد درس بعض علماء النفس استجابات الأطفال بعضهم لبعض في مواقف اجتماعية مختلفة كالدراسة أو اللعب أو القيام بمشروع مشترك، فوصلوا إلى التمييز بين ضربين متقابلين من السلوك: أحدهما هو السلوك المتكامل، والثاني السلوك المسيطر، وقد عرَّف أندرسن هذين النوعين من السلوك بما يأتي:

إن السلوك المتكامل هو ظاهرة من ظواهر النمو يستجيب الفرد بمقتضاه إلى الفوارق والاختلافات القائمة بين الأشخاص الآخرين. الشخص المتكامل هو الذين يلين للآخر ويكشف غرضًا مشتركًا خلال الاختلافات القائمة باذلًا مجهوده بالاتفاق مع غيره، أي أن ما يقوم بينه وبين الآخرين من اختلاف يؤدي به — بالتعاون مع الآخرين — إلى تعديل الوسائل والأغراض، فالسلوك المتكامل يمتاز بالتلقائية والمرونة والديناميكية والتغير.

أما السلوك المسيطر فهو طريقة في الاستجابة للآخرين بمقاومة الاختلافات والتغير والنمو، فالشخص المسيطر شخص صارم متشبِّث لا يلين، فلا يحاول خفض التوتر الناشئ عن الاختلافات بالبحث عن غرض مشترك خلال هذه الاختلافات، بل على العكس من ذلك يزيد الصراع عنفًا والتوتر شدة بينه وبين معارضيه، فهو يبذل مجهوده ضد الآخرين، سالكًا مسلك المقاومة على الدوام غير عابئ برغبات الآخرين، فهو يلجأ إلى الأمر والنهي تارةً، أو إلى التهديد تارةً أخرى؛ ليصل إلى أغراضه التي لا تَقْبَل في نظره أي تعديل أو تغيير، فهو يهاجم موقف الآخرين وأوضاعهم مهدِّدًا إياهم في سلامتهم وطمأنينتهم.

والسيطرة لا تمتاز بالتلقائية والحرية الحقة، وهي لا تقبل أن تلين كما أنها تحول دون النمو والتقدم، وغرضها الرئيسي صيانة ذات المسيطر فهي تعبير عن الخوف الذي يسود المسيطر مما يهدده من تغيير فجائي يتوقع حدوثه اللحظة بعد الأخرى، أو بعبارة وجيزة سلوك المسيطر هو سلوك شخص فَقَد الشعور بالأمان والطمأنينة.

يمكن أن نستنتج من هذه الفقرة الأخيرة التي تشير إلى أثر الخوف وعدم الأمان أن السلوك المسيطر قريب من السلوك العصابي كما في حالات الحصر النفسي والمخاوف المرضية والأفكار المتسلطة والحُواز والاندفاعات القهرية، والواقع أنه لا يوجد عصاب يخلو من عنصر الخوف على مختلف أشكاله: الخوف من فقدان حب الآخرين وتقديرهم، الخوف من الاحتقار والعجز، الخوف من العقاب المصاحب للشعور بالإثم والإدانة، ومن المعلوم أن سلوك العصابيين يمتاز بالأنانية الفائقة وبالاندفاع إلى الاعتداء، أو على الأقل الشعور المرضي بهذا الاندفاع إلى إيذاء الآخرين، أو إيذاء النفس لمعاقبتها على ما اقترفته من ذنوب سواء كانت هذه الذنوب واقعية أو من نسيج خيال المريض أو مما كان يتوهمه أثناء الطفولة، لا شك في أن هناك درجات متفاوتة من السلوك المسيطر أو السلوك الاعتدائي، ولكن لا يقتصر عدم التكامل على صورة الاعتداء على الآخرين، فقد يتخذ أحيانًا — في الظاهر على الأقل — صورة النكوص والتقهقر والانطواء على النفس مما يؤدي إلى حالات شبيهة بالحالات الفصامية أو الحالات السوداوية الاكتئابية، ففي مثل هذه الحالات يرفض الشخص الاشتراك مع الآخرين، فينفصل عن الجماعة ويرتمي في أحضان التأملات الذاتية والاجترارات الذهنية مستسلمًا لأخيلة مرعبة مهولة، ولكن حتى في هذه الحالات التي تبدو سلبية لا ينعدم فيها عنصر الاعتداء، إذ إنه يكون موجَّهًا نحو الشخص ذاته، وقد يتخذ هذا الاعتداء ألوانًا مختلفة كإيذاء الشخص نفسه، أو الامتناع عن الأكل أو الانتحار، وفي هذه الحالات يصل التفكك أو عدم التكامل إلى أقصى درجاته.

إذا كانت السيطرة التي وصفناها بعدم التكامل تنطوي دائمًا على الاعتداء كرد فعل لحالة الخوف والقلق التي يكون عليها المسيطر فلا بد أن يكون السلوك الذي يقابل السيطرة، وهو السلوك المتكامل القائم على التعاون والتفاهم والإيثار منطويًا على ما يقابل العدوان، أي على الحب والتعاطف والمشاركة الوجدانية.

فقد وصلنا الآن إلى حصر مشكلة التكامل الاجتماعي في دائرتها السيكولوجية البحتة، وذلك بتعيين الدوافع النفسية العميقة التي تحرِّك السلوك في مختلف المواقف الاجتماعية من تكامل وسيطرة ونكوص، أو كنشوب الحروب إذا نظرنا إلى مسلك الشعوب إزاء بعضها بعضًا، وبصدد هذه الدوافع النفسية العميقة تثار من حين إلى آخر مشكلة قديمة لا زالت تتجدَّد وتقفز إلى المرتبة الأولى في تأملات علماء النفس والاجتماع كلما ظهرت نظرية جديدة تحاول تحديد الدوافع الفطرية التي تحرك السلوك والتي تقام عليها الأساليب السلوكية المكتسبة، وهذه المشكلة هي فطرية بعض الدوافع دون غيرها — أو بعبارة أقرب إلى فهم غير المتخصصين — هي مشكلة الغرائز، وأول نظرية حديثة يتجه إليها الفكر من النظريات التي لا تزال حية نظرية فرويد في التحليل النفسي، وما أدت إليه من محاولات في تحديد طبيعة المجتمع وبيان الأساس النفسي الذي يقوم عليه، عالج فرويد هذا الموضوع في كتابين حديثَين ظهرَا في الطبعة الإنجليزية سنة ١٩٢٨م و١٩٢٩م، وعنوان الأول: مستقبل خدَّاع The future of an illusion، وعنوان الثاني: المدنية وما تنطوي عليه من عدم الرضا Civilization and its Discontents، وقبل أن نعرض لرأي فرويد في طبيعة المجتمع يجب أن نذكر أن التحليل النفسي بدأ كوسيلة لعلاج الأمراض النفسية، وأن النظرية الفرويدية في اللاشعور والعقد أقيمت على تحليل المرضى، ثم عمم فرويد اكتشافاته وتأويلاته للصراعات التي كان يعانيها مرضاه وطبَّقها على الأسوياء وعلى الإنسانية كلها، وعند هذا أثيرت الاعتراضات وكانت عنيفة جدًّا من قِبَل علماء النفس الأكاديميين، ولكن — مما هو جدير بالذكر — صدرت مثل هذه الاعتراضات من محلِّلين نفسيين كانوا ينتمون إلى مدرسة فرويد — أو لا يزالون — يعملون تحت لواء مدرسته، ومن أهم المعارضين المحللين نذكر سوتي Sutti وكارين هورني K. Horney ورنيرد وست Ranyard West، وسوتي في كتابه «أصل الحب والبغض» (١٩٣٥م)، وكارين هورني في كتابها طرق جديدة في التحليل النفسي (١٩٣٩م)، ووست في كتابيه: الضمير والمجتمع ١٩٤٢م وعلم النفس ونظام العالم ١٩٤٥م، وسأحاول في الجزء الأخير من هذه المحاضرة تلخيص آراء فرويد وآراء معارضيه بعد بيان صلة هذه الآراء بموضوع التكامل الاجتماعي.

إن خلاصة ما ينتهي إليه فرويد في نظرته إلى طبيعة المجتمع أن التكامل الاجتماعي أمر مُحال لا يمكن تحقيقه، وأن الغلبة في نهاية الأمر للسيطرة والاعتداء وهلاك المجتمع بأيدي أفراده، وما يحققه الفرد من توافق ناقص مع الآخرين لا يتمُّ إلا بكبت الميل إلى الاعتداء، وبالاستسلام إلى الخوف والقلق، وإذا تأملنا في النجاح العظيم الذي أصابته نظرية فرويد في الأوساط العلمية وغير العلمية تحتَّم علينا أن نُمْعِن النظر فيما ذهب إليه فرويد في ترجيح كفَّة السيطرة والاعتداء على كفَّة التكامل والتعاون.

يرى فرويد أن الطبيعة الإنسانية مفطورة على العداوة والبغض، وأن دافع الاعتداء أو غريزة الاعتداء أقوى من الغريزة الجنسية وأعمق تأصلًا في طبيعة الإنسان، وقد سمى فرويد هذا الدافع بغريزة الموت والتدمير في مقابل الغريزة الجنسية، ويجب أن نشير هنا إلى أن الغريزة الجنسية بعيدة كل البعد في نظر فرويد عما يمكن تسميته بالغريزة الاجتماعية، ثم إن غريزة الموت أقوى من الغريزة الجنسية والغلبة في نهاية الأمر مكتوبة للأولى.

إن رغبات المرء الصادرة من أعماق نفسه موجَّهة ضد المجتمع وضد شركائه في المجتمع، كل فرد — يقول فرويد — هو في الواقع عدو الثقافة والمدنية، وليس الغرض من منشآت المدنية ومؤسساتها وما تسنُّه من قوانين إلا حماية المدنية ضد الفرد، ويبدو أن المدنية لا يمكن أن تقام إلا على أساس من الضغط والردع وحرمان الغرائز مما قد يرضيها، والمجتمع المتمدن لم يتم إلا عن طريق قيام أقلية تُحْكم استخدام أساليب القمع لمقاومة الأغلبية ولكي تفرض عليها نظامها، ثم يرى أن الجماهير تتصف بالكسل والبلاهة، وأن أساليب الرفق والمحبة لا تُجْدي معها، بل يجب اللجوء دائمًا إلى القوة، ولكن هذه الأقلية المنتخَبَة بدورها تنوء تحت حِمْل ثقيل ناتج عن كبت النزعة إلى الاعتداء فيما بين أفراد هذه الأقلية المنتخبة، ولا يمكنها أن تصل إلى السعادة لما تعانيه من الشعور بالإثم والخطيئة، وبانتشار المدنية في جميع أنحاء العالم يعم الشعور بالإثم جميع الأفراد، وسيأتي يوم تنهار فيه جميع العقبات التي تحول دون انفجار غريزة الموت إلى أقصى درجات العنف فيئول مصير المجتمع كله إلى الهلاك والفناء، والضمير الخلقي الذي قد يكون رادعًا للشهوة الجنسية أو للميل إلى الاعتداء هو بدوره نتيجة الخوف، ويشوبه دائمًا شعور بالإثم والإدانة، وما دامت عوامل تماسك المجتمع تنحصر فيما يفرضه المجتمع من الخارج على الضمير القلق، وما دام الإنسان مجردًا عن أي دافع اجتماعي فطري فلا بد من أن ينتهي الصراع المحتدم بين المجتمع وأفراده بتغلُّب الدافع الفطري الأصيل، وهو الدافع إلى الاعتداء والتدمير، أي بتغلُّب غريزة الموت.

تلك هي النظرة المتشائمة التي ينظر بها فرويد إلى المجتمع والمدنية، فهو لا يؤمن بالحب اللاجنسي وليس الإعلاء في نظره إلا وسيلة لخفض التوتر الناشئ عن إعاقة الغريزة الجنسية أو غريزة الاعتداء، الواقع — يقول فرويد — أن الإنسان ليس مخلوقًا عطوفًا ودودًا نازعًا إلى الحب، يحاول فقط أن يدافع عن نفسه إذا اعتُدِيَ عليه، بل إن في تركيبه الغريزي تتأجَّج رغبات جامحة من العدوان والبغض، ليس الجار في نظره شخصًا قد يكون معاونًا له أو موضوعًا جنسيًّا، بل الفرصة السانحة لكي يُرضي عدوانه، لكي يستغله ولكي يعبث به جنسيًّا بدون رضاه، لكي يسلب قهرًا ما يمتلكه، لكي يهينه ويعذبه ويقضي عليه في آخر الأمر.

ربما يجوز لنا أن نلتمس فيما قاساه فرويد من اضطهاد ما يفسِّر لنا هذا الموقف الذي ينطوي على اليأس والتشاؤم فيما ينتظر الإنسانية، الواقع أن موقف فرويد من المجتمع هو موقف فلسفي أكثر منه علمي، إنه بحث واكتشف وأضاء لنا نواحي عديدة من الطبيعة الإنسانية كانت لا تزال في الظلام، ولكنه ككل صاحب مذهب تجاوَزَ حدود الواقع في تأويلاته، كما عمَّم بدون حذر كافٍ مطبِّقًا بطريقة مطلقة ما كشفه في مرضاه على الإنسانية أجمع.

وهذا الاعتراض الأخير على موقف فرويد له ما يسوِّغه في آراء المحللين الذين عالجوا حالات مرضية نفسية في ضوء نظرية فرويد نفسه، غير أنهم وصلوا إلى نتائج مخالِفة لمؤسس التحليل النفسي فيما يختص بطبيعة الإنسان القصوى، فإننا نرى سوتي مثلًا وهو طبيب محلل نفسي بدأ دراساته في السلوك الاجتماعي منذ أكثر من ثلاثين سنة، وعالج مئات من الحالات في ضوء مبادئ التحليل النفسي، نراه يصل إلى آراء تعارض آراء فرويد فيما يختص بالنظرية الجنسية وبنشأة المدنية، يرى سوتي — على عكس ما يراه فرويد وما ذهب إليه من قبل الفيلسوف هوبس — أن الإنسان اجتماعي بطبعه، وأنه مقصور على البحث عمن يشاركه الحياة والتعلق به، وأنه لا توجد حالة طبيعية يكون فيها الإنسان لا اجتماعيًّا، كما أن كل ما حققته الحياة الاجتماعية من منشآت ونُظُم لم يُكْتَسَب كله بمقاومة هذه الحالة الطبيعية السابقة على الحياة الاجتماعية، وأول مظهر من مظاهر الدافع الاجتماعي — وهو يقوم على أسس بيولوجية — هو تعلُّق الطفل بالأم التي تُرضعه، والدافع القوي الذي يحرك الإنسان منذ الطفولة هو التعلق بالأم والمحافظة عليها، فلا وجود مطلقًا لغريزة أولية تدفع بالمرء إلى الاعتداء والتدمير، فالغضب لدى الطفل ليس تعبيرًا عن العدوان ولا يرمي إلى التدمير بل هو طلب النجدة، هو احتجاج على ما قد يلاقيه الطفل من الإهمال، وإهمال الطفل عندما ينتابه الخوف ويطلب النجدة يُحْدث في نفسه صدمة عميقة.

المحرك الأول لسلوك الطفل هو الحب بأوسع معانيه وأعمقها، الحب المتميز عن الشهوة، الحب الذي هو عطاء وهبة قبل أن يطلب التبادل، وعندما يخشى الطفل الانفصال عن أمه فإن القلق الذي يثيره التهديد بالانفصال ناشئ عن رفض الأم ما يقدِّمه الطفل بقدر ما هو ناتج عن امتناع الأم عن أن تهب طفلها ما ينتظره هو منها، واحتقار الأم لهبات طفلها يولِّد في نفسه الإحساس بأنه رديء غير جدير بالحب، وقد يصل هذا الشعور إلى أقصى درجاته في حالات المرض السوداوي، فحرمان الطفل من تبادل الحب يؤدي إلى القلق والبغض والعدوان، وليس العدوان غريزة أولية كما يعتقد فرويد، بل رد فعل للحرمان، كما أنه الحاجة إلى السلطة والاستعلاء التي يعتبرها أدلر من المقومات الأساسية للطبيعة البشرية ليست سوى رد فعل أيضًا للحرمان، وقد يُعْتَرض على سوتي أن الفرق بينه وبين فرويد أو أدلر ليس بذي أهمية ما دام العدوان والبغض والرغبة في التدمير من مظاهر السلوك الإنساني، ولكن سوتي يرد على هذا الاعتراض قائلًا: إن الفرق وإن كان نظريًّا فإنه يؤدي إلى نتائج عملية هامة تظهر في نوع التربية التي يجب أن نختارها لتنشئة الطفل التنشئة الصالحة، هذا فضلًا عن أن النتيجة التي وصل إليها فرويد بأن البغض والعنف أمران لا يمكن تفاديهما، وفضلًا عما ذهب إليه أدلر في أن الطفل يجب أن يُرْغَمَ على الخضوع للنظام الاجتماعي، كأن الطفل بطبعه شرير وأن تقويمه وتحوُّله إلى جانب الخير لا يمكن أن يتمَّا إلا بتأثير الضغط الخارجي.

فالأم في نظر سوتي تقوم بالدور الأول في تنظيم المجتمع منذ نشأته، والمجتمع الأول هو مجموعة الإخوة والأخوات ملتفَّة حول الأم، لا تضافر الأبناء ضد الأب ومناهضته والقضاء عليه للاستئثار بالأم من الوجهة الجنسية كما يقول فرويد، ويقول سوتي: إن جميع مظاهر النشاط الاجتماعي من فن وعلم ودين ترمي إلى استعادة حب الأم الذي فُقِد بعد الطفولة أو للتعويض عنه، فالحب هو المحرك الأول للحياة، كل ما يتعلق بالطبيعة الإنسانية حول دافع واحد هو الحب، فإنه يرى أن الطبيعة البشرية مزوَّدة بغريزتين أوليتين: الغريزة الاجتماعية وغريزة إثبات الذات، أو كما يسميها أيضًا غريزة الاعتداء، وإن كانت هذه التسمية تعود بنا إلى ما يشبه غريزة الموت عند فرويد، خاصة وأن وست يعتبر غريزة الاعتداء أولية، ولكنه يقرر فوق إثباته للغريزة الاجتماعية أن الصراع الذي يقوم بين الغريزتين ينتهي في أغلب الأحيان بانتصار الغريزة الاجتماعية على غريزة الاعتداء، وذلك لا في الأشخاص الأسوياء فحسب بل أيضًا في المصابين بأمراض نفسية.

يرى وست أن المجتمع في وصفه الحالي قد نجح إلى حد ما في التغلب على أساليب الاعتداء بين الأفراد باستخدام القانون تارة أو القوة تارة أخرى، ولكنه لم ينجح بعد في التغلُّب على أساليب الاعتداء بين الجماعات، ولكن لكي يزداد نجاح المجتمع في القضاء على الاعتداء الفردي لا بد من مواصلة البحث في تفهُّم العلاقات الانفعالية بين غريزة الاعتداء والغريزة الاجتماعية في كل إنسان، وكذلك تحليل الاستجابات التي يثيرها في نفسه هذا الصراع القديم، كما أنه يجب أن نزداد فهمًا لعوامل العدوان في الفرد وشروط ضبطه ومراقبته لكي نقضي على العدوان الجمعي.

يجب إذن أن نعيد النظر في الأسس التي نبني عليها القوانين سواء القوانين القومية أو القوانين الدولية، وذلك في ضوء معرفة أعمق للطبيعة الإنسانية، ولا شك في أن مثل هذه الدراسات ستؤدي إلى نتيجة هامة وهي أن أوجه التقارب والتوحيد أكثر من أوجه الاختلاف والتفريق.

ويجب أن نذكر أن العلاج الوحيد لما تعانيه الإنسانية المريضة هو — كما تقول هورني — مساعدتها على التخلص مما يبعث فيها القلق والخوف لا مساعدتها على تحرير النزعات الاعتدائية، ويمكننا أن نقول في ضوء المنهج التكاملي: إن التكامل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات يجب أن يتمَّ لا على الرغم من الآخرين فحسب بل بفضل الآخرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤