غير الدول
(١) الأديان
يخطئ خطأً فادحًا من يفترض أن الناس في كل مكان يحددون هويتهم في المقام الأول حسب الدولة التي يقيمون فيها، فملايين الناس — لا سيما أولئك الذين يعيشون داخل حدود دول تتسم بتعدد دياناتها وأعراقها — تتحدد هويتهم الأساسية من خلال دينهم، أو مزيج من دينهم وعِرقهم. وقد نشأت ديانات العالم الكبرى كافة قبل ظهور الدولة الحديثة. وفي عصر الدولة المدنية الذي نعيش فيه، والذي يسلِّم الكثيرون فيه في البلدان الغربية بضرورة الفصل الواضح بين الدين والدولة، كثيرًا ما تُغفَل حقيقة أن الدين كان له التأثير الأقوى، ليس على القيم المجتمعية والأخلاقيات وقواعد الحياة الأسرية والمجتمعية وممارساتهما فحسب، بل كان له عظيم الأثر على طبيعة الدولة ذاتها، وعلى قوانينها ومؤسساتها وعمليات الحكم فيها.
على سبيل المثال، مثَّلت المسيحية المؤثر الرئيسي على تشكيل الدولة القومية الأوروبية والنظام الدولي بصفة عامة. والأسس الأخلاقية للقانون الدولي وأيضًا مفهوم المجتمع الدولي توجد جميعًا في المسيحية، ويظهر ذلك واضحًا في رائعة القانون الدولي لهوجو جروشيوس (١٥٨٣–١٦٤٥)، «عن قانون الحرب والسلام» (١٦٢٥). يطرح جروشيوس الفكرة الرئيسية المتمثلة في مجتمع من الدول يتشاطر قدرًا كافيًا من التوافق حول المبادئ المشتركة، التي ينبغي أن تحكم العلاقات بين الدول — حتى في أوقات النزاع — ومن ثم لا يُحترم القانون الدولي فحسب، بل يصبح ساريًا أيضًا. وطبقًا لقواعد القانون الدولي لجروشيوس، فإن حق الدول في شن الحروب يخضع لقيود صارمة، ولا ينبغي استخدام القوة العسكرية إلا في مصلحة المجتمع الدولي كله. ومن المؤسف أن تلك المبادئ تظل تطلعات حالمة؛ فمن الصعب أن يقول المرء اليوم إن أفكار جروشيوس عن القواعد الأساسية للمجتمع الدولي والضوابط الإنسانية أثناء الحروب بين الدول والحروب الداخلية تحترمها وتطبقها الدول القومية بصفة عامة.
الخلاصة هي أن الأثر المترتب على الحركات والمؤسسات الدينية كان متضاربًا بالتأكيد؛ فمن ناحية، ألهم كلٌّ من المسيحية والإسلام واليهودية الأنشطة الإنسانية لدى كلٍّ من الحكام والمحكومين؛ بما في ذلك حركة إلغاء الرق، وحركة «الصليب الأحمر الدولي»، والاشتراكية المسيحية الموجَّهة نحو تحسين أوضاع الطبقات العاملة. ومن ناحية أخرى، مثلت الأديان الدافع والملهِم لبعض أشد الحروب الواقعة بين الدول وفي داخلها والحملات الإرهابية ضراوةً. بيد أن التأثير طويل الأمد للدين، والمتمثل في المساعدة على إلهام وترسيخ حركات تستهدف حماية حقوق الإنسان وتعزيزها، من أجل توفير المعونة والتنمية في أفقر بلدان العالم، مثَّل مساهمة بالغة الإيجابية في رِفعة الإنسانية.
وبالتأكيد فإن ذلك الجانب السلبي لتأثير الدين على العلاقات الدولية لا يقتصر على العالم الإسلامي فحسب؛ فاليهود المتطرفون في إسرائيل — على سبيل المثال — عارضوا بشدة أي مقترحات قُدِّمت لإرجاع الأراضي في غزة والضفة الغربية على أساس أنها جزء من «إسرائيل التوراتية»، ولا بد من الدفاع عنها مهما كان الثمن. ولاحِظ أن متطرفًا دينيًّا يهوديًّا كان هو من اغتال رئيس الوزراء إسحاق رابين عام ١٩٩٥، مسددًا باغتياله ضربة قاصمة لاتفاقية أوسلو للسلام.
لا بد من تقديم إحاطة مفصَّلة إلى حد بعيد إلى وزير الخارجية الأمريكي الجديد بشأن تأثير المتطرفين دينيًّا، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في العالم أجمع، وينبغي إسداء النصح له بإيلاء اهتمام قوي إلى مسألة الحوار بين الأديان، وبأن يكون على دراية كاملة بمدى تورط المتطرفين الإسلاميين في شبكة القاعدة، التي تمثل أخطر صور الإرهاب الدولي التي يواجهها المجتمع الدولي اليوم. ولمواجهة ذلك التعصب الضاري بصورة فعالة، لا بد لوزير الخارجية من أن يعمل مع نظرائه في العالم على الاستعانة بالزعماء الدينيين المعتدلين في كل مكان؛ بغية توحيد جهودهم لإثناء الشباب المسلمين المبعدين الغاضبين عن أن يُجنَّدوا في القاعدة أو الشبكات الجهادية. وما كانت الحركات الدينية من غير الدول ومؤسساتها وزعمائها لتشكِّل جزءًا من إحاطة وزير الخارجية أثناء الحرب الباردة، أما اليوم فإن درايته بتلك الأمور صارت بالأهمية ذاتها كدرايته بسياسات الدول الكبرى؛ إذ إن تلك الشبكات من غير الدول تشكِّل تهديدًا ليس على أمن الولايات المتحدة وحلفائها فحسب، بل على أمن العديد من الدول متوسطة الحجم والصغيرة في المجتمع الدولي، التي من المرجح أن تظن نفسها منيعة أمام مثل تلك الهجمات. لماذا اختيرت كينيا وتنزانيا — على سبيل المثال — موقعين للهجوم على سفارتَي الولايات المتحدة في أغسطس ١٩٩٨؟ لقد نزلت تلك الهجمات كالصاعقة، مُسفرةً عن مقتل ما يربو على ٢٤٠ شخصًا، أكثرهم كانوا مواطنين نيروبيين يزاولون أعمالهم اليومية. وسوف أعود إلى موضوع التحدي الذي مثَّلته الجماعات الإرهابية في جزء لاحق، ولكن لا بد لنا أولًا من تناول فئة رئيسية أخرى ضمن الظواهر من غير الدول التي كان لها تأثير باقٍ وواسع النطاق على العلاقات الدولية، وهي: الحركات القومية.
(٢) القومية
كانت أوروبا العصور الوسطى خالية من مذاهب القومية الحديثة؛ فدول أوروبا العصور الوسطى — التي يرتبط بعضها ببعض من خلال مفهوم (وإن لم يكن حقيقة) العالم المسيحي المتحد واللغة المشتركة للكنيسة الكاثوليكية — شكلت أجزاءً من ميراث الأُسَر الحاكمة، وكثيرًا ما افتقرت حدود تلك الإمبراطوريات والممالك والإمارات إلى الدفاع، ورُسِمت دون التفات إلى التجانس العرقي أو اللغوي أو الديني؛ فقد كانت المملكة هي نتاج ما أمكن للملك إحكام قبضته عليه في مواجهة خصومة منافسيه العسكرية والدبلوماسية؛ ولذا احتفظ رعايا الملك بهيكل ثلاثي من الولاءات: ولائهم وواجبهم نحو الكنيسة (التي نُظِر إليها على أنها منفصلة عن الحكام الدنيويين وسامية عليهم)، وولائهم وواجبهم نحو الملك، وولائهم وخدمتهم لسيد المنطقة التي يعيشون فيها. وكثيرًا ما اضطُر الملك أو السيد للجوء إلى القمع متى حُجِبَ الولاء أو الخدمة؛ لذا لم يحمل مصطلح «الأمم» أهمية سياسية حتى أواخر القرن الثامن عشر، وكان معناه ببساطة، حسب تعبير إيلي قدوري: «جماعات منتمية ومرتبطة بعضها ببعض بسبب تشابه محل الميلاد، وتكون أكبر من العائلة، لكنها أصغر من العشيرة أو الشعب أو مسقط الرأس.»
وتستمد القومية السياسية الحديثة أصولها من الحركات أو الاتجاهات التاريخية التي ظهرت في الدول الأوروبية الغربية بالقرن السادس عشر والقرن السابع عشر، حيث صار الولاء للملك وحكومته يُعتبَر مرتبطًا بالمصالح العامة للحاكم وموظفيه والشعب برمته، إن لم يتساوَ معها. والأهم من ذلك كله، أنه حينما تَعزَّز مبدأ «المصلحة العليا للدولة» والانتماء اللغوي الثقافي المتزايد، بفعل قدرة حكومة الدولة المركانتيلية (تجارية النزعة) المركزية على تعظيم المكاسب الاقتصادية، ظهرت الدولة القومية بوضوح في صورة الوحدة السياسية الأوروبية الأكثر غلبةً وقدرةً على البقاء.
بيد أن المذاهب والحركات السياسية الأوروبية الحديثة الخاصة بالقومية لم تتبلور حتى قيام الثورة الفرنسية. ونجد في كتابات روسو بالأساس أقوى مصادر إعادة إحياء مفهوم الدولة القومية وأساس القومية كمذهب سياسي؛ فقد أكَّد روسو واليعاقبة على حق «الشعب كله» في فرض سيادته على الدولة، مقترحين لأول مرة مساواة نموذج الدولة بالأمة.
وقد تعرَّض مذهب القومية لهجوم فعال للغاية على ثلاث جبهات رئيسية: كانت النقطة العملية الأولى التي أثيرت هي أنه ليس ثمة اتفاق واضح حول كيفية تعريف الأمة؛ فالاختلافات اللغوية والعِرقية والثقافية التاريخية عادةً ما تختلط للأسف؛ فقد واجه واضعو الحدود بين الأمم في تسوية فرساي — على سبيل المثال — صعوبات غير قابلة للحل في اتباع ذلك المبدأ وصولًا إلى نتائجه المنطقية. فعلى النقيض من رسم خريطة جديدة تتضمن وحدات قومية «خالصة» لا لبس فيها، خلقت حدود عام ١٩١٩ مشكلات جديدة للأقليات القومية التي حُبِسَت بما لا يلائمها على الجانب الخطأ من حدود الدول الجديدة.
ثانيًا، وكما تذهب حجة قدوري القوية في كتابه «القومية»، فإن إصرار أصحاب مذهب القومية على الحق في تقرير المصير القومي، كثيرًا ما أخطأ الليبراليون الأنجلو أمريكيون حسنو النية فَهْمَه على أنه تفضيل للديمقراطية الدستورية، كصورة للحكم الذاتي القومي، فقد أثبتت دول قومية متعاقبة حديثة الاستقلال في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا أن الاستقلال لا يضمن، بأي شكل من الأشكال، إقامة انتخابات حرة ديمقراطية وحكومة برلمانية وسلطة قضائية مستقلة والحفاظ عليها، أو حماية الحريات المدنية الأساسية في الدولة المعنية.
وتتمثل النقطة الثالثة، التي تصدَّرت مقالة إي إتش كار القصيرة الرائعة باسم «القومية وما بعدها» (١٩٤٥)، في أن انتشار المذاهب والحركات القومية أدى — على النقيض من تكوين عائلة سعيدة من الأمم — إلى مفاقمة النزاع الدولي؛ فالواقع أنَّ مذاهب القومية وفَّرت مبررًا إضافيًّا للثورة والحرب، وشكَّلت أساسًا للالتزام الشعبي بالصراعات القومية، وللمشاركة فيها، وقدمت مسوغًا سياسيًّا قويًّا وأداة دعائية لحشد الجيوش الجماهيرية وشَنِّ «حروب شاملة».
من ناحية أخرى، من الواضح أن مذاهب القومية ليست مسئولة بالكامل عن وضع العلاقات الدولية المحفوف بالمخاطر، وأيًّا كانت الادعاءات، التي ربما يكون ذهب إليها جوهان جوتليب فيخته (١٧٦٢–١٨١٤، فيلسوف ألماني) وإرنست رينو (١٨٢٣–١٨٩٢، منظِّر فرنسي)، والأحلام الرومانسية الأكثر سخافة للمروجين للقومية في القرن التاسع عشر، فمعظم الزعماء السياسيين القوميين أظهروا نزعة واقعية، من خلال إدراكهم أن تحقيق تقرير المصير السياسي القومي لا يمكن له القضاء على الاعتماد الخارجي والالتزامات الخارجية بالكامل، ولا تقديم دواء سحري شامل للسلام العالمي؛ فعندما يوبِّخ النقاد مذاهب القومية لنهجها الهجومي وميلها إلى الحث على العنف السياسي، يخلطون عمومًا بين القومية في «صورتها الخالصة»، ومذاهب التفوق العرقي أو أيديولوجيات التوسع الإمبريالي. وفي ظل اقتران صعود الدولة القومية مع انهيار الملكية المطلقة وصعود الديمقراطية الجمهورية، أفلم يكن من المحتم أن توجه الشعوب الأوروبية أنظارها صوب الهوية القومية والوحدة القومية لمنح الاستقلال السياسي مشروعية؟ وهل أخطأ جلادستون وأسكويث وليود جورج (فضلًا عن وودرو ويلسون في هذا الشأن) خطأً فادحًا في منح الإيرلنديين أو التشيكيين أو البولنديين حق تقرير المصير، والتحرر من حكم أجنبي لم تدعمه شعوبهم ولا قبلت به قط؟ أليس أكيدًا أنه من قبيل العدالة الطبيعية أنه ينبغي لمن يشعرون بالانتماء إلى مجتمع قومي متجانس أن يتمتعوا بكرامة الاستقلال السياسي القومي ومكانته، ما دام يُقَرُّ بأن ذلك الاستقلال لا يحل في حد ذاته المشكلات الملحَّة المتعلقة بالعدالة الداخلية السياسية والاقتصادية، أو مشكلة إقامة نظام دولي مستقر؟
(٣) الصور الرئيسية للحركات القومية
(٣-١) القومية الثقافية اللغوية
كان العديد من رائدي القومية السياسية في الدول السلافية وأوروبا الغربية والشرق الأوسط وأفريقيا «أدباءَ» استخدموا كتاباتهم للتعبير عن إدراكهم للتميز القومي، ولتكوين مطلبهم المبدئي المتعلق بالاستقلال السياسي. وإن زعماء الحركات القومية ومثقفيها — ما إن يتحقق الاستقلال — قد تحل محلهم قوى سياسية ثورية أخرى، بَيْدَ أنَّ الأمم حديثة الاستقلال — مثل حكامها من الدول الإمبريالية السابقة التي نشأت منذ أمد بعيد — سرعان ما تدرك أهمية القومية الثقافية («معركة الكتب») من أجل تعزيز الالتزام القومي لدى شعوبها.
وفي حالات السيطرة الاستعمارية طويلة الأجل، أو محاولة القضاء على القومية السياسية، تظل القومية الثقافية باقية لا تتزحزح، وكما تبيَّن للاتحاد السوفييتي السابق، فإنه من شبه المستحيل عمليًّا محو الهوية اللغوية والوحدة اللغوية لجماعة عرقية ما، وثمة أدلة داحضة بالفعل — في أيرلندا وويلز أثناء القرن التاسع عشر على سبيل المثال — على أنه كلما احتقرت الحكومة اللغة الأصلية لجماعة عرقية ما وتعمَّدت تثبيطها، اكتسبت سحرًا وأهميةً كلغة شارع تُستَخدَم للتعبير عن المعاناة والآمال الطائفيتين. وحيثما لا يزال توارث الثقافة واللغة متفشيًا بين أعضاء مجتمع عرقي كامل، يكون من غير الواقعي بالمرة — كما أثبتنا في حالة الإمبراطورية النمساوية المجرية في القرن التاسع عشر — أن يؤمَل منع بزوغ القومية الثقافية بمجرد منح اعتراف استعماري محدود بالهوية الثقافية القومية. فقط عندما تُستوعَب النسبة الأكبر من الجماعة العرقية في الثقافة السائدة سياسيًّا — كما في بريتاني الحديثة — تبقى القومية الثقافية في صورة حركة أقلية محكوم عليها بالفناء، عاجزة بصورة مأساوية عن مدِّ قاعدتها الثقافية اللغوية بالقدر الكافي لاقتناص السلطة بالسبل الديمقراطية.
(٣-٢) القومية المناهضة للاستعمار في «العالم الثالث»
كانت القومية مذهبًا سياسيًّا أوروبيًّا في الأصل، ونشأت في العالم الثالث كناتج ثانوي للتجربة الاستعمارية، وصاحبت أثر الحكم الاستعماري أو تبعته لا سبقته. ومن ثم تُبذَل جهود خارقة في سبيل البناء القومي جنبًا إلى جنب، مع تكوين الجهاز السياسي والإداري للدولة الحديثة. بيد أنه في معظم الحالات، يتقرر التكوين الإقليمي للأمة وشعبها المحدد، فضلًا عن لغتها الرسمية، ونظامها التعليمي والمؤسسات الاقتصادية والإدارية الكبرى فيها، من خلال حوادث ميراث الاستعمار العارضة. وفي مثل ذلك الوضع، كانت جاذبية مذاهب تقرير المصير القومي طاغية بكل ما في الكلمة من معنى، بالنسبة إلى أهل الفكر الذين حظوا بتعليم أوروبي، وإنْ كانوا يشعرون بالانعزال أو التهميش إلى حد ما. ومن هنا — في صياغة تفهَّمها الأوروبيون على الفور — جاء المسوغ الذي احتاجوه من أجل مطالبهم المتعلقة بإدارة شئونهم الخاصة، متحررين من الحكم الاستعماري، إلا أنهم بغية تحقيق أهدافهم كان عليهم أن يبتكروا هوية قومية ووعيًا قوميًّا ووحدة قومية بين أفراد شعبهم، وهي حركة شعبية عميقة، أشعل فتيلها الالتزام نحو الاستقلال القومي. ولا غرابة في أن الحكومات الاستعمارية حاولت في بداية الأمر أن تسحق تلك الحركات، باتباع طرق معاملة محددة تباينت حسب القوة المستعمِرة المعنية وظروفها السياسية والعسكرية. وقد تمكن تقليد استعماري براجماتي — كالبريطاني — من إنشاء سياسات تشجع الحركات القومية الجديدة بالفعل أو تتواطأ معها؛ اعتقادًا منه أن القوة الاستعمارية يمكن لها بذلك أن توحِّد القبائل والجماعات الدينية، التي كثيرًا ما تكون متشرذمة ومتناحرة على نحو أكثر فعالية في صورة كيان سياسي مستقر ومنظم.
إلا أن مؤيدي القومية الاستعمارية الأوائل سرعان ما وجدوا أنفسهم تهددهم الثورية الاقتصادية التي اتسم بها دعاة الحركات الاشتراكية والماركسية. فأولئك الزعماء الذين تشبثوا بجاذبية شعبية غير واضحة المعالم، أو بإيمان معنوي بالعصر الألفي، أو باعتماد على سيطرتهم الكاريزمية؛ كثيرًا ما دفعوا ثمن فشلهم في توفير السلع المادية، والمزيد من المساواة الاجتماعية والاقتصادية، ومستويات معيشة أفضل.
وفي كثير من الحالات — لا سيما في المستعمرات البريطانية — شجَّع الحكم المتساهل للقوة الاستعمارية تكوين أحزاب برلمانية قومية على سبيل «الوصاية الديمقراطية»، وأينما حدث ذلك كثيرًا ما أمكن تفادي العنف المفرط المتولد عن قيام انقلاب ثوري على الحكم الاستعماري. وفي ظروف أخرى — كما في قبرص والجزائر وعدن — وَجدت الحركات القومية نفسها تتعرض للقمع والتجريم من الحكومة الاستعمارية، ولجأت إلى تنظيمات خارج إطار القانون وغير معلنة، وتكتيكات العصابات المسلحة والمقاومة؛ حتى تنتزع السلطة من مستعمِريها. ويلزم كلًّا من «حركات التحرير الوطني» الثورية والأحزاب القومية الناشئة، التي لا تتسم بالعنف في جوهرها — في المقام الأول — قواعدُ قوية من الدعم الجماهيري والمشاركة الجماهيرية النشطة، إذا كان لها أن تنتزع مقاليد السلطة وتحتفظ بها. فالفريق الأول عليه إثبات شرعيته الشعبية في اختبار الحرب الثورية، وعلى الأخير إثبات مؤهلاته القومية للسلطة الراحلة ولشعبه ذاته. بيد أنه ينبغي التأكيد على أن مثل تلك الحركات قد تمثل تحالفات أقل دوامًا واستقرارًا بكثير عما افتُرِض حتى الآن، وحيثما تنقسم تلك الحركات وتنهار، قد تضيع حتى إمكانية قيام نظام حكم يحظى بمشروعية شعبية، وحتى الشعور الوليد بالهوية والوحدة القوميتين. وفي مثل ذاك الفراغ يصير الطريق مفتوحًا أمام جماعات الأقليات المثابرة، لا سيما ضباط الجيش الذين يحتكرون السيطرة على السلطات القمعية لدى الدولة؛ ليقتنصوا فرصة القيام بانقلاب عسكري، مسوِّغه «صون الوحدة القومية» أو «حفظ القانون والنظام».
(٤) الشركات متعددة الجنسيات
من المؤكد أن وزير الخارجية الجديد سيحتاج إلى إحاطة بشأن الشركات متعددة الجنسيات، فهي من أكثر الجهات الفاعلة من غير الدول تأثيرًا وقوةً في النظام الدولي، فمن المرجَّح أن تمتلك أكبر تلك الشركات من الأصول، وتوظِّف من الميزانيات السنوية، ما تتضاءل أمامه الأصول والميزانيات الخاصة بالعديد من الدول الفقيرة التي قد تمارس فيها أنشطتها. وقد نمت الشركات متعددة الجنسيات نموًّا سريعًا منذ الانتعاش الاقتصادي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، وقدَّمت إسهامًا كبيرًا بلا شك في نمو الاقتصاد العالمي. ولأن تلك الشركات بطبيعتها تعمل في بعض البلدان في آنٍ واحد، أو في بلدان عديدة في بعض الحالات، فبإمكانها أن تختار موقع عملياتها في بقاع العالم التي تنطوي على الربح الأوفر. ويتوافر لها أيضًا قدر لا يستهان به من الموارد المالية المخصصة للاستثمار، ويمكن لها أن تحظى بأفضل الخبرات التجارية والتقنية المتاحة.
إلا أنه على الرغم من أن بلدان عديدة — لا سيما البلدان النامية — تتلهف عمومًا لاجتذاب الشركات متعددة الجنسيات، فكثيرًا ما تبالغ في تقدير المزايا الممكن تحققها مبالغة مفرطة، فتلك الشركات عادةً ما تستخدم طرق الإنتاج كثيفة رأس المال، ومن ثم لا تحتاج إلى توظيف أعداد كبيرة من عمال البلد المضيف. وكثيرًا ما يُجلَب الموظفون المَهَرة والمديرون من الخارج. وقد يتمكنون من التهرُّب من ضرائب البلد المضيف بوسيلة بسيطة، تتمثل في تحويل الأرباح خارج البلد المضيف. وكثيرًا ما تستغل تلك الشركات عروض الحوافز التي تقدمها البلدان المضيفة استغلالًا مشينًا إلى حد بعيد، عن طريق أخذ الحوافز المعروضة ثم إعادة تشكيل عملياتها، بحيث تحرم البلدان المضيفة من الاستفادة.
بيد أنه من الخطأ الشائع الافتراض بأن الشركة متعددة الجنسيات «ذات سيادة»، وأن «العولمة» قد دمرت قدرة الدولة على رد الضربة للشركات متعددة الجنسيات متى أرادت ذلك. فالدول تتمتع بسيطرة مطلقة على أراضيها وحدودها، ويمكنها أن تحجز على أصول تلك الشركات، وتطرد موظفيها، وتؤممها، وتفرض عليها غرامات وعقوبات قاسية؛ بزعم انتهاكها القوانين وما إلى ذلك، وهو ما تقوم به بالفعل. ففي النهاية ما زالت الدولة صاحبة سيادة، وإن كانت قد تتحرج من اتخاذ تدابير متطرفة ضد إحدى تلك الشركات؛ خوفًا من التسبب في رحيل الاستثمارات الخارجية، وانسحاب الشركات متعددة الجنسيات الأخرى من البلاد.
وسيكون من الصعوبة بمكان أيضًا على وزير الخارجية الجديد أن يقاوم ضغوط تلك الشركات على الحكومة الأمريكية بغية تدخلها نيابةً عنها في حالة حدوث صدام كبير مع حكومة البلد المضيف، إلا أن الوزير الجديد، إذا تمكن من أن يدفع بهدوء سياسات تقدم مساعدة فعلية لتلك الشركات، فقد يتطلع إلى أن يُعرَض عليه منصب إداري غير تنفيذي جذاب، عندما يتقاعد من مجال السياسة في نهاية المطاف!
(٥) العصابات المسلحة والمتمردون
إن حرب العصابات هي السلاح الطبيعي للطرف الأضعف استراتيجيًّا في النزاع، فبدلًا من أن تخاطر العصابات المسلحة بإبادة قواتها في معركة مكتملة الأركان أمام خصوم أفضل تسليحًا وأكثر عددًا، تشن ما سماه تابر «حرب البراغيث»، مستخدمةً أساليب وأوقاتًا وأماكن من اختيارها، وساعيةً على الدوام إلى الاستفادة من الميزة التكتيكية الكبرى لديها؛ عنصر المفاجأة. وهذه إحدى السبل الكلاسيكية للحرب، وتكاد تكون قديمة قِدَم تاريخ المجتمع البشري.
أحد الدروس المهمة المستفادة من التاريخ الحديث لحروب العصابات — كما أوضحت دراسة رائعة لوالتر لاكور تحت عنوان «العصابات المسلحة» — هو أنها لا تكون وسيلة كافية في حد ذاتها أبدًا لإحراز النصر. فقط عندما يستهين الطرف المناوئ لتلك العصابات بالتهديد الذي تمثله، أو يعجز عن تخصيص موارد لائقة للصراع، يكون لدى العصابات المسلحة فرصة لتحقيق أهدافها السياسية بعيدة المدى دون أي مساعدة. وفي معظم الحالات الواردة في القرن العشرين، ارتبطت حروب العصابات الدائرة على نطاق واسع بالحروب الثورية؛ أي كفاح يدور بين حركة من غير الدول (تحظى في بعض الحالات بمساعدة دولة ما أو رعايتها) وحكومة من أجل الحصول على السيطرة السياسية والاجتماعية على شعب يقيم على أرض تابعة لدولة قومية ما. ومعظم الحروب الثورية (على سبيل المثال: في الصين وفيتنام وكمبوديا) مرت بمرحلة حرب العصابات، وتطورت في النهاية إلى معركة حاسمة بين قوتين مسلحتين تقليديتين، إلا أن الأدلة الواردة عن معارك العصابات المسلحة والحروب الثورية في أمريكا اللاتينية — حيث جرت محاولات عدة لمضاهاة نجاح ثورة فيديل كاسترو القائمة على حرب العصابات في كوبا — تبيِّن أنه أينما بُذلت جهود مثابرة وضارية بهدف قمعها، وفشل الثوار في كسب دعم جماهيري كبير ودائم، باءت حملات العصابات المسلحة بالفشل.
وسيكون على وزير الخارجية البريطاني حديث التعيين أن ينقل تلك الدروس إلى زملائه في مجلس الوزراء، وإلى نظرائه في الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الدول الأعضاء في حلف الناتو، على أمل ألا ينخدعوا مجددًا، مستهينين بالتحديات التي تمثلها كبرى صور التمرد والإرهاب في النزاعات القادمة، وبتداعياتها على العلاقات الدولية. فسيكون لتبعات قيام حرب أهلية شاملة في العراق، واحتمال حصول القاعدة على نقطة انطلاق جديدة في قلب الشرق الأوسط؛ عواقبُ وخيمة بالفعل على الأمن والاستقرار الدوليين.
(٦) الجماعات والشبكات الإرهابية
الإرهاب هو الاستخدام المنظم للترويع القمعي، عادةً لخدمة غايات سياسية، وهو يُستَخدَم لتهيئة مناخ من الخوف، واستغلاله فيما بين مجموعة مستهدفة أوسع نطاقًا من الضحايا المباشرين للعنف، ولنشر فكرة ما، فضلًا عن إجبار الجهة المستهدفة على الرضوخ لأهداف الإرهابيين. ويمكن استخدام الإرهاب بمفرده أو كجزء من حرب غير تقليدية أوسع نطاقًا، ويمكن استخدامه من جانب الأقليات اليائسة والضعيفة، أو من جانب الدول كأداة من أدوات السياسة الداخلية والخارجية، أو من جانب الأطراف المتحاربة مصاحبًا لجميع ضروب الحرب ومراحلها. والسمة المشتركة هي أن مدنيين أبرياء — وأحيانًا أجانب لا يعلمون شيئًا عن خصومة الإرهابيين السياسية — يتعرضون للقتل أو الإصابة. وتتمثل الوسائل النموذجية للإرهاب الحديث في الهجوم بالقنابل التفجيرية والقنابل الحارقة، والهجمات والاغتيالات بالرصاص، واحتجاز الرهائن والاختطاف، واختطاف الطائرات، ولا يجوز إسقاط احتمال أن يستخدم الإرهابيون الأسلحة النووية أو الكيميائية أو الجرثومية.
ثمة اختلاف أساسي بين إرهاب الدولة وإرهاب الفصائل؛ فقد كان الأول أكثر فتكًا بمراحل، وكثيرًا ما سبق إرهاب الفصائل، وكان سببًا مساعدًا في وقوعه؛ فعندما تُقرر النظم الحاكمة والفصائل أن غاياتها تبرر أي وسيلة، أو أن تصرفات خصمها تبرر لها الرد بلا ضوابط، تغرق عادة في دوامة من الإرهاب والإرهاب المضاد. وينحصر الإرهاب الداخلي داخل دولة أو منطقة واحدة، ويمثل الإرهاب الدولي — في أوضح تجلياته — هجمة تُشَنُّ عبر الحدود الدولية، أو ضد هدف أجنبي داخل دولة الإرهابيين الأصلية، ولكن الواقع أن معظم صور الإرهاب تحمل أبعادًا دولية؛ إذ تتطلع الجماعات إلى الخارج للحصول على الدعم والسلاح والملاذ الآمن.
والإرهاب ليس فلسفة ولا حركة، بل هو نهج، لكن حتى لو تمكنَّا من التعرُّف على حالاتٍ استُخدِم فيها الإرهاب في قضايا، من شأن معظم الليبراليين أن يروها عادلة، فلا يعني ذلك أن في تلك الحالات يكون استخدام الإرهاب — الذي يهدد بطبيعته أكثر الحقوق أساسيةً للمدنيين الأبرياء — مبرَّرًا من الناحية الأخلاقية. ومن المفارقات أنه على الرغم من النمو السريع في حوادث الإرهاب الحديث، فقد فشل ذلك النهج على نحو ملحوظ في تحقيق أهدافه الاستراتيجية، فكانت الحالات الوحيدة الواضحة هي طرد الحكمين الاستعماريين البريطاني والفرنسي من فلسطين وقبرص وعدن والجزائر. ولا مناصَ من تفسير استمرار شعبية الإرهاب لدى مؤيدي القومية والمتطرفين أيديولوجيًّا ودينيًّا في ضوء عوامل أخرى، وهي: التحرُّق إلى التعبير المادي عن الكراهية والانتقام، والسجل الناجح للإرهاب في تحقيق مكاسب تكتيكية (مثل الدعاية الضخمة، وإطلاق سراح السجناء، ودفع فديات كبيرة)، وأن ذلك النهج رخيصُ التكلفة نسبيًّا، وسهل التنظيم، وينطوي على قدر محدود جدًّا من المخاطرة. وقد استخدمت النظم الشمولية — مثل النازية والستالينية — الإرهاب بصفة روتينية للتحكم في شعوب بأكملها واضطهادها، وتثبت القرائن التاريخية أن تلك طريقة فعالة بصورة مأساوية في قمع المعارضة والمقاومة، إلا أن الدول عندما تستخدم الإرهاب الدولي، فإنها تسعى على الدوام إلى إخفاء تورطها، ومن الجائز أن تنكر مسئوليتها عن جرائم بعينها. ويتمثل أحد العوامل الأخرى المساعدة على نمو الإرهاب الحديث في تكرر ضعف رد الفعل الوطني والدولي للإرهاب واتسامه بالتهدئة، على الرغم من وجود قوانين واتفاقيات متعددة لمكافحة الإرهاب، وخُطَب حكومية عديدة. وقد نزعت طليعة الكتابات عن موضوع الإرهاب إلى معاملته على أنه يشكِّل خطرًا ثانويًّا — إلى حد ما — على القانون والنظام وحقوق الإنسان. وفي سلسلة من الدراسات، مثل «الإرهاب والدولة الليبرالية»، توصلتُ إلى أن حالات التفشي الكبرى للإرهاب — نظرًا لقدرتها على التأثير على الرأي العام والسياسة الخارجية وعلى إطلاق شرارة الحروب الأهلية والدولية — ينبغي الاعتراف بها كخطر محتمل على أمن الدول التي تعانيه وسلامتها، وكتهديد محتمل للسلام الدولي.
قطعًا ثمة تهديدات وتحديات أخرى عديدة، يُحتَمَل أن تفوق الإرهاب خطورةً بكثير؛ فتغيُّر المناخ العالمي — الذي أُثبت علميًّا بما يرضي الجميع عدا مجموعة شاذة من المعاندين — قد يجلب تغيرات كارثية. ويساور العلماء القلق أيضًا بخصوص مخاطر ظهور وباء عالمي جائح، قد يقتل المئات أو الآلاف من الناس. وعلى الرغم من الجهود المبذولة للإبقاء على نظام منع الانتشار النووي في جميع أنحاء العالم، فما زال الانتشار مستمرًّا، وتقدِّر الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن ثمة أكثر من ٤٠ دولة قادرة على استخدام تكنولوجيتها النووية المدنية ومواردها في تطوير برامج للأسلحة النووية. وسوف أتناول بعض تلك المشكلات العالمية في الفصل الرابع.
في ضوء تلك المخاطر المحتملة يكون من الخطأ أن يبالَغ في تقدير الخطر الناشئ عن الإرهاب الدولي، ولكن ما ينبغي لأي وزير خارجية تفهُّمُه، هو أن ما يسمى الإرهاب الجديد لشبكة تنظيم القاعدة هو أخطر أنواع الإرهاب الدولي، الذي صدر يومًا عن أي كيان من غير الدول في النظام الدولي. لماذا؟
أولًا: لأن القاعدة تستهدف القتل الجماعي للمدنيين صراحةً؛ فقد أعلنت القاعدة الجهاد، أو الحرب المقدسة، على الولايات المتحدة وحلفائها. وفي «الفتوى» المزعومة لبن لادن في ٢٣ فبراير ١٩٩٨، أعلن إقامة جبهة إسلامية عالمية للجهاد، وصرح بأن «حكم قتل الأمريكيين وحلفائهم، مدنيين وعسكريين، فرض عين على كل مسلم أمكنه ذلك في كل بلد تيسَّر فيه»، وقد ثبت الاستعداد لقتل المدنيين على نطاق واسع في هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١، التي راح ضحيتها حوالي ٣ آلاف شخص.
وتتبنى القاعدة منهجًا نموذجيًّا يتمثل في شن هجمات انتحارية منسَّقة دون إنذار مسبق، تضرب أهدافًا عدة في الآنِ ذاته. وقد كان السلاح الأكثر استخدامًا لدى القاعدة هو التفجيرات الانتحارية بواسطة المركبات الكبيرة المفخخة، بيد أن شبكة القاعدة أبدت اهتمامًا كبيرًا باقتناء أسلحة الدمار الشامل. ويظهر من سجلها الحافل أنها لن تتورع عن استخدام تلك الأسلحة للتسبب في مقتل أعداد كبيرة من المدنيين.
والآن دعونا نتحول من أكثر الدول شرًّا إلى أكثرها خيرًا.
(٧) المنظمات الإنسانية ومنظمات حقوق الإنسان
ثمة مجموعة مثيرة للإعجاب من المنظمات الإنسانية والمؤسسات الخيرية التي تباشر عملها على الصعيد الدولي، والتي توظِّف قدرًا كبيرًا من التفاني والمهارة والخبرة في إنقاذ حياة الأشخاص، وتخفيف معاناتهم، وتقديم المساعدة في عمليات الإغاثة وإعادة البناء بعد الكوارث. ومن أشهر تلك المنظمات: منظمة الصليب الأحمر الدولي، وأطباء بلا حدود، وأوكسفام، وصندوق إنقاذ الطفولة، ومنظمة المعونة المسيحية، غير أن ثمة منظمات أخرى عديدة.
الأكثر إثارة للجدل بكثير هو الاتجاه المتنامي نحو التدخل القسري؛ أي التدخل دون موافقة حكومة البلد المستهدَف. والأمثلة على ذلك هي توفير «ملاذات آمنة» للأكراد في شمال العراق (١٩٩١)، فضلًا عن التدخلات في الصومال وهاييتي وليبيريا ورواندا والبوسنة. وقد تيسَّر ذلك الاتجاه إثر الضعف التدريجي لمبدأ سيادة الدولة، وتنامي الوعي بحقوق الإنسان، وميل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى توسيع نطاق مبدأ «تهديد السلام»، وعولمة المعلومات.
إلا أنه على الرغم من التقويض التدريجي لمبدأ السيادة المطلقة للدولة، فثمة ضغوط مقابلة لا يستهان بها في النظام الدولي، ما زالت تشكل عقبات كبيرة أمام التدخل الإنساني القسري؛ فهناك التخوف من أن يستحث مثل ذلك التدخل انهيار النظام الدولي، وقد تتحرج الدول كذلك من إلزام نفسها بالتدخل؛ خوفًا من أنه قد يتحول إلى مسئولية طويلة الأمد باهظة التكاليف لا أمل في الخروج منها بسهولة، وهناك قلق النظم الحاكمة — لا سيما في البلدان النامية — من أن يصير التدخل غطاءً لإقحام القوى الكبرى نفسَها في شئون تلك النظم.
وتتمتع المنظمات من غير الدول بميزة هائلة، هي أنها لا تولد ذلك النوع من عدم الثقة والقلق الذي يحدثه تدخل الدول الأجنبية. ويبدو من المرجح أن تستمر المنظمات الإنسانية من غير الدول في الاضطلاع بدور حيوي في توصيل الإغاثة إلى البلدان التي تعاني أزمات إنسانية. وحريٌّ بالحكومات المستنيرة أن ترحب بإسهامات المنظمات غير الحكومية، وأن تكون على استعداد لإقامة حوار وتعاون أشمل معها؛ حتى تساعدها على تجويد قدرتها على إيصال خبرتها ومواردها ومهاراتها المتخصصة بصورة مباشرة إلى السكان الأكثر حاجة.
وتضطلع منظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس، ووتش، ومنظمة العفو الدولية؛ بدور مشابه في حيويته. فقليلةٌ هي الحكومات التي قد تكون على استعداد للتحدُّث بمثل تلك الصراحة لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان. فعادةً ما تتخوف الحكومات من خسارة التجارة المربحة أو فرص الاستثمار أو إمكانية الوصول إلى سلع مهمة، كالنفط أو الغاز الطبيعي. ويمكن لمنظمات حقوق الإنسان من غير الدول أن تضطلع بدور قيِّم، عن طريق تثقيف الرأي العام الدولي، وتعبئته، وإحراج الحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان من خلال نشر معلومات دقيقة عن جرائمها.
كيف لكبير المستشارين أن يلخِّص إحاطته لوزير خارجية الولايات المتحدة الجديد أو وزير خارجية المملكة المتحدة الجديد بشأن المنظمات من غير الدول؟ إن كان يؤدي عمله بصورة سليمة، فسيتجنب الأكذوبة القديمة الجوفاء المتعلقة بالتمركز حول الدول، ولن يحاول اقتراح أن المنظمات من غير الدول يمكن تجاهلها دون خطر؛ فالدول مهمة للغاية، ولكن الكثير من المنظمات من غير الدول تماثلها أيضًا في الأهمية.
سيعرِّض وزير الخارجية الأمريكي نفسه للخطر بتجاهلها. ولنضع في أذهاننا أن منظمات من غير الدول نجحت في الاستيلاء على السلطة في روسيا عام ١٩١٧، وفي الصين عام ١٩٤٩، وفي الهند عام ١٩٤٨، وفي إيران عام ١٩٧٩، وقد كان تنظيمًا أو شبكة تنظيمات من غير الدول هي التي نفذت هجمات الحادي عشر من سبتمبر المفجعة عام ٢٠٠١. وقد تسببت أعمال القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر في شن «حرب على الإرهاب»، وحرب في العراق، وحرب في أفغانستان. فسيكون من السخافة أن ندعي أن المنظمات من غير الدول لا تحمل سوى أهمية هامشية، وليس لها أثر ذو بال على العلاقات الدولية.