صائد السِّمَّان!
لم يكن الصياد يعرف أخطر من نزول البحر في الليل … ومن نزول الأغراب إلى شاطئه، وإضاعة كنزه الثمين من الطيور المهاجرة … فأي طير هذا الذي سيحضُر وهو يرى هذه الكائنات تتحرك على الشاطئ.
لذلك جرى الرَّجل إلى فيلَّا «توفيق الشريف» … ووقف يُنادي من أسفل قائلًا: يا «شريف» … يا «شريف».
أطلَّ الأستاذ «توفيق» وقال له: إزيك يا «عَمَّار».
لم يُجِب الرجل التحية بل قال له: يا «شريف» ضيوفك سيُهربون الصيد.
الشريف: كيف يا «عمار»؟
عمار: إنهم يقفون أمام الشِّباك.
كان «أحمد» قد عاد وزملاؤه إلى الفيلَّا … ورآهم الرَّجل وهم يعبُرون بوابتها فقال لهم: جزاكم الله خيرًا يا أولادي.
لم يَلتفِت «أحمد» له … فقد كان مشغولًا جدًّا بما يدور في رأسه … فأشار ﻟ «عثمان» ليلحق به … وكذلك «قيس» و«باسم» … وصَعِد السُّلم الخلفي الذي أضفى به إلى سطح الفيلَّا … فانتحى بهم جانبًا وقال لهم: أنتم ترون في هذه الشِّاك عائقًا للرؤيا ومُعطلًا للمراقبة أليس كذلك؟
أجابوه جميعًا ببلى … فاستطرد قائلًا: ولكني أراها ساترًا سيُعيننا على الغوص والبحث عن بُغْيتنا.
واعترض «قيس» قائلًا: الغوص في الليل خطر … فما بالُكَ إذا كان بدون مُعَدات؟
وبالطبع لم يكن هذا ما يدور برأس «أحمد» فقال له: ومن قال لك إننا سنغوص بدون مُعَدات؟
وكذلك «باسم» … اعترض قائلًا: إمرار المُعَدات الآن سيَلفِت النظر.
كان «أحمد» يعرف ذلك جيدًا … لذلك لم يفكر في اصطحاب مُعَداتٍ ثقيلة … بل كل ما كان يقصده هو جهاز استشعار وملابس غوص … غير أنَّ «عثمان» كان له رأيٌ وافق عليه الجميع … فقد قال لهم: إن نقل المُعَدات مهما كانت قليلة سيَلفِت الأنظار … أمَّا إذا عملنا على دفن هذه المُعَدات في الرمال … وأثناء معسكر نقيمه هنا … ثم نستخرجها في الليل … فلن يراها أحد.
وكان «أحمد» أوَّل الموافقين على هذا الرأي … لذلك فَضَّ الِاجتماع … ودعاهم للنزول حتى لا يُلاحِظ أحد غيابهم.
وكان الأستاذ «توفيق» قد أعَدَّ عَشاءً رائعًا من خير مزرعته … وعندما شكروه عليه قال: اشكُروا «أم حسان» فهي التي فعلَت كل شيء.
يا له من رجلٍ كريم متواضع … خفيف الدم إلى حد أنْ حوَّل جلسة العشاء التي عبَّر فيها كل واحدٍ منهم عن نفسه بما يُجيده!
وانتهت السهرة على أمل تجديد اللقاء … ونزلوا جميعًا إلى حيث يقف الأتوبيس فاستقَلوه … وانطلَق بهم … وكان أول المتكلمين هو الأسطى «سيد» السائق … فقد قال: الأستاذ «توفيق الشريف» رجلٌ رائع … وأنا حزينٌ أني لن أحضُر عَشاءً عنده مرةً ثانية.
صاح «أحمد» فيه متسائلًا: لماذا يا «سيد»؟ … ماذا جرى؟
سيد: يجبُ أن أعود في الصباح إلى «القاهرة».
عثمان» لماذا؟
سيد: اتحادات الطلبة تستأجر الأتوبيس للذهاب أو العودة فقط … وإذا بقيتُ معكم … فسنُثير التساؤل.
وكان لدى «أحمد» الحل حيثُ قال له: لا تهتم يا أسطى «سيد» … فنحن هنا لنقوم بخدماتٍ اجتماعية … وأنت معنا لتُيسِّر لنا هذا الأمر.
لمعَت عينا «سيد» … فقد راق له كلام «أحمد» … لذلك كان سعيدًا جدًّا وهو يمُرُّ بالسيارة من بوابة القرية التي يقيمون فيها … فقد شعر أنه لن يفارقها الآن.
نام الشياطين مبكرًا، واستيقظوا مبكرًا … فتناولوا مشروباتهم الساخنة وقرَّروا أن يتناولوا إفطارهم على شاطئ البحر أمام فندق «قويدر».
ولذلك قاموا بوضع كل مُعَداتهم في السيارة … وركبوها … وانطلق بهم «سيد» إلى شاطئ الكورنيش … وهناك رأَوا الأستاذ «توفيق» يتناول الشاي على شاطئ البحر … وقد جلس يسمع الأخبار من راديو صغير عُلق بمسند الكرسي، وما إن رآهم … حتى انفرجَت أساريره وقال لهم: ستُمضون اليوم هنا … أليس كذلك؟
ردَّت «إلهام» عليه قائلة: اليوم وكل يوم.
ضحك «الشريف» وقال لهم: إذن سيكون غَداؤكم عندي.
حاول الشياطين الاعتراض حتى لا يُثقلوا على الرجل … إلا أنه أصَر وقال لهم: سأدعوكم إلى منسف … ضحك «عثمان» وقال: ستنسف من؟
ضحك «الشريف» لهذه القفشة وقال له: إنها أكلةٌ عربية ستُحبها جدًّا. اتفقنا.
ولم ينتظر منهم اعتراضًا … وتركهم يُعِدون معسكرهم وعاد هو إلى بيته … ولم يمضِ دقائق إلا ورأَوه يركب سيارته ويخرج من منطقة الكورنيش.
كان «قيس» قد نصَب الخيمة قُرب الماء، بل كان الماء يغمُرها من أسفلها … ورغم ذلك كان «خالد» ينقل إليها حاجياتهم، ولحق بهما «عثمان» و«بو عمير» … وكان «أحمد» مشغولًا عنهم … وعندما التفَت إليهم صاح فيهم قائلًا: ماذا تصنعون؟ تنصبُون الخيمة وسط الماء؟ وأين نعوم إذن؟ في الرمال؟
نظر «قيس» و«خالد» و«بو عمير»، إلى «أحمد» وهم واجمون، أما «عثمان» فقد عمل على فك الخيمة وهو يقول لهم: «أحمد» له الحق في كل ما يقوله.
نظر له زملاؤه وهم يضحكون فقال لهم «أحمد»: ساعدوه في نقل الخيمة إلى هنا … فسنبدأ في حملة التطعيم.
وبناءً على اتفاقٍ مُسبق، ارتفع صوت مُكبِّر يدوي يحمله رجلٌ يركب حمارًا، يدعو الناس للتوجُّه إلى خيمتهم للتطعيم.
ومال «عثمان» على «أحمد» وقال له: أتعرف أنَّ هذا هو الحمار الوحيد في «العريش».
أحمد: أحمدُ الله أنه لم يقدَّس كما يقدِّس الهنود البقر.
مال «عثمان» عليه مرةً ثانية وقال له: لقد تم زرع كل المُعَدات تحت الماء وتحت الرمال.
أحمد: هل كانت الخيمة تُغطيكم تمامًا؟
عثمان: نعم.
أحمد: أتعشَّم ألا يلفتَ نقلُ الخيمة من موقعها نظرَ أحد.
عثمان: لا أظن.
في هذه الأثناء حلَّقَت في سماء المكان طائرة هليكوبتر متطورة … ودارت حول موقع سقوط الصاروخ دورتَين ثم اختفت … وشَعَر «عثمان» أنَّ قائدها هو كابتن «عبيد»؛ فمنذ عاد إلى قاعدته بالأمس لم يَرَوْه.
ولكن ماذا كان يقصد بدورانه حول موقع السقوط؟ هل كان يحُثُّهم على بدء الغوص والبحث؟ لقد أعدوا الخطة، وها هم ينفِّذونها بحذافيرها ولم يغيِّروها. قبل ميعاد الغَداء بدقائق … حضَرَت سيارة نصف نقل … وأنزل سائقها صينيةً ضخمة ممتلئة عن آخرها بالأرز … وفوق هذا الأرز خروفٌ مسلوق … ثم نادى هذا الرجل على ولدٍ صغير يُعاونه وقال له: أحضِر الملاعق.
ووجد «أحمد» نفسه مدفوعًا لأن يسأله: هل تأكلون هذا بالملاعق؟
فرد الرجل قائلًا: لا، نحن نأكله بأيدينا.
وقبل أن ينطقها … قبل أن يقول للرجل إننا سنأكل بأيدينا … أمسكه زملاؤه وسحبوه بعيدًا وقالوا للرجل: أحضِر الملاعق.
وكان «الشريف» قد حَضر … فجلس بينهم وقال: هناك صينيةٌ أخرى قادمة.
إلهام: عليها أرزٌ أيضًا؟
لم يكن على الصينية أرزٌ فقط … وهذا ما وضَّحه «الشريف» قائلًا: هذا ليس أرزًا فقط … فتَحتَه عيشٌ رقيق رُصَّ طبقات … وغُطي كل هذا بالمرقة ثم الأرز.
انتهى الغَداء … ورأى «أحمد» بطرف عينَيه حركةً غير عادية في الماء … فلم يَلتفِت … وقال لزملائه: لا يَلتفِت أحدكم للماء.
أثار التنبيه فضول «عثمان» فقال له: هل هناك أحد بالماء؟
أحمد: هناك حركةٌ غير عادية في الماء.
عثمان: هل هي قريبة من مُعَداتنا؟
أحمد: نعم.
عثمان: إذن فقد تم كشفُنا.
أحمد: حتى الآن لم يتأكَّد هذا.
ورأت «إلهام» أنها يجب أن تتصرف … فقامت بقذف «ريما» بقطعة لحم ففعلَت «ريما» مثلها وجرت … فجَرَت خلفها «إلهام» في اتجاه الماء … بل خاضَتا فيه وهما تجريان خلف بعضهما … وفجأةً غابتا عن العيون … ولم يعُد أحدٌ يسمع لهما صوتًا … أصاب القلق عليهما «عثمان»، فجرى يخوض في الماء بقدمَيه حتى غَطَّاه مُعظمه … فقفَز بداخله، وأخذ يسبح باحثًا عنهما … ولم يجد بُدًّا من أن يغوص … ففَعل ذلك … ولحُسن حظه … رأى مُعَدات الغوص، وقد كشَف الماءُ الرمل عنها … فأخرج بدلة غوص … وماكينة أكسجين، وخلال عشر دقائق كان جاهزًا للغَوص في الأعماق … غير أنه لم يَنسَ أن يبحث عن «ريما» و«إلهام»، وما أثار فَزعَه أنه رأى غوَّاصَين يعومان على مقربة منه … ويرتديان بذلتَي غوصٍ كاملتَين … فماذا يعني هذا؟
هل يعني أن أمرهم انكشف … وأنهم وصلوا إلى الصاروخ … وكما وصلوا إليه وصلوا إلى مُعَدات الغَوص؟
إنه لم يجد إلا بذلته … فأين الباقي؟!
اقترب الغوَّاصان منه على حذَر … ثم خلع أحدهما نظارته … فسُرَّ «عثمان» كثيرًا لِما رآه … إنها «إلهام»، وقد أشارت له بإصبعها … تسبح في هذا الاتجاه، وبعد حوالي عُقدتَين … أشارت له أن يغوص … وعندما غاص رأى في قاع البحر ما وَتَّره كثيرًا … لقد رأى الصاروخ وقد كُتب على جسده حرفا «دي وبي» فقرَّر الخروج بسرعة وإبلاغ السلطات.
وأشار ﻟ «إلهام» و«ريما» بالصعود … ولحِق هو بهما … وعندما خرجوا من الماء … لم يجدوا الخيام … لم يجدوا أيًّا من الزملاء حول المعسكر … المكان خالٍ تمامًا، والسيارة غير موجودة … لا … بل المعسكر نفسه غير موجود … ماذا حدث؟
نظرَت «ريما» حولها وقالت: المكان هذا ليس المكان الذي نزلنا فيه الماء … لقد خرجنا من مكانٍ آخر … نحن الآن نبعُد كثيرًا عن موقع المعسكر … فهل بعُدنا كثيرًا؟
إنني أرى على البعد شاليهاتٍ خالية … ولا أحد يسكن في هذا المكان … ولا حتى أطفال يلعبون … فأين نحن؟
وفي قلق قالت «ريما»: يجب أن نعود إلى الماء مرةً ثانية … ونخرج من حيث نزلنا إلى الماء … كانت برأس «عثمان» تدور أفكارٌ كثيرة عن المكان الذي يراه الآن فقال لهما: يُمكنكما أنتما العودة، أمَّا أنا فأمامي مهمَّةٌ مُلِحة.
ولم تنزل على رغبته وأصرَّت «ريما» على أن يعودوا إلى الماء سويًّا … مما أثار دهشة «عثمان» … فسألها عن سبب هذا الإصرار فقالت: لقد رأيتُ في أحد هذه الشاليهات حركةً لأكثر من شخص.