أمواج ولا شاطئ
١
إنه بموجب هذا قد أوقف سعادتلو أفندم حضرة صاحب السعادة عزت باشا إبراهيم جميع أملاكه على أولاده؛ بحيث يصبح ناظر الوقف بعده عزتلو أفندم حضرة صاحب العزة جمال بك إبراهيم بصفته الابن الأكبر، وتصبح له الحقوق العشرة، وينتقل الحق في نِظارة الوقف إلى أبنائه الأرشد فالأرشد. فإذا — لا قدر الله — لم ينجب بنين تنتقل نظارة الوقف إلى الأرشد من أبناء إخوته الأرشد فالأرشد.
وإذا امتنع المستحق في النِّظارة عن النظارة لسبب أو لآخر، تنتقل إلى المستحق بالطريق سالف الذِّكر. ويُشترط فيمن يكون ناظرًا للوقف أن يكون كامل الأهلية طيب السمعة حسن السير والسلوك. وقد وقَّع سعادتلو أفندم حضرة صاحب السعادة عزت باشا إبراهيم هذه الوقفية وهو في كامل قواه العقلية وفي كامل صحته، أسبغ الله عليه أثواب العافية ومتَّعه بالصحة والعافية ومدَّ الله في عمره. آمين.
عزت إبراهيم
٢
القصر جبل من ضياء، والعربات تفد إليه ليخرج منها الماس الخاطف والملابس الثرية، ما إن تمضي عربة بخيولها حتى تأتي بعدها أخرى، والحفل نشوة، والأنفاس عطر، والأجساد نور، والضحك موسيقى، والدنيا غناء.
نامق بك إبراهيم يترجَّل من العربة رفيع السمات واثق الحركة، لا يفكر في الديون التي يرزح تحتها ما دام واثقًا أن عمه ناظر الوقف سيعطيه آخر العام ما يقيم مثل هذه الحفلات حتى يصبح من الطبيعي أن يُدعى إلى هذه الحفلات، إنه لا يفكر، فما دامت قدماه قد أصبحتا داخل الحفل فلا تفكير إذن إلا في الحفل.
النظرات تستقبله، وما تلبث الأيدي أن تعجل إليه؛ فكل من في الحفل يحب أن يكون على أحسن صلة به. وهو يجيب التحية في كبرياء غير متكلف؛ فقد تعلم الكبرياء منذ تعلم كيف يسير وكيف يأكل وكيف يعامل الناس؛ نوع من الكبرياء لا يُغضب وإنما يثير الإكبار، ولا يجرح وإنما يجعل الناس يحبون أن يكونوا على معرفة به.
وحين يفرغ نامق بك من التحايا ينفض الحفل جميعه بعينيه العميقتين وقد ازداد التماعهما تألقًا.
إنه يبحث، وما هي إلا ومضة وأخرى حتى تعرف قدماه إلى أين يجب أن يتجه.
نازك، تمد إليه اليد وترنو إليه بهذه النظرة الواعدة والتي ينتظر منها دائمًا أن تفي بالوعد، لا يغيب عن حفل هي ذاهبة إليه، منذ شهور يلاحقها في الحفلات وهي تحب منه هذه الملاحقة وترضى عنها، وتعد بعينيها وعودًا كثيرة تعرف أنها تصل إلى حيث تريد لها أن تصل. فما لاحقها إلا حين أحس أنها تدعوه بهذه النظرات إلى هذه الملاحقة.
وتدور الكئوس وتنتشي الآمال ويفكر كل ذي وعد في تحقيق موعده، ونامق يرنو ويتلطف، وهي ترنو وتعد، ويدور الحديث ويلوب ولا يصل إلى شيء، ولكنه بنظراته اللمَّاحة وعينيه ذواتي البريق ينفض الحفل.
– سعادة البك الوالد؟!
– لم يأتِ الليلة.
– والوالدة؟
وتطلق ضحكة خائرة: وهي أيضًا لم تأتِ.
– إذن؟
– جئت معي بصديقتي كريمة.
ويصمت قليلًا ثم يقول بفرنسية متقنة: ولكن ليس من المحتم أن ترجعي مع كريمة.
وتكسر عينها الواعدة وتجيب في فرنسية خالصة: سنرى.
– ألم ترَي بعد؟
– قلت: سنرى.
– مرت شهور.
– قلت: سنرى.
لقد أصبح الوعد أخيرًا ابن كلمة بعد أن ظل شهورًا طويلة ابن نظرة. تتصايح الرغبات في جوانحه وتعربد الآمال في كل قطرة من دمائه، وتنصرف نازك إلى صديقاتها تحادثهن كأنها لم تفسح لهذه الرغبات أن تتصايح ولا لهذه الآمال أن تعربد.
ولا يجد هو في نفسه ميلًا إلى حديث وإنما يظل ملصقًا نظراته بوجهها؛ طويل هذا الوجه، قوي، عذب، يتحدى ويأمر، ويريد ويفعل، عينان ما هما بالواسعتين ولكن السعة فيهما أصبحت عمقًا، إن تمكن إنسان أن يطيل فيهما النظر تكشَّف له من ورائهما عوالم تُفضي إلى عوالم تفضي إلى لا نهاية، لا نهاية للعمق فيهما. تحيط بهما رموش لا تنثني إلى أعلى وإنما هي رموش مشهرة تتكلم فتقول ما تريد. وفم دقيق الشفاه ينفرج عن أسنان عليها وشاح من ضباب فضي خفيف. والفم جميعه يبدو كأنه على صلة وثيقة بالعقل، حتى إذا ابتسم جمع العقل والقلب في ابتسامته. وفي الذقن ذكاء وإرادة ورغبة وتفكير وتأمل وتنفيذ. وحين تقف نازك يظل نامق ملصقًا نظراته بقوامها الفارع النحيف كأنه كلمة حازمة، كيان رائع نازك، هي حرية في حركاتها، في حديثها، في لفتة الجيد منها، في إيماءة الرأس، في الشعر العربيد على كتفيها ينساب كأنه أحلام عذرية حتى ليخال المرء أنه بلا نهاية؛ فنهايته بداية، بحر من أشعة الشمس حين تميل إلى الغروب، بحر متلاطم بلا شطآن، بلا أول ولا آخر.
وتلتفت إليه فجأة وكأنها لم تكن تحس بنظرته التي التصقت بها منذ بذلت له وعدها الأخير: ألا نذهب للعشاء؟
وينتفض واقفًا عن قامة تنحو إلى القصر بعض الشيء، وينحني في كبرياء ويقول: بكل تأكيد.
وفي الطريق إلى المائدة يهمس: ننصرف بعد العشاء مباشرة.
– بل ننتظر حتى يهدأ الرقص.
– أترقصين؟
– أتريد أن ترقص؟
– ليس هنا.
٣
لقد أردت، لماذا، لا أدري، هكذا أردت، أن أعطي نفسي، هذا الكنز الذي تتهدم الدنيا إذا أعطيته بلا زواج، أعطيته أنا بلا زواج ولتتهدم الدنيا بعد ذلك، وليفعل أبي هذا التركي ما شاء له هواه، لماذا يبيح لنفسه هو أن يحب ويختار ويتزوج أمي الفرنسية، ولا يكون ذلك لي أنا؟ هل أحببت؟ لقد أردت، ولكن هل أحببت؟ ما يهم، نامق فتى تتسابق إليه نساء مصر جميعًا، ما لي ولمصر، أبي تركي وأمي فرنسية، إذا تهدمت الدنيا هنا أستطيع دائمًا أن أذهب إلى أهل أبي في فرنسا، باريس مدينة النور، هل فيما فعلت نور؟ لقد أردت، وفعلت، نامق، لا يملك شيئًا إلا نصيبه من الوقف، ولو شاء عمه لأصبح لا يملك شيئًا. ولكن هل أفكر في الزواج به؟ وهل هذا هو الطريق إلى الزواج إن كنت أريده؟ إنما أردت أن أعطي نفسي وبلا سبب، بلا حب، بلا تفكير في زواج.
أما لماذا اختارت نامق فهذا حديث آخر؛ ليس نامق صغيرًا إنما هو يحث الخطى إلى الأربعين. وقد كان زوجًا من قبل، وله ابنته نديرة من زوجته إلهام الابنة الكبرى لفهمي باشا محسن المستحق في الوقف. وقد انتقل بوفاته الاستحقاق في الوقف إلى ابنته إلهام، ولكن هذه القرابة وهذا الزواج لم يمنع نامق أن يوطد علاقته بالسيدة جيهان عثمان زوجة نصر الدين بك فتحي، وكانت هذه العلاقة بين نامق وجيهان تسمح له أن يكون معها في غرفة نوم واحدة، بل وفي سرير واحد. وقد كانت هذه الحجرة وهذا السرير في أغلب الأحيان بمنزل سعادة نصر الدين بك فتحي.
وفي يوم سافر فيه نصر الدين بك، وخلت القاهرة بنامق وجيهان، وضمهما منزل نصر الدين أول الليل ثم ضمتهما غرفة النوم والسرير آخر الليل، وعاد نصر الدين إلى البيت دون أن يسافر ووجد مكانه في السرير مشغولًا، وكان نصر الدين بك من الذين يحملون المسدس في جيوبهم، فهو يخرج مسدسه في سرعة ويطلق النار على ذلك الرجل الذي شغل مكانه. وتصيب الرصاصة كتف نامق، ويزيط البيت ويُستدعى الأطباء، ونُقل نامق بك إلى منزله حتى لا يذهب إلى المستشفى، وتتواكب الأسئلة لتكشف من الأمر ما ينبغي له أن يستتر. وهكذا دُبِّر الأمر ببراعة ليصبح ذائعًا شائعًا في كل مكان؛ فقد لعب التكتم دوره في إذاعة الخبر، أصبح نامق بين ليلة وصباحها رغبة نساء المجتمع جميعًا.
ومنذ أن شفي نامق وهو لا يكاد يجد فرصة ليختار، فقد أصبحت السيدات هن اللواتي يخترن أنفسهن له. فليس من الغريب إذن أن تجد نازك نفسها راغبة في هذه الصلة، ولا بأس عليها أنها ليست سيدة، وما الذي يمنع أن ينقلها هو من آنسة إلى سيدة؟ لقد شبت ودويُّ نامق يهوم في كل أفق تتجه إليه، وألقت إليه هذه النظرات الواعدة، وما زالت به حتى كان هذا اللقاء في بيته ولا يدري به أحد إلا صديقتها كريمة؛ إن كريمة تعرف عنها كل شيء.
– أهلًا كريمة.
– هيه، ما الأخبار؟
– أبدًا، لا يوجد.
– تذهبين إليه الليلة؟
– لا أدري.
– لا يا حبيبتي، قولي لي حتى أعد نفسي.
– هل عندك شيء الليلة؟
– الواحدة يجب أن تهتم بمستقبلها.
– عندك الليلة مستقبل؟
– طبعًا.
– مثلي أنا ونامق؟
– ليس تمامًا.
– لا أفهم.
– أنت وصلت لآخر الشوط.
– وأنت؟
– أنتظر الزواج.
– وهل يهم الزواج إلى هذا الحد؟
– يا حبيبتي أنت لا يهمك، أما أنا فإن لم أتزوج فلا حياة لي.
– ومستقبلك وكيل النيابة؟
– شاب طيب.
– تلتقيان بالشباك كما هي العادة؟
– يمر من تحت الشباك قبل المغرب وقد كوى طربوشه ولمع حذاءه، ينظر في حياء إلى أعلى، إن رآني وقف، إن ابتسمت حيا، إن كشرت انصرف.
– يا عيني!
– إن قابلته رفض أن يتزوجني.
– فأنت إذن تنصبين الشباك.
– ولا بد أن تصيب.
– هل سيأتي الليلة؟
– لقد بدأ يتكلم في الخطوبة.
– فموعدك هام.
– إذا كنت لا تريدين أن أبقى.
– المفروض ألا تكوني في البيت حين يجيء.
– لماذا؟
– لتتظاهري أنك لا تعرفين.
– أمس قال إنه يريد أن يخطبني.
– هل احمر وجهه وهو يقول لك هذا؟
– إنه أحمر، وطربوشه أحمر، ويضع وردة حمراء في جاكتته. خجول بطبيعة لونه، مهما يخجل لا يستطيع أن يزيد لونه احمرارًا.
– المفروض أنك لم تريه رسميًّا.
– كيف؟
– الشباك غير رسمي كما تعلمين.
– ألم أقل لك إنه صديق أخي، وكان يجيء معه إلى البيت ونلتقي؟
– آه صحيح، فما حكاية الشباك؟
– تعجبه.
– قرأ عن سيرانودي برجراك؟
– ولكنه ليس قبيحًا.
– هل عندك فستان يليق بالمناسبة؟
– أنت تعرفين كل فساتيني.
– وأنت تعرفين كل فساتيني.
– لا مقارنة.
– انتقي ما تشائين.
– حقًّا؟!
– أنت لن تخطبي مرتين.
– فأنت لا تريدينني الليلة؟
– ارجعي إليَّ حين تنتهي الخطوبة.
•••
– هيه هل نقول مبروك؟
– طبعًا، أنت تعرفين كريمة.
– ماذا حصل، احكي لي.
– قرأ أبي الفاتحة.
– ومتى الزواج؟
– حالًا.
– مستعجل؟
– سيُجن.
– يبدو أنه ليس وحده الذي سيُجن.
– على فكرة، هل عرفت أن محمد باشا الأزميرلي مريض؟
– عم نامق؟
– نعم، ناظر الوقف.
– بالنسبة لنامق الأمر لا يهم، سيصبح حسن بك ناظرًا على الوقف مكان أبيه، ويظل يأخذ نصيبه منه.
– لا أظن.
– كيف؟
– هناك إشاعة تقول إن حسن لا يريد أن يكون ناظر الوقف.
– حقًّا؟ لماذا؟
– إنه يحب السفر، والوقف سيمنعه من هوايته.
– فمن يكون ناظر الوقف؟
– نامق بك طبعًا.
– ماذا؟
– ألقتها نازك، ثم ألقت عينيها العميقتين إلى فراغ، لحظة، ثم لحظة، ثم نظرت إلى كريمة.
– ماذا قلت؟
– طبعًا، هذه شروط الوقفية، يتولاها الابن الأكبر من أولاد الأخ التالي؛ يعني نامق.
– من قال لك هذا؟
– فتوح وكيل نيابة، يحفظ هذه الأمور غيبًا.
– إذن؟
– نامق سيكون ناظر الوقف.
– هل يستطيع فتوح أن يحضر لي صورة من الوقفية؟
– ممكن، فقط ماذا أقول له؟
– اسمعي، لا داعي لأن يُحضر الوقفية جميعها، فقط اسأليه وأنتما تتحادثان، ما هي الشروط التي يجب أن تتوافر في ناظر الوقف؟
•••
– يقول إنه يجب أن يكون بالغًا رشيدًا عاقلًا حسن السير والسلوك طيب السمعة.
– ماذا؟
– طيب السمعة.
– ألا يجوز أن تُذكر حكاية جيهان؟
– حكاية جيهان نُسيت.
– من قال لك هذا؟
– أنا سألت.
– لماذا نسيت؟
– لأنه إن لم يعيَّن نامق فالمرشح لنظارة الوقف سليمان أخوه، وهو كما تعلمين سفيه ومجنون، والمنتفعون بالوقف لن يقبلوه.
– فحكاية جيهان إذن نُسيت؟
– يجب أن تُنسى.
– ماذا يحدث لو ظهرت حكاية أخرى مثل حكاية جيهان؟
– ماذا؟ ماذا قلت؟
– لا شيء، لا شيء، أتخرجين معي؟
– الليلة؟
– الليلة.
– لن تجدي نامق الليلة، إنه مشغول مع عمه.
– لا يهم، سيعود.
– سيتأخر.
– وما البأس أن أتأخر عندك وأنت مقدمة على زواج؟
– تذهبين عندي إذن وتبقين فترة، ثم نذهب إلى نامق.
– لا ينقصك الذكاء.
– تلميذتك.
٤
مرت شعور عليها منذ أسلمت نفسها له، لقد أسلمتها له لأنها ثائرة على أبيها وعلى التقاليد، ولأنها تريد أن تهدم هذا الحائط الذي يفرضه أبوها عليها. كانت في نفسها تسخر من أبيها ومن هذه القيود الذي يظن أنه يستطيع أن يفرض بها العفاف عليها. إنها تستطيع حين تشاء أن تصنع ما تشاء، وكانت تقع في نقاش مع نفسها لا يبلغ مستوى الصراع، وإنما كانت تعتقد أنها في اللحظة الأخيرة ستمتنع وتخشى الفضيحة، ولكنها ما تلبث أن ترى الفضيحة نفسها شيئًا غير مزعج، فقد شهدت اللواتي آثرن الفضيحة لا ينتقم منهن المجتمع وإنما يصبحن همسة بين الأفواه ثم لا شيء بعد ذلك.
فهن حيث يدخلن موضع احترام الناس، وهن يتمتعن بجوٍّ أثيري خاص يجعل منهن مادة نادرة لا تماثلهن فيها الأخريات اللواتي لم تثر حولهن الهمسات، وهي لا يضيرها أن تكون هذه الهمسة، بل إنها يسرها أن تكونها، وهي تستمتع، تستمتع باللقاء الخفي وبالأسرار لا تعرفها إلا كريمة، وهذه الخفقة المجنحة التي ترفرف في كيانها كله حين تستعيد ما كان، وتستمتع بنفسها حين تعود من بيته لتكون مرة أخرى هذه الفتاة البريئة التي تخضع لما يفرضه عليها أبوها من رقابة، وتستمتع بهذا الوجيب وهي تنتظر اللقاء، وتستمتع بما تعده لهذا اللقاء، تعد ما ستقوله ثم تنساه، وتستمتع بما تعد وتستمتع بما تنسى، ولا تفكر في الغد إلا إذا كان الغد يحمل اللقاء، إنها في هذه الشهور تعيش حبًّا، أو هي توهم نفسها أنها تعيش حبًّا، لا يهم، وما الفرق بين الحقيقة والوهم ما دام كلاهما يصل بها إلى هذه النشوة التي تجتاحها؟ ولكن المؤكد أنها تعيش نفسها كما تريد لنفسها أن تكون، تلك هي الحياة التي تحب أن تحياها، وهي تحياها، أسطورة هي من أساطير الليل واللقاء المستخفي والآهة الحالمة والهمسة النشوى، كم من النساء مررن بالحياة فما خلدن كما خلدت. أولئك اللواتي أحبهن الملوك، أنها تريد أن تكون واحدة من أولئك، لا تحب أن تمر بها الحياة فلا تُلقى إليها نظرةُ تعرُّف ولا ومضة ذكرى، إنها تريد أن تدمغ الحياة حولها باسمها، فلا بد أن تذكرها الحياة، أهذا هو الطريق؟ إنها لا تعرف طريقًا غيره، قد يعتبره أولئك الأصنام أصحاب الياقات المنشَّاة والطرابيش الحُمر الصارخة الاحمرار نوعًا من النزق، ولكنهم جميعًا مع كل آرائهم يتمنون منها نظرة أعجاب أو نظرة تعرُّف. هكذا كانوا يصنعون مع اللواتي آثرن الهمسات قبلها. وحين تثير الهمس لن تتغير معها القاعدة، إنها لعبة لا يبدي فيها الناس حقيقة مشاعرهم، وإنما تتعارض رغباتهم الحقيقية مع الألفاظ السخيفة التي يقولونها، يستجدون بألفاظهم رضاء الرأي العام، وتستجيب مشاعرهم لرغباتهم الخاصة التي تمور في نفوسهم وتعربد صاخبة بلا قيود من عرف أو مجتمع أو رأي، عامًّا هذا الرأي أو خاصًّا.
ولكن الأمر الآن يختلف، إنه سيصبح ناظر الوقف، فهل تُرى أستطيع؟ هل تُرى أستطيع؟ وما مصير الهمس؟ والسحر الأثيري؟ وأين يمكن أن يذهب هذا؟ إن الهمس حينئذٍ سيكون أقوى أثرًا، إنني أستطيع أن أُثير الهمس في أية لحظة أريد، في أي وقت أشاء، وتحت أي ظروف تبدو، الغنى، السلطة، الحب، والهمسة، أكون في التاريخ ذكرى، أكون ملتقى النظر، همسة العجوز إلى نفسه إن خلا إلى نفسه، أمل الشباب في أحلامه المجنحة، هذه الفكرة التي تفرض نفسها دون أن يستدعيها الفكر، هذه الكلمة التي تثب على آمال الرجال دون تفكير، في اللحظة التي يفكر فيها المرء يأمر تفكيره أن يتجه إلى حيث يريد، ثم تأتي لحظة على الفكر يتمرد على صاحبه، ويفكر هو في غير خضوع، أكون هذا التمرد، لهيب خيالهم، أجنحة آمالهم، له، واحد من هذا الكون العريض، واحد فقط، الناس جميعًا، من أعرف ومن لا أعرف، ألا يجتمع الواحد في الجميع، إنما الواحد من الجميع، وما لي لا أجمع الواحد مع الجميع؟ وما البأس، في وضع خاص، في مكان معين؟ ولكنه بعدُ منهم، معهم، كريمة، أولاد، الوقف.
– ستصبح ناظر وقف.
– ولكنك أهم عندي.
– أريد أن أكون جادة بعض الوقت.
– الآن؟
– طبعًا.
– في أول اللقاء.
– لن يكون هناك لقاء إذا لم نقل ما نريد.
– أهناك ما يقال؟
– طبعًا.
– قولي.
– ستصبح ناظر الوقف.
– ولكن هذا لن يمنع لقاءنا.
– المسألة ليست مسألة لقاء.
– إذن؟
– لا بد لناظر الوقف من زوجة.
– ماذا؟
وصمت، وصمتت، وطال الصمت، في لحظة خاطفة أدرك كل ما تريد أن تقوله، وفي لحظة خاطفة أدركت أنه فهم ما تريد أن تقوله، فكان الكلام بينهما عديم الجدوى، ولكن ومضة خطرت في ذهنه: ولكن …
– نعم؟
– لا، لا شيء.
– ماذا تريد أن تقول؟
– فقط لم يكن من المقدَّر أن أكون ناظر الوقف.
– أتظن أنها خطة مدبرة!
– لا، أبدًا، وإنما فقط …
ولم يكمل الجملة، ولم تطلب هي إليه أن يكملها، وعاد إليهما الصمت، كيف دبرت؟ أنا أعلم أنها لا تحبني، لم يجذبها إليَّ إلا ما جذب النساء الأخريات منذ حكاية جيهان، هي أصغر، ولم تكن سيدة حين عرفتها، ولكنها هي التي أرادت. إنني أعرف النساء حين يردن، وأعرفهن حين يحببن، لقد أرادت دون حب، إن تكن ذكرت الحب في اللقاءات فقد كان لا بد له أن يُذكر، إنني أحس المكان الذي تصدر عنه كلمة الحب حين تقال، أحسها، ومن الصدى الذي يأتي معها أعرفها، لم يكن حبًّا، لقد أرادت وقد أردت، وهذا كل ما هناك. فكيف يمكن أن تصبح زوجة بعد هذا؟ زوجة لي أنا، أنا الرجل؟ ولا شأن للوقف هنا، أنا الرجل، كيف أجعل من هذه المرأة، أصبحت الآن مرأة، كيف أجعل منها زوجتي، تحمل اسمي وشرفي أمانة في يدها؟ إنها لم تحافظ على اسمها ولا شرفها هي، فكيف تحافظ على اسمي وشرفي؟ لا، لا. لا قاطعة. ودون أن يحس ارتفع صوته وانتفض: لا.
وصمتت لحظة ثم قالت في هدوء: والوقف؟
وعاد الصمت.
لم تصبح المشكلة مشكلة نظارة الوقف، إنما أصبحت المشكلة مشكلة الوقف جميعًا، لن يصبح ناظر وقف، هذا لا شك فيه، ولكن من المحتمل، إن لم يكن من المؤكد، أن أخاه سيخرجه من الوقف جميعًا، أليس ناظر الوقف وله حق الإدخال والإخراج؟ وسيجد أخوه الفرصة سانحة أعظم ما يكون السنوح؛ أخ فاسد بلغ الأربعين من عمره ويقضي على شرف بنت لم تعدُ التاسعة عشرة من عمرها. إنه لا يستحق أن يكون ضمن المنتفعين بالوقف، خذل أجداده في قبورهم، وخذل أقرباءه في حياتهم، وأساء إلى سمعة الأسرة جميعًا، الأسباب قوية، الضياع بعد ذلك والفقر الموحش. ولكن زواجها؟ زواجها هو الشرف المضاع، سيصبح اسمي أضحوكة في فم الناس أجمعين، كيف إذن أتصرف؟ هل أقضي على شرفي لأحافظ على شرفي؟
ابتسم.
وابتسمت.
ولم يقطع الابتسام منهما الصمت بينهما، ولكنها في هذه المرة لم تسمح للصمت أن يطول: هيه؟
قالتها طويلة عميقة تحمل التهديد ونفاد الصبر.
– أفكر.
– ألم تكن تفكر؟
– الأمر يحتاج إلى تفكير طويل.
– هل تعتقد ذلك؟
– أنا لم أعدك بالزواج.
– وهل قلت إنك وعدتني؟
– أفكر إذن.
– لا تجعل التفكير يطول.
– أليس لي حق التفكير؟
– الوقت لا يسمح بالتفكير الطويل، لا بد أن أعرف رأيك قبل أن تصبح ناظر الوقف.
– لماذا؟
– سيكون الوقت متأخرًا، وعزل ناظر الوقف أصعب مائة مرة من العدول عن تعيينه.
– آه فهمت.
– أنت فاهم من أول لحظة.
– هيه.
– متى أعرف رأيك؟
– قبل أن تفكري في الكلام سأكون قد انتهيت إلى رأي.
– ألم أقل لك إنك فاهم من أول لحظة؟
وصمت قليلًا قبل أن يقول: نعم فاهم.
•••
لن تفلت الفرصة، لقد جاءتها من حيث لا تحتسب، ولن تدعها تفلت منها، والأمر في ظاهره لا غبار عليه، وأي عجب أن يتزوج نامق بك إبراهيم من نازك هانم شكري؟ كلمة هانم مهمة غاية الأهمية، أسرتها لا بأس بها وأبوها رجل محترم، ولا أحد يعرف عن نازك من سوء إلا أنا، وأنا الذي يجب أن يتزوجها، أنا وحدي دون الناس الآخرين الذين لا يعرفون عليها من سوء، لو سألني أي شاب من الناس الآخرين لقلت له إنها خير زوجة، شخص واحد ينبغي له ألا يتزوجها، هذا الشخص هو أنا، لأنني أنا الشخص الوحيد الذي يعرف عنها ما أعرف.
ولو كانت كريمة رجلًا لأصبحنا اثنين. ماذا أفعل؟ لو أبيت؟ لو قبلت؟
أيمكن؟ مستحيل، ولماذا لا؟ لا يمكن، مستحيل، لو فعلت لما تغير الوضع. إن إعلان الخطوبة سيربط اسمها بي، وتستطيع حينئذٍ أن تجد الفرصة أوسع في التشهير بي. ولكن هذه المرأة لا تخاف، ألا تخشى، كيف تقبل أن تتزوجني بالتهديد، إنها داهية. لقد قدرت أنني لو أسأت معاملتها فسيرميني الناس بالوحشية، إنها ستصبح زوجتي، لها عليَّ حق الرعاية، ولا بد أيضًا أن تكون دائمًا موضع الإجلال والاحترام، فإنها ستصبح حرم الباشا ناظر الوقف، طبعًا الباشا، فكل من أصبح ناظرًا على هذا الوقف نال الباشوية. أيمكن أن تكون حرم الباشا مهانة ذليلة؟ إنها داهية، ولكن الزواج، هذه الرابطة العجيبة التي لا تماثلها رابطة في العالم، كيف يمكن أن تقوم على تهديد؟ على غير رغبة من الطرفين؟ كم من زيجات تمت في مصر ولم يكن للزوجة رأي فيها، فليكن الزواج في هذه المرة والرجل مرغم، ولكن الرجل هو الذي يملك الأمر، يستطيع أن يجعل حياة زوجته قاتمة مريرة لا تُحتمل، هذا ممكن إذا لم تكن الزوجة حرم الباشا ناظر الوقف.
ولكن ناظر الوقف يظل مع هذا رجلًا، وللرجل سلطان أي سلطان، ماذا لو استعملت هذا السلطان؟ وهي على كل حال لم تهب نفسها لغيري، ولكن ابني، أي ابن؟ المفروض أن يكون لي منها أبناء، هذا الابن سيصبح ناظر الوقف من بعدي، كيف تكون أمه نازك؟ إن لم أتزوجها فلن يكون هناك وقف على الإطلاق وإن تزوجتها فلن تكون هناك رجولة على الإطلاق. عجيبة هذه الحياة، هل كنت أتصور أن أفكر أنا في زواج فتاة أسلمتني نفسها وكأنها تقدم لي كوب ماء؟ لا يستطيع الرجل أن يحافظ على المبادئ في حياته، لماذا لا يستطيع؟ أليس هو طمعي في نظارة الوقف الذي يرغمني على هذا الموقف؟ إنني أنا الذي أختار بين أن أكون رجلًا أو أكون ناظر الوقف. هل أستطيع بعد ذلك أن أدعي أنني صاحب مبادئ؟ المبادئ لا تتجزأ، إما أن أحافظ عليها جميعًا أو لا أحافظ عليها جميعًا، ولكن من سيدري أنني لم أحافظ عليها، كريمة. كريمة لا تهم؛ فهي لن تفتح فمها، الوقف يضمن سكوتها، ولكن هل المبادئ هي التي يراها الناس أم التي أراها أنا؟ إنني أبحث عن نفسي أمام نفسي، لقد سمحت لنفسك أن تقيم هذه الصلة بينك وبين نازك فعليك أن تتحمل المسئولية. وهل أتحمل المسئولية لأنني أقمت معها هذه الصلة أم لأنها هي ترغمني على الزواج، وترغمني من أجل نظارة الوقف لا من أجل مسئوليتي، أستطيع أن أقول لنفسي أنني … وهل تقبل نفسي، وهل أقبل أن … أليس الأجدر بي أن أكون صادقًا مع نفسي على الأقل، وما البأس أن يكون السبب هو هذا الواقع؟ ولكن، الوقف، أخي، الوقف عظمة ورفعة، ولكن الرجولة وشعوري بالكرامة واطمئناني على بيتي، هذا هو الاختيار، عليك أن تختار بين الوقف بما فيه من جلال وعظمة وسلطان، وبين اطمئنانك على بيتك، مجرد اطمئنانك على بيتك، جيهان، إلهام، نديرة، الوقف. خيل العربة، لا بد أن أشتري خيلًا للعربة، هل أشرب من نفس الكأس الذي سقيته لإلهام، ونديرة ما ذنبها؟ طلقت أمها، إنها هي التي رفضت أن تعيش معي بعد حكاية جيهان، أتُرى إن لم تكن إلهام متزوجة كانت تقبل أن تعود إليَّ الآن وأنا ناظر وقف؟ إلهام كانت تحب نامق؛ نامق الرجل، ولن تغريها نظارة الوقف، لقد حطمت معبودها ولن تعود للمعبود المحطم حتى وإن كان ناظر الوقف، نظارة الوقف لا تستطيع أن تصلح ما تحطم، وكم إنسان في الدنيا مثل إلهام، ونديرة، قد يسرُّها أن أصبح ناظر الوقف ولكن هذا لن يزيد حبها لي. خيل العربة، لا بد أن أشتري للعربة خيلًا. نازك، كم أكرهك، أكرهك، أكرهك إلى درجة أني أحبك، أحبك، لماذا تجعلين من نفسك إرغامًا لي؟ لماذا ترمين بنفسك إلى أتون محرق من الكراهية وأنت حبيبة، حبيبة؟ كيف سأحبك؟ وكيف سأكرهك؟ أي نوع من الحياة ستقوم بيننا؟ وهل ستقوم بيننا حياة؟
٥
يضع الطربوش مستقيمًا على رأسه كأنه الطريق الذي يجب أن يسيره في الحياة، أبيض الوجه؛ ذلك البياض الذي ينمُّ على تدخُّل العنصر التركي في أصوله، يميل إلى القِصر بعض الشيء ويميل إلى السمنة بعض الشيء أيضًا، عيناه بسيطتان لا عمق فيهما وإنما فيهما صراحة، يعرف طريقه تمامًا لأنه طريق لا التواء في ظاهره. دخل إلى مدرسة الحقوق؛ لأن طبقته كلها يجب أن تدخل إلى مدرسة الحقوق، سمع ناظر المعارف يقول لوالده: تصور أنني وجدت الموظفين عندي يقيدون اسم ابن أخيك في كلية الطب فنهرتهم وأمرتهم بتحويل أوراقه إلى كلية الحقوق، بلا كلام فارغ. ولم يكن محتاجًا إلى هذا الحديث لتذهب أوراقه إلى كلية الحقوق، ولو كان قد ترك أوراقه لشأنها لاتجهت من تلقاء نفسها إلى كلية الحقوق. وحين تخرَّج اتجهت أوراقه من تلقاء نفسها إلى المحكمة المختلطة. طريق مرسوم وضحت معالمه منذ أعلنت الحاضنة أنه ولد، ولم يكن أبوه مختار بك صبحي محتاجًا أن يرسم هذا الطريق؛ فالطريق مرسوم بطبيعة مولده، وهو يسير فيه لأنه لا يجد في نفسه رغبة أن يسير في طريق آخر، ولأنه يجده طريقًا جميلًا مفروشًا بالتوقير والاحترام والمكانة اللائقة به وبمولده.
هذا كله عظيم، ولكن يبقى أنا بعد ذلك، جميل أن يحف بي التوقير والاحترام، وأن يستقيم الطربوش، ولكن أنا، يسري مختار، أحب النساء وأحب الكأس وأحب أن يمرح شبابي ويهنأ بما يهنأ به شباب الناس، أنا يسري مختار لا أمانع مطلقًا أن يستقيم طربوشي ما دمت أسير بهذا الطربوش في الشارع، ولكن هنا في هذه الغرفة مع سميحة أحب أن أخلع الطربوش وأن أنسى المحكمة المختلطة و…
– تأخرت البوسة.
– الليل طويل.
– ومع ذلك تأخرت البوسة.
– أكمل كأسك.
– أيمنع الكأس؟
– بالعكس.
– لماذا المناقشة؟
– إن لم نتكلم فماذا نفعل؟
– ألا تعرفين ماذا نفعل؟
– الليل طويل.
– أنقضيه في الكلام؟
– نقضي بعضه.
– خلي الكلام للمحكمة.
– أريد أن أتكلم.
– خلِّي الكلام للمحكمة.
– أليس لي الحق أن أريد؟
– رجعنا للكلام.
– لا بد أن أتكلم.
– أكره الكلام، أكره الكلام.
– الكلام مهم.
– كلام فارغ.
– مهم.
– قولي.
– ماذا تنوي؟
– آخذ بوسة.
– لا تهرب.
– سألت وجاوبت.
– لا أصدقك.
– آخذ بوسة.
– لا أصدقك.
– وكيف أجعلك تصدقين؟
– لا أعرف.
– ألا يمكن أن تعطيني بوسة إلى أن تعرفي؟
– لا تريد أن تكلمني جادًّا.
– أقسم لك أن البوسة أعظم من أي كلام يقوله البشر.
– ومصيري؟
– مرتبط بالبوسة.
– ألهذا تأتي إليَّ؟
– وهل هذا قليل؟!
– قد تزهد فيَّ.
– لا تجعليني أزهد.
– خائفة.
– أنا لم أكذب عليك أبدًا.
– الوضع سيختلف.
– أنا لم أكذب عليك أبدًا.
•••
حين كان نامق بك في مكتبه كانت عيناه شاخصتين إلى الجريدة لأنه لا بد أن يقرأ الجريدة، ولكن، ماذا سأفعل، سأراها اليوم، ولا بد اليوم أن أقول.
مختار بك صبحي بالخارج يريد أن يلقى سعادتك، نعم طلب مني موعدًا، ماذا يريد هو الآخر؟ كالديك الرومي هو، قل له يتفضل.
– أهلًا سعادة البك.
– أهلًا نامق بك.
ماذا يريد، منتفخ كعادته، مؤدب كعادته، ذلك الأدب البغيض، إكسلانس، بغيض، لماذا تريد أن تتزوج مني رغم أنفي؟ الرجل يتكلم، اسمع ما يقول، طبعًا لا بد من مقدمات، لا بد من كلام في السياسة؛ فأمثالنا لا بد أن يتكلموا في السياسة إذا ما التقوا، طبعًا سيتكلم بعد ذلك في البورصة، بدأت البورصة، ثم الزراعة، لم ينته من البورصة، حديثها طويل، إكسلانس، البورصة ما تزال، ثم الزراعة، وبعد، وبعد الزراعة؟
– إكسلانس، جئت أخطب ابنتك نديرة لابني يسري.
وكاد نامق لولا الوقار أن يقفز من كرسيه.
– زواج!
ونظر إليه مختار بك دهشًا، وما أسرع ما تملك نامق بك نفسه.
– إكسلانس.
– لم أكن أتوقع هذا الحديث.
– لا بد لكل حديث من بداية.
– طبعًا مختار بك لا يمكن أن أمانع، ولكن أنت تعرف الوضع.
– أنت الوالد.
– ولكن أمها هي التي ترعاها.
– أنت الوالد.
– من جهتي لا مانع.
– فالأمر منتهٍ.
– وهو كذلك.
وهمَّ مختار بك بالضحك، ولكنه يسمع نامق يستدرك: إنما قل لي يا مختار بك، إننا لم نعرف رأي نديرة.
ووجم الضحك على وجه مختار وظل لحظات فاغرًا فاه، ثم …
– رأي من؟!
– نديرة، أم تقل إنك تخطب نديرة.
– أنت تمزح لا شك يا نامق بك، منذ متى نسأل البنات؟
صحيح، فما قولك يا مختار بك في رجل لا يستطيع أن يقول رأيه في نفسه؟ أطبق عليه الزواج ولا يستطيع منه فكاكًا. صحيح، صحيح.
– صحيح، صحيح.
وضحك مختار أخيرًا وهو يقول: لطيفة هذه النكتة، لم يبقَ إلا أن نسأل البنات.
وضحك نامق في بله وحيرة: صحيح، لم يبقَ إلا أن نسأل البنات.
•••
– تستطيع الآن أن تقول ماذا تنوي أن تفعل.
– ألم أقل؟
– ولكني غير مطمئن.
– ما الجديد؟
– ألا تعرف؟
– ولكن ما الجديد؟
– لن تكون حرًّا.
– وهكذا ستصبح حاجتي إليك أشد.
– أترى ذلك؟
– ألا تعرفين ذلك؟
٦
إذن سيعود اليوم. مرت سنوات لم أسمع صوته، ولم أشعر بأنفاسه تتردد حولي، ولم أنعم بهذا الدفء الذي أحسه في جواره ولا أحسه في جوار أحد آخر من الناس. أي مشاعر عجيبة هذه! كيف أحبه كل هذا الحب وأنا لا أراه؟!
– أبي، ألست ابن باشا؟!
– وأي عجيبة في هذا؟
– العجيبة أنك دخلت الأزهر.
– لم يكن لنا خيار يا ابني، وكان لا بد أن أدخل الأزهر.
– الباشا والدك كان فقيرًا؟
– لم يكن غنيًّا على كل حال.
– سمعتك تقول إن التعليم في الأزهر كان مجانًا.
– ليس هذا هو السبب.
– هناك سبب آخر إذن؟
– قل لي يا صالح، ألا تجد في أبيك شيئًا غريبًا؟
– إنك أبي.
– هذا لا يكفي.
– كان يمكن أن تدخل مدرسة مع ذلك.
– لست صغيرًا يا صالح، إن أصلح معهد لمن كان مثلي هو الأزهر الشريف.
– من أجل هذا إذن.
ولكن هذه العمامة على رأسي لم تكن تقيد حركته، أو أنني أرجو ألا أكون قيدًا على حريته، تركته يفعل ما يشاء، وأحببته. سبحان الله كيف أحبه كل هذا الحب! أحب صوته وأحن إليه، ذلك الحنين الذي يرويه المحبون في أشعارهم. وما لي أعجب؟ ألم أكن أحب أبي وأمي؟ وزوجتي ألم أكن أحبها؟ بعد أن تزوجنا، لا بأس ولكني أحببتها، أحببت رعايتها لي وحدبها عليَّ، كل هذه الأنواع من الحب مبعثها أنا، أحببت أبي وأمي وزوجتي لأنهم أحبوني، لقد أحببت نفسي في حبي لهم، ولكن ابني الذي أغدق عليه ما وسعني الجهد، وأنفق في سبيل تعليمه ورغباته ما أطيق، لماذا أحبه كل هذا الحب؟ لعلني أحب نفسي فيه. ومن أدراني أنه يحمل صورتي؟ يقولون … ألا يقولون لكل والد إن ابنه يشبهه؟ أحقًّا حبه يحملني إلى الأجيال القادمة؟ وما الأجيال القادمة وما قيمتها وأنا في عالم آخر لا ينفع فيه مال ولا بنون؟ لعلني أحب أن أعيش في ابني بعد أن أموت، وهل نعمت بالعيش قبل أن أموت؟ لعلني أحب أن أعيش فيه مبصرًا، المفروض أنني سأكون مبصرًا في العالم الآخر.
– أطال الله عمرك يا ابني.
– قل ما تريد.
– اتركني أدعُ لك أولًا.
– لأنك تريد شيئًا؟
– لأني أريد أن أدعو لك.
– لماذا؟
– لأني أبوك.
– لأنك كل شيء.
– لأني أبوك.
– هناك كثير من الآباء لا يصنعون ما تصنع.
– أحببت أن تعيش حياتك كما أردت أن تعيشها.
– نعم، مع أنك لم تقل أبدًا، إلا أنني أحسست دائمًا أنك تريدني أن أعيش الحياة التي أريدها.
– من أجل هذا قلت الدعاء.
– وأنا أعلم أنك لست وافر الغنى، ومع ذلك …
– إنني وافر الغنى بك.
– لعلني أوسع نافذة تبتلع مالك.
– أحب أن أفعل ذلك.
– ترى يا أبي لو …
– قل.
– لو فكرت أن …
– لو فكرت أن …
– لقد أنهيت ليسانس الحقوق ومن حقك أن تتزوج إذا شئت.
– أتزوج؟!
– أليس هذا ما تريد، ما هذا الصمت؟ إنك رجل، قل، أهو الزواج ما تريد؟
– هل أنت يا أبي مستعد للزواج إذا كنت أريد أن أتزوج؟
– طبعًا.
– فإن طلبت إليك مطلبًا آخر؟
– مثل ماذا؟
– مثل السفر إلى الخارج.
ما أسخف أن يعلن الإنسان عن مبادئه، أصبحت بين شقَّي الرحى يومذاك؛ بين إعلاني أنني أريده أن يحيا حياته كما يشتهي وبين هلعي ولهفتي إن غاب عني، سنوات، سنوات، وأنا أشتاق إليه وهو في غيبة النهار، أو غيبة المساء، لا، وماذا تنفع لا وهي مهيضة الجناح لا تستند على منطق؟! العاطفة لا تسعف هنا، أتقف عثرة في مستقبلي لأنك ستشتاق إليَّ، إن أعظم تضحية أقدمها أن أُخفي شوقي، وأُخفي قلقي، ذلك القلق الآسر العربيد المخيف، ابني وحيد في بلاد غريبة عني وعن أمه وعن الأهل والأصدقاء. ليس ذنبه أنه وحيدي وأنني لا أريد أن أقلق عليه، ليس ذنبه أن المخاوف تتخطف قلبي كلما تأخر عن موعده دقائق، ليس هذا ذنبه، وليس شيء من هذا جميعه يصلح حجة تقف به أن يسافر إلى الخارج.
ويعود ويصفه من يحبني من الناس. أنيق. في مظهره شموخ وفي نظراته إيناس وترفُّع وقدرة على اجتذاب حب الآخرين، أتراهم يصدقونني في وصفه؟ لعلهم يريدون أن يُرضوا نوازع الحب في نفسي، ولكنهم يقولون صفات بعينها محددة، لعلها لا تكون مكتملة، ولكن لا بد أنه يتصف بشيء منها على الأقل.
أما حديثه فإني أستطيع أن أحكم عليه، إنها هوايتي وخبرتي أن أحكم على الناس من أحاديثهم. وهل أملك إلا أن أحكم على الناس من أحاديثهم؟ ولكن هل أستطيع أن أحكم على صالح وهو ابني؟ وما يعنيني إن كان حكمي صادقًا أو غير صادق؟ إنه رأيي أنا في ابني وأنا سعيد به، وليكن للناس جميعًا بعد ذلك رأي مختلف، ماذا يعنيني أنا رأي الناس؟! إنه يستطيع بحديثه أن يأسر قلب محدثه، ويستطيع أن يشعر من أمامه أن كلاهما مهم، وأن حديث كليهما على جانب كبير من الأهمية، وهو يجيد ذلك في براعة لا تكلُّف بها ولا تصنُّع. لو لم يكن رأيي هذا صحيحًا لما استطاع أن يصل إلى منصبه؛ مفتش داخلية في سنوات قليلة، ولو لم يكن رأيي هذا صحيحًا لما استطاع أن …
– أبي.
– أفندم يا حضرة المفتش؟
المفتش يريد أن يفتش عن شيء آخر.
– خير، يبدو أن آمالك لا تقف عند حد.
– أتريدها يا أبي أن تقف؟
– أريدها أن تقف عند المدى الذي تستطيع تحقيقه.
– أنا لا أعرف هذا المدى.
– على مهلك إذن.
– ولكن لا بد أن أحاول.
– محاولة جديدة؟
– حين كنت بالخارج وجدتهم يعرفون عن مصر أكثر مما أعرف.
– وسائلهم أعظم.
– العامل البشري أهم شيء.
– وبعد؟
– لم أشأ أن أقول لك شيئًا حتى أتأكد من عرضهم.
– هل عرضوا عليك شيئًا؟
– أن أقوم برحلة أكشف فيها بعض واحات في صحراء مصر، على أن يقوموا هم بالتكاليف.
– هل التكاليف هي كل ما فكرت فيه؟
– لقد عودتني …
– ألا ترحمني، ألأني عودتك أن تفعل ما تشاء لا ترحمني؟
– آمال عريضة أحملها يا أبي.
– حققها يا ابني، ولكن اعلم أنك تحققها من نبضات قلبي الخائف، ومن هذا الشعور البغيض من القلق يستولي على نفسي فيجعلني أفضِّل الموت على الحياة. حققها يا ابني، حققها.
– لقد أثقلت عليك يا أبي.
– أكثر مما تظن.
– أتدعو لي؟
– ولا أملك إلا أن أدعو لك.
واليوم يعود. أرجو أن يكون قد حقق آماله جميعًا، لا لا قدر الله، بل أرجو أن تمتد آماله ما امتدت به الحياة، ولكن أرجو فقط أن تكون القاهرة هي مسرح آماله وليست أوروبا وليست الصحراء، لعل عودته الناجحة هذه التي تحيطه بهالات من التكريم والحفاوة والتعظيم، لعلها تتيح له من قلوب القاهرة ما تجعله يستقر بآماله فيها، فإنني والله أخشى لو سافر مرة أخرى ألا أراه، أقصد ألا يراني بعدها، عودًا حميدًا يا صالح، مرحبًا بك في حضن أبيك يا صالح.
٧
تم الزواج كما شاءت أن يتم. كانت قد دبرت لكل عارض ما يهدمه، كانت تعرف أن الزواج حين يتم بهذه الصورة العنيفة التي رسمتها سيكون قاسيًا على نفس نامق وسيجعله نافرًا دائمًا منها ومن الحياة بجانبها، ولكنها تعلم أن الناس دائمًا يؤثرون العافية ولا يحبون أن تكون حياتهم نكدة، وهي تستطيع دائمًا أن تملأ الحياة مرحًا وحبًّا.
– أغاضب أنت؟
– لقد رسمت ونجحت.
– اسمع، لقد أعطيتك نفسي لأني أحبك.
– أم لأني سأكون ناظر الوقف؟
– اذكر جيدًا، هل كنت مرشحًا لنظارة الوقف يوم أعطيتك نفسي؟
– لم أعد أذكر شيئًا.
– ولا تلك اللحظات السعيدة؟
– أدفع ثمنها الآن.
– أزواجك مني هو الثمن الذي تدفعه؟
– إرغامي على هذا الزواج.
– ولو كان لك الخيار؟
– لعلني كنت أختارك.
– أيهما أجمل: أن تختارني أم أن أختارك؟
– الرجال يختارون في العادة.
– يختارون نساء لا يملكن من أنفسهن شيئًا، ويعيشون معهن وهم لا يدرون إن كانت زوجاتهم يحببنهم أم هن يؤدين أدوارهن كزوجات بلا حب ولا عاطفة ولا ذكريات، أما أنت فقد اختارتك زوجتك من بين جميع الرجال، واختارتك لنفسك، لم تكن تعلم يوم وهبتك نفسها أنك ستصبح ناظر أكبر وقف في البلاد، وتمسكت بك وتزوجتك، أيهما أجمل عندك؛ أن تختار أنت أم أن أختارك أنا؟
وسكت، وبدا عليه شيء من الزهو، وأطرق قليلًا ثم رفع رأسه إليها: على أي حال لقد أصبحت حرم ناظر الوقف.
– أكثير هذا عليَّ؟!
– مطلقًا، فأنت من بيت عريق.
– إذن لماذا تظل تقول هذا؟!
– لأن مكانتك تحتم عليك أوضاعًا جديدة.
– مثل ماذا؟
– لا حفلات، لا خروج، لا زيارات إلا بعلمي، لا بد أن أعرف في كل لحظة ماذا تفعلين.
– لك هذا، ولكن.
– نعم.
– عليك أن تعوضني عن هذا السجن.
– لك ما شئت من أموال.
– لا يكفي.
– فماذا تريدين؟
– أريدك أنت، أوقات فراغك.
– كلها لك.
– اتفقنا.
– اتفقنا.
– ولكن هناك مشكلة صغيرة.
– ماذا؟
– ابنك.
– ابني؟!
– سيأتي في موعد غير مناسب.
– كيف، أنت حامل؟
– لعله يأتي قبل الشهر السابع.
– قبل الشهر السابع.
– احسبها أنت.
– وبعد؟!
– في الوقف مشايخ كثيرون، وما أسهل أن يصدروا الفتيا.
– إذن فأنت حامل؟
– سعيد أنت؟
– ولكنك لم تستعملي هذا السلاح وأنت تنفذين خطة الزواج.
– لو كنت احتجت إليه لاستعملته.
– لا تفكري في الأشهر واهتمي بصحتك.
– أنت تستطيع أن تصنع كل شيء، ألست ناظر الوقف؟
– إذن فأنت حامل، إذن فأنت حامل.
وضمها إلى صدره ونسي في حضنها فترات القهر التي كانت السبب في فرضها عليه، نسى كل شيء إلا أن هذه المرأة المثيرة ستصبح قبل شهور سبعة أم ناظر المستقبل.
٨
لم تكن نديرة تحب أن تبقى في بيت أمها؛ فقد كانت تشعر دائمًا أنها في غير مكانها، فإن إلهام بعد أن طُلقت من زوجها أرادت أن تنتقم لهذه الفضيحة التي أطاحت بها وبزوجها، وأرادت أن تشعر أنها امرأة تستطيع أن تجد من يرغب فيها كما استطاع زوجها أن يجد من ترغب فيه. وزواج مثلها ليس عسيرًا؛ فهي جميلة، وهي ثرية، وهي في ريعان الشباب، ولم تكن خيانة زوجها لها إلا لرغبة الخيانة في ذاتها؛ ففي كثير من الأحيان تصبح الخيانة الزوجية هدفًا لا مبرر له، وقد كانت خيانة نامق من هذا النوع. وحين فكرت إلهام في شأن نديرة وماذا يمكن أن يصير إليه أمرها إذا هي تزوجت رجلًا آخر، طمأنت نفسها أن نديرة طفلة ما تزال، وسوف تجد المشكلة فترة طويلة حتى تصبح مشكلة خليقة بالتفكير والبحث.
لم تمر شهور على فضيحة نامق حتى وجدت إلهام من يسألها رأيها في الزواج، وإلهام ذات ذكاء بارع تستطيع أن توافق فتصوغ الرفض كأنه موافقة.
– ومن يرضى بزوجة مهجورة؟
وجملة كهذه من إلهام الثرية الجميلة، ابنة فهمي باشا محسن، تستطيع أن تدور بمحافل القاهرة جميعًا في ساعة من سهرة، وقد استطاعت الجملة فعلًا أن تصبح على الشفاه، واستطاعت أيضًا أن تصطاد لها الخطَّاب من كل راغب في ثروة، أو راغب في شهرة، أو راغب في جاه، أو راغب في زواج، أو راغب في هذا جميعًا. ولأمر غير مفهوم يجتذب الثراء الثراء وخاصة في الزواج. لعل العروس تحب أن تطمئن أن زوجها لن ينفق من مالها، أو لعل الزوج يحب أن يطمئن أنه سيجد في مال زوجته سندًا إن نفدت ثروته، أو يجد في ثروته وثروتها جميعًا وسيلة لمزيد من الثروة. على أية حال هي ظاهرة من الظواهر الكونية تحدث ولا تبرير لها ولا تحتاج إلى تبرير؛ كجاذبية الأرض أو كرويتها.
وهكذا تم زواج أحمد بك طلعت القاضي بالمحاكم المختلطة وابن طلعت باشا علي، من إلهام هانم فهمي ابنة فهمي باشا محسن وطليقة نامق بك إبراهيم أحد المستحقين في الوقف، ولم يكن إلى ذلك الحين مرشحًا لنظارة الوقف ولا كان يخطر ببال أحد أنه سيكون مرشحًا في يوم من الأيام.
وهكذا اطمأنت إلهام أنها استطاعت أن تحصل لنفسها على زوج خير من طليقها هذا العربيد الذي يخونها ولا يحسن حتى أن يخفي خيانته.
وأنجبت إلهام لزوجها الجديد خديجة، ولم تكن نديرة قد أكملت من عمرها السنوات الثلاث. ورغم أن أحمد كان يحاول دائمًا أن يكون رقيقًا مع نديرة، إلا أن نديرة كانت دائمًا تحس أنها في غير مكانها. وكانت الأم تحس بذلك فكانت تحاول بفيض من العطف أن تمحو عن ابنتها هذا الشعور. ولكن العطف المسكوب في سعة يزيد نديرة شعورًا أنها في غير مكانها. فهل مكاني بيت أبي؟ وماذا يستطيع أبي أن يهيئ لي وهو يعيش وحيدًا مشغولًا بفراغه؟ إن بيت أبي أيضًا ليس مكاني، شعور شبَّ معها تحس به وهي طفلة، ولم يباغتها التفكير فيه حين هيَّأ لها سنها أن تفكر.
وكان أحمد يحس من نديرة بهذا الشعور فلم يكن غريبًا منه أن يحبذ زواجها من يسري، ولم يكن غريبًا من الأم أن تقبل الزواج فالشاب مناسب من كافة الوجوه.
أما نديرة فقد أحست أنها تستطيع أخيرًا أن تكون في مكانها الطبيعي.
وأراد نامق أن يُظهر عطفه على ابنته فأصر أن يكون زواجها في قصره؛ فابنة ناظر الوقف يجب أن يكون زفافها في قصر ناظر الوقف.
وحين رأت إلهام نازك لم تحدق فيها؛ فهي تعرف كيف تكون متكبرة، ولكنها أحست بشعور عجيب من الرضى. إنها في عمر نديرة أو تكاد، إن هذه السيدة التي تزوجت طليقي لا بد أن تخونه، ستنتقم لي هذه الفتاة، لا، لم تستطع السنون الطويلة أن تمحو ما أذلني به. طعنني في أنوثتي وفي سمعتي وجعل مني أحدوثة بين الناس، إن لم تنتقم لي نازك فإني سأنتقم، بل إني سأنتقم حتى وإن انتقمت نازك، إنها حلوة، وصغيرة، وحامل في شهورها الأخيرة ولم يمر على زواجها خمسة أشهر. فليصبح ناظر وقف وليصبح باشا وليصبح أعظم إنسان في الوجود، فإن هذا جميعه سيجعل الانتقام أعظم روعة. فكلما ارتفع المكان الذي يسقط منه كانت السقطة أبشع وأفظع وأدعى إلى شفاء النفس التي تريد أن تنتقم.
كان صالح واقفًا في الحفل حائرًا، إن بعضًا من هؤلاء كان زميلًا له في كلية الحقوق، ولكن أحدًا منهم لم يكن صديقًا له، إنه لا يدري كيف جيء به إلى هذا المكان. لقد وجد الدعوة موجهة إليه من نامق باشا، وطبيعي أن يعرف هو نامق باشا فكل مصري يعرفه، ولكن كيف عرفه نامق باشا أو حتى كيف عرفه موظف الوقف المختص بتوجيه الدعوات؟
انتحى مكانًا وراح يجيل عينيه في الحفل، إنها الصحراء، إنهم جميعًا حبات رمل متشابهة، الإيماءة هي الإيماءة، والابتسامة هي الابتسامة، والانحناءة هي الانحناءة، صحراء من الأرستقراطية مهما تتعمق فيها لن تجد ماء، قليلون منهم قليلون اهتموا بالبحث، وقليل منهم أقل اهتم بالفن، ولكنهم جميعًا يهتمون بالإيماءة والابتسامة والانحناءة، ولكن هناك شخصيات أخرى، هؤلاء الذين لم يقف بهم مجد آبائهم من زرع أسمائهم في أرض مصر لتصبح نباتًا مباركًا ولتصبح شجرات راسخة في تاريخها. أصولهم مصر، وجذورهم في مصر، وفروعهم تستاف هواء مصر، وتهب أريجها لأرض مصر ولسماء مصر، هؤلاء هم الواحات في صحراء الرمال والماء في الأعماق والاخضوضار المزدهر بالحياة في الاصفرار الشاحب بالموت من لون الصحراء، ولا تكون الواحة إلا في الصحراء، ولا يحلو الماء كما يحلو في البيد الواسعة للمسافر الصديان يقتله العطش أو يكاد، حتى يجد لمعة الماء وظل الشجر.
أريد أن أكون مع هؤلاء، بينهم، إنهم يعيشون مع حبات الرمل هذه، ولكن كما تعيش الواحة من الصحراء.
– مرحبًا أستاذ صالح.
وبُهت صالح وهو يجد نفسه وجهًا لوجه أمام نامق باشا في وجهه المتكبر وفي ابتسامته التي تعرف كيف ترسم نفسها على شفتيه، ويعرف نامق أنه إزاء بغتة ترمي بظلها الكثيف على ضيفه.
– عرفت صورتك من الجرائد، فقد قمت بعمل عظيم في الصحراء.
– يشرفني ثناء سعادتك يا افندم.
– خريج حقوق ومكتشف حقًّا، إنك من الشباب الذي تعتز به مصر.
– هذا رأي يملؤني فخرًا.
– أريدك أن تعمل معي.
– أنا يا افندم؟
– تُشرف على القضايا في الوقف، وتكون الصلة بيننا وبين الحكومة.
– يا افندم.
– تستطيع أن تأتي لمقابلتي غدًا في السابعة مساء، أنا دعوتك ليكون أول يوم تدخل فيه القصر يوم فرح، ولأتعرف بك أيضًا بعد السمعة العريضة التي كسبتها.
– دعوتك شرف، وسأكون عند سعادتك في الموعد.
– شكرًا، تعالَ أعرفك على موظفي الوقف، أظنك تعرف بعض المدعوين؛ فإن منهم من تخرجوا في الحقوق مثلك، تعالَ فكثيرون هنا يحبون أن يتعرفوا بك.
ويتأبط نامق باشا ذراع صالح المذهول ويجوسان خلال الحفل، ولا يستطيع صالح أن يجد شيئًا يقوله إلا: ألاحظ أن سعادتك تميل إلى طراز لويس السادس عشر في الأثاث.
– لاحظت ذلك؟ الواقع أنني أحب هذا الطراز، كما أنني أشفق على لويس السادس عشر.
– ورث الثورة مع العرش.
– وكان الذوق في عصره قد بلغ القمة.
– فعلًا، فإنني أعتقد أن طراز الإمبراطورية أو نابليون في الأثاث يوحي بالغلظة والخشونة.
– هذا طبيعي.
– وألاحظ أيضًا أن سعادتك تعجب بالأوبيسون الذي يصوِّر الأشخاص.
– فعلًا.
– أتراك تحبه لأنك تحب الإنسان؟
– لا أعرف.
– حتى إطارات الجوبلان كلها أشخاص.
– إنك لم تُضِع وقتك في أوروبا.
– إن دراسة الأوبيسون والجوبلان وأنواع الثُّريات وأنواع الستائر والسجاجيد دراسة لتفكير العصر وثقافته.
– قليلون من الذين دخلوا القصر التفتوا إلى ما التفتَّ إليه.
– لعل الذين يدخلون يعتبرون رؤيتهم هذه الأشياء أمرًا طبيعيًّا، أما أنا فلم أرَ مثل هذه الأشياء إلا في اللوفر وفرساي ومتاحف باريس ولندن.
– أنا أعلم أن أباك ميسور الحال.
– شيخ هو متخرج في الأزهر؛ فهو لا يفكر في تأثيث بيته إلا بالشيء النظيف اللائق.
– إنني أزداد إعجابًا بك في كل كلمة تقولها، تعالَ، لا أدري ما هذه المصادفة؟ إن أول من سأعرفك به أنت تعرفه طبعًا، أحمد بك طلعت.
كانت عينا فتوح تتبع نامق وصالح في دربة، لا بد أن تعرف كريمة بهذه الصلة الجديدة.
ويستمر نامق في حديثه مع صالح: طبعًا في أوروبا كانت كل الحفلات التي تحضرها يختلط فيها الرجال بالحريم، كثير من الحفلات هنا تقام على أساس الاختلاط، لا أعرف إن كنت حضرتها أم لا، أنا كناظر وقف كان لا يمكن أن يختلط عندي الرجال بالحريم.
– اسمح لي سعادتك أن أنقل إليك ما يقوله الناس.
– بل اسمح لي أنت أن تفعل ذلك معي دائمًا؛ فأهم شيء اخترتك له أنني أعرف أنك رجل مجتمع وتستطيع أن تنقل لي دائمًا ما يقوله الناس.
– يقولون إنك بعد أن صرت ناظر وقف أصبحت إنسانًا آخر.
– هذا مديح على ما أظن.
– إنني يا سيدي أعتبره مديحًا عظيمًا.
– لقد قلت رأيك فيَّ قبل النظارة بذكاء شديد، على كل حال أرجو أن تنقل إليَّ بعد ذلك كل ما تسمعه مديحًا كان أم ذمًّا.
– ما أراه من بساطة سعادتك سيشجعني على الصدق.
– المديح أسمعه كثيرًا بحكم السلطة التي أمارسها.
– أعرف ذلك.
– أحب أن أسمع شيئًا جديدًا.
– إذن فأنت تحب أن تكون عادلًا.
– بقدر الطاقة.
– سعادتك تعرف أن العدل ليس سهلًا.
– ألم تقل إنني تغيرت؟
– ولكني لا أعرف مقدار التغير.
– ستعرفه، تأكد أنك ستعرفه.
٩
هل ظن أن الدنيا دانت له؟ هل خُيِّل إليه أنني نسيت؟ أيريد أن تطمئن به الحياة وينعم في نظارة الوقف وبالزوجة الجديدة وبالوليد القادم؟ إنني أعرفه يحب دائمًا أن يطمئن، يحب أن يغامر ولكن في تكتم، ويحب أن ينتهب من الملذات كل ما تصل إليه يده، ولكن على أن يكون مطمئنًّا. كيف رُكِّب هذا التركيب العجيب؟ لست أدري ولا يهمني أن أدري، ولكن هو كذلك، لا يحب القلق ولا يحب أن يتسرب إلى نفسه شيء مما يثير الشكوك، أمطمئن هو لزوجته؟ إني أعلم أنه يحاول أن يُطمئن نفسه ما وسعه الجهد؛ فهو يبث حولها العيون الرواصد، وهو يمنعها من الزيارات، وهي لا تلتقي برجل إلا الأغوات، لالا ألماظ ولالا بشير. أعرف كليهما. كانا لا يحسنان في الدنيا شيئًا؛ فلا هما من النساء حتى أكلفهما بما يكلَّف به النساء من الخدم، ولا هما من الرجال حتى أعتمد عليهما فيما يقوم به الخدم من الرجال، ولكنني كنت أحب كلًّا منهما؛ فهما يحفظان الكثير من الحكايات، وهما يستطيعان دائمًا أن ينقلا إليَّ أخبار السيدات الأخريات، أتستطيع نازك أن تكتفي بما يرويه لها لالا ألماظ ولالا بشير؟ إنها امرأة تحب أن يعجب بها الرجال، ولا يمكن أن يعجب بها الرجال وهي في خدرها لا ترى إلى الناس ولا يرى الناس إليها. ولكنها قادرة، تستطيع أن تصنع ما تشاء، استطاعت أن تتزوج نامق وليس هذا بالأمر اليسير، ما كان نامق ليتزوج امرأة اتصل بها إلا إذا وقع تحت طائلة إرهاب شديد.
كيف استطاعت نازك أن تدبر هذا الإرهاب، إنها قادرة.
وها هي ذي فتاوى المشايخ تتوالى أن الجنين يمكن أن يمكث في بطن أمه أقل من ستة أشهر ثم يخرج إلى الوجود وليدًا شرعيًّا يواجه الحياة في ثقة واطمئنان. إنه ابن العقد الشرعي وليس ابن اللحظة العابرة، إنه تدبيرها، ولم تنسَ الأطباء فأبحاثهم عن فترة بقاء لوليد جميعها تؤيد هذه النظرية التي وضع أسسها المشايخ، أطباء جدد يريدون أن يبدءوا طريقهم إلى الحياة بالغنى، ولكن لا يهم فإنهم أطباء على كل حال، إنه تدبيرها، فلو أن نامق فكَّر لاستدعى أكبر طبيب وطلب إليه أن ينشر بحثًا يؤيد هذا الرأي، وسينسى نامق في غروره أن الطبيب الكبير لن يقبل؛ فسمعته عنده أعظم من سلطان الباشا الناظر، لم يلفته إلى صغار الأطباء إلا هي، إنها قادرة، ولكن لا أريد أن أتركها وشأنها، أريدها أن تجد الطريق حتى تسير فيه.
– أحمد بك.
– أفندم إلهام هانم؟
– متى تعود نديرة من شهر العسل؟
– أنت أدرى.
– أظنها ستعود بعد أسبوع.
– ربما، هل أرسلت إليك خطابًا؟
– لقد قالت قبل أن تسافر إنها لن تغيب أكثر من شهرين؛ فهي تحب أن تقضي الشتاء في القاهرة.
– لعلها تعود بعد أسبوع.
– أريد أن أُقيم لها حفلًا.
– ألم يقم لها أبوها فرحًا ما زالت القاهرة تتحدث عنه حتى الآن؟
– ولكنني أنا لم أقم لها حفلًا.
– وما البأس؟ نقيم لها حفلًا.
– أريده حفل الموسم.
– وليكن حفل الموسم.
– أرجو أن تأمر بالإعداد له.
– ألا نحدد موعده؟
– بعد عودتها بأسبوع.
– ما اسم الموظف الذي تقول إنه عُيِّن في الوقف وأصبح ذا حظوة لدى نامق؟
– إنك لا شك تعرفين اسمه؛ فقد نال شهرة واسعة منذ كشوفه في الصحراء.
– أتحاسبني على النسيان؟ ما اسمه؟
– صالح عبد العال.
– آه تذكرته.
– لماذا تسألين؟
– أريد أن أدعوه.
– ما المناسبة؟
– بلا مناسبة.
– إلهام هانم، هل لديك مشاريع لا أعرفها؟
– تستطيع أن تعرفها إذا شئت.
– إني أشاء لا شك.
– تعرف أنني لا أنال نصيبي كاملًا في الوقف، وأنا أستكبر أن أتحدث إلى نامق.
– إلهام هانم، أعتقد أن هناك سببًا آخر.
– أليس هذا سببًا وجيهًا؟
– وجيه حتى أعرف السبب الحقيقي.
– ما دام هذا السبب يكفيك فادعُه.
•••
كانت الثريات تكاد تضيء وحدها حتى ولو لم تصل إليها الكهرباء؛ فهي من الكريستال الثقيل الذي يطلقون عليه باجيس، كرات ضخمة من البلور كأنها الماس تخطف الأبصار خطفًا. وكانت البُسُط من النوع الصيني الذي يكتنف القدم جميعًا حتى ليقتلع السائر عليها أقدامه منها اقتلاعًا. وكان الأثاث فخمًا غاية الفخامة؛ فهو جميعه من الأوبيسون الذي صنعته في فرنسا يد رقيقة من خالص الحرير في عهود الملكية الباذخة لفرنسا، وكانت الستائر أيضًا من الأوبيسون.
وكان المدعوون جميعًا في أفخر ملابسهم؛ فالرجال في ملابس السهرة السوداء، والنساء في ذروة افتنانهن بفساتينهن، والجواهر تتلألأ تحت الثريات كأنها ضياء من الضياء، والمعاطف والأوشحة الفرير الزبلين التي تقذف بها أيد ناعمة في غير اكتراث عند المدخل، فكأنما الناس قد صُنعوا لهذا الأثاث، أو كأنما الأثاث قد صُنع لهؤلاء الناس؛ فالأثاث والآدميون جميعًا أجزاء من صورة رائعة الفخامة ولا يكتمل قوامها إلا بوضع هذه الأجزاء بعضها إلى بعض.
وإلهام تمر بالمدعوين تحيِّيهم في عظمة وأدب وفي مران، والمدعوون يعرفون ما يصنعون فلا يروعهم مما حولهم شيء ولا يبهرهم مما يحيط بهم بذخ أو فخامة، ونديرة تمر بين القوم وقد وضعت على شفتيها ابتسامة تريدها أن تكون سعيدة فتنجح في ذلك نجاحًا لا بأس به، ويسري يسلم على المدعوين شاردًا؛ فعيناه إلى المدخل لا تريمان عنه، أكان لا بد لسميحة أن تصر على المجيء؟ تريد أن ترى بيتي؟ معها حق، كيف تستطيع أن تراه إلا في حفل كهذا؟ ماذا أفعل لو أحست نديرة؟ وما الذي يجعلها تحس؟ أيستطيع أخوها أن يتصرف كما يتصرف هؤلاء القوم؟ أتستطيع هي؟ أكان لها أن تجيء؟ وما البأس أن تجيء؟ لا أحد يعرف صلتي بها، إنها ذكية، ونديرة ذكية، ابنة ناظر الوقف، يستطيع أن … ولماذا، ولكن تأخرت سميحة، ترى ما نصيب نديرة من الوقف؟ إن لها نصيبًا عن أبيها ونصيبًا عن أمها، وما الفائدة؟ الوقف لا يباع، ولكنه يدرُّ ريعًا عظيمًا، أتفكر في المال الآن؟ سميحة طلباتها لا تنتهي.
وصالح واقف ينفض الحفل بعينيه، أصبح له أصدقاء بين هؤلاء الناس، فكثير منهم سعى إليه لما له في الوقف من نفوذ، إنه لا يبحث عن هؤلاء الذين سعوا إلى نفوذه. إنه يريد هؤلاء الذين يُعجب بهم من أبناء الفلاحين الذين صنعوا أنفسهم بأيديهم وبما قدموا لبلادهم من تضحيات، هؤلاء الواحات الذين يراح إليهم في صحراء الأرستقراطية، وقبل أن يعثر على أحد منهم.
– أهلًا صالح بك.
– إلهام هانم لا شك؟
– ذكاؤك لا شك فيه.
– أنا سعيد بلقائك.
– اليوم أرجو أن تتمتع بالحفل، ولكني أريد أن أراك في فرصة هادئة فإن لي معك حديثًا.
– أنا دائمًا تحت أمرك.
– استمتع الليلة بالحفل وسوف أرسل إليك قريبًا.
– تحت أمرك.
وتنصرف عنه إلهام وتعود عيناه تجوسان في الناس، ولكن عينين أخريين كانتا تنظران إليه دون أن يحس، إنه أنيق في غير تصنُّع، لا تكلُّف في ملبسه، ولكنه يبدو وكأنه يهتم بأناقته خير الاهتمام، إن قوامه الرشيق يتيح له هذه الطبيعة النادرة من الأناقة البالغة التي تبدو وكأنها مخلوقة معه، لم يبذل في خلقها جهدًا أو تفكيرًا، ويقولون إنه يجيد الحديث، ولا شك أنه يتقن فن الحياة؛ فالرجل الذي ينتقل من إنجلترا إلى الصحراء رجل يتقن فن الحياة. ما الذي يجعله واقفًا وحده هكذا؟
– وحدك؟
– أبحث عن صديق.
– ألا تعرف أحدًا من هؤلاء؟
– أعرف جميع الرجال تقريبًا.
– فلماذا أنت وحدك؟
– لأني أبحث عن صديق.
– ألا يعجبك منهم أحد؟
– وأنتِ؟
– أنا صاحبة البيت.
– أعرف ذلك.
– كيف عرفت؟
– لأنك تفضلت ببدء الحديث معي.
– فقط؟
– ولأني أعرف أن لإلهام هانم ابنة أخرى غير نديرة هانم.
– فأنت لا تحتاج إلى أن أقدِّم نفسي.
– خديجة هانم لا تحتاج إلى تقديم نفسها؟
– ولكنك تسألني إن كان المدعوون يعجبونني أم لا؟
– أرى في وجهك شيئًا لا أراه في وجوه الآخرين.
– أمديح هذا أم ذم؟
– ماذا تعتبرينه أنتِ؟
– إن من تراهم هم صفوة الأرستقراطية المصرية.
– ومع ذلك أسألك ماذا تعتبرين قولي؟
– يصعب أن نطلق حكمًا عامًّا.
– ما زلت مُصرًّا على السؤال.
– إنك تريدني أن أذم هؤلاء المدعوين.
– هل تعتبرين إبداء رأيك فيهم ذمًّا؟
– أنت تستدرجني للذم.
– ربما.
– يسهل جدًّا أن أكسب إعجابك بي بذمهم.
– على أن يكون هذا رأيك.
– إن ذمهم ظلم كبير.
– أتعتقدين ذلك؟
– إنهم أبناء بيئتهم، ورثوا ما لا يعجبك فيهم مع الثروات التي ورثوها.
– ولكنهم عاشوا في مصر عمرهم جميعًا فلم يستطيعوا أن يكونوا مصريين أبدًا.
– ماذا تقصد بمصريين؟
– يكفي أن تسمعي لغتهم.
– ألم أقل لك إنهم ورثوا بيئتهم؟
– كانوا يستطيعون على الأقل أن يتعلموا لغة بلادهم.
– وهل اللغة في رأيك هي دليل المصرية؟
– أساس من أهم الأسس.
– بعضهم يتكلم العربية.
– أيرضيك هذا؟
– لا أريد أن أظلمهم؟
– ولكنكِ أنت تجيدين العربية.
– أصدقائي جميعهم من المصريين.
– ويحدثونك بالعربية؟
– أجيبهم بالعربية.
– لماذا لم يصنع هؤلاء مثلك؟
– لا أدري، ولكنني صمَّمت منذ طفولتي على أن أتقن العربية.
– ونجحت.
– إنني أحفظ شعرًا.
– لا أصدق.
– أنت تحب شوقي؟
– حتى هذا تعرفينه؟
– إنني أقرأ الصحف بانتظام.
– لماذا ذكرت شوقي؟
– لأني أحفظ قصيدة له في وصف مرقص كهذا الذي نحن فيه.
– المؤكد أن شوقي لم يتصور أن قصائده في وصف المراقص ستُذكر في أثناء هذه المراقص.
– لك حق، لقد وصفها لنفسه ولم يصفها ليقرأها الراقصون.
– الراقصون لا يقرءون العربية.
– ولكني أحفظ القصيدة.
– أي قصائد المراقص تحفظينها؟
– جميعها.
– جميعها؟
– حتى:
– ألاحظت في هذه القصيدة كلمة: فارسية؟
– نعم:
– ألاحظت أن كلمة فارسية تكون شطرة كاملة؟
– ومع ذلك راح حافظ يسخر من القصيدة.
– المنافسة بين الفنانين مكسب لمن يستقبلون الفن.
– ولكن ليست هذه القصيدة هي أحبها إليَّ.
– فأيها إذن؟
– يخيل إليَّ أنه لم يقل هذه القصيدة إلا ليمدح نفسه.
– وهو محق.
– أتذكرين هذه الأبيات:
– وإنه لكذلك.
– أتحفظ له شعرًا؟
– أحبه لدرجة أنني لا أستطيع أن أحفظه.
– لقد بدأت تستعمل أسلوب أولئك الذين لا تعجب بهم.
– أترين ذلك؟
– وأرى أنك أيضًا بدأت تضع على شفتيك أحيانًا ابتسامة كالتي يضعونها على شفاههم.
– أرجو ألا يكون هذا ذمًّا.
– أرجو أن تظل بطبيعتك.
– ربما كانت سيئة.
– لن تكون أسوأ من التكلف.
– التيار حولي شديد.
– إن الذي خاض الصحراء لا يجوز أن يقول هذا.
– أخشى على نفسي.
– أنت محق في خشيتك.
– ادعي لي أن أظل كما تريدينني أن أكون.
– سأدعو لك أن تظل كما تريد أنت أن تكون.
– ليس المهم الابتسامة والحديث.
– إنها مظاهر.
– الذي أخافه هو أن أتغير من الداخل.
– أبدأت تشعر بهذا الخوف؟
– الوظيفة التي أشغلها وثقة الباشا فيَّ تجعلني في قلق دائم أن أفقد كل هذا في لحظة.
– بماذا كسبت ثقته؟
– أقول له الحق.
– فقل له الحق دائمًا.
– إن أمثاله يتحملون الحق مرة بين عشر مرات من النفاق.
– فماذا أنت صانع؟
– ألم أقل لك إني خائف!
– أتنوي أن تنافق!
– إني خائف.
•••
حين دخلت سميحة الحفل التقطتها عينا يسري فسارع إليها، وكانت اللحظات التي مرت بها قبل أن يصل إليها عصيبة؛ فقد هالها ما ترى ووجف قلبها وتسمَّرت مكانها تبحث عن يسري؛ فقد خُيِّل إليها أنها تغرق في بحور من الفخامة والنور لم تتعودها. نظرت إلى أخيها فوجدته فاغرًا فاه مذهولًا فازداد اضطرابها ولم تجد شيئًا تفعله إلا أن تنظر إلى أخيها.
– اقفل بوزك.
وانتبه فتحي إلى نفسه وأقفل فمه، ولكن التعبير الذي في عينيه لم يستطع التغلب عليه. لحظات ولكنها مروعة ومخيفة، وأدركهما يسري: أهلًا.
– الحقنا.
– اثبتي.
– أنا لا أعرف أحدًا هنا.
– الحمد لله.
– ماذا أفعل!
– تعالي أولًا أقدمك إلى نديرة.
– ماذا ستقول لها؟
– تعالي.
•••
– فتحي بك فاضل من رجال الأعمال، والسيدة أخته سميحة هانم فاضل.
ونظرت إليهما نديرة نظرة عميقة ولكنها كافية لأن تعرف أنهما غريبان عن هذا الوسط جميعه. ولكنها لم تشك في شيء، فزوجها يستطيع أن يعرف في الحياة العامة أناسًا من طبقات مختلفة.
– أهلًا وسهلًا، شرفتم، تفضلوا.
١٠
هن يُقبلن لزيارتي ويقدِّمن الإجلال والاحترام، سيدات معروفات بذواتهن لا يتغيرن، حديثهن معاد لو كان طليًّا لفقد طلاوته، فما الخطب وهو من أول أمره حديث ثقيل لا رواء فيه ولا جاذبية؟ وهو يأبى أن أترك القصر إلا لزيارات يعرفها، وهو حريص على أن يعرفها، ثم هو حريص بعد ذلك على أن يتأكد منها بطريقة أو بأخرى؛ فالسائق من القصر، ولالا ألماظ ولالا بشير رقيبان لا تفتر لهما همة ولا يهن لهما نشاط، وماذا يصنعان إن لم يرقبا؟ لقد عرفا منذ وقت طويل أن الوظيفة الوحيدة التي يستطيعان أن يقوما بها هي المراقبة والحديث عن الغير، وهو أيضًا وليد المراقبة.
لقد نفذ نامق اتفاقه، ومن أدراني أنه نفذه؟ إنني لا أستطيع أن أفرض عليه من العيون مثلما يفرض، كيف أعرف أنه حين يذهب إلى الإسكندرية يذهب للعمل وحده؟ إن قصره هناك على البحر يستطيع أن يستقبل فيه من يشاء، وأنا هنا أطمئن نفسي أنه نفذ اتفاقه.
كيف أستطيع أن أبث حوله العيون مثلما يبثها حولي؟ إن الكوة الوحيدة التي أُطل منها على العالم الخارجي هي كريمة، وهو لا يجسر أن يقصيها عني حتى لا تفشي من سري ما يريد له أن يظل سرًّا.
أين ذلك الهمس الأثيري الذي كان يشيع في أرجاء المكان حين أطل عليه؟ رءوس النساء تتمايل، وعيون الرجال تثبت، ويتهامس الجميع، ويشعر المكان أن شيئًا جديدًا حدث فيه، وكان دائمًا جديدًا، هذه النشوة التي كنت أحس بها مزيجًا من الزهو والفرح والإعجاب بنفسي والرضا عن الناس، كنت أحس أنهم يقبلونني بعيونهم، وكنت أحب أن أرد لهم هذه القبلات، وكنت أحاول بعيني أن أفعل.
طالما الأمد على هذا جميعه، وكان لا بد للأمد أن يطول، تزوجت من ناظر الوقف، وجاء نادر. لا يمكن أن أذهب إلى الحفلات ونادر في طريقه إلى المجيء، وقبل أن يظهر في الطريق كان هناك هذا الاتفاق بيني وبين نامق ألا خروج، وكان لا بد من الطاعة أو من التظاهر بالطاعة في أول الأمر؛ فقد كان نامق طوال هذه الفترة لا يستقر على حال؛ فهو حينًا لطيف يعاملني برقة، وهو حينًا خشن أحس القلق والخوف في عينيه، ليس هذا غريبًا على الرجال مع المرأة التي تقدم نفسها قبل الزواج، إنه دائمًا يخاف ويرغم الخوف أن يستكين في البعيد من نفسه، ولكن الخوف لا يزال أبدًا. حين جاء نادر كان يتفرَّس فيه، يريد أن يرى نفسه، فهو يبتسم حينًا ويعبس حينًا ويتفرَّس، لم يعبأ بالهمس في البيوت فلم يكن الهمس ليرقى إلى أذنيه، حاول صالح أن يشير ولكنه زجره في عنف فأمسك. لوى الحديث إلى المديح لي والإعلاء من شأني والإشادة بنقاء سمعتي وعراقة محتدي، إن نامق كثير الحديث عن صالح، يبدو أن صالح هذا ذكي يعرف كيف يرضيه ويعرف كيف يبدو صريحًا كلما كانت الصراحة حبيبة إلى نفس نامق، أريد أن أعرف هذا الصالح، لقد جعلني نامق أفكر فيه كثيرًا، كريمة رأته، إنها أيضًا بحديثها العابر جعلتني أفكر فيه، على أي حال كان هو الوحيد الذي استطاع أن يرفع الهمس إلى أذن نامق، وكان هو الوحيد الذي يستطيع أن يفعل ذلك فهو يعرف كيف يدور بالحديث بعد ذلك.
•••
– ألف مبروك يا سعادة الباشا.
– بارك الله فيك يا صالح.
– كم كنت أرجو أن تكون هذه التهنئة خالصة.
– ولماذا لا تكون خالصة؟
– يهمسون.
– إياك أن تذكر همسهم، للجرأة حدود.
– ولكن سمعة الهانم وعراقة أصلها أخرست الألسنة الهامسة.
– فلم يكن هناك ما يدعو إلى الحديث عنها.
– ألم تطلب مني أن أنقل كل شيء إليك؟
– عليك أن تختار ما تنقله.
– فعلًا عليَّ أن أختار ما أنقله.
– أهذا أنا الذي يتحدث، لقد قلت لها إنني أخاف على نفسي، وقد كنت محقًّا أن أخاف.
•••
يظن صالح نفسه صريحًا، أريد أن أراه، وبعدُ هل أظل حبيسة هذا الاتفاق بيني وبين نامق؟ وإلى متى؟
– كريمة، أهلًا، يومان لا أراك.
– منيرة كانت متعبة.
– بعد الشر، ما لها؟
– أمراض الأطفال لا تنتهي.
– نادر الحمد لله.
– عيني عليه باردة.
– ماذا يقول الناس؟
– وماذا يمكن أن يقولوا بعد فتاوى المشايخ والأطباء؟
– هذا الموضوع انتهى إذن.
– وظهر موضوع آخر.
– خير؟
– تزارين ولا تزورين؟
– وماذا في هذا؟
– بعضهم يقول تكبر.
– والآخرون؟
– يقولون أوامر.
– وما رأيك؟
– فليقولوا ما يشاءون.
– أنتركهم يقولون؟
– وأنت ما يهمك؟
– الحقيقة يهمني.
– كلامهم؟
– لا ولكن هذا الحبس.
– أتسمِّينه حبسًا؟
– فماذا تسمينه أنت؟
– إنه يسمح لك بالخروج.
– بعلمه.
– كل الرجال كذلك.
– إنه يسافر كثيرًا، الآن مثلًا هو مسافر منذ أسبوع ولن يعود إلا بعد أسبوع، وأضطر أنا أن أنتظر مجيئه، والإذن بالخروج لا أحصل عليه إلا بعد تقديم الأسباب والحيثيات.
– تتكلمين مثل فتوح.
– كيف هو؟
– بخير، لقد أوصاني أن أطلب منك شيئًا.
– خير؟
– وظيفة وكيل مديرية الشرقية خالية.
– ويريد أن يكون وكيل المديرية.
– إذا أوصى به الباشا يكون.
– وتذهبين معه؟
– إنه مستقبله.
– أليست هناك مديرية قريبة؟
– الجيزة.
– وتبقين بالقاهرة؟
– أبقى طبعًا.
– فلماذا لا يكون وكيل مديرية الجيزة؟
– ليست خالية.
– ينقل وكيل مديرية الجيزة إلى الشرقية.
– يا حبيبتي يا نازك.
– إياك أن تفكري في تركي.
– وهل أستطيع العيش بعيدة عنك؟
– غبت عني يومين.
– وسأغيب باكرًا أيضًا.
– لماذا؟
– عندي ناس.
– ناس، من هم؟
– أخاف أن أذكرهم تزعلي.
– فلماذا دعوتهم؟
– فتوح، أنت تعرفين أنه صديق يسري مختار زوج نديرة.
– أنا لا أكره نديرة.
– كذا؟
– أبدًا، ولماذا أكرهها؟
– نديرة يا ستي وزوجها وأختها خديجة وصالح عبد العال.
– صالح عبد العال؟
– نعم ما الغرابة؟ إنه صديقهم جميعًا.
– كريمة، اسمعي.
– ماذا؟
– ما رأيك لو …؟
– إياك.
– لا شأن لك.
– إياك، أنا لا شأن لي؟
– لا شأن لك.
•••
إذن فهو مهتم بخديجة، منذ دخلنا لا يكلم إلا خديجة، طبعًا قدَّم لي كل ما يستطيع من احترام وإجلال ولكنه لم يحاول أن يتقرب مني أو يتحدث إليَّ، لقد لمحت في عينيه ومضة خوف، لا شك أنه يعرف أنني هنا بطريقة غير رسمية، هذا الغبي، أيظن أن هذه الزيارة ستخفى عن نامق؟ فماذا يفعل لالا ألماظ أو ماذا يفعل لالا بشير؟ إنه سيعرف، ولماذا لا يعرف؟ كان لا بد لي أن أحطم هذا السجن، وإنه من المستحيل أن يتحطم إن لم أقم بخطوة جريئة كهذه التي أقوم بها الآن، ولكن أين هذا السحر الذي كنت أشيعه حين أدخل إلى الحفلات؟ لقد أصبح نوعًا جديدًا من الأجواء، وهو جميل أيضًا، فيه احترام كبير وإجلال، أهو لي أم هو لزوجي؟ التساؤل لا يحتاج إلى إجابة، ولكن ما البأس؟ ما الفرق بيني وبين زوجي؟ ماذا سيفعل حين يعرف؟
•••
– ما رأيك في إدارة الوقف يا يسري؟
– أعتقد أن نامق باشا موفق.
– موفق؟! إذن أنت لا تعرف شيئًا.
– كيف؟
– إن المستحقين يكادون يموتون من الغيظ.
– ألا ينالون حقوقهم؟
– لا بد أن يعرفوا حقوقهم أولًا حتى يعرفوا إن كانوا ينالونها أم لا.
– لاحظ الهانم يا يسري؟
– ألا تراني أهمس؟
•••
– إنني سعيدة لأني رأيتك يا نديرة.
– إنني أنا السعيدة يا نازك هانم؛ فأنا أسمع عنك كثيرًا.
– لا تصدقي كل ما تسمعينه.
– إنني أصدق المتحدث المحايد.
– هل أنت متأكدة من حياده؟
– الحديث دائمًا ينبئ عن حياد المتحدث أو تحيزه.
– ولعل هذا المتحدث لا يذكرني بشر؟
– إن هذه الأحاديث هي التي جعلتني سعيدة بلقائك.
– أرجو أن أكون عند حسن ظنك.
– إن الطريقة التي قابلتني بها وحدها تكفي لتدل على ذكائك وسعة أفقك.
– وأنتِ هل أنتِ سعيدة مع يسري؟
– أيهمك حقًّا أن تعرفي؟
– إنني أعتبرك مثل نادر ابني.
– فارق السن بيننا لا يسمح بهذا.
– أشكر لك هذه المجاملة، ولكني زوجة أبيك؛ فأنت عندي مثل نادر.
– إنني أحب أن أكون كذلك.
– لقد هربت من الإجابة.
– بل نسيت السؤال.
– أعتقد أنك تذكرين السؤال.
– أنت مصممة على معرفته؟
– أصبحت الآن غير مصممة.
– عرفت الإجابة إذن؟
– لو كنت سعيدة السعادة التي أتمناها ما تهربت.
•••
– ألم أقل لك إنني أخشى على نفسي؟
– هل تحققت خشيتك؟
– بدأت تتحقق.
– لا بد أن تتماسك.
– أنكسر.
– وإن لم تتماسك تنكسر أيضًا.
– ولكني سأظل أحيا.
– الكل يحيا.
– أنت لا تدرين.
– مهما تكن حياتك الآن باهرة في عينيك فهي لا تساوي أن تنكسر.
– إن بعدي عن هذه الحياة تحطيم.
– يخيَّل إليك.
– بل يخيَّل إليك أنت لأنك لا تعرفين.
– أرجو أن تظل كما أنت.
– ما رأيك لو تقدمت لخطبتك؟
•••
وعندما عاد نامق من سفره: نازك هانم أنت ممنوعة من الخروج تمامًا.
– سجن هو؟
– لا مناقشة. ربِّي ابنك ولا خروج.
وطنَّت في أذنها ربي ابنك، إذن فهذا هو ما تريد، إذن سأربيه.
١١
لم تعد تستطيع أن تخرج، بل أصبحت إقامتها في البيت إقامة دائمة لا يقطعها شيء إلا الملالة، أما هو فقد أصدر أمره واعتبره شيئًا طبيعيًّا لا يحتاج إلى مناقشة، وظلت معاملته لها بعد ذلك كما هي لا تغير فيها. فإن حاولت يومًا أن تناقش هذا الأمر قطع الحديث في حسم.
– لا مناقشة في هذا.
ثم يعود إلى ما كان فيه من حديث، وتزداد هي غيظًا وتوشك أن تنفجر، ولكنه هو يتظاهر بأنه لا يلحظ من شأنها شأنًا، ويتحدث، يتحدث في كل شيء إلا هذا الذي تريد هي أن تتحدث فيه لتفك الأمر الذي أُلقي عليها. وقد حاولت بشتى طرق، حاولت بكل ما وُهبته من ذكاء الأنثى وجمالها ودلالها، ولكنه كان صارمًا في أمره لا يقبل عنه حولًا أو منصرفًا.
وفي هذه المحاولات منها مرت سنوات ثلاث فلم تُجدِ السنون ولا الحيلة. وإنما نتج عن هذه السنين وعن هذه الحيلة شيء آخر هو نادرة، حملت في هذه المرة حملًا شرعيًّا لا شك في شرعيته من الناحية الفقهية للشرع، ولكنه حمل غير مشروع لأنها كانت قد كرهت نامق كرهًا استقر في أعماق نفسها.
فهي إن تكن قد وهبت له نفسها في نادر هبة المحبة أو هبة المعجبة أو هبة المستهترة، فإنها وهبته نفسها في نادرة هبة الزوجة التي لا تملك إلا أن تهب نفسها وهي كارهة، وكانت على هذا الكره تنتهز فرصة ميله لها فتلاطف وتتخاضع وتبدي له كل ما تستطيع امرأة فارهة الجمال متفجرة الأنوثة أن تبدي، فكان يتقبل منها ما تبديه وكأنه حق طبيعي لا يستحق معه أن يفكر في مشاعر هذه المرأة التي ارتبط مصيره بها؛ فقد كان زواجه منها في أول أمره زواجًا خائفًا تغشِّيه الشكوك بل يحيط به الهلع؛ فحين حطمت أوامره ألا تخرج إلا بإذن منه وجد نفسه مضطرًّا أن يمنعها من الخروج منعًا مطلقًا ولم يعبًا بما قد يقوله الناس، فلأن يقال عنه قاسٍ لا يعرف الرحمة خير من أن يقال عنه مغفل لا يدري ما يجري وراء ظهره. كان لكل من نامق ونازك منطقه، وهما منطقان من شأنهما أن يتصادما ولا سبيل لهما أن يساير أحدهما الآخر.
كرهته ولم تستطع أن تُظهر هذا الكره، وقد كان هو في زهوة مركزه لا يتصور أن امرأته تكرهه.
وكان لا بد لهذا الكره أن يتفجر في مكان ما، وقد تفجر.
عكفت على نادر تحيطه بكل نفسها؛ فما كان لها إلا نادر، وقد أرادت عن عمد أن يحس أن الحياة كلها هي أمه ولا حياة له إلا هي. عن عمد أحاطت به لتفصله عن أبيه. وعن فراغ أحاطت به لأنها أصبحت ولا شاغل لها إلا هو. حتى أخته لم تنل من رعايتها إلا أهون نصيب؛ فإن نادرة لن تصبح ناظرة للوقف، ونادر سيصبح ناظرًا للوقف؛ فنادر هو كل شيء في حياتها، أو هو حياتها وهو مستقبلها.
تمر سنتان مثلما مرت السنوات الثلاث ويصبح نادر في السن التي لا بد معها أن يبدأ تعليمه.
ويُصدر نامق أمره إلى صالح أن يتولى الإشراف على تعليم نادر.
وتحس نازك أن شخصًا آخر سيشاركها في نادر ولكنها لا تستطيع أن تصنع شيئًا، إلا أنها عزمت في دخيلة نفسها أن تلقى هذا الإنسان الذي سيشاركها ابنها مهما يكن الثمن، ولماذا يكون هناك ثمن؟ إنها ستدير الأمر، إنها فرصة رائعة لتلقاه وستلقاه.
•••
كان ضمن موظفي الوقف رئيس حسابات كان يعمل مدرسًا للحساب بمدارس الفرير ثم أحيل إلى المعاش، وكان صالح يثق فيه فعهد إليه أن يكون مدرس الحساب لنادر.
– هل هناك ما يمنع أن أُحضر ابني يأخذ معه الدرس ويتعرف به؟
– اسأل الباشا.
•••
– لقد عهدت للأستاذ ميخائيل أن يدرس الحساب لنادر بك.
– فكرة لا بأس بها. ولا تبخل عليه في المكافأة.
– يريد أن يُحضر ابنه ليأخذ الدرس مع نادر بك ويتعرف به.
– وما البأس؟ إن نادر لا يكاد يعرف إلا أقاربه.
•••
ويجتمع شمل نادر ونعيم.
ويختار ميخائيل بإشراف من صالح المدرسين الآخرين.
وتمضي الدروس في طريقها. كان نامق يريد لابنه أن يكون مثقفًا لا متعلمًا، فكان كثيرًا ما يسأل صالح عن سير الدروس، وكان من الطبيعي أن يقول المدرسون جميعًا إن نادر نابغة عصره، فما كان يمكن لابن ناظر الوقف إلا أن يكون نابغة عصره.
•••
تطلب نازك تليفون صالح في القصر، وما تكاد تقول له اسمها حتى يتولاه الهلع: لحظة يا هانم من فضلك.
ويهرع إلى الأبواب يسألها إن كانت تنصت، ويدور بالحجرة يتلمس الجدران، حتى إذا أصاب بعض الاطمئنان: تحت أمرك يا هانم.
– أريد أن أسأل عن سير الدروس مع نادر.
– عظيمة يا افندم، عظيمة، الكراريس دائمًا عندي وأراجع عليها يوميًّا.
– أنا لا يكفيني هذا، أريد أن أرى كراريسه.
– أرسلها يا افندم.
– بل أريد أن أراك وهي معك لأناقشك في شأنها.
– يا افندم.
– هذا خير لك.
– أفندم؟
– ألم تسمع؟
– بل سمعت تمامًا.
– إذن؟
– أنا تحت أمرك.
– وخلِّ خديجة تزورني، إني أحب أن أراها.
– أمرك يا افندم.
– حين أجد الوقت مناسبًا سأطلبك وأحدد مكان الزيارة وموعدها.
– داخل السراي يا افندم؟
– أنت تعرف أنني لا أخرج.
– أتقدرين خطورة هذا يا افندم؟
– مستقبل ابني أهم من أي خطورة.
– أليس هناك طريقة أخرى؟
– لو كانت هناك ما لجأت إلى هذه.
– أمرك يا افندم.
•••
لقد أوحى لها نامق دون أن يدري بشخص تستطيع أن تلقاه غير هذه الوجوه التي تعودت أن تزورها، والتي سئمتها ولم تعد تطيق أن تنظر إليها، وقد هيأت الحجة أمام صالح ولا يهمها إن كان سيصدق هذه الحجة في نفسه أم سيرفضها، لقد أحست أنها إن لم تتصل بغير هؤلاء اللواتي فُرضن عليها ستجن، ولم تكن تحب أن تجن.
•••
– في كل يوم تقول هذا.
– في كل يوم أتحول عن الشخص الذي تمنيت أن أكونه إلى شخص آخر كنت دائمًا أخشى أن أكونه.
– لماذا لا تقدم استقالتك؟
– ارتبط اسمي بالوقف.
– تستطيع أن تعمل في أي مكان آخر.
– نامق لن يسمح لي أن أعمل، ونفوذه ضخم.
– لن تموت من الجوع.
– لم أستطع أن أفعل هذا وأنا شاب في أول الطريق. كيف أستطيع الآن أن أفعله بعد أن أصبحت في هذه المكانة من الوقف؟
– لعل هذه المكانة تهيئ لك مكانًا تجد نفسك فيه مرتاح الضمير.
– بل إن هذه المكانة ستقفل الأبواب في وجهي.
– لن تموت من الجوع.
– وأولادي؟ ما مصير عزة وأيمن؟
– لن تموت من الجوع.
– أخاف من الخوف، القلق على مصيرنا يرعبني.
– إذن لا تشْكُ.
– اسمحي لي أن أشكو على الأقل.
– إن نفسي تتقطع من شكواك.
– وأنا نفسي تتمزق مما أصنعه.
– النفاق؟
– النفاق أصبح طبيعة الآن.
– أهناك ما هو أدهى؟
– لماذا لا تزورين نازك هانم؟
– تشكو ولا تُفصح؟!
– خديجة، إنني أشكو إليك لأنني لا أستطيع أن أشكو إلا إليك، أما أن أفصح فهذا لا يهم، لا يهمك مطلقًا أن تعرفي التفاصيل.
أتعرفين صورة دوريان جراي، إنني أراها أمامي دائمًا. أرى نفسي دائمًا تزداد قبحًا وقتامة، أصبحت نفسي كريهة أمام نفسي، وأجد نفسي أنزلق، وأعرف أنني أستطيع أن أتوقف ولكني أسير وأنزلق. وأعرف أننا لن نموت من الجوع ولكنني لا أملك الشجاعة، الشيء الوحيد الذي أستطيعه هو أن أشكو إليك.
– هذه الشكوى المبهمة المليئة بالأحاجي والغموض.
– لعلني أرتاح.
– وهل أنت مرتاح الآن؟
– لماذا لا تزورين نازك هانم.
١٢
وزارت خديجة نازك وصحبت معها طفليها، ولعب الطفلان مع نادرة، واستأذنت خديجة أن تصحب الأطفال وتخرج بهم فسمحت نازك بذلك، وخرج الأطفال جميعًا صحبة ومعهم نعيم الذي أصبح ملازمًا لنادر.
وجالت خديجة بصحبتها في مجالي القاهرة، ثم ذهب بهم جميعًا إلى بيت أمها.
وفرحت إلهام بهذه الزيارة غير المتوقعة فرحًا أخذ عليها مجامع نفسها؛ فقد كانت تريد أن تتوسل بأي طريقة تصلها ببيت نامق، ولم تكن دعوتها لصالح وقبولها أن يتزوج خديجة إلا وسيلة ترجوها ليتم هذا الاتصال.
كانت تريد نادر بالذات أن يحبها، كانت تريده لأنه الشخص الوحيد الذي يمكن أن يتصل بها بلا حرج. فأخته نديرة صلة لا بأس بها، وهو لا يعنيه في شيء أن إلهام كانت زوجة أبيه، بل هو حتى لا يفهم هذه الصلات ولا يهتم بها.
سارعت إلهام إلى سائق سيارتها وأمرته أن يسارع فيشتري بندقية رش، ووعدته بمكافأة إن هو لم يتأخر.
وسرعان ما عاد السائق، وأهدت إلهام البندقية لنادر.
– كلما جئتني ستجد هدية.
وأوشك نادر أن يجن من الفرح.
لقد استطاعت هذه الزيارة أن تمكن من حب نادر لإلهام، فصار يطالب أمه بعدها أن يزورها. ولم تكن تمانع في ذلك فهي تستدعي خديجة وتعهد إليها بنادر ومعه نادرة، ولا تنسى نعيمًا، ويذهبون جميعًا إلى بيت إلهام، وفي كل مرة كان نادر يفوز بهدية، وفي كل مرة يمرح الأطفال مرحًا لا رقابة عليه، نادر مع نعيم، ونعيم يحاول أن يداعب نادرة، أما طفلا خديجة عزة وأيمن فهما وحدهما اللذان لا يشعران بشيء؛ فقد كانا أصغر من أن يفرحا أو يتمتعا.
•••
– تحت أمرك يا هانم.
– في الساعة الثالثة اليوم.
– أنا يا افندم أنصرف في الساعة الثانية.
– لا تخف، لقد أخذت خديجة الأولاد وستتغدى عند أمها.
– أعرف ذلك يا افندم.
– إذن؟
– ماذا يقول موظفو الوقف؟
– انصرف في موعدك وعد إلى الحرملك.
– والسائق يا افندم.
– إذن تشاغل بالعمل حتى الثالثة واصعد إلى الحرملك.
– ألا يراني الخدم.
– إنك ستذهب إلى الجناح الصيفي.
– أمرك.
– وهات الكراريس.
– أمرك.
هل تريد الكراريس حقيقة؟ أهذا موعد يوحي بكراريس؟ أنا من جهتي لا أمانع ولكن، أي لكن؟ هل أملك شيئًا في نفسي؟ حتى هذا لا أملك فيه شيئًا، لقد بعت نفسي جميعًا لهذا المكان، لعلني يوسف وهي امرأة العزيز، ولكني لست نبيًّا، وهي أيضًا لا تدعوني لجمال فيَّ خارق، حبيسة ولا تملك في يدها إلا أنا. لن أستطيع أن أصنع ما صنعه يوسف، إنه بما فعل أصبح نبيًّا وأنا لا أنوي أن أكون نبيًّا، إنها فتنة طاغية، ولكن كيف أملك الجرأة، إنها تصغر الباشا بسنوات وسنوات. أنا أُقاربها في السن، ولكن كيف أملك الجرأة؟ إنها هي ستهب لي الجرأة، بشبابها وشبابي، أيستطيع شبابي أن يتغلب على هذه الرهبة؟ إنها زوجة الباشا، أأخونه؟ إذا كانت هي تخونه ألا أخونه أنا؟ وهل لي خيار؟! إما أن أخونه أو لا أكون، وهل لي الخيار؟ وزوجتي؟ أخونها، إنني أخونها إذا لم أخنها، إن مصيري ومصيرها ومصير أولادنا الطريق العام إذا أنا لم أخنها. هل أستطيع أن أتوقف؟ هل أريد أن أتوقف، هل أملك الجرأة على التوقف؟ وإن ملكتها هل أتوقف؟ يبدو أنني أصبحت أستطيب ما أصنع، على أي حال لولا خطورة ما أنا مقدم عليه لكان أمرًا لا بأس به في حد ذاته، ماذا يقول أبي إن عرف؟ بل ماذا يقول إذا عرف كل ما أقوم به من غير ذلك؟ لماذا يعرف الحقيقة؟! بحسبه أنه سعيد بمنصبي. إن الحقيقة التي يعرفها الإنسان هي الحقيقة الوحيدة، وليس هناك بالنسبة إليه حقيقة أخرى. والحقيقة التي يعرفها أبي أنني رجل محترم صاحب حظوة عظيمة لدى نامق باشا، وهذه الحقيقة كفيلة بأن تجعله سعيدًا. وإنه لسعيد. كل الحقائق الأخرى لا تهمه؛ فهو لا يعرفها، وإن حاول أحد أن يطلعه عليها يكون مجرمًا يريد أن يحرمه السعادة التي يعيش فيها.
•••
وبعد أن ترك نازك راح ينزل السلم في خطوات حالمة وابتسامة مهمومة تترقرق على شفتيه. وفجأة انتبه إلى الكراريس في يده وأصبحت الابتسامة ساخرة وهو يتمتم في صوت يوشك أن يكون مسموعًا: أظن لا داعي للكراريس بعد ذلك.
١٣
– أنا في الواقع لا أستحق في الوقف.
– ولكن زوجتك تستحق.
– هذه مسألة جانبية.
– أنا لا أراها جانبية بالنسبة إليك.
– المهم أنت.
– أنا؟
– أنت شوكت فهمي بك.
– مالي؟
– أنت لا تنال حقك.
– كيف عرفت؟
– ألا تنال ضعفَي ما تناله أختك إلهام هانم؟
– نعم.
– إلهام هانم حماتي.
– أعرف ذلك.
– وأنا أعرف ما تناله.
– ولكن كيف عرفت أنه أقل من حقنا؟
– هذا شأني.
– إنك لم تستدعني اليوم لتقول لي هذا شأني.
– الطريقة التي عرفت بها لا تهمك.
– بل لا بد أن أكون واثقًا.
– كن واثقًا.
– كن واثقًا.
– كيف عرفت؟
– إن لي عيونًا في الوقف.
– من هم؟
– لقد أقسمت ألا أبوح بأسمائهم.
– حسنًا، ولكن النصيب الذي نحصل عليه الآن هو ما كنا نحصل عليه دائمًا.
– وهذا وحده دليل كافٍ؟
– كيف؟
– هل ثمن المحاصيل هو هو لم يتغير؟
– آه، فعلًا.
– لا بد أن تنالوا حقوقكم.
– نرفع دعوى.
– لا تنسَ أن له الحقوق العشرة.
– فعلًا من ضمنها الإخراج والإدخال.
– يُخرج سعادتك ويُدخل نازك هانم.
– يعملها.
– فماذا ترانا نفعل؟
– لا بد أن نفعل شيئًا إن لم يكن من أجلي فمن أجل ابني حسام.
– نقتله؟
– المسألة ليست بهذه السهولة.
– كيف؟
– نادر يصبح ناظر الوقف.
– نادر ما زال صغيرًا.
– سنة والأخرى وتصدر فتوى أنه ما دام يستطيع أن يدير أمواله فهو يستطيع أن يدير الوقف.
– في هذه السنة نستطيع نحن أن ندبر أمورنا.
– ولكن فكرة القتل نفسها خطيرة.
– لديَّ أصدقاء كانوا يعملون بالحرس وإصابتهم لا تخيب.
– أتعرف أحدًا من هؤلاء.
– أعرف الكثيرين منهم.
– إذن فعلينا أن ننتظر قليلًا.
– ننتظر؟
– طبعًا.
– أنت الذي تقول ننتظر؟
– وما الغرابة في هذا؟
– أنا أعرف حاجتك للنقود دائمًا.
– مطالب الحياة كثيرة.
– مطالب الحياة أم مطالب سميحة؟
– هس.
– ممَّ تخاف؟ لقد كنا نتكلم في جريمة قتل ولم يتولك الذعر الذي تولاك من ذكر اسم …
– هس.
– هس، هس.
– أنسيت أين نحن؟
– في بيت بنت أختي.
– زوجتي.
– أتخشى أن تسمعني وأنا أذكر، هس، ولا تخشى أن تسمعنا ونحن نتآمر على قتل أبيها؟
– قد تغتفر قتل أبيها ولكن لا تغتفر …
– هس؟!
– طبعًا.
– ألا تعرف؟
– تحس.
– حسنًا. وماذا تريدنا أن ننتظر؟
– ننتظر حتى تخلق عداوة بين نامق باشا وشخص آخر فلا تلحق التهمة بنا.
وصمت شوكت وحملق.
– لم أكن أتصور أنك خطير إلى هذا المدى.
– المسألة لا تستحق هذه المبالغة.
– وكيف ستخلق هذه الخصومة؟
– هذا شأني.
– مع موظفي الوقف؟
– مثلًا.
– صالح؟
– غير صالح بالمرة.
– نعم صالح مرتبط بالباشا.
– جدًّا.
– مع ميخائيل؟
– إنه يخاف من خياله.
– إذن فمع من؟
– هذا شأني.
١٤
– هديتك اليوم ستضعها في أصغر جيب لك.
– صحيح، ما هي؟
– خذ.
– مفتاح، أين صندوقه؟
– إنه صندوق كبير لا أستطيع إدخاله إلى البيت.
– حقًّا؟
– تعالَ.
– وسحبت يده إلى الشباك، وفغر نادر فاه غير مصدق.
– هذه السيارة؟
– هذه السيارة.
– لي أنا؟
– انزل ولف بها لفة وعد لتقول لي رأيك فيها.
وانتهب السلم انتهابًا، وأمسكت إلهام بسماعة التليفون وأدارت رقمًا.
– سميحة أنا إلهام. ما هذا؟ لي زمان لم أرك. أين أنت غدًا؟ لا بأس، نتغدى معًا.
كانت الإشاعات قد بلغت آذانها عن صلتها بزوج ابنتها ولكنها لم تهتم بهذا، ووطدت علاقتها بها منذ جاءت إليها في الزيارة الأولى. ولم تؤثر هذه الإشاعات على هذه العلاقة؛ فسميحة تستطيع أن تجتذب انتباه سيدة في ذكاء إلهام، وإلهام كانت تحس بدافع خفي لا تدري مأتاه أنها ستنتفع يومًا بسميحة، واليوم يتحقق حدسها، ويعود نادر ويقبل إلهام.
– إن أبي لم يفكر أن يقدم لي مثل هذه الهدية.
– لعله يخشى عليك.
– وأنت لا تخشين عليَّ؟
– ولهذا لن أجعلك تخرج بها وحدك.
– ماذا؟
– ستتركها هنا اليوم وتأتي بعد غد لأكون قد وجدت من سيشاركك ركوبها.
– لا أريد سائقًا.
– لو كنت أنوي أن أحضر لك سائقًا ما أحضرت لك سيارة.
– برافو عليك.
– إن السيارة التي تسير بسائق موجودة عندك دائمًا.
– لا شيء يخفى عليك أبدًا.
– وبعد غد ستعرف إلى أي حد أستطيع أن أعرف الأشياء.
•••
وحين جاءت سميحة للغداء استطاعت إلهام أن ترتب معها كل شيء.
•••
وحين جاء نادر في موعده قدمت إليه إلهام الشخص الذي سيشاركه ركوب السيارة: الآنسة منال.
غضة كالغصن الرطيب، في عينيها جذوة وخبرة، وفي شفتيها دعوة وابتسامة.
ولم تنسَ إلهام أن تقول: وهذا مفتاح بيت استأجرته لكما إذا تعبتما من اللف بالسيارة، تستطيعان دائمًا أن تستريحا فيه.
•••
– إن أمك تلعب لعبة خطرة.
– أعرف.
– أترضين عن هذا؟
– إنها أمي.
– فإن لم تكن أمك؟
– فهي امرأة تنتقم.
– في شخص الابن؟
– الانتقام لا يعرف أين يقع.
– إنه الشخص الذي سيصبح ناظر الوقف بعد أبيه.
– ولكنه سيظل ابن أبيه إلى أن يصبح ناظرًا للوقف.
– قد يدمر هذا الوقف جميعه.
– ولكنه سيظل محبًّا لأمي.
– كانت تستطيع أن تجعل الأمر أكثر طبيعية.
– دعوة وحفلة وتعرفه ويختار.
– مثلًا.
– لفة طويلة.
– خير من اللفة القصيرة.
– ترين هذا؟
– لعلها خشيت أن يمنعه أبوه من حضور حفلاتها.
– والآن؟
– الأب لا يعرف على الأقل.
– ولكني أنا أعرف.
– هل صحا ضميرك الآن؟
– إنه لم يمت تمامًا.
– ولكنه يستطيع أن ينام حين يريد.
– لعله الآن لا يريد أن ينام.
– بل إنك تشعر أنك لم تقدم نصيحة للباشا من زمن بعيد.
– ربما.
– وتريد أن توهم نفسك أنك تؤدي واجبك.
– ربما أيضًا.
– على حساب أمي.
– إنها هي التي وضعت نفسها في هذا المكان.
– تستطيع أن تفعل شيئًا أحسن من هذا.
– اقترحي.
– قدم النصيحة ولا تذكر اسم أمي.
– نصيحة لا بأس بها.
– أليس كذلك؟
•••
– وماذا ترى؟
– الرأي دائمًا لسعادتك.
– المسألة خطيرة.
– ليست كما تتصور. إنه الشباب يأخذ مجراه.
– أنا عندي الحل.
– هكذا سريعًا؟
– لقد كنت أفكر منذ زمن بعيد أن أرسله إلى الخارج ليتعلم.
– فكرة لا بأس بها.
– أعجل بها.
– ولكن السفر للخارج لا يمنعه أن يسير في نفس الطريق.
– هذا إذا كان وحده.
– ومن سيكون معه؟
– أنت.
– أنا؟
– أنت.
– وأولادي وزوجتي؟
– في رعايتي.
– وهل توافق الهانم على سفره؟
– إنني آمر ولا يعنيني موافقة أحد.
– أفكر.
– بل تسافر.
وأطرق صالح، ولم يكن محتاجًا أن يقول ولم يكن نامق ينتظر منه قولًا، ولكنه مع ذلك أحب أن يشفع أمره: أنت تعرف ثقتي فيك.
– أنا تحت أمرك.
– وأنت تعرف أن صحتي ساءت في هذه الأيام الأخيرة.
– ليس إلى الدرجة التي تتصورها سعادتك.
– أنا لست جاهلًا، وأعرف تمامًا الأمراض التي أتعرض لها.
– بل أعتقد أن سعادتك تتخوف أكثر من اللازم.
– المهم أنني أعهد لك بنادر، في الخارج وفي الداخل إذا حصل شيء.
– ربنا يطيل عمر سعادتك.
– لم أعد صغيرًا.
– ربنا يطيل عمر سعادتك.
– أنا أعرف مشاعرك جيدًا.
– أرجو ذلك.
– نادر أمانة في عنقك.
ما أثقل الأمانة! هل أعرف كيف أرعى الأمانة؟! إنني أخون هذا الرجل؛ ليس أنا الذي أخونه، إنها زوجته تخونه معي وليس أنا الذي يخونه.
•••
– أريد أن ألقاك في الحال.
وراحت تخلع ملابسها في عنف حتى لتوشك أن تمزقها، وتروح وتجيء في الحجرة كنَمِرة لا يستقر بها قرار من حبسٍ تعانيه.
– نادر وأنت مرة واحدة؟
– اهدئي.
– كيف؟
– لا بد أن تهدئي.
– اخلع ملابسك.
– فقط اهدئي.
– أريد أن أتشفى فيه، أريد أن أنتقم منه.
– لقد كنت تنتقمين منه قبل أن يأمر بسفرنا.
– اليوم الأسباب أقوى، اخلع ملابسك.
•••
– ماذا سأفعل؟
– نادر لا بد أن يتعلم.
– إنه يريد أن يحرمني منه.
– نادر كان مرتبطًا بك أكثر مما يجب.
– إنني أمه.
– ولكنك نسيت أن له أبًا.
– إن أباه نسيَّ أنني إنسانة.
– ألم تكن له أسباب؟
– ليس هناك سبب يحرم إنسانة من حريتها.
– ومع ذلك استطعت أن تمارسي حريتك.
– لقد أرغمني على ذلك.
– ترى …
– أكمل.
– لا داعي.
– إنني أعرف بقية الجملة.
– فلماذا تريدينني أن أكملها؟
– لأتأكد.
– قوليها إذن.
– تريد أن تسأل لو كنت حرة هل كنت أختارك أم لا؟
– هذا هو السؤال. فما الإجابة؟
– لا أعرف.
– أشكرك.
– أعجبتك الإجابة؟
– لأنها صادقة.
– والآن ماذا أفعل؟
– انتظري.
– سنوات.
– لا حيلة لنا إلا الانتظار.
– خديجة.
– ما لها؟
– ستسافر معك.
– لا أظن.
– هو الذي أمر بهذا.
– والأولاد صغار.
– بل هو يريدك أن تتفرغ لنادر.
– ربما.
– أتعرف نادر؟
– ليس إلى الدرجة التي كنت أرجوها.
– هو في هذه الأيام لا يترك إلهام.
– يجد عندها ما يسره.
– وأنا لا أمنعه.
– لأنك تريدين منه أن يحبك ولا يحب أحدًا مثلك.
– ذكاؤك فوق مستوى الشبهات.
– هل ينفع مع نادر؟
– اكتب لي.
– لا أستطيع.
– اكتب لكريمة عن أخبارك وهي ستطلعني على الخطابات.
•••
حين وصلت كريمة مع ابنتها منيرة إلى القصر صعدتا إلى الحريم، ولكن نادر لقيهما في الطريق فقد كان يأخذ سمته إلى الباب الخارجي. حلوة هذه الفتاة. لا عيب بها إلا أنها لا تترك أمها أبدًا. أخاف أن أحادثها فتطلق أمها عني الأقاويل. وأنا لا أريد لهذه الأقاويل أن تنطلق.
أمسكت كريمة بذراع ابنتها وأوشكت أن تقرصها: سلِّمي وابتسمي.
يا لأحلامك يا أمي، إنه طائر لا يهدأ له جناح، طائر لا يستقر به حال، إنه لا يراني، لا يعرفني، لا ينظر إليَّ، لو نظر لرأى في عيني الإعجاب به وأكاد أقول الحب له، ولكن أي شأن له بي؟ إنني لا أمثل في خاطره أي فكرة. إن عينيه تعبرانني كأنما لا يراني.
– أهلًا تنت كريمة، أهلًا منيرة، من زمان لم أركما.
– أنت مشغول الآن يا نادر.
– عنك أنت يا تنت كريمة لا أقدر أن أنشغل.
– فاسأل عنا يا أخي.
– اسمعي، أنا مسافر لندن وليس من المعقول أن أسافر قبل أن أشوفك أنت ومنيرة.
– عظيم، العشاء عندنا بعد باكر.
– عظيم، ومَن المدعوون؟
– عليك أنت أن تختار.
– أولًا تنت إلهام.
– أمرك.
– وطبعًا إخوتي.
– طبعًا.
– ونعيم؟
– ونعيم.
– وطبعًا منيرة.
وتبالغ كريمة في الضحك، وتضحك منيرة في سعادة.
– وبعد ذلك اختاري أنت من تشائين.
– أفكرك أم لست في حاجة إلى التفكير؟
– لا يمكن أن أنسى.
ويتجه نادر إلى السلم، وتتجه كريمة ومنيرة إلى جناح نازك. وحين استقر بها المقام في الغرفة الملحقة لغرفة النوم.
– أين الهانم يا لالا ألماظ؟
– لا أدري.
– لا تدري؟
– والله أنا أدري ولا أحد يدري.
– هل جننت؟
– وما له؟ لقد بلغت السن التي يجب فيها أن أجن.
– يا رجل اعقل وقل لنا أين الهانم.
– أصبحت لها عادة غريبة.
– عارفاها.
– عارفاها؟
– لقد قلتها لنا عشرين مرة في السنوات الأخيرة.
– إذن فأنت عارفاها؟
– تحب أن تنام أحيانًا في الجناح الشتوي والوقت صيف.
– أنت عارفاها، أترين هذا الهواء الذي يرد الروح؟ الجناح الشتوي الآن فرن ولكنها تذهب إلى هناك فجأة ولا نعرف متى تذهب، ولكننا نحس بها فقط وهي عائدة.
– أليست حرة؟
– وهل قلت شيئًا؟
– أنت دائمًا تتعجب.
– كان لالا بشير الله يرحمه يتعجب معي أيضًا.
– كم عمره حين مات؟
– لا أعرف، إنما هو أصغر مني.
– وأنت كم عمرك؟
– لا أعرف، ولكنه قبل أن يموت كان يقول لي إن عندي أكثر من ثمانين سنة.
– اقتربنا من الوصول، ومتى مات؟
– كان يلاعب نادر بك بالعجلة ويقلب له عينيه، ونادر بك يضحك ولالا بشير فرحان الدنيا لا تسعه. ثم نادى الأستاذ ميخائيل نادر بك للدرس وصعد لالا بشير إلى حجرته ولم يغادرها بعد ذلك.
– يعني من حوالي اثنتي عشرة سنة.
– مثلًا؟
– لالا ألماظ أنت تقترب من المائة.
– وما له؟
– أخيرًا نازك هانم.
– أهلًا كريمة، أهلًا منيرة.
– أهلًا بك يا تنت.
– ماذا بك؟
– ألا تعرفين؟
– كلها سنة أو سنتان ويعود.
– أنت لا تعرفين معنى سفره بالنسبة إليَّ.
– بل أعرفه تمامًا.
– لا أحد يعرف.
– حتى ولا أنا؟
– ولا أنت.
– لقد دعوناه على العشاء.
وصمتت نازك فترة ثم قالت فجأة: عند عودته.
وصمتت مرة أخرى ثم عادت تقول: لا بد أن يفعل ما أريد.
وفهمت كريمة ولكنها أرادت أن تبدو وكأنها لم تفهم: وما الذي تريدينه؟
– الذي تريدينه.
– وهل أنت متأكدة من قدرتك؟
– أنت تعرفين أنني متأكدة.
ونظرت كلتاهما إلى منيرة، يُخيل إليَّ أنني أعرف ماذا تريد هاتان السيدتان، ولعلني أيضًا أريد، ولكن ليس هكذا يتم ما أريد، حذارِ أن تفكرا في أمري كأنني غير موجودة، إنني موجودة ولا أحب أن ينكر أحد وجودي، إنني موجودة دائمًا.
•••
– لماذا لم ألحظ منيرة إلا اليوم؟ قبل سفري بأيام، إنها جميلة، كنت أستطيع أن أخرج معها في السيارة، خسارة فات الوقت.
– لماذا ينظر إليَّ هكذا؟ ماذا به؟ ألست أنا منيرة التي يعرفها منذ نحن أطفال؟
١٥
في لندن انفرد صالح بنادر، وبدأ فأدرج اسمه في مدرسة نظامية، واتفق مع مدرسين له في اللغات الأخرى غير الفرنسية؛ فقد كانت الأوامر من الباشا تقضي بأن يعود نادر من إنجلترا شخصًا مثقفًا.
وبدأت الدراسة. ووجد نادر نفسه لأول مرة مثله مثل التلاميذ الآخرين ينطبق عليه ما ينطبق عليهم من أوامر، وضاق بهذه الحياة الجديدة وأراد أن يتمرد، ولكن وطأة صالح عليه كانت شديدة، ولولا وجود نعيم معه لأصبحت قتامة لا يمكن احتمالها.
واضطر نادر أن ينتظم في الدراسة، وأن يذهب إلى المدرسة في مواقيتها، وأن يتلقى دروسه في البيت في انتظام. وكان صالح قد حدد مواعيد للترويح عن نادر فكان يصحبه هو نعيم إلى مسارح لندن مرتئيًا أن في هذا الترويح نوعًا من الثقافة أيضًا. ولم يكن نادر غبيًّا؛ فقد استطاع أن يستفيد من المدرسة ومن الدروس، واستطاع أن يتقن الفرنسية التي كان يعرفها اتقانًا تامًّا إلى جانب الإنجليزية، كما استطاع أن يتكلم الإيطالية أيضًا.
وكانت خطابات صالح إلى الباشا تطمئنه، وكان الباشا سعيدًا بهذه الأنباء.
ولم ينسَ صالح أن يرسل خطابات منتظمة إلى كريمة، لتبلغ نازك عن كل صغيرة وكبيرة في حياة نادر وحياته هو أيضًا.
وكانت الأنباء التي تصله من زوجته تطمئنه أن الباشا وفى بوعده؛ فهو يرعى أسرته رعاية كاملة، ولكنه مع ذلك مشوق إلى زوجته وإلى هذه الأحاديث التي كانت تجري بينهما والتي كان يجد فيها راحته؛ فقد كانت هذه الأحاديث هي الأنَّة الوحيدة التي يستطيع أن يطلقها في غير خوف ولا قلق.
وكان مشوقًا إلى ابنه وإلى ابنته، ولم يكن يجد أحدًا يستطيع أن يقول له إنه مشوق إلى بيته.
عاد إلى أصدقائه القدامى وكان يقضي معهم الأوقات التي يقضيها نادر في الدراسة، ولكن الفراغ مع ذلك كان يحيط به من كل جانب.
ومرت الأيام، وكانت توافيهم الإجازات الدراسية فيهيئ صالح لثلاثتهم أماكن مختلفة يقضون فيها أيام الإجازة.
ولكن نادر كان يحس دائمًا أنه في سجن، وأن القيد حوله جميعًا.
وأحس نعيم ما يختلج في نفس نادر: وبعد؟
– إنها أوامر أبي.
– ومن ينفذها؟
– صالح.
– وهل تعتقد أنني أجهل هذه الإجابة.
– إذن فماذا تريد أن تقول؟
•••
– صالح بك.
– نعم.
– بعد أيام ستكون إجازة رأس السنة.
– وقد أعددت لك برنامجًا رائعًا.
– بل أريد أن أقضيها وحدي.
– وحدك؟
– أنا ونعيم.
– وأنا؟
– تستطيع أن تقضيها وحدك أنت أيضًا.
– وحدي؟
– تستمتع بها.
– ومن أدراك أنني لا أستمتع بإجازتي معك؟
– إنك معي تعمل، وإني أشفق عليك من العمل الدائم.
– ولكنني أستمتع بصحبتك.
– وأنا أيضًا، إلا أنني أريد أن أحس بحريتي.
– وهل أمنعك عن شيء؟
– عن كل شيء.
– لا تنسَ أنني …
– أعرف أنك تنفذ أوامر أبي.
– فماذا تريد إذن؟
– أن تنسى هذه الأوامر على الأقل في أيام الإجازات.
– ضميري …
– لا بد أن يسمح.
– أستطيع أن أسافر وتصنع أنت ما تشاء.
– بل لا تستطيع.
– أتمنعني؟
– اسمح لي أن أقول نعم.
– اكتب إليَّ.
– ولا هذا. ما سر هذا العداء؟
– إنها مطالبة بالحرية وليست عداء.
– وواجبي؟
– واجبك أن تطيعني.
– بل واجبي أن أطيع الباشا.
– الواقع أن واجبك هو أن تطيع ناظر الوقف.
– أليس الباشا هو ناظر الوقف؟
– طبعًا، ولكن سيأتي يوم أصبح أنا فيه ناظر الوقف.
ولم يكن صالح يعني هذا من أول الحديث، ولكنه ظل يتمنى ألا يذكر نادر هذه الحقيقة، فخابت أمانيه وذكرها نادر في صراحة الحقيقة وبساطتها.
– ولعله من الأوفق لك أن يكون ناظر الوقف راضيًا عنك دائمًا، سواء في ذلك ناظر الوقف الحالي أو ناظر الوقف في المستقبل.
لو كانت خديجة هنا لكان هناك حديث جديد بيننا. وأطرق، ولم ينتظر نادر أكثر من ذلك وغادر الحجرة.
ومنذ ذلك اليوم عاد نادر إلى الحياة التي عرفها في القاهرة على يد إلهام. وإن كان هناك يخشى رقابة أبيه أو أقوال الناس فإنه هنا لا يخشى شيئًا، ولكنه بذكائه يعرف أن هناك مصدرًا آخر يرسل المعلومات المدرسية إلى أبيه غير صالح، إنها المدرسة نفسها وشهادته التي ترصد درجاته، فاستطاع أن يرضي المدرسة وألا يهمل دروسه وأن يعربد ما شاء أن يعربد بعد ذلك. وأصبح صالح منذ ذلك اليوم مطيعًا في رضوخ، لا يشترك معه ولكن يصمت، ويتمنى أن يرى زوجته ليضيف إلى أحاديثه السابقة أحاديث جديدة عن اضطراره إلى السير في طريق لم يتصور في يوم من الأيام أنه سائر فيه، ولكن ماذا تنفعه زوجته وماذا تجديه الأحاديث؟ إن الصراع — إن كان ثمة صراع — باقٍ بين نفسه ونفسه، بين ما كان يتمنى أن يكون وبين ما صار إليه فعلًا.
في الإجازات الصيفية كان الباشا يأتي إلى لندن وكانت تأتي معه نازك ونادرة وكان يتفضل فيصحب أسرة صالح. ولم تكن طبيعة الأمور تمكِّن نازك من الاتصال بصالح إلا بصورة رسمية، ولكن عين خديجة لاحظت شيئًا، شيئًا واهنًا لم يكن كافيًا حتى لأن تفاتح صالح بشأنه، ولكنها أحسته على كل حال وطوته في نفسها.
ولم يشأ صالح في هذه الإجازات أن ينغص على خديجة وجودها معه، فهو يظهر أنه سعيد بمقامه لا يضيق بشيء إلا ببعده عنهم. وفي هذه الإجازات كانت نازك لا تترك نادر لحظة إلا حين تحس أنه يحب أن يسهر مع نعيم سهرة خاصة؛ فهي تهيئ له هذه الفرصة وترجو أباه أن يتيح له التمتع بسهرة بعيدة عن أبيه وأمه، قليلًا ما كانت تتم هذه السهرات لأن الباشا لم يكن ليسمح لها أن تتكرر كثيرًا.
وفي الإجازات الأخيرة لاحظ صالح للوهلة الأولى أن صحة الباشا ليست على ما يرام، فانتهز فرصة ذهب فيها الباشا إلى حجرته ليستريح بعد الغداء وبقيت نازك مع صالح وخديجة في بهو الفندق.
– صحة الباشا.
– كان متعبًا هذا العام.
– وماذا قال الأطباء؟
– ليسوا راضين عن صحته كل الرضا.
– ولماذا لا يرى الأطباء هنا؟
– أظنه سيفعل.
وفعلًا عرض الباشا نفسه على أطباء إنجلترا وكان صالح معه دائمًا، وأحس أن مرض الباشا ليس بالشيء الذي يُستهان به، وانقضت الإجازة وعاد الباشا ونازك وأسرة صالح إلى القاهرة، واستمر صالح بلندن يمارس عمله الكريه. ولكنه في هذه المرة أصبح تودده لنادر أكثر من ذي قبل؛ فراح يعامله كسيد له أن يأمر وعلى من سواه أن يطيع. وأحس نادر هذه النغمة الجديدة، وكان تفسيرها حاضرًا في ذهنه؛ فهو فعلًا السيد وصالح موظف عنده، عنده أو عند أبيه، الفرق لا يُذكر، كان نادر دائمًا يجد التفسير القريب لكل ما يصادفه في حياته؛ فإقبال النساء عليه لأنه جميل وشاب، أما أنه غني فهذا ما لم يفكر فيه أبدًا؛ والتصاق نعيم به في رأيه أمر طبيعي، أما أن نعيم يحب نادرة ويفكر في شأنها تفكيرًا خاصًّا فهذا ما لم يخطر له ببال. والحق أن هذا لا يمكن أن يخطر على بال أحد مهما يكن عميق النظرة بعيد الغور.
فإن صالح مثلًا وخديجة ونازك — وهي من هي — لم تلحظ أثناء زيارتها إلى لندن أن ثمة لمحة يمكن أن تُثير في نفسها نوعًا من الشك، وكيف للشك أن يثور ونعيم مسيحي، وأبوه يعمل موظفًا بالدائرة ونادرة ابنة الباشا جميعًا.
معذور إذن نادر حين لا تخطر له هذه الفكرة بشأن نعيم ونادرة، ولكنه على كل حال من هذا النوع من الناس الذين يفسرون الأمور من أقرب وسائلها، ولعل الأمور كانت تتيح له هذه النظرة القريبة الميسورة؛ فهو جميل لا شك في ذلك، فارع الطول، سمح القسمات، لا تستطيع فتاة أن تراه وتعبره دون اهتمام، وهو في حديثه بسيط جذاب، وجد حياته كالجدول الرقراق لا تعترضه صخور أو عقبات فهو في نفسه صافي الخلجات، ينطلق منه الحديث في غير تكلُّف أو تصنُّع، نوع من الحديث لا تجده الفتيات عند كثير من الشباب الذي عانى وسار على الشوك وشقَّ طريقه بين الصخور مستخدمًا كل آلات النفاق والتكلف والمخادعة، وهي أدوات لم يكن نادر يعرفها، وإنما عاش عمره يريد فينال، ويقول فيُسمع، ويسير فالورد والزهور طريقه، كل ما عليه أن يقرأ وأن يستمتع، وقد كان يقرأ ويستمتع، وكان يعلم أنه يقرأ ليكون مثقفًا؛ فهو في غير حاجة إلى شهادة لتكون سلاحًا له في الحياة؛ فقد كان سلاحه الطبيعي أقوى من أي شهادة، إنه ناظر الوقف المنتظر، أما أن يكون مثقفًا فهذا شيء لا يحب أن يستغني عنه؛ لأنه استطاع أن يجلس بين المثقفين، واستطاع أن يدرك في بساطة أنه بغير ثقافة ولو بسيطة لن يستطيع أن يجلس مع أحد. وقد كانت الثقافة في رأيه أن يتقن اللغات فأتقن كثيرًا منها. ولكن كما كانت حياة نادر ميسورة رقيقة كانت ثقافته أيضًا ميسورة رقيقة؛ فهو يتقن اللغات ولكنه لا يقرأ إلا ما تريده المدرسة أن يقرأ؛ فهو لم يكن هاويًا للثقافة وإنما كان ممارسًا لها؛ فلم يستطع — أو هو لم يرد — أن يتعمق موضوعًا بذاته أبدًا، فإن شاء أن يعرف معلومات عن أمرٍ من الأمور كلَّف صالح فإذا كل ما يريده حاضر بين يديه. وقد كان يجد من العبث بعد ذلك أن يبحث هو نفسه بنفسه. والقراءة في ذاتها لم تكن متعة له في يوم من الأيام. إنه يعرف متعاته، ويجيد معرفتها، ولم تكن القراءة من بينها. وقد خُيِّل إليه بعد ما أجاد من لغات أنه لم يعد في حاجة إلى مزيد من الثقافة، وخُيِّل إليه أيضًا أنه يستطيع الآن أن يجلس مع من يشاء. وقد كان يعرف دائمًا أنه يستطيع أن يقول ما يشاء؛ فالاستحسان ينتظر شفتيه أن تنفرجا، أما ما قد يقوله السامعون إذا انصرفوا فلم يكن يعنيه في شيء، بل هو في الواقع كان يظن أن المديح الذي كانوا يطلقونه على مشهد منه هو نفسه الذي يطلقونه بينهم وبين أنفسهم أو بينهم وبين بعضهم البعض.
عاد نادر متأخرًا إلى البيت الذي يسكن فيه مع صالح فوجد صالح ينتظره واقفًا في البهو.
– برقيَّة أن تعود فورًا إلى مصر.
١٦
– ظلت تؤجل حتى مات.
– الظروف كانت صعبة.
– وأصبح نادر اليوم ناظر الوقف.
– المصيبة أنه محبوب من جميع المستحقين.
– جميع النظَّار محبوبون في أول الأمر.
– وهل ننتظر حتى يصبح مكروهًا؟
– لا حيلة لنا إلا أن ننتظر.
– قل لي يا يسري أما زالت أحوالك المالية مرتبكة؟
– ألا تعرف يا شوكت بك؟
– لم تترك سميحة.
– سننا أصبحت لا تحتمل الترك.
– وأصبحت تحتمل القمار.
– نحن في الهوى سوا.
– أنا لست قاضيًا.
– القمار مرض لا يفرق بين قاضٍ أو غير قاضٍ كما لا يفرِّق بين كبير وصغير.
– نعم معك حق.
– أظنك تعرف ما أرمي إليه.
– حسام ابني لا يفرغ من القمار إلا ليبحث عن النساء.
– إذن فأنت تعرف.
– ومن أين تظنه يأتي بالمال؟
– إذن فلا بد من عمل شيء.
– الآن؟!
– فلننتظر قليلًا.
– ننتظر نعم، ولكن إياك أن تقطع صلتك بأولئك الخبراء.
– أتعتقد أننا سنحتاج إليهم؟
– إن لم تكن لنا بهم حاجة للتنفيذ فلا شك أننا سنحتاج إليهم للتهديد.
– وهل سنحتاج إلى التهديد؟
– الأيام دائمًا حبالى.
– ونحن الذين نولدها.
– لا بد ممن يساعد على الولادة.
– إن صلتي بمن تريد دائمًا قائمة.
– واترك للأيام أن تكمل مواقيت ولادتها.
– إني منتظر.
•••
كان حزن نازك في ظاهره شديدًا؛ فقد أرادت له أن يبدو شديدًا، أما نادر ونادرة فقد كان حزنهما طبيعيًّا لا أثر فيه لافتعال.
وكانت كريمة تزور نازك في كل يوم وكانت منيرة دائمًا معها، ولم يمنع الحزن نادر أن يلقي نظرات إلى منيرة ولكنها كانت مجرد نظرات.
وقام صالح بكل ما هو منتظر منه من واجبات، وأصبح الرجل الأول في الوقف بحكم قربه من ناظر الوقف الجديد.
ومرت الأيام لتكتمل شهورًا وحزن نازك لا يريد أن يخف؛ فهي دائمًا أمام ابنها وابنتها صامتة ساهمة. وهما بالطبع لا يريان أمهما حين تكون مع كريمة إذا خلت بهما الغرفة وابتعدت عنهما منيرة لتجلس إلى نادرة، وهما بالطبع لم يسمعا.
– أريده جميعًا في يدي.
– وهل هذا الحزن يمكنك مما تريدين.
– ويمكنك أنت أيضًا مما تريدين.
– كيف؟ لعلها المرة الأولى التي لا أفهم فيها ما تقصدين.
•••
كانت نازك جالسة إلى نادر ونادرة في صالونها الخاص حين جاءت كريمة ومنيرة. وراحت كريمة تقص عليهم أخبار الناس وتحاول أن ترمي النكات بين الحين والآخر؛ فكان نادر ونادرة ومنيرة يضحكون وتظل نازك معبسة الوجه بل قد تلقي إليهم نظرة استهجان لضحكهم.
وفجأة صمتت كريمة.
– وآخرتها؟
والتفتت إليها نازك وكأنها مندهشة مما تقول.
– أليس لها آخر؟
وهوَّم الصمت.
– اسمع يا نادر باشا.
– باشا؟
– ستصبح باشا فورًا. ألست ناظر الوقف.
– نعم.
– ما رأيك تدعونا جميعًا أن نسافر إلى الخارج؟
– نسافر؟!
– إن والدتك لن تستطيع أن تظل على هذا الحال، ولا بد لها أن تغير المكان والزمان وتسافر.
– إلى أين؟
– إلى حيث تريد.
– مثلًا؟
– نلف في أوروبا لفة.
– والله لا مانع عندي إذا وافقت نينا.
– وهل هذا يصح؟
وتقول كريمة: بل لا يصح إلا هذا، نبعد عن الأحزان ونقضي فترة في الخارج.
– وتترك الوقف يا نادر؟
– إذا أردت يا نينا فإنني أستطيع أن أدبِّر الأمر.
– على كل حال تستطيع أن تترك صالح.
– إنني فعلًا أستطيع أن أعتمد عليه.
– إذن نسافر، حدد اليوم يا باشا.
وتقول نادرة كلمة عجيبة: ولكنك يا نادر ستزهق من رفقتنا.
– أنا، لا. أبدًا.
– يحسن أن تصحب معك صديقًا يسليك إذا أردنا نحن أن نخرج لشراء الأشياء في أوروبا.
– وهو كذلك يا ستي، نصحب نعيم.
•••
– ستصبح ناظر الوقف.
– لفترة.
– لقد قصدتها خصيصًا.
– أنت؟
– طبعًا، أريد أن يعرف الجميع أنك الشخص الأول بعد الناظر.
– هذا ما أنتظره منك.
– أما ما أنتظره أنا منك فهو أهم.
– خيرًا؟
– ليس هذا وقته.
– أنا تحت أمرك دائمًا.
– أرجو أن تظل كذلك.
– وهل أملك إلا أن أكون كذلك؟
– حين أعود، وأنفذ ما أفكر فيه.
– فيمَ تفكرين؟
– في أشياء كثيرة.
– الآن، فيمَ تفكرين؟
– أفكر أن يكون نادر في يدي.
– والوسيلة؟
– هذا ما أصنعه الآن.
– ثم بعد هذا؟
– سأخبرك.
– هل أنا ضمن هذه المشروعات؟
– أنت من أهمها.
– لا أدري لماذا أحس بخوف.
– وأنت بجانبي؟
– لا أدري.
– كن بجانبي ولن تشعر بالخوف.
– أنا دائمًا هنا.
– كن هنا دائمًا.
١٧
استطاعت نازك في أوروبا أن تقرب منيرة إلى نادر فهي تطلب منه دائمًا أن يرافقها، وأدركت منيرة ما ترمي إليه نازك، ولم يحاول نادر كعادته أن يتعمق هذه المحاولة. إنه يظنها مجاملة طبيعية من أمه لابنة صديقتها، وكلما ازداد التقارب بينهما ازداد اطمئنان نازك وكريمة.
– في هذه المرة أفهمك.
– أنت صديقة العمر.
– لكن ليس هذا وحده هو الدافع.
– أنا أعرف أنك تفهمين.
– إذا تزوج من لا أعرف، خرج من يدي إلى الأبد.
– منيرة تربية يدك.
•••
إن أمه وأمي تلقيان بي إليه وتلقيان به عليَّ، لقد كنت أتمناه ولكن ليس على هذه الصورة. لقد أصبح مفروضًا عليَّ فرضًا وأنا لا أحب أن يُفرض أحد عليَّ حتى ولو كان نادر، بل لا أحب أن يفرض نادر بالذات. كيف أستطيع أن أرفضه؟ إنه يتقدم إليَّ بثقله جميعًا، الثراء الفاحش ونظارة الوقف والشباب والجمال. ماذا أقول لأرفضه؟ وأين الخيار لي؟ ليس هذا اختيارًا. إنه زواج بالإكراه؛ إكراه المال والمنصب والشباب والجمال. كنت أريد هذا الحب الذي يتناغم بين قلبين لا يدري شيئًا إلا الحب وحده. كنت أريد هذه الأحلام العذبة من آمال الشباب الوردية. كنت أريد حبًّا يسبق الزواج، ولكن من أين لي بهذا؟ لقد أصبح مفروضًا عليَّ فرضًا، ولو لم تكن أمه وأمي لعلِّي كنت اخترته وحدي دون دفع منهما، وهو مسوق لا يدري إلى أي شيء هو مسوق. وهو عذب صافٍ، ولكن هذا النوع من الصفاء الذي لا يتمعن في أمر ولا يتعمق في شيء، أنا أعلم أنه لا يدري إن كان يحبني أم لا. لعله يخيل إليه أنه يحبني، ولكنه لا يدري حقيقة مشاعره لأنه لا يدري حقيقة شيء على الإطلاق. لم يقل أحبك؛ فهو يفرض أنني أحبه كأمر لا جدال فيه؛ فقد تعوَّد أن يرى كل من حوله يحبونه، ولم يحاول في مرة أن يتعمق هذا الحب أو مقدار صدقه. وهو يعلم أن إشارة منه تكفي لأكون زوجة له، وهو محق، فأمه وأمي في انتظار هذه الإشارة، وهو واثق أنني أيضًا في انتظار هذه الإشارة. ألست من الناس وكل الناس يحبونه؟ فكيف لا أكون مثلهم؟ سأتزوجه حين يطلبني ولا سبيل أمامي إلا هذا. ولكن الذي لا شك فيه أن هذا الزواج مفروض عليَّ، لعل كل من أعرف من البنات يتمنينه. ولكن أنا، أنا بالذات كنت أرجو أن أتزوج بطريقة أخرى.
•••
وفي غمار هذه المحاولة المتشبثة من نازك لتزوِّج نادر من منيرة، لم تلتفت عيناها إلى حب آخر.
– وماذا بيدنا أن نصنع؟
– أشهر إسلامي.
– أتظن أن الدين هو العقبة الوحيدة؟
– هو العقبة الأساسية.
– يبدو أنك لا تقدِّر حقيقة الموقف.
– أبي موظف صغير عندكم، ولكن ما لي أنا؟
– الأمور ليست بالسهولة التي تتصورها.
– أنا سأترك ديني من أجلك، فعليك أنت أن تصنعي شيئًا.
– ليس شيئًا بسيطًا هذا الذي تريدني أن أفعله.
– وليس شيئًا بسيطًا الذي سأفعله أنا.
– إنهم الآن مشغولون بنادر.
– أعلم.
– فانتظر حتى ينتهوا.
– إني منتظر، ولكن أريد وعدًا.
– سأحاول.
•••
منيرة إن أصبح وإن أمسى، ولم لا، لقد عرفت كثيرًا من الفتيات، ولكن حين أريد أن أتزوج لا بد أن تكون زوجتي منيرة، لقد سرت معها وحدنا كثيرًا وأنا واثق أنها تحبني، ومع ذلك لم تحاول أن تُظهر لي شيئًا من حبها، جميل حياء العذارى، إنها الفتاة الشريفة التي يطمئن الإنسان حين يتزوجها، ثم لا بد لناظر الوقف أن يتزوج، أليس كذلك؟ لا بد لناظر الوقف أن يتزوج.
•••
كان حفل الزفاف رائعًا، واختلط فيه الرجال بالنساء وقُدِّم فيه كل ما يخطر ببال إلا الخمر، فبيت ناظر الوقف لا يجوز أن يقدم فيه الخمر. ونادر باشا يدور بالمدعوين يعرفهم بأقاربه وهم يبدون إعجابهم وتهنئاتهم. وحين تقدم حسام شوكت من العروسين قال الباشا: وهذا حسام شوكت أعظم خلبوص في العائلة.
ثم ضحك ضحكة رنانة عالية صافية مجلجلة رنانة، وابتسم حسام.
– أهكذا يا سعادة الباشا من أول مرة؟
– إنها ستعرف الحقيقة على أي حال ما دامت أصبحت من الأسرة.
وضحك الضحكة نفسها مرة أخرى.
وفي طرف خفي من الحفل: هذا أحد مشاريعي يتحقق.
– أهناك مشاريع أخرى؟
– مشروع خاص بي أنا.
– بك أنت؟
– وبك أيضًا.
– ماذا؟
– ليس الآن على كل حال.
وكانت عينا خديجة قد رأتهما، فحين انفردت بهما الحجرة في المساء: ماذا كانت تقول نازك لك؟
– سؤالك عجيب.
– نعم لعله عجيب فعلًا.
– فلماذا تسألينه؟
– ولماذا لا تجيب؟
– أغريب أن تكلم أم ناظر الوقف موظفًا عندها؟
– أكان الكلام عن الوقف؟
وصمت قليلًا.
– لماذا لا تجيب؟
– الواقع لم يكن عن الوقف.
– فالسؤال في محله إذن؟
– ولكن كيف عرفت؟
– إحساس قديم.
– إحساس؟!
– إحساس لعله بلا مبرر، ولكنه إحساس على أي حال.
– هو إحساس كاذب.
– لا يستبعد أن يكون كاذبًا كما لا يستبعد أن يكون صادقًا.
– هو كاذب.
– فماذا كانت تقول لك؟
– تقول لقد حققت شيئًا هامًّا بهذا الزواج.
– فأنت موضع سرها.
– ألا يرضيك أن أكون موضع سرها؟
– موضع سر نازك؟ لكم أخشاها.
– إنني موظف عندهم.
– أهم موظف عندهم.
– ألا يسرك هذا؟
– على أن يظل الأمر كذلك.
– ولماذا لا يظل؟
– أرجو ألا يزيد.
– وكيف يمكن أن يزيد؟ لقد كنت المتصرف في الوقف في أثناء غيابهم في الخارج.
– أرجو ألا يزيد.
١٨
ولدت منيرة لزوجها طفلة فرح بها نادر وكأنما حدث أمر لم يكن ينتظره. ولم يفكر أنه لم ينجب طفلًا بدلًا من طفلة، ولم يفكر أن الوقف لا بد له من فتًى لتظل نظارة الوقف في الأسرة. وأصبح لا يعرف ماذا يفعل ليعبر عن هذه الفرحة، فهو يقضي معظم أوقات يومه مع الوليدة نادية يداعبها ويضحك من كل ما تفعله.
أُحضِر المصورون فصوروها وصوروا أمها وصوروا الأسرة، وفي مرة بينما وقف يرقب المصور وهو يلتقط لمنيرة ونادية أُخِذ بالمنظر وأحس تلك الخفقات من الفرح التي يحسها الشاب الصافي حين يجد زوجته جميلة وابنته جميلة. وخُيِّل لنادر أن هذه الصورة لوحة لا بد أن يسجلها فنان لا عدسة، وسرعان ما طلب من صالح أن يستدعي له أعظم رسام وجوه في العالم. وكان صالح يستطيع دائمًا أن يعرف ما يريد معرفته، وقد كان أعظم مصوري الوجوه شابًّا إيطاليًّا شهيرًا سرعان ما أرسل صالح يستدعيه. وجاء الرسام شاب وسيم عذب الحديث أنيق التصرفات في غير تكلف ولا افتعال.
وقدم نادر زوجته وابنته إلى الرسام فأبدى إعجابًا شديدًا بهما، بل وأبدى سعادة أنه سيقوم برسمهما. وبطبيعة نادر الصافية لم يتصور أن فيما قاله الرسام شيء من المجاملة.
– متى تبدأ عملك؟
– مع هذا الجمال وهذا الطهر أتمنى أن أبدأ في هذه اللحظة.
– وأطلق نادر ضحكته العظيمة: عظيم، عظيم، إذن تبدأ.
– الآن.
وصاحت منيرة: طبعًا لا.
ونظر الرسام إلى نادر: أرأيت؟ كنت أعرف أنها ستمانع.
– كيف عرفت؟
– إذا بدأت غدًا أو بعد غد أكون سعيدًا.
– لماذا كل هذه السرعة؟
– إن السيدة تريد طبعًا أن تختار الفستان الذي تُرسم به، وتختار أيضًا ملابس للمدموازيل.
وأطلق نادر ضحكته وقد أضيف إليها عنصر الفرح أن يطلق على نادية لقب مدموازيل. وأكمل الرسام حديثه مع ابتسامة عذبة: نعم ملابس للمدموازيل تكون مناسبة لفستان السيدة.
– إذن فلن تبدأ قبل أسبوع.
وضحكت نادية.
– أعدك أن تبدأ بعد أسبوع تمامًا.
ونظر أنطونياني إلى الباشا: أرأيت؟
– أنت خبير.
– إنني أعرفهن.
– هل عندك مانع أن تزور القاهرة في هذه الفترة وتتعرف عليها؟
– إنني أتمنى.
– أهي المرة الأولى التي تأتي فيها إلى مصر؟
– أرجو ألا تكون الأخيرة.
– إذن فأنا أدعوك لزيارة مصر جميعًا في هذا الأسبوع.
– هل يمكن ذلك؟
– حتى لو استغرق هذا أكثر من أسبوع فلا يهم.
وتقول منيرة: وتكون فرصة لأحسن الاختيار والتفصيل.
وأراد نادر أن يندب صالح ليكون مرافقًا لأنطونياني، ووافق صالح ولكن نازك عرفت: صالح أكبر من أن يرافق رسامًا ليمر به على آثار مصر.
وانتبه نادر: آسف، ظننتها فرصة أن يتنزَّه هو أيضًا.
– هل بعد كشوفه في الصحراء يصبح ترجمانًا لرسام إيطالي؟ إن أهم ما يجب أن تتعلمه هو أن تختار الشخص للمهمة، هذه مهمة يستطيع أن يقوم بها أي موظف صغير في الوقف، ولا يجوز أن تُصغِّر كبار رجالك حتى يظلوا كبارًا؛ فالكبير كبير بمن حوله.
– نينا أنا أسف، وأنت لا تحتاجين إلى كل هذا الحديث حتى أعدل عن رأيي، يكفي أن أعرف رغبتك.
– ليست هذه رغبة، إنها رأي انتهزت الفرصة لأقوله لك.
– يبدو أنني صغير ما زلت محتاجًا للتعليم.
– أيضايقك أن أقول رأيي؟
– لا، ولكن أرجو أن تذكري أنني أصبحت ناظر الوقف ولست طفلًا.
– هل فيما قلت ما يدل على أنني أعتبرك طفلًا.
– لا، في هذه المرة أنت محقة.
– حين لا تجدني محقة ذكرني بأنك أصبحت الباشا ناظر الوقف.
– نينا، انتِ زعلت؟
– إنت زعلت؟
– أبدًا.
– وأنا، أبدًا.
ولم يذهب صالح لمرافقة أنطونياني، ولكن رأيًا آخر ظهر.
– نينا.
– نعم يا نادرة؟
– لماذا لا أذهب أنا مع أنطونياني؟
– أنت؟ هل جننت.
– أتفرج على آثار مصر.
– وحدك؟
– ولماذا وحدي؟ لتكن معي مدام إيزابيل مربيتي، وليذهب نعيم معنا.
– اسألي أخاك.
ووافق نادر وأصدر أوامره بإعداد الرحلة، وطبعًا صحب الرحلة موظف اختاره صالح.
•••
– صالح، الآن أستطيع أن أنفذ مشروعنا.
– أكاد أعرفه.
– أتعرفه حقًّا؟
– أنت تعرفين أنني لست غبيًّا.
– إذن فليسر الأمر ولو لمرة واحدة طبيعيًّا بيننا.
– ونادر؟
– دع الأمر يكون طبيعيًّا ولو لمرة واحدة بيننا.
– نادر؟
– نناقش التفاصيل فيما بعد.
– إذن يا نازك هانم أنا يشرفني أن أتقدم لخطبتك.
– آه هكذا، هكذا يصبح الأمر طبيعيًّا، فأنت لأول مرة تطلبني.
– وأطلبك إلى الأبد.
– أخيرًا.
– ما جوابك؟
– أحب أن يكون الأمر طبيعيًّا.
– أليس طبيعيًّا الآن؟
– المفروض أن أقول دعني أفكر.
– أهذا هو المفروض؟
– دعني أفكر.
•••
– أولًا تطلق خديجة؟
– ماذا؟!
– أنا نازك هانم، أتريدني زوجة ثانية؟
– ولكن، الأولاد.
– هذا شأنك.
– ماذا أقول لهم؟
– وهل أنت مضطر أن تقول؟
– وهي ما ذنبها؟
– أهي صحوة ضمير؟
– مجرد تساؤل.
– عليك أنت أن تجيب على هذا التساؤل.
– ونادر؟
– هذا شأني أنا.
– قد يطردني.
– لا يستطيع.
– بل يستطيع.
– لا يستطيع.
– أنا أعرف تأثيرك عليه، ولكن هناك أمور قد لا يتحملها أحد.
– اسمع، إني دبرت الأمر.
– كيف؟
– سيظل الزواج سرًّا.
– سرًّا؟
– سرًّا؟
– فما الداعي له إذن؟
– سرًّا وليس سرًّا.
– لأول مرة لا أفهم.
– سيعرف جميع المحيطين بنا أننا تزوجنا، ولكننا لن نعلن الخبر.
– الآن فهمت.
– سيصبح الخبر عند الناس إشاعة تحتمل الكذب والصدق، فإن طردك نادر ستصبح الإشاعة صدقًا فقط لا تحتمل الجانب الآخر.
– تهديد.
– لنادر.
– وماذا سيكون موقفه مني؟
– موقفه من زوج أمه.
– أخشى أن يغضب مني.
– في أول الأمر قد يغضب.
– ثم؟
– ثم سيعرف إنني أنا التي أريد، وأنا مستعدة لتحمل كل ما يستطيع أن يصنعه.
– إنه يملك سلطات واسعة.
– لقد عشت عمري الماضي خائفة من زوجي، ولن أعيش عمري الباقي خائفة من ابني.
– إنه ناظر الوقف.
– وأنا أمه.
– أعلم.
– لن يستطيع أن يعلن الشقاق بيننا لو حدث شقاق.
– إذن أمرك.
– لا تنسَ أنك أنت الذي طلبت الزواج.
– لا يمكن أن أنسى.
– إذن فلنبدأ إجراءاته.
– أمرك.
– كن زوجي ولا تكن موظفًا عندي.
– أمرك.
•••
كانت خديجة تتوقع أي شيء إلا أن يطلقها، كانت تتوقع أن تقوم علاقة بين نازك وصالح، ولعلها مع أسوأ الفروض كانت تتوقع أن يتزوج صالح من نازك. ولكن طلاقها هو الأمر الوحيد الذي لم تتوقعه، قرأت ورقة الطلاق وقرأتها ثم أصابها وجوم جازع منهار، ثم وجدها من حولها في حالة هيستيرية مجنونة معربدة، فهي دائرة في البيت تحطم كل ما تجده بلا تفكير.
حطمت وحطمت، وابنها وابنتها ينظران إليها ذاهلين، وحين قرأ أيمن الورقة الملقاة على الأرض أعطاها دون كلمة إلى أخته عزة، وفهم الأبناء ما تعانيه أمهما فأصبحا ينظران إليها في إشفاق لا يدريان ماذا يفعلان أو ماذا يقولان؛ فقد شعر كلاهما شعورًا واحدًا أن أي عمل وأي حديث عبث.
ولكن خدم المنزل سارعوا يلتمسون العون، فمنهم من طلب الأم إلهام ومنهم من طلب الطبيب، وخديجة في ثورتها المجنونة العارمة لا تحس بأحد ولا بشيء.
وجاء الطبيب ولم يكن بيده إلا أن يطلب إليهم أن يمسكوا بها عنوة ليعطيها إبرة مهدئة، وأعطاها الإبرة المهدئة، وكانت إبرة مورفين.
•••
لأول مرة واجه نادر أمرًا لا يريده، وأحس بنفسه في مصيدة لا يطيق منها فكاكًا؛ فقد طالعته أمه بخطتها كاملة، من حق المرأة أن تتزوج إذا كانت في سنها حتى ولو كانت زوجة الباشا الناظر السابق للوقف ووالدة الباشا الناظر الحالي للوقف، فهي تظل امرأة. حقيقة لم يكن نادر يفكر فيها أبدًا فلم يكن يتصور أن أمه امرأة، إنما كان يتصور أنها أمه فقط.
حاول أن يمانع ولكن كيف؟ إنه أمام أمه التي لم يرفض لها طلبًا في حياته. وهو أيضًا يدرك أنه لو مانع فلن تستمع له وستنفذ ما تريد أن تنفذ مهما يحاول أن يتأبى، قد تخرج وتترك البيت فيشيع ما ينبغي له أن يستر. لأول مرة يريد شيئًا ولا يستطيع بلوغه، أو هو لأول مرة يريد شيئًا ولا يستطيع منعه.
عرف الحقد والكره لأول مرة، وكان عجيبًا أن أول شعور بالحقد والكره يداخله، يداخله تجاه أمه لا تجاه شخص آخر.
غضب على صالح ولكن كان يعرف أن أمه هي التي تريد، ومع ذلك لم يستطع أن يمنع شعور الغضب.
تولته ثورة، يريد أن يصنع شيئًا، يريد أن يخرج من المصيدة، يصنع أي شيء. لم يذهب إلى منيرة فهي لا تستطيع أن تُخرجه من المصيدة، ترك أمه وخرج من الغرفة دون أن يجيبها بنعم أو بلا؛ فقد كان يعرف أن كلتا الكلمتين لا داعي لهما فقد قررت، إنها تبدو أنها تستأذنه ولكنه وثق في أثناء حديثها أنها إنما تخبره، فما لا؟ وما نعم؟ وماذا تجدي هذه أو تلك؟ خرج من الغرفة وذهب إلى سيارته وانطلق بها لا يدري إلى أين، وإنما انطلق في سرعة مجنونة عاتية يلتهم الطريق كأنما يحس أنه إذا قطعه فسيخرج من المصيدة، وأسرع وأسرع لا يدري لنفسه متجهًا، وترك القاهرة وراح يسوط الطريق بعجلاته كأنما ينتقم من الطريق الذي لا يستطيع أن يخرجه من المصيدة، غير عابئ بالسيارات الأخرى أو الناس أو الحيوانات، عليها هي أن تتفاداه أما هو فيريد أن ينطلق في هذه السرعة الغاضبة المجنونة وليكن بعد ذلك ما يكون، تفكيره حريق ونفسه اشتعال وغضبه الذي يعرفه لأول مرة دمار.
ووجد نفسه أخيرًا أمام قصره بالإسكندرية، فنزل ودلف إلى البيت لم يوجه إلى الخدم حديثًا، وإنما انهار على أول كرسي استقبله وأطلق آهة عميقة، ثم أسلم نفسه إلى الصمت، نعم إنني ما أزال في المصيدة.
١٩
حين عادت نادرة من رحلتها كانت قد أعدت كل شيء، وحين وجدت زواج أمها في انتظارها أصبح الأمر أكثر يسرًا.
– سوف يشهر اسلامه.
– أتعقلين ما تقولين؟
– إذا كنت أنت تتزوجين ممن تريدين، فلماذا لا يكون لي هذا الحق؟
– ألم تفكري في أخيك ومنصبه؟
– أراك أيضًا لم تفكري في ابنك ومنصبه.
•••
– لا أريد أن أرى وجهها ولا وجه نعيم.
– هذا لا يغيِّر شيئًا من المشكلة.
– لا أريد أن أرى أحدًا منهما.
– لا بد أن يعلن الخبر.
– لا أراهما.
– الأمر معهما مختلف؛ فأنا لم أعلن عن زواجي.
– أنت أمها افعلي ما تشائين.
– وأنت أخوها.
– لا أريد أن أكون أخا أحد.
وصمت قليلًا ثم قال: ولا ابن أحد.
– لا تغلط.
– العجيب أنني لم أُجن حتى الآن.
– لا بد للحياة أن تسير في طريقها.
– أهذا هو الطريق الطبيعي للحياة.
– هذه هي الحياة.
– قبيحة دميمة.
– إنني أنا المخطئة.
– أنت طبعًا المخطئة.
– أنا مخطئة لأنني لم أجعلك ترى من الحياة إلا وجهها الجميل.
– وها أنا ذا أرى وجهها الفظيع.
– أنت لم ترَ شيئًا.
– أهناك أفظع من هذا؟
– أنت لم ترَ شيئًا.
•••
أصبح نادر خجلًا من أمه ومن أخته؛ فزواج أمه شاع بين الناس وإن لم يعلن عنه، وزواج أخته أُذيع في جميع الجرائد والمجلات، ونادر لا يريد أن يرى أحدًا، ولولا أنه مضطر أن يوجد في مكتبه بالوقف منذ الصباح ما نزل إلى الوقف أيضًا. كان يحس أن الناس لا تتحدث إلا عن أمه.
صالح يخشى الدخول إليه في مكتبه، لكن العمل كان يقتضي أن يلقاه، لم يقل له شيئًا، كأن شيئًا لم يحدث. استكبر نادر أن يكلمه في هذا الأمر ولكنه في نفس الوقت لم يستطع أن يعامله كما كان يفعل، هي الأعمال فقط ولا حديث آخر.
وفي يوم بينما صالح واقف أمامه يعرض عليه بعض أوراق، وجد نفسه لا يحتمل. قام فجأة ودخل إلى جناحه في السراي وظل يسير في الأروقة على غير هدًى. ومر بالغرفة التي يقوم فيها أنطونياني برسم زوجته، ووجد قدميه تقودانه إلى داخل الغرفة، ما هذا؟ أهذا هو الجانب الآخر من الحياة؟ أحقيقة ما يرى؟ زوجته بين أحضان أنطونياني، والطفلة تنظر إليهما، يقبلها وهي تحمل طفلتها.
رأته منيرة، شهقت، ولكنه كان قد عاد تاركًا الغرفة. لم يبقَ له أحد، لا أحد، لا أحد.
نزل إلى السيارة. عقله لا يفكر، لا يفكر مطلقًا. هو في روع آخذ جبار عنيف. انطلق بالسيارة. وانطلق وانطلق وطال الطريق وهو لا يدري. في أوروبا كنا نسير سويًّا، نادية، أنا أول من عرفت، هذا لا شك فيه، كل شيء مشكوك فيه، لماذا؟ أمي، نادرة، ومنيرة، لماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومع من؟ إنه لن يبقى، إذن فهي تعطي نفسها لمن يرغب. عبث، عبث، عبث، السمعة، الناس، لا يهم. المهم هو أنا. أنا. وهل بقي لي أنا؟ وما أنا؟ ألسن زوجتي وبنتي وأمي وأختي؟ ماذا بقي من أنا؟ نادية، منيرة، هل رأيت ما رأيت حقًّا؟ أعود لأتأكد؟ لعله ما يزال يقبلها، أعود لأرى؟ زوجتي منيرة، ماذا بقى لي من أنا؟ لا يحس بالطريق ولا يحس بشيء. وفجأة نبتت أمامه فتاة صغيرة لوى السيارة ليتفاداها فإذا بالسيارة تنقلب مرات حتى تستقر مقلوبة في الحقول، ثم يهوم الصمت.
•••
في المستشفى بدأ يفكر، لو قال ما رأى لجنى على نادية جناية لا تستحقها؛ لو صمت، سيجن. ماذا يفعل؟ ماذا يفعل؟
تدخل منيرة وتخرج، لا يستطيع أن يحادثها إذا انفرد، فإن دخلت أمه حادث منيرة بما لا يجعل الأم تشك في شيء. فإذا خرجت الأم صمت.
– كان يقبل نادية.
لم يجب، لا يستطيع أن يصدقها ويكذب عينيه. لا حديث، لا حديث على الإطلاق.
حاولت نادرة أن تنتهز الفرصة لتعود الأمور إلى طبيعتها بينها وبين أخيها، فدخلت تزوره، لم يحدثها ولم يرَ داعيًا أن يحدث منيرة أمامها، ما فعلته نادرة أهون مما فعلته منيرة، ولكنه لم يستطع أن يحتمل وجودهما معًا أمامه. قال في حزم: اخرجا.
– وخرجتا، كل منهما تعلم أن أمر الطرد صادر لها وحدها.
•••
شفي وخرج من المستشفى ولكنه انقلب شخصًا آخر. أصبح لا يترك بيت إلهام وأصبح يطالبها بإقامة الحفلات. كان يريد أن يعود إلى هذه الأيام التي أعطته فيها إلهام سيارة وفتاة، فهو يلاحق كل من تقع عليها عيناه من فتيات. وأصبح لا يستخفي في علاقاته حتى لقد سرت الإشاعات أنه فقد قدرته الجنسية أو كاد، ويريد أن يستر هذا بما يفعل مع النساء. وهو لا يُعنى بشيء من هذا وإنما يسير طريقه الذي خطه لنفسه غير مكترث بأحد أو بشيء. وإلهام تهيئ له كل ما تصبو إليه نفسه. أصبح لا يصادق إلا الخدم والقوَّادين، وتردَّى في طريق لم يتصور أنه سيسير فيه، أصبح يضحك ضحكته الشهيرة، ولكنه كان كلما ضحكها أحس أنه يضحك من نفسه وأحس أن العالم أجمعه يضحكها منه معه، إلى أين الطريق؟ إلى أين تنتهي به نزواته؟ لا يدري أو لعله يدري ولكنه لا يريد أن يفكر، أصبح ابن لحظته يطالبها أن تعطيه كل متع العالم ولا يهمه من بعد ماذا ستحمل اللحظة التالية. كل ما يريد أن ينسى كل شيء عن كل شيء، ويسمع مديح الخدم والقوَّادين، ويصدقه، إنه يريد أن يصدقه؛ فهو أبدًا لا يحاول أن يبحث وراء الكلام الذي يصدر إليه من أي منبع ولا عن أي مصدر يصدر، له لحظته لا يعنيه ما بعدها، وله الكلمة ولا يعنيه ما وراءها، وحين يحاول بعض المخلصين من المستحقين أن يقولوا شيئًا يهددهم أو يُعرض عنهم، فكل حديث لا يمتعه لا يريده، لا يسمعه مهما يلحُّ عليه. والمخلصون قلة والمنتفعون كثرة. والمديح جميل والنصيحة بغيضة. وهو يريد اللحظة، يريدها متعة. والكلمة المادحة تزيد المتعة متعة، فليخض الأمواج؛ والشاطئ؛ إلى أين ترسو السفينة؟ لا يهم، إنه يغوص في الأمواج ولا شأن له بالشاطئ، لعل بحره يكون بلا شاطئ، لكل بحر شاطئ، ولكن لعل، لعل بحره هو بلا شاطئ، وجد متعته الكبرى في القمار، أصبح يقامر بكل مال يقع في يده، وأوشك الوقف في مرتين أن يصبح مرهونًا جميعًا لولا أن توسل المستحقون لدى الديَّانة فتنازلوا عن حقوقهم، أصبح الوقف جميعًا مهددًا بالخراب، فلم يعد يعنيه أن يبقى أو لا يبقى، وأصبح المستحقون في ذعر دائم أن يصبح عليهم صباح ليجدوا الوقف جميعًا أصبح في أيدي الناس بددًا، ويصبح ريعه سدادًا للديون، وحينئذٍ لن تجدي الوقفية في شيء، إنه يغامر بجنون، كان القمار يمده بلحظات المتعة ويجعله يغوص أكثر في أعماق الموج ويجعله ينسى أكثر وأكثر. إن للأمواج شاطئًا، فإن فكر لحظة، مجرد لحظة، لعل، لعل موجي يكون بلا شاطئ. اضطرب المستحقون وأصبحوا لا يدورن بماذا يطالعهم الغد أو بماذا يوافيهم المساء. وأصبح أكثر الجميع هلعًا موظفو الوقف، فكان من لا يمدحه يغيِّره. فطرد الموظفين واستبدالهم بآخرين أصبح لعبة يلهو بها كما يلهو بأوراق اللعب.
•••
وتمر الأعوام وقليلًا ما تمر، ويفاجأ بأن منيرة حامل، ولا يقطع هذا الخبر الإشاعة. فإن الضعف لا يمنع القدرة منعًا تامًّا. وتكتمل شهور الحمل وتلد منيرة فتاة أخرى هي نعمت.
ولا تكمل نعمت في بيت أمها شهورًا حتى يعلن نادر طلاق منيرة، ويجعل ذريعته أنه يريد أن ينجب أبناء ليرثوا نظارة الوقف.
ومن بيت إلهام يختار عروسه؛ فتاة لم يكن يعرفها، وإنما قدمتها إليه إلهام على أنها سميرة ابنة مجدي بك السنهوتي.
– ولكنها مخطوبة.
– لم تتزوج بعد. أليس كذلك؟
– مخطوبة.
– اسألوها واسألوا أباها.
– أمرك.
وتفسخ خطبة الفتاة ويتزوجها نادر، ولكن …
٢٠
– شوكت، قد حان الوقت.
– نعم يا يسري قد حان الوقت.
•••
وكان نادر بمكتبه بإدارة الوقف حين دخل إليه يسري وشوكت وبعض أشخاص آخرين.
– يا باشا إن الحال هكذا لا يمكن أن يستمر.
– ما هو الذي لا يمكن أن يستمر؟
– سمعة الوقف أصبحت في الحضيض.
– أنا ناظر الوقف المسئول عنه.
– لهذا جئنا إليك.
– ماذا تريدون؟
– أن تتنازل.
– ماذا؟
وظهرت أسلحة مشهرة من مرافقي يسري وشوكت.
– أهي فوضى؟
– سوف يشهد جميع الموظفين أنك حاولت قتلنا فدافعنا عن أنفسنا.
وكان يسري قد أعد ورقة التنازل فوقعها نادر، وكأنما كان ينتظر هذا اليوم كشيء مؤكد لا سبيل إلى الفرار منه.
•••
سافر هو وزوجته إلى أوروبا، ولكن زوجته لم تطق العيش معه طويلًا فقد أصبح لا يجد لذة إلا مع العاهرات.
– مضمونات.
– العاهرات؟
– نعم إننا نعرف أنهن عاهرات، إنهن النوع الوحيد الذي لا يغش من النساء، فإننا نعرف أنهن عاهرات.
ولم يقنع هذا المنطق سميرة فهي تتركه للعاهرات وتعود إلى القاهرة.
•••
فاجأه الموت وهو في سن الشباب، ولم يعرف أحد كيف مات؛ فقد كثرت حول موته الأقاويل والإشاعات.
وجدوا خطابًا بين أوراقه: «إلى ابنتي نادية راجيًا ألا تفتحه إلا بعد وفاتي.»
أنت الوحيدة التي لا أحب أن تصدق ما يقوله الناس عني، ولعل أهم ما يمسُّك في أمر أسرتنا أنني طلقت والدتك. كل ما أرجو أن تعرفيه أن أختك نعمت ليست ابنتي.
وكنت قد سمعت عن علاقة بين منيرة وحسام ولم أشأ أن أطلقها حتى لا أسيء إليكِ، فحين جاءت نعمت أشفقت عليك وأشفقت عليها هي أيضًا، فهي لا ذنب لها، ولكنني لم أطق أن أعيش معها فكان الطلاق. وهذا السر بين يديك الآن، وأنت وحدك التي تملكين التصرف فيه. وإن كان لي رجاء عندك يجاب، هو أن تشفقي عليها؛ فهي وإن لم تكن ابنتي فإنها أختك.