الدول
دعونا نتخيل وزير الخارجية الأمريكي حديث التعيين وهو يتلقى إحاطة من أحد كبار المستشارين في يومه الأول في المنصب.
في نظام الولايات المتحدة — خلافًا للملكة المتحدة — ثمة دور لمجلس الشيوخ في تعيين وزير الخارجية؛ إذ لا بد أن يوافق المجلس رسميًّا على أي تعيين جديد لمنصب وزير الخارجية، ومن الطبيعي توقُّع أن يكون الشخص المُعيَّن قادرًا على إرضاء مجلس الشيوخ؛ من حيث درايته وخبرته في التعامل مع الشئون الخارجية. أما في ديمقراطية بريطانيا البرلمانية، فيكون المؤهِّل الوحيد المطلوب للتعيين في منصب وزير الخارجية هو استعداد رئيس الوزراء لمنحك الوظيفة. وفي بعض الحالات، يفضِّل رؤساء الوزراء أن يتخذوا هم قرارات السياسة الخارجية الرئيسية جميعها، أو بالتضافر مع «المستشارين المقربين» منهم الذين يكونون مستشارين شخصيين غير منتَخَبين، وفي تلك الظروف، تتلخص وظيفة وزير الخارجية ببساطة في تنفيذ سياسات رئيس الوزراء. وعلى أي حال، وأيًّا كانت علاقة رئيس الوزراء الشخصية بوزير خارجيته، وحتى إن كان هذان السياسيان مستجدَّين في مجال الشئون الخارجية، فإنَّ كبار موظفي وزارة الشئون الخارجية والكومنولث يتحلَّون بثِقَل تجتمع فيه المعرفة والخبرة الناتجتان عن خدمتهم في الوظائف الدبلوماسية في جميع أنحاء العالم، مما يمكِّنهم من التعويض عن أي مَوْطِن ضعف على الصعيد الوزاري تعويضًا تامًّا. وتتمتع وزارة الخارجية في ظل النظام الأمريكي بحصيلة مماثلة من الخبرة، ولكنها قد تجد كذلك أن اهتمام الرئيس منصبٌّ على الشئون الخارجية، وأن وزير الخارجية مُتَوَقَّع منه ببساطة أن ينفِّذ سياسة البيت الأبيض بإخلاص. ويتمثل أحد التعقيدات التي يتسم بها النظام الأمريكي في أنَّ الوزارات المنافسة — لا سيما وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي — قد لا تتفق مع وزارة الخارجية، وتسعى إلى الترويج لسياساتها الخاصة المفضَّلَة.
والدول من أول الأمور التي يحتاج وزير خارجية بريطاني جديد ينقصه الكثير من الخبرة إحاطةً بشأنها؛ إذ إننا نحيا في عالم ما زالت الدول فيه هي الفاعل الرئيسي في العلاقات الدولية. وبما أنه ليس ثمة حكومة عالمية ولا منظومة للقانون العالمي ولفرض القانون، ولا بادرة لتأسيس مثل ذلك النظام، فمن المرجَّح أن تظل المعرفة بالدول شرطًا لازمًا — وإن لم يكن كافيًا بالطبع — لتحقيق أي فهم جاد للعلاقات الدولية في المستقبل المنظور. والتظاهر بغير ذلك يكون من قبيل التمنِّي لا أكثر.
لم تكن تلك هي الحال دائمًا؛ فقد قدَّم علماء الإنسان وصفًا مفصَّلًا مثيرًا للإعجاب لمجتمعات بشرية قائمة على العضوية القبلية أو العشائرية، لم يوجد فيها ما يشبه الدولة (مارجريت ميد، «بلوغ سن الرشد في ساموا» ١٩٢٩، على سبيل المثال). ففي مثل تلك المجتمعات، التي لا تزال باقية في أماكن مثل أفريقيا الوسطى وحوض الأمازون الأوسط، يوجد بالتأكيد حكام قَبَليون أو زعماء قبائل وشيوخ قبائل، ولكن ليس ثمة موظفون متفرغون، وفي كثير من الحالات — لأن تلك القبائل يمكن أن تكون كثيرة الترحال — لا توجد أراضٍ ثابتة ذات حدود معترَف بها ولا ولاية قبلية. وإن الإمبراطوريات القديمة لمصر وبلاد فارس والصين وروما هي التي نجد فيها نشأة بعض الخصائص المهمة للدولة؛ فقد كان الحكام يوظفون حاشيات من الموظفين بغية تنفيذ أوامرهم وفرضها، ونُشِرَت جيوش من الجنود المتفرغين بغرض القيام بالمزيد من الفتوحات الإمبراطورية والتصدِّي للأعداء الخارجيين والداخليين، وكثيرًا ما كانت توضَع قوانين وإجراءات معقَّدة إلى حد بعيد للعدالة الجنائية وتطبق (بدرجات متفاوتة من الكفاءة والاتساق) في جميع أنحاء الإمبراطورية. وليس على المرء سوى النظر في الأثر الهائل الذي خلَّفه القانون الروماني على الأنظمة القانونية في أوروبا المعاصرة ليرى أهمية تلك التطورات على نشأة الدولة الحديثة.
وعلى الطرف المقابل، من حيث الحجم، كانت الدول المدن الإغريقية الصغيرة، المقدَّمَة بصورة شديدة الجاذبية في مؤلَّف أرسطو «السياسة»، والدول المدن الإيطالية المنتمية إلى الفترة الحديثة المبكرة. ويقدِّم نيكولو مكيافيللي — في كتاباته الكلاسيكية عن الأخيرة — رؤية واقعية مبهرة للاستراتيجيات والتكتيكات التي يستخدمها الأمير أو الحاكم الناجح؛ بغية الاستيلاء على السلطة والحفاظ عليها، وأساليب إدارة الدولة اللازمة لممارسة سياسة خارجية ناجحة في إطار معارك القوى المتواصلة، والخصومات القائمة بين الدول المدن والإمارات والجمهوريات المختلفة لإيطاليا في عصر النهضة. وفي الدول المدن الإيطالية المنتمية إلى تلك الفترة لا بد أن نلحظ أحد أهم علامات الدولة الحديثة، وهو تنامي إبراز الحياة المدنية على الدينية.
والحقيقة أن الإصلاح الذي تم في أوروبا، والفصل الواضح والقاطع بين الكنيسة والدولة؛ هما ما وفرا ظروف قيام منظومة دول حديثة بحق في أوروبا، لا يُعترَف فيها بدولة واحدة بصفتها القوة المهيمنة المشروعة أو السلطة المسيطرة، وفيه تتفق جميع الدول الأعضاء «من حيث المبدأ» على الاعتراف المتبادل بحق كل منها في التمتع بحقوقها السيادية وولايتها على أراضيها.
كانت البداية الحقيقية لمنظومة الدول الحديثة في أوروبا هي صلح وستفاليا (١٦٤٨)، الذي مثَّل نهاية حرب الثلاثين عامًا، ولم تكن تلك الحرب مجرد معركة بين المذهب الكاثوليكي والكالفينية، وإنما صراع دولي بين الإمبراطورية الرومانية المقدسة والدول القوية ذات السيادة مثل فرنسا، التي سَعَت إلى ضمان حصولها على حدود استراتيجية ودفاعية. وقد قلَّص صلح وستفاليا سلطة الإمبراطورية الرومانية المقدسة ونفوذها بصورة جذرية.
وقُصِرَت السلطة السيادية لآل هابسبورج النمساويين (العائلة التي جرت العادة على انتخاب الإمبراطور الروماني المقدس منها) بصورة فعالة على دوقياتهم النمساوية الموروثة وبوهيميا. ولم يعد من المسموح للإمبراطورية أن تحشد قوات، أو تعلن الحرب أو تقيم الصلح، أو ترفع الضرائب دون موافقة أعضاء منظومة الدول، وأصبحت الولايات الثلاثمائة أو نحو ذلك، التي كانت ألمانيا مُقَسَّمة إليها دولًا حقيقية بالمعنى الحديث؛ أي إنها اعْتُرِف بها كدول مستقلة ذات سيادة، ومن ثم أصبحت تملك حرية تشكيل التحالفات مع دول أخرى، ليس من داخل الإمبراطورية فحسب، بل من خارجها أيضًا. وإضافةً إلى ذلك، تأكَّد الأساس العلماني الجوهري لمنظومة الدول الجديدة تأكيدًا قويًّا، عندما أُعلِن مبدأ «دين الإقليم هو دين حاكمه» لأول مرة في أوجسبورج عام ١٥٥٥، وأكده صلح وستفاليا، وامتد ليشمل الكالفينية فضلًا عن اللوثرية. ومنذ ذلك الحين أصبحت الصراعات الكبرى بين الدول في أوروبا تدور حول السلطة والأرض، وليس السعي إلى فرض السيطرة الدينية. والدولة — الوحدة الأساسية في منظومة الدول العالمية الحديثة التي نعيش فيها — هي مفهوم سياسي وقانوني مركَّب ذو أهمية حيوية في دراسة العلاقات الدولية. ووفقًا للقانون الدولي، تتمتع جميع الدول بشخصية قانونية، وحتى أصغر الدول وأقلها قوة، لا بد لها من استيفاء بعض المعايير الأساسية المحددة؛ حتى تنال الاعتراف بعضويتها في منظومة الدول من جانب الدول الأخرى في منظومة الدول العالمية؛ فلا بد أن يكون لها أرض محددة، وسكان دائمون، وحكومة قادرة على الاحتفاظ بسيطرة فعالة على أراضيها وإقامة علاقات دولية مع الدول الأخرى.
في العالم الحقيقي للعلاقات الدولية ثمة تفاوت هائل في درجة استيفاء الدول لتلك المعايير؛ فعلى سبيل المثال: تكافح دول عديدة من أجل الاحتفاظ بسيطرة سيادية فعلية، حتى ولو على جزء من أرضها المحددة، وثمة دول عديدة لا تحتكر السيطرة على القوة المسلحة داخل حدودها، وتجد نفسها في مواجهة حروب أهلية وتمردات، تضع مناطق بأكملها من بلادها تحت سيطرة زعماء المتمردين وأمراء الحرب (مثل: أفغانستان وأنجولا وبورما وكولومبيا والصومال والسودان). إلا أنه على الرغم من تعرُّض مثل تلك الدول لتحديات جوهرية لسيادتها، فإنها ما زالت تنال الاعتراف الدولي، وتوقع الاتفاقيات مع غيرها من الدول، وتوفد مبعوثيها إلى الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الدولية، وتتمتع بمظهر خارجي (حتى وإن كان رمزيًّا) من العضوية الكاملة في مجتمع الدول العالمي، التي قارب عددها ٢٠٠ دولة الآن.
وحتى الاعتراف الخارجي ليس معيارًا مطلقًا لقيام الدولة؛ فلعقود من الزمان حجبت حكومات الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف الدبلوماسي عن الصين الشيوعية، ورفضت العديد من البلدان الاعتراف بدولة إسرائيل. لذا فمن الواضح أنَّه ليس من الضروري أن يُمنَح الاعتراف الخارجي من العالم أجمع قبل أن تتحقق صفة الدولة. ويمكن القول بصفة عامة إنه يكفي الحصول على اعتراف عدد كبير من الدول — تتضمن معظم القوى الكبرى — والأهم من ذلك كله، اعتراف الأمم المتحدة؛ فاعتراف الأمم المتحدة أصبح اليوم شرطًا لا غنى عنه لاكتمال صفة الدولة.
كثيرًا ما يُستَخدَم مصطلح «الدولة القومية» في تسمية الدول الموصوفة سابقًا، ويكون ذلك مفيدًا لسببين رئيسيين: (١) أنه يفرِّق على الفور بين الدول ذات السيادة التي تشكِّل جزءًا من منظومة الدول العالمية، وتلك التي تكون فعليًّا وحدات حكم إقليمي أو محلي داخل الدول ذات السيادة، مثل الولايات التي تتألف منها الولايات المتحدة الأمريكية أو ولاية الأمازون في البرازيل أو ولاية تاميل نادو في جنوب شرق الهند. (٢) تسعى جميع الدول ذات السيادة تقريبًا — حتى تلك التي تتألف من مجموعة متنوعة من الجماعات العرقية والدينية — إلى تنمية الإحساس بالهوية القومية والولاء لدى الشعب كله، ومن ثم من الممكن أن نلحظ نزعة قومية هندية تتخطى الولاءات المحلية، وأخرى أمريكية تغرس — على الرغم من كونها «بوتقة» تنصهر فيها الأصول المتباينة للسكان — ولاءً شديدًا للاتحاد، وفي المملكة المتحدة — التي تتألف من الهويات الإنجليزية والاسكتلندية والويلزية والإيرلندية الشمالية والأفروكاريبية، وغيرها من الهويات العرقية — ما زال ثمة تيار قوي من القومية البريطانية يستمد جذوره من المَلَكية المشتركة، والحكومة المركزية المشتركة، والخبرة الطويلة في التفاعل الوثيق بين هذه الهويات في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أوقات السِّلْم والحرب.
ويبدو جليًّا من خرائط الدول متعددة الأعراق مثل روسيا والهند ونيجيريا وإندونيسيا وميانمار (بورما سابقًا) أنه من الحماقة أن نفترض أن الدول والأمم لها الحدود عينها، فالعديد من الأقليات العرقية تحكمها دول لم تختر قط الانضمام إليها، وبعضها (مثل الأكراد في الشرق الأوسط) صار شعبها مقسَّمًا، بفعل حدود سياسية أُنشئت في فترة الاستعمار الأوروبي، وأكدتها النخبة المستجدة مرة أخرى في غمار عملية إنهاء الاستعمار. إذن فعلى الرغم من شيوع استخدام مصطلح «الدولة القومية»، وانخراط جميع الدول المنتمية إلى منظومة الدول العالمية تقريبًا في شكل من أشكال أنشطة «البناء القومي»، فعلينا أن ندرك أنَّ ثمة قدرًا هائلًا من التوتر والعدائية والصراع الصريح بين «الدولة» و«الأمة» في العلاقات الدولية الحديثة. وكما هو مهم لنا أن ندرس حركات غير الدول — كحركات الجماعات الانفصالية وحركات التحرر الوطنية — فمن المهم أيضًا أن نتحرَّى عن سياسات الدول وأنشطتها، التي كثيرًا جدًّا ما تجد نفسها في مواجهة التحديات المنبثقة عن تلك الظواهر. وإن القبول بحقيقة أنَّ الدول هي الوحدات الأكثر أهمية وتأثيرًا في النظام الدولي العالمي؛ لا يعني ضمنيًّا أن العلاقات الدولية ينبغي دراستها بطريقة تركِّز على الدولة بصورة بحتة، فذلك يعني الوقوع في أحد أخطر الأخطاء التي تنطوي عليها النظرية الحديثة التي تسمَّى نظرية العلاقات الدولية. وسوف أعود إلى بعض تلك المشكلات في الفصل الثالث.
(١) حدود القوة العظمى للولايات المتحدة الأمريكية
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق من الداخل في ١٩٨٩-١٩٩٠، صارت الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العظمى الوحيدة في العالم. سيحرص المستشار على تذكير وزير الخارجية الأمريكي، حديث العهد، بتقدير الولايات المتحدة البالغ لدعم حلفائها في منظمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو) أثناء الحرب الباردة، ولن يكون بحاجة إلى تأكيد أهمية الحفاظ على «العلاقة الخاصة» التي تربطها بالمملكة المتحدة المتولدة عن تحالف الحرب العالمية الثانية، والعلاقات الوثيقة مع بلدان حلف الناتو الأخرى، التي استمرت إبان الحرب الباردة وفي الحقبة التالية عليها.
تُظهر الإحصاءات الصادرة عن الاقتصاد العالمي أنَّ الولايات المتحدة تتمتع بأكبر اقتصاد بلا منازع؛ إذ يفوق ناتجها المحلي الإجمالي ضِعف ناتج أقرب منافسيها، وتتمتع أيضًا بأكبر قوة شرائية لدى أي دولة، ولديها أيضًا أكبر مخزون من الأسلحة النووية والأسلحة عالية التقنية الأكثر تقدمًا في العالم أجمع. وتعتمد مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى على هذا الاستمرار الحيوي للنمو الاقتصادي الضخم ومستويات الإنفاق العسكري المرتفعة إلى حد مُذهل، الذي لم يُتِحْه سوى ثراء الولايات المتحدة الفريد من نوعه. وإضافةً إلى ذلك — وكما ثبت بصورة مقنعة في النزاعات التي دارت في منطقتَي البلقان والشرق الأوسط منذ نهاية الحرب الباردة — فإن الولايات المتحدة لديها قدرة فريدة على نشر قواتها بسرعة؛ إذ تنشر كلًّا من عتاد النقل الجوي والنقل البحري بسرعة ملحوظة.
ومن ثم، فما يميِّز الولايات المتحدة عن غيرها من القوى الكبرى من منطلق عسكري بحت، ليس استثمارها منقطع النظير في مجال الأبحاث والتطوير العسكري فحسب، وإنما قدرتها أيضًا على «نشر» قوتها العسكرية بأيِّ بقعة من بقاع العالم بسرعة منقطعة النظير.
من ناحية أخرى، سيذكِّر كبارُ الموظفين والمستشارين وزيرَ خارجيتنا، حديث التعيين، على الدوام بأهمية الحفاظ على «العلاقة الخاصة» مع الولايات المتحدة وتعزيزها متى أمكن ذلك، وسيحاط الوزير علمًا بضخامة المزايا التي تجلبها الولايات المتحدة إلى حلف شمال الأطلنطي، والضرر الذي قد يلحق بالمصالح البريطانية حول العالم، إذا ما تعرضت العلاقة مع الولايات المتحدة للخطر بسبب فشل بريطانيا في التصرُّف بما يتماشى مع السياسة الخارجية الأمريكية؛ فقد أثارت أزمةُ السويس عام ١٩٥٦ — عندما تآمر رئيس الوزراء أنتوني إيدن مع الفرنسيين والإسرائيليين على غزو مصر بهدف إجبار عبد الناصر على العدول عن قرار تأميم قناة السويس — ردَّ فعل غاضبًا من دوايت أيزنهاور، رئيس الولايات المتحدة آنئذٍ، ووزير خارجيته جون فوستر دالاس، فهدَّدا بوقف دعم الجنيه الاسترليني، واضطُر إيدن إلى تقديم استقالته. ويكمن أحد الدروس المهمة المستفادة من أزمة السويس من وجهة نظر المؤسسة البريطانية — على حد قول توني جودت في دراسته الممتازة «ما بعد الحرب» — في أنه «يجب ألا تكرر المملكة المتحدة وضع نفسها في صدام مع واشنطن أبدًا».
إلا أن وكيلًا دائمًا للوزارة، يتحلَّى بالحكمة والمعرفة الجيدة بالتاريخ الحديث، حريٌّ به أن يحذِّر بالتأكيد من فكرة أن تنصاع المملكة المتحدة تلقائيًّا لرغبات أقوى حلفائها. فثمة فرق بين الإذعان البحت والتحالف الحقِّ. فالمملكة المتحدة دولة مستقلة ذات سيادة، ولا تتطابق المصالح الوطنية البريطانية مع مصالح الولايات المتحدة على الدوام، فلو كانت بريطانيا قد اتبعت السياسة الخارجية الأمريكية مغمضة العينين حينما غزا هتلر بولندا، لكان النازيون قد تمكنوا على الأرجح من احتلال أوروبا بأكملها قبل أن تفيق الولايات المتحدة من نعاسها الانعزالي، ولكانت تلك كارثة محققة. ولدينا في التاريخ الحديث المثال المثير للاهتمام الخاص برئيس الوزراء هارولد ويلسون، الذي رفض طلب الولايات المتحدة أن تقدم بريطانيا مساهمات عسكرية لمعاونتهم في حرب فيتنام، واتضح أن قرار الحكومة البريطانية بالامتناع عن دخول تلك الحرب المأساوية المُطَوَّلَة كان بالغَ الحكمة؛ فقد اقتضى الأمر سنوات لكي تنتزع الولايات المتحدة نفسها من ذلك النزاع الخاسر، ودفع الأمريكيون الثمن غاليًا؛ من حيث ما فقدوه من أرواح وما أنفقوه من ثروات. وتكبَّدت فيتنام خسائر فادحة في أرواح الجنود والمدنيين من الطرفين، إضافة إلى الدمار الاقتصادي الهائل، ولَحِقَ بكمبوديا أيضًا — التي وفَّرت للشمال طرقًا ميسَّرة كي ينقل القوات والمعدات العسكرية إلى الجنوب — دمارًا كبيرًا من جرَّاء القصف الجوي الأمريكي واسع النطاق.
ويبدو أن القادة الأمريكيين نسوا تمامًا لدى شروعهم في غزو العراق في مارس ٢٠٠٣ دروس ماضيهم القريب، ويبدو أنهم قد صدَّقوا بالفعل ادعاءات المنفيين من العراق بأنَّ الشعب العراقي سوف يحيِّي القوات الأمريكية تحية أبطال التحرير، ويزين أعناقهم بالزهور. ولم يَضَع البيت الأبيض ولا البنتاجون في حسابهما احتمال حدوث مقاومة حقيقية طويلة الأمد للاحتلال الأمريكي، واختارا ألا يلتفتا لتحذيرات وزارة الخارجية والمخابرات المركزية الأمريكية، وغيرها من فروع الحكومة الأمريكية، التي تتوافر لديها معرفة متخصصة بالعراق والشرق الأوسط بصفة عامة. ويخبرنا ذلك الكثير عن أهمية القيادة حسنة الاطلاع في مجال السياسة الخارجية، والحاجة إلى الاستعانة برأي الخبراء في صنع القرارات.
والأكثر خروجًا عن المألوف كان تعهُّد رئيس الوزراء توني بلير بتقديم الدعم الحاسم وغير المشروط لخطة غزو العراق، وأنَّ أعدادًا كبيرة من القوات البريطانية وجدت أنها قد أُرسِلَت إلى العراق، حيث كانت مهمتها الرئيسية هي حفظ النظام في البصرة والإقليم الشيعي في جنوب العراق، وادعى كلٌّ من الرئيس بوش ورئيس الوزراء بلير أنهما أقدما على غزو العراق سليمَي النوايا؛ فأخبر الرئيس بوش ومستشاروه من المحافظين الجدد عامة الشعب الأمريكي أن صدَّام حسين كان ضالعًا في هجمات الحادي عشر من سبتمبر على مركز التجارة العالمي والبنتاجون، وأخبر رئيس الوزراء توني بلير البرلمان البريطاني أن صدَّام كان في حيازته أسلحة دمار شامل، وأن قذائفه تشكِّل تهديدًا على المملكة المتحدة، واتضح أن هذين المبرِّرَين كانا زائفَين تمامًا، وبحلول ربيع ٢٠٠٦ عارضت الأغلبية العظمى من شعبَي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة سياسات حكومتيهما إزاء العراق، فبحلول مايو ٢٠٠٧، كان ما يربو على ٦٤ ألف مدني قد قُتِلوا في النزاع الدائر في العراق، إضافةً إلى ما يربو على ٣٤٠٠ جندي أمريكي و١٤٨ جنديًّا بريطانيًّا.
وربما يكون الدرس الأهم، الذي ينبغي لحكومة الولايات المتحدة وسائر المجتمع الدولي استخلاصه من التجربة الرهيبة لغزو العراق واحتلاله، ومن هجمات الحادي عشر من سبتمبر — يتعلق ﺑ «حدود» القوة العظمى؛ فحتى قوة كبرى بكل الموارد والامتداد العسكري العالمي المتوافرين لدى الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع التحكم في المحيط السياسي والاستراتيجي برُمَّته، ففي ظروف تشبه حرب فيتنام إلى حد مؤسف، ثبت أن الولايات المتحدة غير قادرة على تأمين أهدافها الاستراتيجية حتى في مواجهة حروب وأعمال تمرد صغيرة نسبيًّا. وتمامًا مثلما عجزت حكومتا الولايات المتحدة بقيادة ريتشارد نيكسون وليندون جونسون عن ضمان بقاء دولة غير شيوعية في جنوب فيتنام، يبدو أنَّ إدارة بوش لن تتمكن من إخماد التمرد في العراق أو الحيلولة دون سقوط العراق في كابوس الحرب الأهلية الشاملة. فمن منظور استراتيجي يكمن أحد الدروس المستفادة الواضحة في أنَّ الحرب على العراق أتت بنتائج عكسية في المعركة ضد القاعدة؛ فقد كان الغزو بمنزلة منحة أيديولوجية ودعائية لشبكة تنظيم القاعدة، فقد أمدَّتها بالمزيد من المجندين، والمزيد من التبرعات من أثرياء المسلمين، ومجموعة مغرية من الأهداف العسكرية والمدنية من دول التحالف تقع عبر الحدود المتاخمة لدول تضم الكثير من نشطائهم والمتعاطفين معهم. وعندما تم غزو العراق في مارس ٢٠٠٣، كان العراق منطقة معادية للقاعدة، فقد كان صدَّام حسين من الناحيتين الأيديولوجية والسياسية يمثِّل نوع القائد المكروه من طرف بن لادن وأتباعه، والآن، أصبح العراق قاعدة كبرى لتنظيم القاعدة، ويتضح من الرسائل الدعائية، التي تصدر عن بن لادن وساعِدِه الأيمن — الظواهري — أنَّ القاعدة تبذل جهدًا كبيرًا من أجل إخراج الحكومة العراقية الجديدة الهشَّة عن مسارها، وتأسيس قاعدة في العراق تنطلق منها الهجمات الإرهابية على النظم المجاورة — كالأردن والمملكة العربية السعودية — التي يزعمون أنها أنظمة «مرتدة»؛ نظرًا لتعاونها مع الغرب، ورفضها اتباع «الإسلام الحق»، حسبما صرَّح بن لادن وأتباعه.
تحُد من القوة العظمى للولايات المتحدة قيود خطيرة، ليس بسبب استنزاف مواردها العسكرية والاقتصادية فحسب، ولكن أيضًا بسبب افتقارها في كثير من الأحيان إلى جودة القيادة السياسية والحنكة السياسية، التي من شأنها أن تمكِّنها من التعامل مع التحديات الأمنية الكبيرة التي تتعرض لها بقدر أكبر من النجاح، ومن إدارة النزاعات والمواقف المتأزمة بفعالية دون التعجُّل في اللجوء إلى الحرب عند أول فرصة. والعديد من القيود التي تحد من القوة العظمى للولايات المتحدة هي من صنع الولايات المتحدة ذاتها، ولكنها كلها حقيقية للغاية. وإذا أدرك أصدقاء الولايات المتحدة وحلفاؤها ذلك، فثمة فرصة في أن يتمكنوا من إقناع حكومة الولايات المتحدة باتباع نهج استراتيجي متعدد الأطراف والجوانب حقًّا إزاء السياسة الخارجية.
ليس من المستغرَب أنْ تجتذب القوة العظمى للولايات المتحدة قدرًا كبيرًا من العدائية في المجتمع الدولي، فقد كان هذا دائمًا قَدَر القوى الكبرى، إلا أن ثمة فرقًا كبيرًا بين الاتجاهات العامة المعادية للولايات المتحدة، وبين تأييد شنِّ الهجمات الإرهابية على الأمريكيين داخل بلادهم وخارجها. ومن المنطقي بالتأكيد أن يكون أحد أهم أهداف السياسة الخارجية الموضوعة هو تقوية النفوذ والعلاقات الودية مع أغلب شعوب العالم الإسلامي، وعلى نطاق أوسع من ذلك أيضًا.
إن تحويل الولايات المتحدة لسياستها الخارجية تجاه سياسة خارجية «مدنية» — باستخدام «القوة الناعمة» للتجارة والمعونة والتعاون الثقافي والعلمي والتكنولوجي — قد يحقق الكثير فيما يتعلق بتبديد صورة القوة العظمى التي تستجيب للتحديات والمشكلات القائمة في العلاقات الدولية، باعتماد مفرط أهوج على القوة العسكرية والتدخل العسكري.
(٢) السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتحوُّل إلى النهج أحادي الجانب
أثناء تنافس جورج بوش الابن مع آل جور على الانتخابات الرئاسية، وفي باكورة فترة الرئيس بوش الأولى، بدا أن الإدارة الجديدة تنوي التراجع عن سياسات الفعالية والتدخل التي اتبعها الرئيس كلينتون على الصعيد العالمي. وقد ربح جورج بوش الانتخابات بهامش ضئيل للغاية، بعد حملة تكاد تكون اقتصرت على القضايا الداخلية.
للوهلة الأولى، لم يَبدُ رد الفعل الأمريكي المبدئي على أحداث الحادي عشر من سبتمبر مُنذرًا بحدوث تحول جذري في السياسة الخارجية الأمريكية، وبدا تشكيل التحالف ضد الإرهاب والإجراءات السريعة التي اتخذها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومنظمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو) ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا؛ مسانَدةً للولايات المتحدة، يشيران إلى مستقبل واعد للتعاون متعدد الأطراف ضد الإرهاب الدولي الناشئ عن تنظيم القاعدة، وبدا التدخل العسكري السريع للولايات المتحدة في أفغانستان، بالتعاون مع التحالف الشمالي — الذي أسفر عن الإطاحة بنظام طالبان — مبرَّرًا في نظر أغلب المجتمع الدولي؛ لأن حكام طالبان كانوا — على أي حال — قد وفَّروا الملاذ الآمن والحماية لتنظيم القاعدة بقيادة بن لادن، وهو التنظيم الإرهابي المسئول عن تخطيط هجمات الحادي عشر من سبتمبر وتنفيذها.
إلا أن مشروع المحافظين الجدد، الذي تبناه الرئيس عن طيب خاطر، كان في الحقيقة أكثر طموحًا من ذلك بكثير؛ فقد كانت الفكرة الرئيسية المحرِّكة لهم هي إعمال إمكانات الولايات المتحدة — العسكرية والاقتصادية — بصفتها قوة عظمى لفرض تغيير النظم والترويج النشط للديمقراطية واقتصاد السوق. ويظهر أنَّ المحافظين الجدد، بثقتهم شديدة الإفراط في قوتهم — التي تذكِّرنا بقادة الإمبراطورية البريطانية في العصر الفيكتوري — صدَّقوا أنه بإمكانهم إعادة تشكيل العالم ليصبح مثل الصورة التي في مخيلتهم. وقد جاء الدليل الدامغ على استعداد المحافظين الجدد لتحدِّي معايير النهج التعددي، وقيود ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي العرفي، مصاحبًا لغزو الولايات المتحدة للعراق واحتلاله، اللذين تمَّا بمساعدة حكومة المملكة المتحدة في تحدٍّ سافر لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقد كان لقفز القوة العظمى الوحيدة المتبقية تجاه النهج الأحادي والنزعة القومية العدوانية؛ تداعيات خطيرة على العلاقات الدولية بصفة عامة، وسرعان ما تحطَّمت الآمال في حدوث اتفاق بين القوى الكبرى في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بهدف ابتكار حلول سياسية ودبلوماسية متعددة الأطراف لمشكلات النزاعات في عالم ما بعد الحرب الباردة.
طرحت الحكومة الأمريكية مبدأً جديدًا للأمن القومي، يتعلق باتخاذ إجراءات عسكرية استباقية تبريرًا لغزو العراق. والواقع أن العراق في ظل دكتاتورية صدَّام لم يكن يمثِّل تهديدًا لأمن الولايات المتحدة، أو حتى أمن أقرب جيرانه في الشرق الأوسط؛ فقد كان أحد أكثر دول العالم خضوعًا للسيطرة؛ فقد تضمَّن «مناطق حظر جوي»، وأضعفته العقوبات التي فُرضت عليه، ولو كانت الولايات المتحدة مستعدة لانتظار الدكتور هانز بليكس — كبير مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة السابق في العراق — والمفتشين الذين عملوا تحت إمرته، حتى ينتهوا من مهمتهم في العراق قبل بدء الغزو الأمريكي البريطاني؛ لثبت أن النظام العراقي لم يكن في حيازته أسلحة الدمار الشامل التي ادعت حكومتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حيازته لها. وكانت ادعاءات المحافظين الجدد بأن صدَّام كان ضالعًا بشكل ما في تخطيط هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وأنه كان حليفًا لبن لادن محْضَ هراء. والحقيقة القاسية هي أنَّ الرئيس بوش ورئيس الوزراء بلير — أهم حلفاء الولايات المتحدة ومسانديها في غزو العراق — أدخلا بلادهما في الحرب استنادًا إلى معلومات زائفة. فمن يمكنه إنكار أن نظام صدَّام كان استبداديًّا وحشيًّا، وأنه ارتكب جرائم كبرى في حق أكراد العراق وشيعته؟ ولكن إن كنا سنتدخل في شئون كل حكم دكتاتوري ينتهك حقوق الإنسان، فسوف نظل في حرب دائمة مع النظم الوحشية في جميع أنحاء العالم.
يتمثل أحد الدروس المهمة المستفادة من النزاع الدائر في العراق، في أن الزعماء السياسيين يجب إحاطتهم علمًا بأوجه القصور والمخاطر العملية التي تشوب ذاك المبدأ المتعلق باتخاذ إجراءات عسكرية استباقية. ويبدو أن ثمة بعض دعاة حرب متشددين يعتقدون أنَّ تدخلًا عسكريًّا تقوم به الولايات المتحدة أو إسرائيل، بغرض تدمير محطات الطاقة النووية الإيرانية، قد يكون مبررًا؛ نظرًا لخطورة أن يؤدي نجاح إيران في تخصيب اليورانيوم إلى تطوير أسلحة نووية إيرانية. وإنَّ الكراهية والرغبة في الانتقام اللتين سيولدهما ذلك التصرُّف — ليس في إيران فحسب، وإنما في العالم الإسلامي بصفة عامة — يكاد يكون من المؤكد أن تُغذِّيَا نمو الإرهاب الدولي على يد الجماعات الجهادية في العالم، تمامًا مثلما قدَّم غزو العراق واحتلاله دفعة دعائية ضخمة لشبكة تنظيم القاعدة، وحفَّز على الانضمام إليها. وإذا نحَّينا ذلك جانبًا، فثمة خطر قيام حرب أخرى في الشرق الأوسط يتعرض فيها آلاف أخرى من المدنيين الأبرياء للقتل.
إنَّ الخطر المتزايد للحرب والإرهاب المتولد عن السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط ليس بالطبع سوى أحد الشواهد على النزعة الأحادية التي تتبناها الولايات المتحدة؛ فقد كان عزوفها عن الانضمام إلى اتفاقية كيوتو المعنية بانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وأيضًا عزوفها عن دعم المحكمة الجنائية الدولية — التي أُنشِئت بغرض التعامل مع الجرائم الكبرى ضد الإنسانية وجرائم الحرب — دليلين محبطين أيضًا على آثار الرفض القومي المتغطرس للتعاون متعدد الأطراف من أجل التعامل مع مشكلات العالم الكبرى.
(٣) ميزان القوى والمعضلة الأمنية
إن ضعف النهج التعددي ليس خطأ الحكومة الأمريكية وحدها بأي حال من الأحوال. فقد سعت الصين إلى توسيع نطاق برنامج الأسلحة النووية الخاص بها، وأيضًا قواتها العسكرية التقليدية متَّبِعة تفكيرًا أحادي الجانب يثير قلق العديد من جيرانها. وتزايد اتسام السياسة الخارجية الروسية تحت حكم الرئيس بوتين بالنزعة الانتقامية؛ أي الرغبة في استعادة السيطرة — أو على الأقل الهيمنة — على ما فقدته من أراضٍ؛ فقد استند بوتين في اعتلائه سُدة الحكم في روسيا — إلى حدٍّ ما — على وعده باستخدام القوة العسكرية الروسية لمنع الشيشان من الانفصال عن الاتحاد الروسي، ومؤخرًا اصطدمت حكومة بوتين صراحةً مع أوكرانيا، باذلةً أقصى ما في وسعها، لمعاونة منافس الرئيس يوشينكو في الانتخابات الأوكرانية، وموقِفةً مبيعات الغاز، ومسبِّبةً أزمة طاقة، ليس في أوكرانيا فحسب، وإنما في أوروبا بصفة عامة. وساند بوتين أيضًا إقليمين انفصاليين في جورجيا، مثيرًا جام غضب السلطات في تبليسي. ويبدو مرجَّحًا أن يؤدي العداء المتنامي بين موسكو وحكومات أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وأوكرانيا ومولدوفا إلى تفكيك رابطة الدول المستقلة، التي تأسست عام ١٩٩١ كإطار لحفظ الصلات بين روسيا والجمهوريات حديثة الاستقلال. وقد بدا مرجحًا بالفعل في مايو ٢٠٠٦ أن الدول الموالية للغرب؛ جورجيا ومولدوفا وأذربيجان وأوكرانيا، قد تكوِّن تنظيمًا إقليميًّا خاصًّا بها لتعزيز القيم الديمقراطية.
وقد شرع الرئيس بوتين أيضًا في برنامج إعادة تسليح كبير؛ فمن الواضح أن الحكومة الروسية قد انتابها القلق بشأن توسيع عضوية الناتو لتضم دول أوروبا الشرقية، وبشأن قرار الولايات المتحدة المتعلق بوضع صواريخ مضادة للصواريخ الباليستية في أوروبا الشرقية.
نرى في جميع تلك الاتجاهات دليلًا على أنه، على النقيض من أن نشهد تعزيز المؤسسات متعددة الأطراف والتكامل السياسي العالمي، فإن ما نراه حقيقةً هو الواقع الدائم لمنظومة الدول المستقلة ذات السيادة التي نعيش فيها: التنافس والصراع فيما بين القوى الكبرى، وحتى القوى متوسطة الحجم والصغرى، والآثار المستمرة للمعضلة الأمنية، وبقاء ميزان القوى سمةً محوريةً للمنظومة، على الصعيدين العالمي والإقليمي على حد السواء.
ولا مفر من أن يتضمن تحليل ميزان القوى تقييم الوضع دائم التغير؛ إذ تتغير عضوية التحالفات، ويتغير الاستحواذ على الإمكانات العسكرية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية باستمرار، إلا أنه ما زال ثمة توازنات عالمية مهمة بين روسيا وحلفائها، وبين الولايات المتحدة وحلفائها، وبين الصين والولايات المتحدة وحلفائها. وعلى الصعيد الإقليمي، ثمة توازنات مهمة بين الصين واليابان، والصين والهند، والهند وباكستان، وبين إسرائيل والدول التي تتزعم العالم الإسلامي (مصر وإيران وباكستان والمملكة العربية السعودية).
والنتيجة الطبيعية الحتمية المترتبة على وجود منظومة دولية من الدول التي تتسم بطبعها بالفوضى، دون وجود قوة واحدة قادرة على السيطرة على العالم في صورة نوع من الإمبراطورية العالمية — هي أن تواجه الدول «المعضلة الأمنية» التي ستفضي استجابتها لها إلى إطالة أمد انعدام الأمن والنزاع. وفي العلاقات بين الدول، تنشأ معضلة أمنية، حينما تولِّد الدول التي تنتهج سياسات تستهدف تعزيز أمنها الخاص (على سبيل المثال: عن طريق برامج إعادة التسليح أو تكوين التحالفات) عن غير قصد؛ شعورًا بزيادة عدم الأمان، ويسفر ذلك عن حلقة مفرغة من الأمن وانعدامه، عندما تقرر الدول التي تشعر بتزايد ضعفها وانعدام أمنها أن تستثمر في تعزيز أمنها الخاص، مما يستثير بدوره رد فعل من خصمها المنظور، يستتبع تعزيز وضعه الأمني الجديد.
تقدِّم المعضلة الأمنية تفسيرًا جزئيًّا على الأقل لمسألة «سباقات التسلح»، ويوجد أكثر الفكر أصالةً فيما يتعلق بالمعضلة الأمنية ضمن أدبيات العلاقات الدولية في مؤلَّف روبرت جيرفيس المسمى «الإدراك والإدراك الخاطئ في السياسة الدولية» (١٩٧٦)، الذي استخدم فيه نظرية الألعاب ليبين أنه إذا كانت الحرب مكلفة والسلام مفيدًا، فسيكون الهروب من المعضلة الأمنية ممكنًا؛ فإذا أمكن إثبات أن الحرب عالية التكلفة والخطورة، فقد تُتَّبَع السياسات المصمَّمة لتخفيضِ التوترات القائمة بين الدول لا مفاقمتِها، وللتغلب على انعدام الثقة والخوف. ويمكن تطبيق مبدأ المعضلة الأمنية، على نحو مفيد، على العلاقات مع الجهات الفاعلة من غير الدول، وهو ما ستجري مناقشته في الفصل الثاني.
وفي ضوء تلك السمات الدائمة للمنظومة الدولية للدول التي نعيش فيها، يجدر إسداء النصح لوزير خارجية المملكة المتحدة وزملائه بدعم سياسة تبقي على تأييد وجود أسلحة وقوات مسلحة كافية لحماية المنطقة ضد أي معتدٍ محتمل، حتى إن لم يكن ثمة معتدٍ حقيقي ضالع في تهديد أمن المملكة المتحدة حاليًّا. فحكومة الولايات المتحدة تنفق مبالغ طائلة على الدفاع، ولكنها مع ذلك تعاني استنزافًا بالغًا فيما يتعلق بالأفراد والتمويل؛ نتيجة التكاليف الباهظة للحرب على العراق واحتلاله.
ومن المؤكد أن تلك هي السياسة الدفاعية التي ستُشَجَّع أيُّ حكومة واعية على تبنيها، عندما تطلب النصح من قيادات القوات المسلحة. وهذا هو الدرس الأكبر الذي ينبغي أن يستخلصه صانعو السياسة الخارجية في المملكة المتحدة من تجربتَي الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. فالنزعة إلى السلام ما كانت لِتصلُحَ في مواجهة التهديد الصادر عن هتلر في الحرب العالمية الثانية، ولا في مواجهة محاولة ستالين مد حدود إمبراطوريته الشيوعية السوفييتية عبر أوروبا عقب هزيمة هتلر.
ومن المفيد أن نذكر أن الحلفاء لم يتمكنوا من تحقيق النصر في الحرب العالمية الثانية إلا بشق الأنفس، ولم تكن المملكة المتحدة لتحققَه دون مساعدة الولايات المتحدة. وعلى نحو مشابه في الحرب الباردة: لولا الدعم الذي قدَّمه حلفاء الولايات المتحدة، بقدرتهم المثيرة للإعجاب على نشر قواتهم العسكرية بعيدًا، وتفوقهم في مجال تكنولوجيا الأسلحة النووية، لكان مرجحًا أن تعاني مناطق كبيرة من أوروبا المصيرَ ذاته، الذي عانته تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية وبولندا والمجر، وغيرها من بلدان أوروبا الشرقية ووسط أوروبا، ولكان الدب الروسي ابتلعها.
إن أكثر قواعد إدارة الدول حكمةً هي التي أدلى بها فيجيتيوس، الذي كتب في القرن الرابع الميلادي: «إذا أردت السلام فلتستعد للحرب.»
وكما سنرى في القسم التالي، فإن مجرد امتلاك كميات كبيرة من الأسلحة وأعداد كبيرة من القوات لا يعني بالضرورة أن مثل تلك الدولة الحصينة ستتحول إلى دولة معتدية. فأمور عديدة ستتوقف على الحنكة السياسية لزعماء الدول وعلى طريقة استجابتهم للضغط المتولِّد عن الأحداث. صحيحٌ أنَّ النظم الاستبدادية ودكتاتوريات الحزب الواحد تتسم بطبعها بزيادة ميلها إلى استخدام العنف القمعي — لا سيما ضد مواطنيها — إلا أنه ليس ضروريًّا أن تتسم الديمقراطيات بغياب السلوك العنيف القمعي لديها، بل إنَّ الديمقراطيات القوية — كما سنرى في القسم التالي — لديها سجلٌّ حافل بالتدخلات القمعية في إطار سياساتها الخارجية والأمنية في السنوات الأخيرة. وتتمتع الديمقراطيات بسمعة طيبة مستحقَّة عن جدارة؛ لتجنبها استخدام العنف ضد الديمقراطيات الشقيقة. وهي من ناحية أخرى، تمتلك سجلًّا حافلًا بالتدخلات العسكرية المتكررة في دول العالم الثالث، مستخدمةً في كثير من الأحيان قوة نارية واسعة النطاق، ومتسببةً في «أضرار غير مباشرة» هائلة؛ أي جلْب الموت والدمار على السكان المدنيين.
(٤) الدول القمعية والدول الليبرالية
إن القمع هو استخدام القوة المادية أو التهديد باستخدامها بغرض الإجبار أو الإقناع أو التقييد. وجميع الدول قمعية بطبعها؛ إذ إن جميع الحكومات والنظم تحتاج إلى استخدام القوة لفرض القانون، وحفظ النظام الداخلي، والدفاع عن الدولة ضد أي أخطار خارجية مدركة. والحركة الوحيدة التي تعارضُ من حيث المبدأ سلطاتِ الحكومة وإعمال الدولة للأنظمة القانونية، التي تعضدها ضمنيًّا القوة القمعية؛ هي اللاسلطوية.
تُظهر دراسة أُجريت عن النظم السياسية الحالية في العالم الحديث أن ثمة اختلافات بيِّنة في درجة القمع الذي تُعمله الدول. فمن ناحية ثمة دول تتميز بعناصر قوية من الليبرالية والديمقراطية، وفيها تختار الشعوب المجالس التشريعية والحكومات في إطار انتخابات حرة، وتتعرَّض الحكومات والمجالس التشريعية للمساءلة من المواطنين، وفيها تُراعى حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتُصان سيادة القانون في ظِل سلطة قضائية مستقلة. وفي هذه الدول الديمقراطية الليبرالية لا تمثِّل القدرات القمعية لدى الحكومة وقوات الأمن التابعة لها — في الأوقات العادية — جانبًا مخيفًا ودائم الوجود في الحياة اليومية، وتكون الشرطة مُدرَّبة على استخدام الحد الأدنى من القوة، ويُنشَر الجيش عمومًا بغرض الدفاع الخارجي في المقام الأول، لا القمع الداخلي. وعلى الرغم من أن الحرب على الإرهاب التي شُنَّت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر أدَّت بالعديد من الديمقراطيات إلى اتخاذ تدابير أقوى لمكافحة الإرهاب، فلم يسفر ذلك في أي حالة عن الانقلاب على المؤسسات الديمقراطية والتخلي عن القيم الليبرالية.
وتمثِّل رواية أورويل «١٩٨٤» رواية أخلاقية ثمينة بالنسبة إلى زمننا، ولكن الواقع أن المواطنين في الديمقراطيات الليبرالية ما زالوا يتمتعون بقدر هائل من الحرية الشخصية. ولا يعني ذلك أن جميع الديمقراطيات الليبرالية سجلَّاتها لا تشوبها شائبة؛ فيما يتعلق باحترام القيم الديمقراطية الليبرالية، وإبقاء القوى القمعية لديها تحت قيود فعالة تصحبها إجراءات تدقيق ومساءلة موثوق بها تمامًا. فثمة أمثلة عديدة على إساءة استخدام السلطات القمعية. وإنَّ القول المأثور للُّورد أكتون الذي جاء فيه أنَّ «كل سلطة مَفسَدَة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة»، ما زال اليوم صائبًا بالقدر ذاته، كما كان عندما صاغه. وحتى أعظم ديمقراطية في العالم — الولايات المتحدة الأمريكية — تحمل سجلًّا حافلًا بإساءات استخدام خطيرة للسلطات القمعية لدى الدولة، لا سيما في ممارسة سياستها الخارجية.
فعلى سبيل المثال، اشتركت الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن العشرين في مؤازرة نظم دكتاتورية كريهة عدة في أمريكا اللاتينية، ولم تَغُضَّ بذلك الطرفَ عن انتهاكات حقوق الإنسان واسعة النطاق التي ارتكبتها تلك النظم فحسب، بل أمَدَّتها في كثير من الأحيان بمساعدات مادية ولوجيستية وعسكرية جوهرية لمواصلة انتهاكاتها لحقوق الإنسان. وفي الآونة الأخيرة كان ثمة نماذج لانتهاكات واضحة للمعايير الدولية لحقوق الإنسان؛ على سبيل المثال: احتجاز السجناء طويل الأمد دون محاكمة بزعم ضلوعهم في جرائم إرهاب، وإساءة معاملة سجناء أبو غريب، وتسليم المشتبه بهم بغرض استجوابهم إلى نُظُم يمارَس فيها التعذيب بصورة اعتيادية.
من ناحية أخرى، علينا أن نضع في حسباننا أن الولايات المتحدة كانت نصيرًا كبيرًا لعملية التحول الديمقراطي وتعزيز حماية حقوق الإنسان في بلدان عديدة. وأثناء الحرب الباردة، حرَّرت زعامة الولايات المتحدة للبلدان الديمقراطية — بغية الدفاع عن قيمها ومؤسساتها — الملايين من بؤس الحياة في ظل الحكم الشيوعي ذي الحزب الواحد.
وإلى حد بعيد فإن أسوأ صور استغلال السلطة القمعية في التاريخ الحديث اقترفتها نظم القرن العشرين الشمولية: كنظام هتلر النازي المسئول عن الهولوكوست، الذي احتل معظم أوروبا في أربعينيات القرن العشرين، ودكتاتورية ستالين الشيوعية، التي فرضت على الاتحاد السوفييتي السابق — وبلدان أوروبا الشرقية المنتمية إلى حلف وارسو — أحد أكثر نظم الحكم الشمولي التي عرفها العالم قمعًا، والنظام الشيوعي في الصين، ونظام بول بوت في كمبوديا. فملايين الناس فقدوا أرواحهم في ظل تلك النظم الوحشية، وهي تقف على أقصى النقيض من الديمقراطيات الليبرالية الموصوفة سابقًا ضمن مقياس تصنيف الدول القمعية في العصر الحديث.
بيد أن ثمة بعض التحذيرات المهمة التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند تصنيف الدول استنادًا إلى درجة إعمالها للقمع؛ أولًا: ستكون تفاوتات هائلة في مقدار القمع المستخدم داخليًّا استنادًا إلى التغيرات الحادثة في نوع النظام. على سبيل المثال: انطوت نيجيريا على مستويات مرتفعة للغاية من القمع عندما تأسست ولاية بيافرا الانفصالية لفترة وجيزة، ولكن فور انقضاء تلك الأزمة انخفض مستوى القمع انخفاضًا ملحوظًا. ويقدم وقف إطلاق النار وعملية السلام المبدئية في سريلانكا — اللذان كان يؤمل أن يضعا نهاية دائمة للنزاع بين نمور التاميل والحكومة السريلانكية — مثالًا آخر على حدوث انخفاض جذري في استخدام القمع. وقد حدث العكس في بعض المناطق؛ أي حدثت زيادة كبيرة في استخدام القمع، كما حدث في نيبال؛ حيث واجهت المملكة التي سادها السلام سابقًا تمرد جماعات ماوية مسلحة. وثانيًا: كما يمكن للمرء أن يتوقع، ثمة تفاوتات هائلة في استخدام الدول المقْدمة على حرب كاملة — أو متورطة فيها — للقمع. على سبيل المثال: كانت عملية الصدمة والرعب — التي نفذتها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة عند غزو العراق عام ٢٠٠٣ — أحدَ أوضحِ الأمثلة على استخدام القوة العسكرية على نحو واسع النطاق؛ إذ مثلت استخدامًا متعمدًا للقوة العسكرية القمعية لإشعال فتيل حرب لم تحصل على أمر رسمي بالموافقة عليها من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. إذن، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تقعان ضمن فئة الديمقراطيات الأقل اعتمادًا على استخدام القوة القمعية، أو على التهديد باستخدامها في الحكم الداخلي؛ فكلاهما ضالع في استخدام القمع الشديد كأداة من أدوات السياسة الخارجية.
تصنيف الدول حسب مدى اعتمادها على القمع في سياساتها
الأقل قمعًا
الديمقراطيات الليبرالية الفاعلة (مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي).
معتدلة القمع
أنظمة الحكم الفردي التقليدية (مثل المملكة العربية السعودية والأردن والمغرب).
شديدة القمع
الأنظمة الدكتاتورية التي تفرض بعض الضوابط المضادة على السلطة (مثل نظام موجابي ونظام كاسترو).
الأكثر قمعًا
الأنظمة الاستبدادية الفردية (مثل نظام صدام حسين في العراق).
الدول الشمولية ذات الحزب الواحد (مثل الاتحاد السوفييتي السابق وألمانيا النازية ونظام بول بوت).
(٥) القمع الاقتصادي
من الخطأ أن ننظر إلى استخدام قوات الجيش أو الشرطة على أنه الشكل الوحيد للقمع المتاح للدولة. ففي السياسات الداخلية قد تقْدم الدولة على تطبيق تدابير اقتصادية تعسفية، على سبيل المثال: مصادرة موجابي أراضي المزارعين البيض، و«التنظيم الجماعي» للزراعة تحت حكم ستالين في ثلاثينيات القرن العشرين، واستغلال سيطرة الدولة على الاقتصاد استغلالًا ضاريًا إلى حد بعيد في بلدان مثل كوريا الشمالية وروسيا البيضاء. وقد تضمنت أدبيات الماركسية الجديدة نقاشًا حول نظرية ما يسمى «العنف الهيكلي»، كصورة من صور القمع داخل الديمقراطيات الرأسمالية. ويُشار إلى أن ما يوصَف في كثير من الأحيان بأنه «تفاوض حر»، على سبيل المثال: بين العامل وصاحب العمل، ليس كذلك في الواقع؛ لأن سلطة الطرفين في العملية التفاوضية شديدة التفاوت، فالرجل الفقير الذي ربما يكون العائل الوحيد لأسرته، والذي يصبح عاطلًا في زمن الركود؛ قد لا يتاح أمامه بديل واقعي سوى القبول بوظيفة متدنية الأجر بظروف عمل متدنية كي يعول أسرته. فلا يمثِّل ذلك «تفاوضًا حرًّا» بالتأكيد، ولكنه أيضًا ليس قمعًا تفرضه الدولة، وينبغي وصفه بقدر أكبر من الدقة على أنه استغلال اقتصادي من صاحب العمل. وإضافةً إلى ذلك، علينا أن نضع في اعتبارنا أن أغلب الديمقراطيات تبنَّت سياسات رعاية اجتماعية، لطَّفت على الأقل من آثار البطالة وانخفاض الدخل على أفقر أعضاء المجتمع (على سبيل المثال: أشكال التأمين الوطني، والرعاية الصحية، والتعليم المجاني، ودعم الدخل، وغيرها من إعانات الرعاية الاجتماعية). لذا فأنا أستبعد ما يسمى «العنف الهيكلي» في المجتمعات الرأسمالية من السلطات القمعية التي تستخدمها الدول.
إلا أن ثمة نماذج لا حصر لها لدول تستخدم تدابير اقتصادية قمعية في صورة عقوبات كأداة من أدوات السياسة الخارجية، وتتعمَّد تلك التدابير إكراه الدولة المستهدفة على تغيير سياساتها، ويبيِّن التاريخ الحديث أن مثل تلك التدابير — وإن كان سجلها متضاربًا — يمكن أن تكون فعالة أحيانًا. وقد كانت المحاولات التي بذلتها المملكة المتحدة للضغط على نظام روديسيا الجنوبية، عندما أعلن استقلاله عام ١٩٦٥؛ غيرَ فعالة؛ لأن حكومة إيان سميث تمكنت من تأمين إمدادات المواد الحيوية — كالنفط — عن طريق جنوب أفريقيا، إلا أن العقوبات الاقتصادية التي فُرِضت على نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) في جنوب أفريقيا؛ أسهمت إلى حد بعيد بالفعل في حمل حكومة الحزب الوطني على التفاوض بشأن إنهاء الفصل العنصري؛ نظرًا لأن الضغوط الاقتصادية الدولية — التي تضمنت الولايات المتحدة بصفة خاصة — خلَّفت عظيم الأثر على مجتمع الأعمال الجنوب أفريقي. وكان مثالًا صارخًا آخر على قوة العقوبات الاقتصادية، كتدبير قمعي يستهدف إحداث إعادة توجيه كبرى في سياسة الدولة، هو الحالة الليبية؛ فثمة اتفاق سائد على أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي عام ١٩٩١، فيما يتعلق بليبيَّين متهمَين بالتورط في التفجير التخريبي لطائرة بان آم ١٠٣ فوق لوكيربي في اسكتلندا في ديسمبر ١٩٨٨، لعبت دورًا كبيرًا في إقناع العقيد القذافي بتسليم الشخصين المشتبه بهما للمحاكمة على يد قضاة اسكتلنديين في هولندا. وتضمنت التدابير، التي شكَّلت ضغطًا حقيقيًّا على نظام القذافي، حظرَ تصدير المواد الحيوية لتكنولوجيا صناعة الطاقة إلى ليبيا، التي تحتاجها في استغلال مخزوناتها من الغاز والنفط، وفرض قيود على التجارة منعت ليبيا من توسيع نطاق تجارتها مع بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في وقت كان النظام فيه في أمسِّ الحاجة إلى تعميق الروابط الاقتصادية التي تربطه بالبلدان الغربية، وإلى اجتذاب الاستثمارات الرأسمالية الغربية. وكان حظر الطيران المباشر إلى ليبيا أقل أهمية بكثير من منطلق اقتصادي، ولكنه كان مهينًا بالنسبة إلى نظام القذافي. ويمكن للعقوبات الاقتصادية المنتقاة بعناية والموجَّهة أن تقمع أنظمة بعينها في ظروف محددة، لا سيما حينما تحظى التدابير بتأييد وتطبيق واسِعَيِ النطاق من المجتمع الدولي.
(٦) المثال النموذجي للدولة القمعية
ما الملامح الرئيسية للدولة القمعية؟ ليس من المستغرَب أن نجد أنها تتناقض تمامًا مع الملامح الرئيسية للدول الديمقراطية الليبرالية؛ ففي حين تصل الأخيرة إلى السلطة برضا المحكومين — أي من خلال انتخابات حرة تُجرى بصفة منتظمة — يحصل النظام النموذجي القمعي على السلطة إثر «انقلاب» أو ثورة أو تمرد ناجح، لا تؤيده سوى قلة قليلة من الشعب في كثير من الأحيان، ويلجأ إلى الهجمات الترويعية بصفة متكررة ضد المدنيين كجزء من أساليبه للاستيلاء على السلطة. وفَور وصول الدولة القمعية النموذجية إلى السلطة، تُعمِل العنف أو الترويع على نحو يكاد يكون غَرَزِيًّا لإرهاب أي تهديد لسلطتها وإخماده، أو التذرع بوجود تهديدات أو انشقاقات من الواضح أنها خيالية أكثر منها حقيقية.
وفور سيطرة الدولة القمعية النموذجية على أجهزة الدولة والجيش والشرطة، تنزع إلى الاستحواذ على السلطة كلها، وإعمال أي وسيلة متاحة للحفاظ على احتكارها لها؛ أي إن تلك الجهات تمارس سلطتها بلا أي رحمة، متمتعةً بكل سمات النظام الدكتاتوري. وعلى الرغم من أنها دائمًا ما تسعى إلى التذرُّع بلغة المشروعية والقانون فلا يتوافر لديها مفهوم سيادة القانون، مثلما يُعرف في الديمقراطيات الليبرالية الفاعلة، وما من وجود لموانع دستورية أو أنظمة فصل بين السلطات تعمل على كبح جماح النظام؛ لأن مثل تلك النظم ترى نفسها فوق القانون، فالقانون هو ما يأمر به النظام في أي وقت. وليس ثمة سلطة قضائية مستقلة؛ فأولئك الذين ينفِّذون «قوانين» النظام الدكتاتوري هم صنيعته، ومحاكمهم المزعومة تمثِّل عدالة هزلية. فالقتل خارج القانون والتعذيب والترحيل الجماعي، وحتى المذابح، تُرتَكَب بناءً على طلب النظام الدكتاتوري الذي يأمر فعليًّا بارتكاب تلك الجرائم.
والمعارضون السياسيون، الذين يُنظَر إليهم باعتبارهم خطرًا محتملًا، إما يُقتَلون أو يُزَج بهم في الحبس الانفرادي. وعادة ما يكون الجهاز الأمني الذي تعتمد عليه الدولة القمعية هو الشرطة السرية، ويكون التجسس على الشعب، والمراقبة، والمضايقات، أنشطةً مستمرة، علاوةً على محاولات السيطرة على وسائل الإعلام، وفرض الرقابة على أي شيء لا يستهوي النظام الدكتاتوري. وتسعى الدولة القمعية النموذجية أيضًا إلى ضمان إخضاع جميع أجهزة التنظيم والتواصل الاجتماعيين الأخرى، مثل: دور العبادة، والمؤسسات التعليمية، والنقابات العمالية، والمنظمات المهنية — لرقابة متواصلة؛ حتى تضمن أنها لن تتحول إلى قنوات لحشد المنشقين عن النظام ومعارضيه. إلا أنَّ محاولة النظم الدكتاتورية التحكمَ في تدفق المعلومات والأفكار أصبحت أكثر صعوبة بكثير؛ نتيجة العولمة ونشأة الإنترنت وغيرها من تقنيات وسائل الإعلام. وفي النهاية، فإن ذلك العجز عن التحكم في تدفق المعلومات والأفكار عبر الحدود الدولية هو ما جعل من مشروع إقامة نظام دكتاتوري شمولي جديد أقل إمكانًا برمته اليوم، مقارنة بإمكانية تنفيذه في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. وما زالت نظم الاستبداد الفردي ودول الحزب الواحد في حيز الوجود، ولكن التحليل السابق يشير إلى أنها صارت معرَّضة اليوم أكثر من أي وقت مضى للثورات النابعة من القاعدة. وقد كانت الثورات المخملية التي قامت في نهاية الحرب الباردة هي رائدة تلك الثورات من أوجه عدة؛ فالرغبة في الديمقراطية والحرية مُعدِية. وتقدِّم الأحداث التي جرت في العراق وأوكرانيا ولبنان عام ٢٠٠٥ دليلًا مشجعًا على ذلك الاتجاه، على الرغم من أنه في العراق — وقت كتابة هذه السطور — تواجهُ الجهود المبذولة لتأسيس دستور ديمقراطي جديد يلقى قبول السنَّة والشيعة والأكراد صعوباتٍ لا يُستهان بها.
يتبع النظام الدكتاتوري النموذجي نهجًا مماثلًا فيما يتعلق بالمعتقدات أو الحركات الدينية، فما دامت المؤسسة الدينية بمنأى عن مجال السياسة، وتتجنب أي نقد لسياسات النظام وتصرفاته، يُسمَح لها بصفة عامة بمواصلة إجراء الشعائر الدينية، إلا أن حتى ذلك القدر المحدود من التسامح الديني، قد يحمل في ثناياه أخطارًا خفية على النظام الدكتاتوري؛ فعلى سبيل المثال: في بولندا تحت الحكم الشيوعي، لم تكن شجاعة ليخ فاونسا زعيم اتحاد نقابات العمال المستقلة «تضامن» وزملائه هي وحدها التي قادت المقاومة ضد الدكتاتورية الشيوعية، فالكنيسة الكاثوليكية — التي كان لها من الأساس تأثير قوي على الحياة البولندية — قدَّمت منظومة قيم بديلة مهمة وإطارًا فكريًّا للوتيرة الكئيبة للأيديولوجية الماركسية اللينينة التي ضخها الزعماء الشيوعيون. فالدين يمكن أن يعمل كمحفِّز قوي للمعارضة، ويُحتَمَل أن يعمل كمحفِّز للتحدي والمقاومة الصريحين للنظام.
يسري ذلك بالقدر ذاته على الدين الإسلامي؛ فعلى سبيل المثال، كان آية الله الخميني ومؤيدوه هم المحفِّزين على قيام الثورة الإيرانية الأصولية، التي حشدت التأييد الشعبي في الشوارع وأسقطت نظام الشاه. ومن المفارقة أنهم ما كادوا يتخلصون من رضا شاه بهلوي، حتى بدءوا في تأسيس نظام دكتاتوري أصولي ديني يتسم بالقمع أكثر بكثير من نظام الشاه، واستخدم الإرهاب ضد من حدده من «أعداء»، سواء كانوا داخليين أو خارجيين. ولا تؤدي الثورات أو التمردات المدفوعة بالدين إلى تأسيس نظم حكم ديمقراطية بالضرورة. وإنَّ مصير أفغانستان عقب استيلاء طالبان على الحكم هو مثال واضح على وصول نظام متطرف مدفوع بالدين إلى السلطة وإرساء نظام قمعي وحشي، وهو ما يمثل من عدة أوجه ردةً إلى العصور المظلمة.
(٧) النقاش الدائر حول الشمولية
أحد أكثر الأعمال تأثيرًا عن مفهوم الشمولية ونظريتها هو كتاب هانا أرندت، الذي يحمل عنوان «أصول الشمولية» (١٩٥٨)، ويستند مفهومها عن الشمولية إلى النظرية التي تتناول مجتمعًا جماهيريًّا دُمِّرَت فيه الروابط التقليدية والتنظيمات والولاءات الوسيطة من جراء ويلات الحرب. وفي تلك الظروف، افترضت أرندت أن الفرد المنعزل يكون عُرضةً لتعبئته نحو ولاء جديد، فتتكوَّن رابطة ولاء وإذعان كاملَين لقائد كاريزمي — مثل هتلر — يتمكَّن من خلال التلاعب بالجماهير من تكوين منظومة للسيطرة المركزية، تحكم معارضيها وتُخضِعهم باستخدام إرهاب الدولة على نطاق واسع. وأنا أرى أن هذه النظرية ما زالت أكثر النظريات إقناعًا وقوةً فيما يتعلق بأصول الشمولية. وفي دراسة مؤثرة — نُشرت لأول مرة بعد مرور خمس سنوات على صدور كتاب أرندت — حدَّد كارل فريدريش وزبيجنيو بريجنسكي الخصائص الرئيسية التالية للنظام الشمولي: (١) وجود أيديولوجية شمولية تؤكد إمكانية تطبيقها عالميًّا، ونظرية «حقيقية» لإدارة حياة الفرد والدولة. (٢) وجود حزب جماهيري واحد تحت قيادة النظام الدكتاتوري. (٣) وجود منظومة لإرهاب الدولة، تكون الأداة الرئيسية فيها هي الشرطة السرية. (٤) السيطرة التامة على الاتصالات. (٥) احتكار السيطرة على الجيش وتسليحه. (٦) السيطرة المركزية على الاقتصاد. وتتمثل نقطة الاختلاف الأساسية بين فريدريش وبريجنسكي من ناحية، وأرندت من ناحية أخرى؛ في أن الأخيرة لا ترى أنَّ الأيديولوجية الشمولية الجامعة هي مكوِّن جوهري في نظام الحكم الشمولي، وتشدد أكثر على دور الإرهاب المطلق، كأداة من أدوات النظام الشمولي.
بيد أن المفهوم الذي صاغه فريدريش وبريجنسكي يقضي ضمنيًّا بأن النظام الشمولي الحق لا يمكن تحققه إلا في بلد متقدم نسبيًّا يتمتع بمستوى مرتفع في مجال الصناعة والاتصالات والتكنولوجيا الحديثة. ويمكن القول إنه في ضوء التطورات الحديثة في مجال التكنولوجيا مثل الإنترنت، لم تعد درجة السيطرة على الاتصالات وتدفق المعلومات التي تضمَّنها نموذج فريدريش وبريجنسكي قابلة للتطبيق، فقد أصبحت التكنولوجيات الحديثة سلاحًا قويًّا لتحدي سلطة الدولة.
وتشير روزماري أوكين — إحدى أكثر المحللين المقارنين للدول القمعية تبصُّرًا — إلى مشكلة خطيرة أخرى تعتري النظريات الكلاسيكية للشمولية الموصوفة سابقًا؛ ففي تحليلها لحالة كمبوديا في سنوات الصفر أوضحت أن نظام بول بوت — الذي ذبح مئات الآلاف من الكمبوديين في منتصف سبعينيات القرن العشرين — لم يتوافر له الوصول إلى التكنولوجيا والاتصالات الحديثة، التي يتضمنها نموذج فريدريش وبريجنسكي للشمولية، ولا جهاز بيروقراطي حديث. فكمبوديا كانت بلدًا متخلفًا تغلب عليه الزراعة. ولا كان لدى نظام بول بوت أيديولوجية جامعة معقدة. وفي المقابل ركَّز النظام على تكريس مشاعر السخط الاجتماعي الاقتصادي فيما بين الفلاحين، واستخدمها — إلى جانب صورة شعبوية من النزعة القومية — لقلب سكان الريف على سكان المدن، ولا سيما على الطبقة الوسطى الصغيرة والمثقفين. إلا أنه — كما استنتجت أوكين — ثمة ملامح من نظام بول بوت تحمل «شبهًا كبيرًا» بنموذج أرندت؛ فكمبوديا دمرتها الحرب، وتعرضت الروابط التقليدية والتنظيمات الوسيطة على الصعيد المحلي فيها لاضطراب أو تلف شديد (وقد فاقم الترحيل القسري لمئات الآلاف من السكان مستوى الأزمة الاجتماعية الاقتصادية)، والأهم من ذلك أن النظام أظهر تمامًا قدرته على إعمال الإرهاب المطلق عن طريق القتل الجماعي على نطاق مكافئ للإبادة الجماعية، وإن كان قد استخدم جيشًا من العصابات المسلحة بدلًا من الشرطة السرية لإعمال الإرهاب.
(٨) الأنظمة الاستبدادية الفردية الإجرامية: عيدي أمين وصدام حسين
بدأ حكم عيدي أمين في أوغندا عندما استولى على مقاليد السلطة من حكومة الرئيس ميلتون أوبوتي في ٢٥ يناير ١٩٧١، واستمر حتى تمكن انقلاب عسكري «مضاد» ناجح، قامت به القوات المسلحة التنزانية، التي جرى إقصاؤها من جبهة التحرير الأوغندية، من الإطاحة به في أبريل ١٩٧٩. وقد كان الانقلاب الذي أتى بأمين إلى السلطة سلميًّا نسبيًّا؛ إذ سقطت على إثره أقل من ١٠٠ ضحية، وكان في البداية ذا شعبية لدى غالبية الأوغنديين؛ فقد وعد أمين بالتخلص من الفساد والمحاباة اللذين ادعى أنهما ميَّزا حكومة أوبوتي، وتعهَّد بإجراء انتخابات حرة، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وإلغاء الأحكام العرفية التي فرضتها حكومة أوبوتي. وتبيَّن أن الواقع كان مغايرًا تمامًا لتلك الوعود؛ فسرعان ما عزز أمين سلطته بتولِّي زمام الجيش، وطهَّره من الضباط والجنود الذين كانوا مؤيدين مخلصين للنظام السابق، وملأه بالموالين له، لا سيما من الفلسطينيين والقوات السودانية. وبالتأكيد فإن استخدام الجيش كأداة للسيطرة تحت الحكم الدكتاتوري ليس بالشيء الجديد. أما ما ميَّز نظام أمين فكان القسوة والضراوة اللتين أعملهما لتعزيز سلطته والحفاظ عليها.
حوَّل أمين نظامه من دكتاتورية عسكرية إلى نظام استبدادي فردي، وقتل في تلك الأثناء ما يُقدر بحوالي ٣٠٠ ألف شخص، أغلبهم من أعضاء القبائل الأخرى غير قبيلته. فزُجَّ بالعديد منهم في السجن، وعُذِّبوا وقُتِلوا بموجب أوامر مباشرة من أمين. وصارت أدواته الرئيسية في إرهاب الدولة هي جهاز الاستخبارات (مكتب أبحاث الدولة الأوغندي)، وجهاز الأمن العام، والجيش. وفي خريف ١٩٧٢ رحَّل أمين الآسيويين الأوغنديين إلى بريطانيا، بعد أن ادعى ادعاءً سخيفًا، مفاده أنهم كانوا يقوِّضون الاقتصاد الأوغندي. والواقع أن الأقلية الآسيوية الأوغندية الصغيرة ربما كانت أحد مصادر القوة الرئيسية لأوغندا؛ بسبب مهارتها في مباشرة الأعمال التجارية ومهارتها المهنية.
أحد الملامح المتكررة لدى النظم الاستبدادية الفردية في أفريقيا وغيرها من البقاع هي أن الدكتاتور كثيرًا ما يتخذ قرارات غير عقلانية بالمرة؛ أي إنها تتعارض مع مصالحه الخاصة على المدى البعيد، ويبدو ذلك جليًّا في حالة نظام موجابي في زيمبابوي، وفيه عمليًّا ألحقت مصادرة أراضي المزارعين البيض الدمار بالاقتصاد الريفي. ومن المفارقات أن عدم كفاءة أمين المذهلة في إدارة الاقتصاد الأوغندي هي التي أسقطته؛ ففي سبيل اكتساب شعبية لدى الأوغنديين قرر أن يؤمم جميع الشركات الكبرى المملوكة للأجانب في البلاد؛ وأدى ذلك إلى نفور الاستثمارات الأجنبية، مما سبب انخفاضًا حادًّا في الإنتاجية، وارتفاع مستوى التضخم، وأتاح لأمين وأعوانه فرصة مثالية لتحقيق المزيد من الثراء الشخصي عن طريق الفساد والاختلاس. وفي العامين الأخيرين لحكم أمين، انهار الاقتصاد الأوغندي تمامًا.
ويتمثل أحد مصادر القوة المحبطة لدى نظام أمين في أوغندا — وهي أيضًا سمة متكررة لدى الدكتاتوريات الأخرى في أفريقيا وغيرها من أنحاء العالم النامي — في استعداد المملكة المتحدة وغيرها من البلدان مبدئيًّا لغض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان الكبرى التي ارتكبها أمين، واستعدادهم لأن يبيعوا له كميات كبيرة من الأسلحة، إلا أنه، بعد عام ١٩٧٣، حينما بدأ أمين يكوِّن علاقات أوثق مع الاتحاد السوفييتي — وفي أعقاب عملية مطار عنتيبي عام ١٩٧٦ — عندما ظهر أن أمين يدعم الإرهابيين ويتعاون معهم؛ تدهورت العلاقات مع الغرب تدهورًا حادًّا.
تجاوز أمين حدود قدراته أخيرًا في أبريل ١٩٧٩، حين اتخذ القرار الأحمق بغزو تنزانيا. وردًّا على ذلك غزت القوات التنزانية أوغندا، فتخلت أعداد كبيرة من قوات أمين عن مواقعها أو استسلمت، ومُني أمين بهزيمة منكرة، وأطيح به عن السلطة.
يقدم نظام أمين مثالًا واضحًا للغاية على النظام الاستبدادي الفردي، فلا يبدو أنه كان لديه أيديولوجية يمكن التعرف عليها، مما يسَّر عليه كثيرًا تبديل انتمائه ومداهنة الاتحاد السوفييتي، بعد أنْ كان يطلب الأسلحة والإمدادات وغيرها من الموارد من الغرب في البداية. وأحد الملامح المشتركة لدى النظم الاستبدادية الفردية، هي أن افتقارها إلى أي ركيزة أيديولوجية أساسية يتيح لها أن تكون شديدة اللاأخلاقية والاستغلالية في علاقاتها مع القوى الخارجية.
ألحق النظام الاستبدادي الفردي لصدام حسين، الذي حكم العراق بين عامي ١٩٧٩ و٢٠٠٣، معاناة هائلة بالأكراد العراقيين والشيعة، وأيضًا عرب الأهوار. ولا شك في أن التاريخ يزخر بأدلة وافرة على أن الأنظمة الدكتاتورية التي يهددها انقسام أراضيها — أو ترى أنها معرضة لذلك الخطر — إثر تمرد قومي عرقي، تنزع إلى استخدام أكثر صور القمع وحشيةً وتطرفًا لإخماد التمرد، ويجسِّد التاريخ الحديث لبورما وإندونيسيا والكونغو (زائير) والسودان ودول أخرى عديدة ذلك الاتجاه تجسيدًا بالغ الوضوح. بيد أنه، حتى وفقًا لمعايير القمع التعسفي للانتفاضات القومية، كان سِجِلُّ صدام حسين وحشيًّا بصورة استثنائية.
والحقيقة أنه من وجهة نظر منظمات حقوق الإنسان المحترمة — مثل هيومَن رايتس ووتش — كاد العنف والإرهاب اللذان استخدمهما نظام صدام ضد الأكراد، يصلان إلى حد الإبادة الجماعية. ولطالما اتسمت النزعة القومية الكردية لدى الأكراد العراقيين بالقوة، وما انفك البيشمركة — مقاتلوهم المسلحون — يتحرشون بالنظام العراقي في السنوات السابقة على تولِّي صدَّام مقاليد الحكم. وأثناء الحرب الإيرانية العراقية في الفترة بين عامي ١٩٨٠ و١٩٨٨، أبصر القوميون الأكراد فرصتهم لتولي السيطرة على ما اعتبروه أرضهم في شمال العراق. فاتَّحدت العناصر الكردية المتنوعة تحت مظلة الجبهة الكردستانية العراقية، وأقدموا ببعض العون والتشجيع من الإيرانيين على شن حملة فعالة للغاية ضد جيش صدَّام. واستجابةً لها قرر صدام إنزال انتقام رهيب بالأكراد.
دُمِّرَت آلاف القرى الكردية ورُحِّل الأكراد وذُبِّحوا جماعيًّا. وفي مارس ١٩٨٨ لجأت قوات صدام إلى استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في بلدة حلبجة؛ مما أسفر عن مقتل ما يربو عن ٦ آلاف شخص. ولن يُعرَف أبدًا عدد من قُتِلوا تحديدًا أثناء محاولة صدام الوحشية قمعَ الأكراد العراقيين، ولكنه يتجاوز ١٠٠ ألف شخص بالتأكيد.
وفي أعقاب حرب الخليج الأولى لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، شن الأكراد هجومًا جديدًا على نظام صدام، وأعادوا احتلال أرضهم بشمال العراق. بيد أنَّ حكومتَي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لم تكونا على استعداد للتدخل وتأييد سعي الأكراد وراء الاستقلال، وشن صدام مرة أخرى حملة ضارية بغية استعادة السيطرة على شمال العراق. وفي مواجهة المأزق الرهيب، المتمثل في فرار مئات الآلاف من اللاجئين الأكراد عبر الجبال المكسوة بالجليد إلى تركيا، وأكثر منهم بكثير إلى إيران، أعلن التحالف الغربي الذي كان قد حرر الكويت أنه سيضمن للأكراد الملاذ الآمن في المنطقة الكردية بشمال العراق، ويرسل إليهم الإغاثة الإنسانية، ويحاول ضمان حماية الأكراد، باستخدام دوريات الطيران الحربي التابع للتحالف. ومنذ إسقاط نظام صدام عام ٢٠٠٣، تسنَّى للأكراد التمتع بأمان نسبي، وشاركوا مشاركة كاملة في أول انتخابات حرة تُجرى في العراق في يناير ٢٠٠٥، وفي المحادثات التي دارت بشأن وضع دستور فيدرالي جديد للعراق.
ثمة درسان مهمان يمكن استخلاصهما من ملحمة محاولات صدام قهر الأكراد؛ أولًا: إذا كانت الدولة القمعية مستعدة لإعمال قوتها العسكرية الفائقة دون أي قيد سياسي أو إنساني، ولم يحدث تدخل من أي دولة أو تحالف دول أكثر قوة لحماية أقلية مستهدَفَة بقمع وإرهاب شديدين، فمن الممكن أن تنجح الدولة القمعية — بصفة مؤقتة على الأقل — في إخماد القدرة البدنية للمتمردين على المقاومة.
إلا أنَّ الدرس المهم الثاني المستفاد من الكفاح الملحمي للأكراد ضد استبدادية صدَّام الفردية، هو أن ثمة حدودًا صارمة لما يمكن للإرهاب المطلق والقمع الوحشي أن يحققاه. وحسبُنا كلمات ميلتون الجديرة بالذكر: «من ينتصر على عدوه بالقوة وحدها، إنما يحرز نصف انتصار فحسب.» (الفردوس المفقود، الكتاب الأول السطر رقم ٦٤٨).
وما زال بإمكان أقلية مثابرة — لا سيما إذا امتلكت طموح قوي للاستقلال أو تقرير المصير — أن تشكِّل خطرًا محتملًا كامنًا حتى بعد عقود من القمع الوحشي، لأنها تملك الدافع والإيمان بقضيتها؛ مما يتيح لها الحفاظ على روح المقاومة حتى في أحلك ساعاتها.
(٩) الاستخدام السليم للقوة في الدولة الليبرالية
ثمة فَرق محوري بين استخدام القمع — أو العنف — غير المشروع من جانب دولة تتجاهل قواعد سيادة القانون في مجال السياسة الداخلية والدولية، وبين الاستخدام السليم للقوة المشروعة في ظل الضوابط والموازين الدستورية والقانونية لدى الدولة الليبرالية. فمن الواضح أن ثمة ظروفًا لا يكون استخدام القوة فيها مبررًا فحسب، بل واجبًا قطعًا من أجل الحفاظ على سيادة القانون، والأمن القومي، والسلامة العامة.
على سبيل المثال، المواطنون عليهم واجب إعانة الدولة على الدفاع عن المجتمع ضد الهجمات الخارجية. وثمة التزامات واضحة بالدفاع عن الدستور والحفاظ عليه وفرض القوانين. وقد ورد سابقًا في هذه المناقشة أنه قد تنشأ أيضًا ظروف، يمكن أن يكون على المواطنين أثناءها التزام أخلاقي بأن ينفردوا باستخدام القوة ضد القادة أو المسئولين في الدولة، الذين غضوا الطرف عن الدستور الديمقراطي الليبرالي، أو خرَّبوه أو انقلبوا عليه على نحو خطير. إلا أن مشكلة الاستخدام الصحيح للقوة لا تطرح قضايا المشروعية الأخلاقية والقانونية فحسب، وإنما تطرح أيضًا بعض الأسئلة الصعبة المتعلقة بالكيفية التي ينبغي توظيف تلك القوى بها. فمن الذي ينبغي أن يُعهَد إليه بإعمال القوة؟ وما مقدار القوة التي ينبغي استخدامها؟
في حالة الهجوم الخارجي تكون الهيئة الطبيعية المسئولة عن الدفاع في الدولة هي القوات المسلحة، وفي دولة ديمقراطية تتوقع الحكومة والمواطنون على حد السواء أن تستخدم تلك القوات الدفاعية القوة اللازمة، أيًّا كانت لصد الهجوم وهزيمة العدو. وإضافةً إلى ذلك، فمن المبادئ الجوهرية والباقية للحكم الديمقراطي أنَّ القوات المسلحة ينبغي أن توضع تحت سيطرة مدنية مطلقة تفرضها الحكومة المسئولة ديمقراطيًّا، إلا أنَّ المسئولية عن مهام الأمن الداخلي كانت محل خلاف شديد في العديد من الدول الليبرالية. فهل ينبغي للشرطة المدنية أن تتولى تلك المهمة باعتبارها امتدادًا طبيعيًّا لوظيفتها كجهاز شرطة يطبق القوانين؟ أم هل ينبغي أن تتقاسم الشرطة والجيش المسئولية، فيُستدعَى الأخير للتعامل مع الحالات الأخطر لاندلاع العنف السياسي والقلاقل؟ أم أنه لا بد من وجود «قوة ثالثة» — سيرًا على نموذج قوات مكافحة الشغب الفرنسية — معيَّنة ومدرَّبة ومجهَّزة خاصة للتعامل مع العنف السياسي الداخلي؟ وعادةً ما تتباين الصِّيغ الدقيقة المتبعة إلى حد بعيد حسب التقليد الدستوري والقضائي. وثمة مزايا واضحة يمكن كسبها من تقليد الاستعانة بشرطة غير مسلحة تستخدم أساليب هادئة ومعتدلة تحافظ على الدعم الشعبي والتعاون المتعاطف، إلا أنه لا بد من وزن تلك المزايا، في مقابل ما يصاحبها من نقص في الحضور المادي الحاسم والقوة العسكرية اللازمين لهزيمة المتمردين المسلَّحين.
في جميع الديمقراطيات الليبرالية يُنظَر إلى الجيش على أنه خط الدفاع الأخير أمام الاضطرابات الداخلية، وتتوافر صِيَغ دستورية وقانونية متنوعة لاستعانة السلطة المدنية به في حالات الاضطراب والطوارئ الشديدة. بيد أنه، أيًّا كان ميزان القوى الذي تتبناه الدولة في التعامل مع العنف الداخلي، فثمة مبادئ أساسية معينة لا بد من أن تحكُم استخدام الدولة الليبرالية لمثل تلك القوة:
أولًا، وقبل أي شيء، لا بد أن تباشر الأجهزة الأمنية عملها بأكمله داخل إطار القانون، فإن تحدَّت سيادة القانون تحت ذريعة حمايته، فإنها بذلك تقوِّض سلامة القانون، وسلطته، واحترام الشعب له، وكلها عناصر ضرورية لبقاء الديمقراطية الدستورية. وسوف تقع بعض قطاعات وأفراد الشرطة وقوات الأمن تحت إغراء الاستحواذ على سلطات قانونية استثنائية، والتواري خلف درع «الأوامر العليا» و«المصالح الأمنية». وقد يُضلَّل آخرون عن جهل — في ظل غياب المسئوليات والإجراءات القانونية المحدَّدة بوضوح — بحيث يتخذون إجراءات تعرضهم للدعاوى المدنية والملاحقة القضائية. وإن أكثر العواقب التي قد تتبع الانقلاب المستمر على سيادة القانون شرًّا وخطورةً، هي نشأة جهاز أمني جائع للسلطة، يكتسب شهية للانتقام خارج نطاق القانون. وللأسف كان سولجينتسين مفرط التفاؤل في افتراضه أنَّ «الجهاز العقابي الوحيد في تاريخ البشرية، الذي ضم في قبضة واحدة عمليات التحقيق والاعتقال والاستجواب وتوجيه الاتهامات والمحاكمة وتنفيذ الحكم» هو الشيكا. فالديمقراطيات لا تملك مناعة سحرية ضد مثل تلك الأورام السرطانية، ومواطنوها وزعماؤها السياسيون عليهم واجب ضمان أن تعمل أجهزة الشرطة والأمن في إطار الدستور والقانون. ومن الجدير بالملاحظة أنَّ تحقيق لجنة الكونجرس المعنية بدراسة العمليات الحكومية المرتبطة بأنشطة جهاز المخابرات الأمريكية في أنشطة المخابرات السرية — وإن أقرَّ بصعوبة المشكلات التي تنطوي عليها السيطرة السياسية والمراقبة المحكمتان على مثل تلك العمليات — أوضح أكثر من مرة أهمية ذلك الدرس لسلامة النظام السياسي الأمريكي.
والنتيجة الطبيعية للعمل في إطار سيادة القانون هي الحفاظ على سيطرة ديمقراطية تامة الوضوح والإحكام على أجهزة وعمليات الشرطة والأمن. وما انفك بعض المختصين المعاصرين في مكافحة التمرد يكررون مطلبهم الخاص بإبقاء تلك الخدمات تحت سيطرة كيان مفرد موحَّد. وعلى الرغم من أنَّ ذلك قد يُفَسَّر في ضوء اعتبارات الاقتصاد في الموارد والسرية والفعالية، فينبغي لنا أيضًا أن ندرك الأخطار الكامنة في ثنايا مثل ذلك الهيكل الموحَّد؛ فثمة مَواطن ضعف تقليدية بادية للعيان في المركزية الإدارية، مثل: الفتور البيروقراطي، واللامبالاة، وإجراءات صنع القرار المزعجة. وقد تنبع مخاطر إضافية من إساءة استغلال المنظمات الأمنية «الاحتكارية» لسلطتها، فتفقد بذلك صلتها بالمجتمعات المحلية، وتخسر الثقة والدعم الشعبيين اللذين لا يقدَّران بثمن.
المبدأ الرئيسي الآخر الذي يحكم استخدام الدولة الليبرالية الصحيح للقوة هو مبدأ استخدام الحد الأدنى من القوة، وقد كان ذلك المبدأ هو الدليل الرئيسي الذي اهتدت به قوات الشرطة البريطانية في مسألة العنف السياسي على مر تاريخها، وهو يعني في جوهره استخدام الحد الأدنى من القوة لدرء العنف، أو تحجيمِه أو احتوائه إذا لزم الأمر، ولحفظ النظام العام. وإن ممارسة مهام الشرطة في وجود ذلك القيد تتطلب حتمًا انضباطًا ومهنية فائقَيْن، وإنصافًا وحيادية مدروسَيْن في المسائل المثيرة للجدل السياسي، وتتطلَّب أيضًا الكثير من الصبر والشجاعة الأخلاقية.
ولا يقتصر تطبيق استخدام الحد الأدنى من القوة على السيطرة على الحشود والمظاهرات والمسيرات المحتمل اتسامها بالعنف أو التدمير فحسب، فالمبدأ الأساسي يمكن تطبيقه أيضًا على الاستجابة المسلحة والعنف المسلح؛ ففي مثل تلك الظروف، يجب أن يكون الهدف من استخدام الحد الأدنى من القوة هو حماية السكان، وسرعة نزع سلاح الأشخاص المسلَّحين المتورطين واستسلامهم السلمي، وتقديمهم إلى المحاكمة بتهم جنائية. وقارن ذلك بالهدف العسكري الخالص في وقت الحرب، والمتمثل في التعرف على العدو وإطلاق النار عليه لحظة رؤيته. وإن أحد أسباب أن الجنود يجدون تولي دور شرطي يستخدم الحد الأدنى من القوة أمرًا شاقًا وشاذًّا، هو أنه غريب في أساسه عن تدريبهم العسكري ومبادئهم العسكرية.
لكن هل يمكن حقًّا أن يعمل الحد الأدنى من القوة بفاعلية لدى مواجهة قوات الأمن عددًا كبيرًا من المتمردين العنيفين المدججين بالسلاح؟ تشير التجارب التاريخية إلى أن الدول الليبرالية بحاجة إلى إصدار استجابات أكثر إيجابية وقوة بكثير حتى تهزم الثوار المسلحين والجماعات المسلحة والإرهابيين. ففيما يمثِّل — على أي حال — حالة حرب داخلية، يجب تمكين قوى الدولة من اتخاذ تدابير الحرب، ومن الهجوم واستخدام جميع السبل العسكرية اللازمة لمواجهة أي تحدٍّ مباشر لبقاء الدولة. وأرى أن مبدأ استخدام الحد الأدنى من القوة لا يكون فعالًا بحقٍّ إلا في حالة توافر درجة مرتفعة نسبيًّا من الإجماع السياسي، والترابط الاجتماعي، والتعاون، والانضباط. ولا ينجح حين تنكر شرائح كبيرة من السكان شرعية الدولة، وحين يرى العديدون الشرطة والجيش كقوة غريبة عنهم تتسم بالعدائية والقمع.
وفي المجمل أرى أنه في حين أن مبدأ استخدام الحد الأدنى من القوة هو مبدأ سديد ومطمئن بصورة مريحة بالنسبة إلى الديمقراطيات، فحري بنا أن نداوم على إعادة النظر بعين ناقدة إلى مستوى قوتنا، في ضوء تغيُّر التهديدات واحتمالات العنف في العلاقات الدولية. وبينما ينبغي للديمقراطيات أن تتجنب الاعتماد المفرط على القوة العسكرية فإنها بحاجة إلى امتلاك سبل لائقة للدفاع عن النفس.
ثمة سبب آخر وراء ضرورة إدراكنا لأوجه القصور التي تعتري مبدأ استخدام الحد الأدنى من القوة، فعلينا أن نتجنب الوقوع في عادة اعتقاد أنَّ امتلاك القوة الملائمة لفرض العقوبات القانونية وللدفاع هو كافٍ في حد ذاته؛ أي إنه الدواء الشافي لجميع أشكال العنف الاجتماعي والسياسي؛ فالقوة قد تقيِّد أو تعاقِب أو تدافِع، ولكنها لا تستطيع أن تزرع الوفاق وترأب الصدوع.
ويتطلب التعاون والوحدة السياسيان الإيجابيان بناء الانتماءات، والولاء، والثقة، والمزيد من التفاهم المتبادل، ولا يمكن للقوة أن تحقق تلك الأمور، وإن كان من الأكيد أن الاستخدام المقيَّد والإنساني للقوة تقل احتمالات تدميره للتعاون السياسي الإيجابي، مقارنة باستخدام القوة الغاشمة والكاسحة، إلا أن الأدوات اللازمة لتحقيق التقدم السياسي الإيجابي يجب أن تكون هي التواصل الفعال، والحوار، والتثقيف المتبادل. ومن أجل معالجة مجتمع سياسي ظمآن ومنكوب، يحتاج المرء إلى ريِّه من خلال إعادة تعبئة القنوات الحيوية للثقافة السياسية أو شقِّها من جديد.
(١٠) الدول الضعيفة والدول الفاشلة وأشباه الدول
أثناء إحاطة وزير الخارجية الجديد بالأمور المهمة، من المستبعَد أن يخصص كبير المستشارين وقتًا طويلًا للدول بالغة الضعف والدول الفاشلة، ما لم يرَ أن دولة من ذلك النوع متورطة في أزمة ما، وأن الولايات المتحدة الأمريكية لها مصلحة معينة فيها، أو تتحمل مسئولية خاصة تجاهها. والأرجح أن وزير الخارجية لن يرى أبدًا ملفات أوراق متعلقة — على سبيل المثال — بالدول متناهية الصغر كأوقيانوسيا، وجزر ميلانيزيا وبولينيزيا وميكرونيزيا بالمحيط الهادئ، بيد أنه يخطئ من يساوي بين صِغَر الحجم والحرمان الاقتصادي الحاد. فعلى سبيل المثال: في عام ٢٠٠٠، كان نصيب الفرد ضمن سكان بولينيزيا الفرنسية، البالغ عددهم ٢٠٠ ألف نسمة من الناتج المحلي الإجمالي ٢٨ ألف دولار أمريكي، ومجموع الناتج المحلي الإجمالي لديها كان أعلى من نظيره لدى بابوا غينيا الجديدة، البالغ عدد سكانها خمسة ملايين نسمة تقريبًا. وآيسلندا، البالغ عدد سكانها ٣٠٠ ألف نسمة، مجموع الناتج المحلي الإجمالي لديها يقارب ٨ مليارات دولار أمريكي، ونصيب الفرد من ناتجها المحلي الإجمالي أعلى من نظيره لدى بلجيكا، أما أندورا — إحدى أصغر دول العالم — البالغ عدد سكانها ١٠٠ ألف نسمة، فيُقدَّر ناتجها المحلي الإجمالي بما يفوق المليار دولار أمريكي. وما دامت تلك الدول بالغة الصغر قادرة على الاستمرار ماديًّا، وتستمر في الوفاء بالتزاماتها الدولية، وتمتثل لقواعد التجارة والدبلوماسية الدوليتين، فمن المستبعَد أن تشتمل عليها الإحاطة اليومية لوزير الخارجية الجديد.
ولا بد من تقديم إحاطة وافية تمامًا لوزير الخارجية حول ما يسميه بعض علماء السياسة «الدول الفاشلة»؛ لأنها — كما يظهر من اسمها — تواجه بالفعل أزمات سياسية عميقة، وفي بعض الحالات قلاقل مدنية وأزمات اقتصادية واضطرابات شديدة. وكثير من البلدان الواقعة ضمن تلك الفئة محلها أفريقيا، حيث فاقم وباء فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب/الإيدز في جميع الحالات من الأزمات السياسية والاقتصادية؛ فعلى سبيل المثال: تقع الكونغو (برازافيل) وزيمبابوي وإريتريا ضمن البلدان العشرة في العالم ذات أكبر عدد حالات إيدز لكل ١٠٠ ألف نسمة.
وتتمثل مفارقة مأساوية أخرى في أن إريتريا تنفق على الدفاع نسبة من الناتج المحلي الإجمالي أعلى من أي بلد آخر، والكونغو (برازافيل) تحتل المرتبة الثانية عشرة في التصنيف ذاته للإنفاق على الدفاع.
أما الدول التي ستتطلَّب أن يوليها وزير الخارجية الجديد انتباهًا عاجلًا، فهي تلك الدول التي تعاني حالة من الأزمة الشديدة، والتي أرسلت إليها الولايات المتحدة فِرَقًا من جنودها — التي أصبحت الآن في تحالف شبه دائم مع شركاء آخرين من الناتو — في محاولة لتوفير الأمن الأساسي اللازم؛ لتيسير حدوث انتعاش اقتصادي واستقرار سياسي أطول أمدًا. وفي عامي ٢٠٠٥ و٢٠٠٦، كان أكثر الملفات سُمْكًا ضمن هذه الفئة هما — على الأرجح — ملفا العراق وأفغانستان.
وعلى الرغم من شعبية مصطلح «الدول الفاشلة» فقد يذهب المرء إلى أنه مشكوك في قيمته في النظام الدولي المعاصر، فإن أحد أهم ملامح العلاقات الدولية المعاصرة هي أنَّ حتى أضعف الدول وأكثرها تعرُّضًا للأزمات، تحميها القواعد المستقرة حاليًّا لحقبة ما بعد الاستعمار؛ ففي أوج مرحلة الاستعمار كانت تلك البلدان ستصبح أهدافًا فورية للغزو والاستغلال الإمبرياليَّين من جانب الدول الأقوى منها في النظام الدولي، واليوم صار متوقَّعًا من الدول أن تمتثل لقواعد مناهضة الاستعمار، وأن تدعم حق البلدان التي كانت مستعمَرَة سابقًا جميعها في تقرير المصير والاستقلال السيادي على أساس المكانة المتساوية مع جميع البلدان الأخرى في النظام الدولي. ويعني هذا فعليًّا أنه فور أن تصبح الدولة جزءًا من نظامنا الدولي تحتفظ تلقائيًّا بمكانتها كبلد مستقل ذي سيادة، حتى عندما يسيء حكامها إدارتها بصورة مؤسفة، وحتى عندما تتعرض لحرب أهلية وغيرها من أشكال العنف الداخلي والأزمات الاقتصادية واسعة النطاق. ويتيح ميثاق الأمم المتحدة بالفعل اتخاذ إجراءات بموجب الفصل السابع، قد تتضمن التدخل العسكري في بعض الحالات الطارئة، التي يرتئي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فيها تهديدًا للسلم والأمن الدوليَّين.
وعلى الرغم من أن القرار أحادي الجانب، الذي اتخذته حكومتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بغزو العراق، دون صدور قرار محدد من الأمم المتحدة يخولهما القيام بمثل ذلك التصرف، مثَّل تحديًا لتلك القاعدة الدولية المضادة للتدخل العسكري أحادي الجانب، فليس ثمة دليل واضح على أن هذا التصرف أقنع بقية المجتمع الدولي بالتخلي عن قاعدة عدم التدخل.
فما المصطلح الذي ينبغي أن نستخدمه إذن لوصف تلك الدول التي تتعرض لعنف داخلي على نطاق واسع — يصل إلى حد الإبادة الجماعية في بعض الحالات — والتي تبدو داخليًّا في حالة من الفوضى والأزمة الكاملتين، ولكنها ما زالت تتمتع بوضعها الشرعي والرسمي كدول، وتعترف بها الدول الأخرى، وتمتلك حق التمثيل لدى الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية؟ أقترح أن مصطلح «أشباه الدول» هو تسمية أكثر ملاءمة لتلك الدول، التي تتمتع بمكانة الدولة المستقلة ورموزها، ولكنها تفتقر بوضوح إلى الإرادة السياسية والقدرة الأساسية على الحكم الفعال اللازم لتلبية متطلبات المواطنين الأساسية من احتياجات اجتماعية اقتصادية وأمن.
(١١) دور الفرد والدولة
على سبيل المثال: كيف يمكن للمرء أن يقدم تفسيرًا لائقًا لنشأة الهيمنة الفرنسية في أوروبا القرن السابع عشر، دون أن يضع في حسبانه الحنكة السياسية الماهرة للكاردينال ريشيليو (١٥٨٥–١٦٤٢) الذي أصبح كبير وزراء لويس الثالث عشر ملك فرنسا؟ وقد تجلَّت براعة ريشيليو في إعلان تأييد فرنسا للقوى البروتستانتية أثناء حرب الثلاثين عامًا، مما عزز قوة فرنسا بشدة على حساب خصمها الأكبر؛ أسبانيا. وكيف يمكن للمرء أن يفسِّر انهيار ميزان قوى القرن الثامن عشر في أوروبا دون التطرُّق إلى سيرة نابليون بونابرت، الذي نجح لفترة محدودة في السيطرة على جزء كبير من أوروبا؟ وكيف يمكن للمرء أن يفهم كيفية إحباط مساعي نابليون لفرض السيطرة، وكيفية تكوين ميزان قوى جديد في مؤتمر فيينا، دون النظر إلى دور رجل الدولة البريطاني — الفيكونت كاسلري — الذي تزعَّم — بصفته وزير خارجية بريطانيا (١٨١٢–١٨٢٢) — التحالفَ الكبير ضد نابليون، وأنشأ — بصحبة الأمير كليمنس فون مترنيخ وزير خارجية النمسا ومستشارها — وِفاق القوى الجديد، الذي نجح في حفظ سلام عامٍّ في أوروبا لما يربو على نصف القرن؟ وما فرصة دارس السياسة الدولية في أوروبا لاستيعاب التطورات، التي قوضت في النهاية ميزان القوى الأوروبي في القرن التاسع عشر، دون مراعاة لائقة لسياسات الأمير أوتو فون بسمارك — رئيس وزراء بروسيا (١٨٦٢–١٨٩٠) — الذي كان العقل المدبر وراء هزيمة فرنسا والنمسا وحقق وحدة ألمانيا؟
أيضًا لا يقتصر الدور المهم لرجال الدولة والزعماء الفرديين على نظم الحكم الفردي والنظم الملكية التقليدية لعصر ما قبل الديمقراطية؛ فمن العسير التقليل من شأن إسهام جورج كليمنصو «النمر» — رئيس وزراء فرنسا بين عامَيْ ١٩١٧ و١٩٢٠ — في انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وفي تشكيل معاهدة فرساي. وعلى نحو مشابه، سيكون من المستحيل تفسير الكفاح البريطاني المثابر لهزيمة هتلر، الذي نجح في النهاية دون أخذ الدور الرئيسي، الذي اضطلع به ونستون تشرشل كوزير الخارجية إبان الحرب، في الاعتبار. وكم كانت الأمور ستختلف لو أن نيفيل تشامبرلين كان قد بقي في منصبه بصورة أو بأخرى، أو لو كان منصب رئيس الوزراء قد وقع في يدي سياسي ما زال متشبثًا بسياسة التهدئة تجاه ألمانيا.
إن الأمة لا يسوء مصيرها بسبب جرائمها، وإنما بسبب أخطائها؛ فقد يكون جيشها قويًّا، وخزائنها ممتلئة، وشعراؤها في ذروة الإلهام، ولكن يومًا ما — ولا يعلم أحد السبب — إثر واقعة بسيطة … تضيع الأمة فجأة.
سيكون الاختفاء التام لدولة قومية ما حدثًا نادرًا بحق في عالم اليوم، وإن قدرة الدولة على البقاء باعتبارها الوحدة الأساسية في النظام الدولي، تعد من الحقائق الأساسية لأي دارس في مجال العلاقات الدولية، إلا أن بعض الباحثين في مجال العلاقات الدولية يذهبون إلى أن الدولة في سبيلها إلى أن تصير عديمة الفائدة؛ نظرًا لأنه حتى الدول الغنية بالموارد إلى حد معقول عاجزة عن التعامل مع التحديات الخطيرة، التي تطرحها الظواهر العابرة للدول مثل تغير المناخ، والكوارث الطبيعية الكبرى، والجريمة المنظمة الدولية، والأوبئة الجائحة مثل الإيدز، وما إلى ذلك، ولأن تحقيق المزيد من التكامل الاقتصادي والقيام بإصلاح رئيسي للأمم المتحدة قد يكون الآن — من وجهة نظرهم — واعدًا أكثر كإطار لمساعدة الدول شديدة الضعف.
وكما لاحظنا فثمة تشكيلة واسعة من الدول؛ فالكثير منها بلغ منه الضعف مبلغًا أن صار من الأفضل رؤيتها كأشباه دول أو دول فاشلة، وبعضها مزعج أو خطِر بشدة ليس لمواطنيه فحسب، بل للمجتمع الدولي بشكل عام، ومع ذلك لا تلوح أية بوادر على رغبة المواطنين في التخلي عن هيكل الدولة الخاص بهم لصالح نظام موحد من الحوكمة العالمية أو حتى الإقليمية. وإنَّ رفْض المصوِّتين بالدول الرئيسية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مؤخرًا لمشروع دستور الاتحاد الأوروبي يشير إلى أنه حتى داخل دول الاتحاد الأوروبي — وهو منطقة من العالم ذات خبرة طويلة في التكامل الاقتصادي الحقيقي — لا تتوافر الرغبة في الاتحاد تحت مظلة دولة فائقة عظمى. ولنكن واقعيين؛ فمواطنو أي دولة لا ينظرون إلى هيكل الدولة الحديثة كشيء عفا عليه الزمن، فرغم جميع أوجه النقص والمشكلات التي تعتريها، يبدو أن هيكل الدولة سيدوم.