التمويه في ضوء علم الحياة وعلم النفس
إن المشكلات التي يثيرها عقل الإنسان عندما يتأمل في الطبيعة وعندما يفكر في نفسه كثيرة ومتشعبة من المحال حصرها، ولا يكاد الإنسان يَظْفَر بحل مشكلة حتى يثير هذا الحل مشكلات جديدة، فكلما يرتقي سُلَّم المعرفة تتسع أمام عينيه الآفاق، وفي الوقت نفسه يشعر شعورًا غامضًا بما تنطوي عليه هذه الآفاق الجديدة من نواحٍ مجهولة يقف العقل دونها حائرًا مذهولًا، غير أنه من الممكن إرجاع هذه الطائفة الكبيرة من المشكلات العلمية إلى بضعة أسئلة جوهرية لا تزال منذ فجر التفكير الإنساني قائمة كالصخرة الشامخة التي يتحطَّم دونها تفسير وتعليل، ومن هذه الأسئلة التي لا تزال تحيِّر العقل الإنساني أصل الحياة وطبيعتها، فقد قال بعض العلماء في تعريف الحياة: إن الحياة هي الموت، قاصدًا من هذا التعبير المتناقض إلى أن الحياة لا يمكن أن تقوم إلا بالتهام ما يغذِّيها ويبقيها، أو أن كل لحظة تمر ليست سوى خطوة نحو الموت والفناء، ولا شك أننا نبالغ إذا وصفنا هذه النظرة بأنها صادرة عن تشاؤم ويأس، وقال فريق آخر، وهو أقل تشاؤمًا من الفريق الأول: إن الحياة هي مجموعة الوظائف التي تقاوم الموت، أو بعبارة مختصرة: الحياة مكافحة ومقاومة، والواقع أن كلا النظرتين تشيران — إما صريحًا وإما ضمنيًّا — إلى وجود صراع مستمر بين عوامل البقاء وعوامل الفناء، وعلى الرغم مما يُشاهَد أحيانًا من مظاهر التعاون بين الكائنات الحية، فقد عُمِّمت فكرة الكفاح القائم بين العوامل الطبيعية والكائن الحي، وطُبِّقت على الكائنات الحية فيما بينها، وكلنا نذكر العبارة المشهورة التي بنى عليها العالِم دارون نظريته في التطور، وهي تنازُع البقاء وبقاء الأصلح.
الواقع أن الكائن الحي في كفاح مستمر ضد أعداء تهدده من الداخل ومن الخارج، وإذا كان يبدو لنا أنه في حالة تكيُّف تام مع بيئته، أو في حالة توازن ثابت، فإن هذا التكيُّف وهذا التوازن لا يمكن المحافظة عليهما إلا بكفاح مستمر تقوم به أجهزة الجسم المختلفة بطريقة آلية في غالب الأحيان، ولكن عندما يطرأ على البيئة تغير فجائي كبير يهدد كيان الحي بطريقة خطرة يلجأ الكائن الحي في هذه الحالة إلى وسائل جديدة؛ لدفع الخطر أو تجنبه، وبقدر ما أوتي من قدرة على التكيف الجديد يكون حظه في النجاة والمحافظة على بقائه، وتختلف وسائل التكيف باختلاف الظروف، فأحيانًا يتخذ الكائن الحي خطة الهجوم، كما قد يلجأ إلى شتى وسائل الدفاع، وبعض هذه الوسائل جديرة بالذكر لما لها من طرافة، ولما تنطوي عليه من عبرة بالقياس إلى سلوك الإنسان، فإن الاستجابة الدفاعية الأولى هي — بدون شك — الهرب للابتعاد عن مصدر الخطر والاختفاء عن العدو، وقد يقتضي الهرب أحيانًا التخلي عن بعض المزايا لصيانة المزايا الأخرى، وأخصها الحياة نفسها، ومن أطرف ما يشاهَد في سلوك بعض الحيوانات البحرية المفصلية كالسرطان الأمر الآتي: عندما يرى السرطان عدوه الأخطبوط يلوذ بالفرار؛ لكي يختبئ بين الصخور، وقد تُحْبَس إحدى أرجله في شق بين صخرتين بحيث يضطر إلى التوقف عن السير، غير أن رؤية العدو وهو يقترب تزيد من خوف السرطان، فيلجأ إلى بتر رِجْله ويستأنف جريه كأنه يؤثر أن يعيش ناقص الجسم بدلًا من الوقوع حيًّا في قبضة عدوه، ويجب أن نذكر هنا أن الرِّجْل المبتورة ستنمو من جديد كما ينمو البُرْعوم ليتحول إلى فرع جديد.
ولكن هناك حالات يتعذَّر فيها الفرار من العدو وتجنُّب الخطر عن طريق الهرب، فيلجأ الحيوان في هذه الحالة إلى التحصن ضد الهجوم الخارجي، ومن أمثلة هذا التحصن ما يحدث في بعض الميكروبات عندما توضع في بيئة غير صالحة لها، فيُلاحَظ أنها تفرز مادة كلسية تصنع منها كيسًا تتحصن فيه، وهذا ما يُعرَف بعملية التكيُّس، ومن وسائل تجنب الخطر أيضًا ما يمكن تسميته بالتمويه، وهو يشمل الكف عن الحركة وتصنُّع الموت — التقنُّع — ثم محاكاة الوسط.
والتمويه كسائر العمليات التي يقوم بها الكائن الحي يمكن دراسته من وجهتين: الوجهة العلمية النظرية — أي البحث عن العوامل أو الشروط التي تعين طبيعة العملية أو الظاهرة — ثم الوجهة الفنية أو التطبيقية التي تستند عادةً إلى ما يقدِّمه البحث النظري من حقائق، وقبل التحدُّث عن هاتين الوجهتين سنحاول تعريف التمويه بوجه عام.
ويقدم لنا عالم الحيوانات أمثلة عدة من التمويه، وعندما أراد الإنسان أن يخدع الحيوانات التي كان يريد الاقتراب منها، أو أن يخدع عدوه في الحرب، فإنه حاول محاكاة الطبيعة وتقليد الوسائل التي تستخدمها الحيوانات لإخفاء نفسها في حالة الدفاع، أو لخداع فريستها ومباغتتها في حالة الهجوم عليها.
وبإلقاء نظرة سريعة على طرق التمويه المستخدَمة في عالم الحيوانات يمكننا أن نكوِّن فكرة أولية عما يمكن اصطناعه في الميادين الحربية من وسائل التمويه والإخفاء، ثم هناك عوامل إدراكية تُدْرَس في علم النفس لتوضيح الشروط التي تُعيِّن بروز الأشياء وتمييزها بعضها من بعض، والشروط التي تساعد بالعكس على طمس معالم الأشياء بحيث يصبح إدراكها متعذرًا إن لم يكن محالًا.
فبعض الحشرات تنجو من أعدائها إذا توقفت عن السير ولازمت السكون، فالطيور مثلًا تستجيب للشيء المتحرك أكثر من استجابتها للشيء الساكن، خاصةً إذا كان الشيء غير مألوف في إدراك الطير … والضفادع لا تنقضُّ على الحشرات التي تتغذى منها إلا إذا كانت تتحرك.
ويُعْرَف عن بعض أنواع السرطان البحري أن أفرادها تثبت على ظهرها وأرجلها بعض النباتات المائية تتلاءم ألوانها مع لون البيئة التي تعيش فيها، وإذا نُقِلت إلى بيئة أخرى مختلفة اللون فإنها تنزع رداءها القديم وتتخذ رداءً جديدًا من الأعشاب يتفق لونها مع لون البيئة الجديدة.
وأهم وسائل محاكاة الطبيعة ثلاث: أولًا مماثلة اللون بطريقة ثابتة، ثانيًا تغيُّر لون الحيوان وفقًا للون المكان، ثالثًا محاكاة الأشياء التي تحيط بالحيوان في لونها وفي شكلها.
ومماثلة اللون بطريقة ثابتة تشاهد في بعض أنواع الجراد والضفادع التي تكون خضراء كلون أوراق الشجر والأعشاب، وبعض الحيوانات البحرية كالميدوزا والأخطبوط تكون شفافة كالماء الذي تسبح فيه، وبعض الأسماء المقرطمة — كسمك موسى — لا يمكن تمييزها من الرمال التي تكون راقدة عليها، وبعض الفراشات ذات الأجنحة الملونة تختفي عن الأنظار عندما تقف على الأشجار وتضم أجنحتها؛ لأن لون الأجنحة من أسفل شبيه بلون قشرة الشجرة أو لون الأوراق الذابلة.
أما أكمل وسيلة للتمويه الحيواني فهو تشبه الحيوان ببيئته من حيث اللون والشكل معًا، والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا، خاصة بين الحشرات والأسماك، فتحاكي الحشرة شكل أوراق الشجر والفروع الصغيرة ولونها، وبعض الحيوانات البحرية يُشاهَد على جسمها زوائد طويلة ممزقة أو مفتتة تشبه الأعشاب التي تحيط بها، فتختفي تمامًا عن النظر.
يمكن أن نستخلص من هذا العرض السريع لوسائل التمويه لدى الحيوانات أن أهم العوامل التي تؤدي إلى الإخفاء هي اللون والشكل والحركة، أي عوامل بصرية، وقد تبدو لنا بعض الأشكال التمويهية التي تُشاهَد في الطبيعة غير صالحة تمام الإصلاح لتحقيق الإخفاء، وهذا يرجع إلى اختلاف تركيب العين البشرية بالقياس إلى عيون الحيوانات، فقد ندرك ألوانًا لا تدركها بعض الحيوانات، كما أن هناك موجات ضوئية تدركها بعض الحيوانات ولا يدركها الإنسان، كالأشعة فوق البنفسجي ودون الأحمر، وبما أن وسائل التمويه الحربي ترمي إلى تضليل العين الإنسانية يجب العناية بدراسة العوامل الإدراكية التي تعيِّن للمجال الإدراكي خصائصه وصفاته بالقياس إلى العين البشرية، بل إلى الإنسان عندما يستخدم حاسة البصر للحكم على الألوان والأشكال، وهذا يجعلنا ننتقل إلى النظر في الأسس النفسية لعمليات التمويه والإخفاء، ويمكن الكشف عن هذه الأسس بدراسة عملية الإدراك للعالم الخارجي. يُعرَّف الإدراك بأنه نوع من الاستجابة لا لأشكال من حيث هي مجرد أشكال حسية، ولا لمنبهات من حيث خصائصها الفيزيقية المحضة، بل من حيث هي رموز تنطوي على دلالة ومعنى، أو بعبارة أخرى: من حيث هي أشياء تثير انتباهنا واهتمامنا؛ وعلى ذلك ترمي الاستجابة الإدراكية إلى القيام بضرب معين من السلوك، ويكون غاية هذا السلوك في بادئ الأمر جلب المفيد ودفع الضار لا مجرد العلم بالشيء، فالغرض البيولوجي هو المحرِّك الأول لعملية الإدراك، بل في مقدور الإنسان أن يرتقي إلى مستوى المعرفة البحتة فيركِّز انتباهه في الشيء المُدْرَك لتحليله ومعرفة جميع خصائصه بغضِّ النظر عن أوجه المنفعة أو الضرر، وهذا الموقف العقلي خاص بالاتجاه العلمي البحت، وغني عن القول أن نجاحنا في مجال التطبيق والعمل يتوقف على مدى معلوماتنا البحتة.
ولهذا السبب سأحاول قبل التحدث عن الناحية التطبيقية الإشارة باختصار إلى النتائج النظرية التي استخلصها علماء النفس في دراستهم لإدراك العالم الخارجي.
يُلاحَظ فيما سبق أنني تجنَّبت استخدام العبارة الشائعة وهي الإدراك الحسي، وآثرت عليها عبارة إدراك العالم الخارجي، لا شك في أن العالم الخارجي — والعالم الخارجي بالنسبة إلى ذات المُدْرِك يشمل أيضًا حالات أعضائنا الداخلية — أقول: إن العالم الخارجي لا شك في أنه عالم محسوس، ولكن عملية إدراك العالم الخارجي لا تتوقف فقط على نشاط الحواس، بل تشمل عوامل عقلية عدة تؤثر إلى حدٍّ بعيد في نشاط الحواس.
فالعوامل الذاتية والعوامل الموضوعية تساهم معًا في عملية الإدراك، فالأشياء أو الصيغ التي ندركها تتعيَّن خصائصها بتفاعل هذه العوامل الذاتية والموضوعية بعضها مع بعض، وتُقسَّم هذه العوامل إلى أربعة أقسام: (١) ما جُهِّزت به من آلات حاسة. (٢) حالتي الشعورية الراهنة واتجاه التفكير. (٣) معلوماتي وتجاربي السابقة. (٤) طبيعة المنبِّه الخارجي، أو بعبارة أدق طبيعة المجال المُدْرَك.
يقف المرء من العالم الخارجي مواقف مختلفة لمستوى توتر نشاطه الذهني، فيكون تأثير الحوادث الخارجية في الشخص المنتبه خلاف تأثيرها في الشخص الشارد الذهن، وللانتباه حدود، فقد بيَّنت التجارب أن الشخص لا يمكنه أن يدرك دفعة واحدة إلا عددًا محدودًا من الأشياء، ويتراوح هذا العدد بين ٦ و١١، وإذا كانت الأشياء تعرض مجمعة في ثلاثٍ أو أربع مجموعات يزيد عدد الأشياء المدرَكة دفعة واحدة، وقد وُجِد أن الشخص في مقدوره أن يدرك ٣٠ حرفًا في جزء من الثانية إذا كانت هذه الحروف مكوِّنة لجمل قصيرة ذات معنى، فالعامل الأساسي إذن في تعيين مدى الانتباه هو تنظيم الوحدات لا عددها المطلق.
لا شك في أن لاتجاه التفكير أثرًا كبيرًا في تكييف شكل المدرَك الحسي، إذ لا يكون المرء عادةً في حالة استقبال سلبي لما يعرض له من شتى المدرَكات الحسية، بل تكون استجابته لها متأثرة بمعلوماته السابقة وبما يشغل باله من خواطر وأفكار، فقد يحدث لي أن أقرأ مثلًا في الجريدة العنوان الآتي: «استغلال المستعمرات» بدلًا من «استقلال المستعمرات»، فإني أميل دائمًا من حيث لا أشعر إلى التأويل وإلى رد كل شيء إلى دائرة الأشياء التي أعرفها والتي تثير اهتمامي الراهن، وأمثلة التأويل كثيرة، نذكر منها مثل مدرس الإنشاء – مؤلف الكتاب الذي يصحح تجارب الطبع – عمال الصف في المطبعة.
ويختلف تأثير العالم الخارجي في الشخص الذي يواجه الموقف لاستخدامه واستغلاله عنه في الفنان الذي ينظر إلى العالم الخارجي نظرة المتأمل المطاوع الذي يبغي الكشف عما يحويه الموقف من طريف غير مألوف، أو من خصائص تكون بعيدة كل البعد عن مجال الاستغلال المادي العملي، فتأمُّل القائد الحربي فيما يحيط به من سهول وتلال وجبالي يرمي إلى استغلال المواقع الطبيعية في وضع خطته الحربية، بحيث لا يرى في هذا غير أنه وعر وذاك سهل وهذا الطريق أطول من غيره ولكنه محمي من الشمال … إلخ، أما الرسام فتتخذ نظرته إلى الطبيعة اتجاهات خاصة تدفعه إلى المقابلة بين الأضواء ودرجة تباينها وانسجامها، وإلى تقدير ما لكل جزء من الأجزاء التي يراها من تأثير في توازن الصورة التي سيرسمها، ثم حاول أن يخمد في نفسه روح النقد والتحليل؛ ليستسلم للطبيعة ويقبل منها ما تُلْهِمه من معانٍ وما تُحْدِثه حواسه من تأثيرات جديدة وكيفيات غريبة.
غير أنه على الرغم من اختلاف موقف القائد الحربي عن موقف المصور فإن أطوار عملية الإدراك تكاد تكون متشابهة، ويمكن إجمالها في ثلاثة أطوار: (١) نظرة إجمالية. (٢) تحليل الموقف وإدراك العلاقات القائمة بين أجزائه. (٣) إعادة تأليف الأجزاء والعودة إلى النظرة الإجمالية. ومن هذا يمكن أن نستخلص القاعدة العامة الآتية: يجب أن يحقق التمويه إدماج الشيء المموه في الشكل الذي يحويه بحيث يصبح شكلًا بين أشكال مماثلة لا شكلًا بارزًا على أرضية مختلفة عنه، ثم تحطيم وحدة الشيء المموه وتشويه شكل أجزائه الطبيعية، بحيث تعجز النظرة التحليلية إلى إدراك الأجزاء الطبيعية وضمها إلى بعض لإدراك شكل الشيء المموه إدراكًا تكامليًّا، أو بعبارة أخرى: يجب أن يؤدي التمويه إلى إيقاف عملية الإدراك عند تطور الإدراك الإجمالي والإحالة دون تحليل الموقف إلى أجزاء ذات دلالة في نظر الشخص الملاحِظ.
وفي استطاعتنا أن نستخلص بعض النتائج من دراسة العوامل التي تقوم عليها وسائل الإعلان للفت نظر القارئ وإثارة انتباهه واهتمامه.
وتقسَّم هذه العوامل إلى قسمين: العوامل الميكانيكية أو الفيزيائية لإثارة الانتباه، والعوامل النفسية لإثارة الاهتمام بالشيء الذي أثار الانتباه، وتوليد رغبة القارئ في اقتناء الشيء المعلَن عنه.
والعوامل الأولى هي: الحجم – التكرار – الموضع – تفاصيل الشكل – عزل الجزء الهام من الإعلان عن بقية الأجزاء الأخرى – نصوع الألوان – تقابل الألوان.
أما العوامل الثانية، وهي التي تثير الاهتمام والرغبة، فهي: ألوان فنية سارَّة – استخدام معانٍ وأساليب جديدة غير مألوفة – روح الفكاهة والدعابة – الصور التي تمثل أشخاصًا أو أشياء ومواقف طريفة، أو التي توحي بالحركة والنشاط – أو الصور التي يكون فيها الشيء المعلَن عنه كبير الحجم بالنسبة إلى حجمه الطبيعي إذا قورن بحجم الأشياء الأخرى المحيطة به.
فإذا أردنا أن يكون التمويه ناجحًا بحيث لا يثير الشيء المموه انتباه الملاحظ واهتمامه بتحليله يجب أن نتبع عكس الخطة المتبعة في فن الإعلان.
وعلى هذا يجب مراعاة النقط الآتية: تجنب التفاصيل البارزة الواضحة – إدماج الشيء فيما يحيط به بحيث لا يبدو معزولًا – تجنب الألوان الناصعة واستخدام ألوان درجة تشبُّعها قليلة جدًّا وقريبة بعضها إلى بعض، بحيث لا يبرز لون على الآخر، وعلى العموم تقارب درجات النصوع بين الألوان المختلفة أهم من تجانُس الألوان، خاصة عندما يراد إخفاء معالم الشيء في الصورة الفوتوغرافية المأخوذة من الجو وفي رؤية الطيار الذي يحلِّق فوق المنطقة لدراستها، والمقصود بالنصوع كمية الضوء الذي تعكسه الألوان، وتتراوح درجات النصوع بين الأبيض والأسود كما تتراوح بين الألوان الصبغية الشديدة التشبع والقليلة التشبع.
ثم يجب تجنُّب كل ما هو جديد غير مألوف بالقياس إلى البيئة، وكل ما من شأنه أن يثير الدهشة أو يوحي بالحركة، كما أنه ينبغي إزالة الخطوط المستقيمة والزوايا القائمة وإخفاء البروز بقدر الإمكان، وذلك بإخفاء الظل أو تخفيفه أو إدماجه في إطار متجانس له، وأخيرًا يجب مراعاة حجم الأجزاء بحيث تكون متناسقة مع غيرها.
غير أن هذه القواعد يجب أن تخضع لمقتضيات الأوساط المختلفة التي يراد إخفاء الشيء فيها، وعلى هذا تكون القاعدة الأساسية محاكاة خصائص البيئة التي تحيط بالشيء المموَّه بحيث يندمج فيها تمام الاندماج.
- (١)
أن الإدراك يكون موجَّهًا في بادئ الأمر نحو الشكل الكلي لا نحو الأجزاء، تدرك الوجه مثلًا ككل لا كمجموعة أعضاء.
- (٢)
وخصائص الصيغة هي غير مجموع خصائص أجزائها التي تكوِّنها.
- (٣)
للأجزاء التي تتركب منها الصيغة الإجمالية خصائص غير خصائص تلك الأجزاء نفسها عندما تنظر إليها على حدة خارج الصيغة التي كانت تنتظمها.
- (٤)
إن كل جزء أو كل عنصر يكون محدودًا بكيفية وضعه بالنسبة إلى الشكل الكلي، وعندما نفصل عنصرًا من بين عناصر الشكل الكلي تتغيَّر خصائص الشكل الكلي، لدينا مثلًا شكل الوجه الإنساني، فإذا أحدثنا تغييرًا في شكل الأنف؛ فلهذا التغيير أثر معين في شكل الأنف عندما يكون جزءًا من الوجه يختلف عن أثره في شكل الأنف إذا رُسِم وحده منفصلًا عن الوجه، وأي تغيير في أحد أجزاء الوجه يغير من ملامح الوجه كله.
وقد أشارت مدرسة الجشطلت إلى تغير دلالة الأشياء بتغير ما يختبره الشخص من حالات شعورية، فميزت بين المجال السلوكي والمجال الجغرافي، وللتفرقة بين المجالين يذكرون القصة الآتية:
قطع فارس مسافة كبيرة في منطقة يكسوها الجليد، ولما وصل إلى الفندق سأله القوم عن الطريق الذي سلكه فأشار إليه قائلًا إنه أتى من القرية الفلانية، وإنه اتجه رأسًا إلى هذا الفندق، فقالوا له بشيء من الدهشة: كيف أقدمت على مثل هذا العمل؟! فإنك اجتزت البحيرة دون أن تعلم، وكان يُخشَى عليك أن يتصدع الجليد تحت حوافر فرسك، ولم يكد المسافر يسمع هذا القول حتى وقع ميتًا في الحال، فقد تحوَّل المجال الجغرافي في تصور هذا الرجل إلى مجال سلوكي، فاكتسب معنًى جديدًا — معنى الخطر والخوف — وقد يُحْدِث تصور الخطر الذي كنا قد تجنَّبناه عفوًا أثرًا رجعيًّا يؤدي إلى إحداث انفعال الخوف كما لو كان الخطر لا يزال ماثلًا أمامنا، وفي ضوء هذه التفرقة بين المجالين: الجغرافي والسلوكي، يمكن القول بأن الغرض من التمويه هو تحويل المجال السلوكي إلى مجال جغرافي، بحيث تصبح استجابة العدو غير ملائمة بالقياس إلى الأغراض الحربية.
ويقول أحد علماء الجشطلت: إننا نرى الأشياء ولا نرى الثغور التي تفصل بينها، فإننا ندرك العالم الخارجي كمجموعة من الأشياء موضوعة على أرضية أقل بروزًا منها، فالشكل الذي يفرض نفسه في الإدراك يتميز من الأرضية بتركيبه وتنظيمه وكيفية بناء أجزائه، في حين تكون الأرضية متجانسة وكأنها ممتدة خلف الشكل، ولكن الأشكال تختلف في قوة تنظيمها، فهناك الأشكال القوية والأشكال الضعيفة، والأشكال القوية هي التي تحتفظ بدلالتها على الرغم من التغييرات التي نُدخلها عليها، فوجه الإنسان مثلًا من الأشكال القوية، والرسومات التي تكون أجزاؤها متناظرة من الأشكال القوية أيضًا، في حين أن الرسومات غير المنظمة الأجزاء تكون ضعيفة وتميل إلى أن تبدو في الإدراك كأنها أرضية بدون شكل معين.
ويمكن أن نستخلص النتيجة الآتية التي سبق أن أشرنا إليها، وهي أن الجزء داخل الشكل الكلي هو غير هذا الجزء عندما ينفصل عن الشكل الكلي أو عندما يدخل في شكل كلي جديد، وأمثلة خداع الحواس يمكن تأويلها على هذا الأساس.
ولتنظيم المجال الإدراكي أثر كبير في تغيير الأشكال المألوفة، وهذا الأثر يقاوم أثر الذاكرة، فالخيم والقطارات أو السيارات أشياء مألوفة يمكن تعرُّفها في الحال، ولكن إذا مُوِّهت بواسطة خطوط أو بقع ملونة تفقد وحدتها، وتبدو كأنها أجزاء ليس لها شكل معين.
وقد أُجريت تجارب عدة لدراسة أثر الذاكرة في تعرُّف الأشكال عندما تدمج في أشكال جديدة، فوُجِد أن أثر الذاكرة ضئيل جدًّا بالقياس إلى عوامل تنظيم الشكل.
ويمكن أن نستخلص مما سبق أن التمويه يتوقف على كل تغيير يؤدي إلى إضعاف الشكل أو تجزئته إلى أجزاء مخالفة لأجزائه الطبيعية المألوفة، أو إلى تحطيمه بحيث تندمج أجزاؤه في أشكال قوية مجاورة أو محيطة به، ويجب أن نذكر بالإجمال أن العوامل القابلة للتغير هي اللون والشكل والحجم والنِّسَب الموجودة بين الأشياء.
ولم يُسْتَخدم التمويه بطريقة منظمة إلا في الحرب العالمية الأولى، فبُدئ بتلوين البروج والحصون المنشأة على السواحل، وكان الغرض إدماج هذه الحصون في البيئة المحيطة بها، وكانت تُلوَّن بخطوط بيضاء وسوداء؛ لإخفاء فوَّهات المدافع.
وكانت المرحلة الثانية تغيُّر لون البدلة العسكرية واستخدام ألوان تلائم ألوان الطبيعة حسب الميادين الحربية، ومن الألوان المستعملة الكاكي والأزرق الفاتح المائل إلى الرمادي أو الرمادي الممزوج بأخضر.
وكان الغرض تضليل العين عندما تنظر عن بُعْد ولمدة قصيرة، ثم دُرِست الوسائل المؤدية إلى تضليل آلة التصوير والنظارات المعظِّمة، وأُنشئت أول فرقة للخداع الحربي في الجيش الفرنسي سنة ١٩١٥م، وفي الجيش البريطاني سنة ١٩١٦م، وكانت هذه الفرقة تابعة لسلاح الهندسة الملكي.
ومن الوجهة الفوتوغرافية يكون أثر الألوان أقل أهمية من أثر الضوء والظل، فلون الأرض يميل إلى الرمادي الناصع، في حين يميل لون المزارع إلى الرمادي القاتم القريب من الأسود، ولا يرجع هذا إلى لون كل من الأرض والمزارع، بل إلى قدر ما يتخلله كل منهما من أظلال، وأثر الظل في المنطقة التي تكسوها الثلوج واضح جدًّا، ولهذه الأسباب عندما نريد أن نعرف لون منطقة من المناطق لننتخب الألوان الملائمة لنجاح التمويه يجب أن ننظر إلى هذه المنطقة من الجو، ومن اتجاه رأسي لا من اتجاه أفقي، يُستحسن إذن أن نعتمد على الصورة الفوتوغرافية للحكم على طبيعة المنطقة، وبالنظر إلى هذه الصورة يمكن الكشف عن العوامل المساعِدة لنجاح التمويه، فكلما كانت الصورة معقَّدة وكثيرة التفاصيل ازداد عدد هذه العوامل المساعدة.
هذا بعض ما يجب مراعاته في فن التمويه في الميادين البرية، أما في البحرية فوسيلة التضليل التي استُعملت منذ سنة ١٩١٧م كانت بطلاء البوارج الحربية بطلاء «يزغلل» العين؛ وذلك لتعجيز العدو عن معرفة خط السير، وكان مما يزيد من أثر «الزغللة» الأشكال مرسومة على جانبي البارجة إذا كانت المناطق الملونة غريبة الشكل بحيث كانت تشوِّه الشكل الكلي وتجزِّئ وحدة البارجة إلى أجزاء غريبة، وكانت الألوان المستخدمة هي الأسود والأبيض والأزرق.
وتحديد خط سير البارجة أمر مهم جدًّا للعدو لتصويب مدافعه على البارجة، وقد لجأ الألمان في الحرب العالمية الأولى في غواصاتهم إلى استخدام شبكات لامتصاص الألوان وإظهار شكل البارجة في صورة بروفيل متجانس اللون، وبهذه الكيفية يقل أثر الزغللة ويصبح من السهل تحديد خط السير بدقة أكثر.
وإن كان التمويه قد استُخْدِم على نطاق واسع في الحروب الحديثة فإنه يجب الاعتراف بأن تقدمه لا يتناسب مع ما جمعه علماء النفس التجريبيون في حقائق ومعلومات، فلا تزال عمليات التمويه في حاجة إلى تنظيمها على أسس أكثر دقة من الوجهة العلمية.