مشكلات وتحديات
ركزت في الفصول السابقة على تزويد القارئ بدليل الجهات الفاعلة الرئيسية في العلاقات الدولية، وأدوارها، وتأثيرها النسبي. والآن حان الوقت لتحويل انتباهنا إلى بعض المشكلات والتحديات المهمة، التي تواجه المجتمع الدولي ككلٍّ، أو أجزاء كبيرة منه. وحري بي أن أضيف أنني سأستبعد الكوارث الوطنية التي لا تؤدي إليها أفعال البشر، مثل الزلازل والانفجارات البركانية، وموجات تسونامي المدمرة في ديسمبر من عام ٢٠٠٤، التي راح ضحيتها حوالي ١٥٠ ألف شخص. صحيح أنه في حالة تسونامي المحيط الهندي كان من الممكن تفادي أعداد كبيرة جدًّا من الوفيات لو توافر نظام متطور للإنذار بتسونامي، مثل ذلك الذي يغطي المحيط الهادئ. وصحيح أيضًا أنه كان من الممكن اتخاذ إجراءات عديدة من أجل تحسين سرعة المساعدات الإنسانية الدولية وتنسيقها في مثل تلك الكوارث الطبيعية، بيد أن جميع المشكلات والتحديات التي سأستعرضها بإيجاز هي من صنع البشر — إمَّا عرضًا أو عمدًا — لذا فمن الممكن من الناحية النظرية على الأقل، إن غيَّرنا بعض جوانب السلوك الإنساني، أن ننجح في تحجيم المشكلة إلى حد بعيد، أو تخفيف آثارها على الأقل.
وقد اخترت التركيز على القضايا العالمية ليس لرغبتي في تقديم حلول سهلة، وإنما لأن حتى الاستعراض العام الموجز لها يكشف التعقيد الهائل الذي تتسم به التحديات والصعوبات التي تواجه صانعي السياسات في إطار الجهود التي يبذلونها لمعالجتها. وإضافةً إلى ذلك، ينبغي لنا ألا ننسى أن زعماءنا السياسيين يواجهون بعض تلك المشكلات أو كلها في آنٍ واحد. وعلمًا بأن الموارد محدودة، فكيف لنا أن نقرر أي المشكلات تتطلب الأولوية القصوى؟ ربما يكون زعماؤنا السياسيون مجبرين، دون إدراك كامل منهم، على ترتيب أولوياتهم استنادًا على النفعية الخالصة. فهل ينبغي اتخاذ القرارات بشأن ترتيب الأولويات على أساس مبادئ أخلاقية بعينها؟ وإن كان الأمر كذلك، فلمَن يُفترض أن يعود القرار النهائي؟ وما المبادئ التي يجب إعمالها؟ واستنادًا إلى سلطة مَن؟ ومَن يُخضِع صانعي القرار للمساءلة إن كان هناك من يستطيع ذلك؟ فمن الحماقة أن يُستهان بالصعوبات المتولدة أمام جميع المتعرِّضين للضغوط العالمية الحقيقية لصنع السياسات والقرارات وإدارة الأزمات.
ونظرًا لاستعصاء المشكلات التي أنا بصدد تناولها، فمن غير اللائق بالمختصين الأكاديميين أن يتجنبوا القضايا المعيارية والسياساتية الصعبة المتضمنة، وقد تشجَّعت — أيما تشجيع — لدى اكتشافي أن الطلاب الجامعيين، الذين نُلت شرف التدريس لهم، يعتبرون القضايا المعيارية والسياساتية أكثر جوانب مادتنا تطلُّبًا واستحواذًا على الانتباه من الناحية الفكرية، ولا ينبغي أن تصيب القارئ الدهشة إذا وجد أنه سيكون ثمة استعراض موجز لعملية البحث عن حلول في إطار مناقشة كل تحدٍّ من التحديات الكبرى التي تواجه المجتمع الدولي.
(١) التهديد الموجَّه إلى الأمن البيئي من الاحتباس الحراري
عندما تصل حرارة الشمس إلى كوكب الأرض يعمل خليط من الغازات المحيطة بكوكبنا عمل المرشِّح، فتعمل تلك الطبقة من الغازات عمل زجاج الصوبة الزجاجية إلى حد بعيد، مما يؤدي إلى منع دخول الحرارة أو خروجها أكثر من اللازم. وقد خلص علماء الفريق الحكومي الدولي المعنيِّ بتغير المناخ — منظمة حكومية دولية أخرى — إلى أنَّ زيادة «غازات الصوبة» تلك تؤدي إلى حبس قدر مفرط من الحرارة بالقرب من سطح كوكب الأرض، وأطلقوا على هذه الظاهرة مصطلح «الاحتباس الحراري».
تقرُّ الأغلبية العظمى من العلماء المنخرطين في دراسة المناخ العالمي بالنتيجة التي خلص إليها ذلك الفريق؛ أن ظاهرة الاحتباس الحراري تحدث بالفعل، وأن أهم الغازات التي تكثف «تأثير الصوبة الزجاجية» هو ثاني أكسيد الكربون، وأن السبب الرئيسي في حدوث الاحتباس الحراري هو الزيادة الهائلة في انبعاثات الكربون، الناتجة عن أنشطة بشرية، مثل حرق الصناعات الثقيلة للوقود الحفري، والانبعاثات الصادرة عن الطائرات والسيارات ومحطات الطاقة وأجهزة التدفئة المنزلية.
كانت البلدان المسئولة عن أكثر انبعاثات الكربون تلك فيما مضى، هي البلدان التي شهدت الثورة الصناعية في نهايات القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر، والتي ما برحت تسهم إسهامًا ضخمًا في تراكم غازات الصوبة الزجاجية منذئذٍ. إلا أننا نشهد اليوم تحوُّل البلدان النامية إلى التصنيع بسرعة كبيرة؛ فعلى سبيل المثال، تعتمد الصين — التي يفوق تعداد سكانها مليار وربع مليار نسمة — على الفحم بنسبة ٧٥ في المائة من موارد الطاقة لديها، وتسلك الهند — التي يفوق تعداد سكانها المليار نسمة أيضًا — منحى مماثلًا في التوسع الصناعي السريع، الذي يتضمن حتمًا حرق كميات ضخمة من الوقود الحفري. ولكن كيف يمكن للبلدان المتقدمة أن تتوقع من بلدان مثل الصين والهند أن تكبح جماح النمو الاقتصادي الذي هما في أمسِّ الحاجة إليه من أجل إعالة شعبيهما الضخمين والآخذين في النمو بسرعة؟
والأكثر صعوبة من ذلك هو أن تطلب البلدان الصناعية الأقدم في الغرب من بلدان مثل الصين والهند أن تخفض من انبعاثات غازات الصوبة الزجاجية لديها، في حين أن الاقتصاد الأغنى والأكبر في العالم — الولايات المتحدة الأمريكية — مسئول عن حوالي ٥٠ في المائة من انبعاثات الكربون في العالم، وفي حين أن إدارة بوش رفضت الالتزامات المقطوعة في بروتوكول كيوتو (١٩٩٧)، حين اتفق الزعماء السياسيون على خفض متوسط انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمعدل ٥٫٢ في المائة من مستويات عام ١٩٩٠ بحلول عام ٢٠١٠. وافقت البلدان الأوروبية على خفض الانبعاثات الصادرة عنها بمعدل ٨ في المائة، ووافق الرئيس كلينتون على أن تخفض الولايات المتحدة الانبعاثات بمعدل ٧ في المائة، ومن الواضح أن الرئيس كلينتون كان مقتنعًا بأن غازات الصوبة الزجاجية مسئولة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، أما الرئيس بوش ومستشاروه فهم — على الأقل خلال فترة إدارتهم الأولى — لم يقتنعوا بأن علماء المناخ مصيبون بشأن الاحتباس الحراري. وقد ساد اعتقاد في أوساط بعض الجمهوريين اليمينيين بأن مقترحات كيوتو الخاصة بخفض الانبعاثات الكربونية هي نتاج مؤامرة من أنصار حماية البيئة تستهدف الإضرار بالاقتصاد الأمريكي. وقد صدرت ادعاءات خطيرة عن علماء المناخ الأمريكيين، مفادها أن الحكومة قد عدَّلت تقارير وأخَّرتها، وفي بعض الحالات عَتَّمَت عليها، وهي تقارير كان من شأنها أن تنبِّه الشعب الأمريكي إلى حقيقة الاحتباس الحراري، ولكنها لم تتلاءم مع الأجندة السياسية والانتخابية لإدارة بوش.
إن محاولة إنكار حدوث الاحتباس الحراري تتنافر بصورة عجيبة مع احترام الولايات المتحدة المعتاد للعلم والتكنولوجيا؛ فقد وُجِّهت استثمارات ضخمة إلى الأبحاث المعنية بالتغيرات المناخية، لا سيما في معاهد الولايات المتحدة وجامعاتها. وعلماء المناخ يتوافر لهم الوصول إلى أقمار صناعية تجلب لهم كمية مثيرة للإعجاب من البيانات لم تكن متاحة سابقًا قط، حول التغيرات الواقعة في الغلاف الجوي العلوي مثلًا، وهم يتمتعون أيضًا بمزايا إعداد النماذج الحاسوبية المتطورة، بيد أن بعض التعليقات العدائية والاستهزائية الصادرة عن أفراد ذوي نفوذ ضمن النُّخَب السياسية والتجارية الأمريكية بدت تلمِّح إلى أن علماء المناخ يعتمدون على التنجيم، أو قطع من الطحالب البحرية في محاولة التنبؤ بالتغيرات المناخية. وليس أمام المرء سوى استنتاج أن الأسباب الحقيقية وراء محاولات تقويض مصداقية أبحاث الاحتباس الحراري تتعلق بدرجة أكبر بمخاوف صناعة الطاقة — لا سيما شركات النفط الكبرى — من أن تتعرض مصالحها التجارية للضرر، إذا قررت الحكومة الأمريكية الوقوف وراء فرض قيود صارمة على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
من المثبت أن العلماء كان لديهم بيانات تثبت أن الاحتباس الحراري حقيقة منذ ما يزيد على عقد من الزمان؛ فقد اكتشف الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ في منتصف تسعينيات القرن العشرين، أن درجات الحرارة آخذة في الارتفاع بمعدَّل أسرع من أي فترة مضت في العشرة آلاف سنة المنصرمة، ووجدوا أن درجات الحرارة في القطب الشمالي كانت ترتفع بمعدل ثلاثة أمثال إلى خمسة أمثالِ سرعةِ ارتفاعها في أي مكان آخر في العالم، وتنبأ العلماء بأنه في غضون ٥٠ عامًا سيتلاشى الغطاء الجليدي الذي يكسو القطب الشمالي بالكامل في فترة الصيف. وفي القطب الجنوبي اكتشف العلماء أن الكتلة الجليدية المعروفة باسم «لارسن بي» آخذة في الذوبان والتكسُّر، ويمثل ذلك دليلًا مهمًّا فيما يتعلق بالاحتباس الحراري وآثاره. ويخبرنا العلماء أنه منذ الحرب العالمية الثانية ارتفعت درجات الحرارة في القطب الجنوبي بمعدل ٢٫٥ في المائة، والأنهار الجليدية في سلاسل الجبال الكبرى في العالم آخذة في التضاؤل. ووفقًا للفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ، فقد ارتفع مستوى سطح البحر بمعدل ١٥ سنتيمترًا في القرن الأخير، وهم يحذرون من أنه قد تحدث زيادة إضافية قدرها ١٨ سنتيمترًا بحلول عام ٢٠٣٠، مما قد يهدد الملايين الذين يعيشون في مناطق ساحلية منخفضة؛ مثل طوكيو ولندن ونيويورك، فضلًا عمن يعيشون في مناطق مثل بنجلاديش، وجزر المالديف، وجزر جنوب المحيط الهادئ التي تقع فوق مستوى سطح البحر مباشرةً.
(١-١) البحث عن حلول
تَمثَّل أول جهد حقيقي يُبذَل لحشد التعاون الدولي بغية المساعدة في محاربة الاحتباس الحراري، من صنع الإنسان، في اتفاقية أُبرِمَت في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية (١٩٩٢) الذي عُقِد في ريو دي جانيرو، إلا أن النتيجة المترتبة عليها كانت متواضعة للغاية؛ إذ وقَّع ١٦٠ بلدًا على اتفاقية خاصة بتعزيز كفاءة استخدام الطاقة. وقد فاقها مؤتمر كيوتو (١٩٩٧) طموحًا إلى حد بعيد؛ إذ إنه سعى إلى التوصل إلى اتفاق حول أهداف خاصة بتقليل غازات الصوبة، وللأسف انسحبت الولايات المتحدة تمامًا، وفشلت بلدان متعددة في تنفيذ الاتفاقية من خلال قوانينها الوطنية. وكل ذلك حديث نظري محض الآن على أي حال؛ لأنه حتى إذا طبقت جميع البلدان — بما في ذلك الولايات المتحدة — بروتوكول كيوتو، فلن يُحدِث ذلك سوى اختلاف طفيف في كمية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، إلا أن بروتوكول كيوتو اشتمل على ميزة مبتكَرة للغاية؛ إذ سمح للبلدان الأغنى بشراء كمية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المسموح بها للبلدان الأخرى عبر منظومة تراخيص إطلاق انبعاثات قابلة للتداول، ويتيح ذلك للبلدان ذات المستويات المرتفعة للغاية من الانبعاثات أن تتهرب من الحاجة إلى القيام بأي خفض في الانبعاثات الغازية.
عندما ينظر المرء في الآثار الكارثية المحتملة لتغير المناخ على الكوكب بأكمله، يكون من المحبط للغاية عدم إحراز سوى تقدم ضئيل للغاية تجاه إنشاء نظام دولي لتنظيم انبعاثات الكربون. وقد كان انعدام القيادة الذي مثلته القوة العظمى الوحيدة في العالم مزريًا، ولا يسع المرء سوى أن يأمل في أن تعني العودة إلى إعمال قدر أكبر من التعددية في السياسة الخارجية الأمريكية، أنَّ الحكومة الأمريكية سوف تحاول إعطاء دفعة حقيقية لإقامة نظام للأمن البيئي وتفعيله. وبعد الضرر الفادح الذي ألحقه إعصار كاترينا بنيو أورليانز والمناطق المحيطة بها، لا بد للبيت الأبيض من إدراك المخاطر التي ينطوي عليها إهمال قضية المناخ.
-
يمكن للحكومات أن تعمل على تنظيم إزالة الغابات، وزراعة المزيد من الأشجار (تمثل الأشجار وسيلة مهمة لامتصاص ثاني أكسيد الكربون).
-
يمكن للبلدان الغنية أن تموِّل حصول البلدان النامية على الخبرات والتكنولوجيا والتدريبات اللائقة.
-
يمكننا أن نوفِّر مصادر الطاقة النادرة، بإدخال المزيد من الكفاءة في منازلنا وأماكن عملنا وسياراتنا.
-
يمكن للسلطات المحلية وأصحاب المنازل والأعمال مجتمعين تقديم مساهمة كبيرة، عن طريق التحول من استخدام الوقود الحفري إلى مصادر الطاقة المتجددة، وينبغي منحهم حوافز للقيام بذلك، مثل أن تُدفَع لهم التكاليف الأولية للتكنولوجيا المتجددة وتركيبها.
-
إن الطيران المدني هو وسيلة النقل الأسرع نموًّا والأكثر تلويثًا للبيئة، ومن المتوقع أن يزيد السفر جوًّا بمعدل ٥٠ في المائة في غضون السنوات العشر القادمة، وثمة حاجة إلى اتخاذ تدابير لخفض عدد الرحلات الجوية وتحسين كفاءة استهلاك وقود محركات الطائرات. ومن شأن التنظيم المركزي الرامي إلى تبسيط أعداد أو وجهات رحلات الطيران أن يخلِّف ميزة جانبية، تتمثل في تقليل الضغط على منشآت الموانئ الجوية ومنشآت مراقبة الحركة الجوية.
قد تبدو الاقتراحات السابقة معبِّرة عن منطق بديهي إلى حد بعيد، لكنها وإن افتقرت إلى الرونق الدبلوماسي المحيط بالاتفاقات الدولية، فيمكن لها «مجتمعةً» أن تؤثر بقوة على زيادة الأمن البيئي.
(٢) الأسلحة النووية
أي مقدمة جيدة للعلاقات الدولية تُكتَب في النصف الثاني من القرن العشرين من شأنها أن تضع التحدي المتمثل في الأسلحة النووية، وانتشارها، والأخطار التي تنطوي عليها احتمالية استخدامها، في أعلى قائمة المشكلات التي تواجه المجتمع الدولي. واليوم — في هذا العصر الزاخر بالكوارث البيئية، والمخاوف المتعلقة بآثار الاحتباس الحراري، والإرهاب الدولي — قد يبدو لبعض القراء أنَّ إدراجها باعتبارها مشكلة مستمرة للمجتمع الدولي هو كآبة لا داعي لها، إلا أنني أكدت منذ البداية رغبتي في طرح مقدمة إلى العالم «الحقيقي» للعلاقات الدولية، وليس العالم كما قد يحلو لنا أن يكون.
فلماذا تثير الأسلحة النووية مثل ذلك القلق؟ إنها ليست مجرد مكافئ أكبر حجمًا للقنابل التقليدية. وصحيح أن طريقة وصف الأسلحة النووية (أي قوتها «بالكيلو طن» أو الميجا طن) هي قياس لمقدار مادة تي إن تي اللازم للسلاح التقليدي، حتى يساوي تقريبًا القوة التفجيرية للسلاح النووي، ولكن ذلك لا يعبر من بعيد حتى عن الطبيعة المروعة لآثار الأسلحة النووية. وتأتي الأدلة المتاحة لدينا على أثر القنابل النووية التي أُلقي بها على مدن من القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على مدينتَيْ هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين يومي ٦ و٩ أغسطس عام ١٩٤٥. ومن المهم ملاحظة أن هاتين القنبلتين الذريتين كانتا صغيرتين جدًّا، بالمقارنة بالأسلحة النووية الحديثة التي تُقاس قوتها بالميجا طن. ويلفت بروس روث الانتباه في عمله المبدع «لا وقت للقتل» إلى الملحوظة البليغة لكارل ساجان: «تستخدم الرءوس النووية الحرارية الحديثة أشياء مثل قنبلة هيروشيما فتيلًا للإشعال؛ عود «الثقاب» الذي يشعل عملية الانشطار النووي.»
إلا أن قصف هيروشيما وناجازاكي خلَّف آثارًا أعادت للحياة الرؤى المفزعة للجحيم التي صورها الرسام هيرونيموس بوش؛ فقد أسفر الانفجاران عن مقتل ما يُقدر بحوالي ٢٠٠ ألف شخص. وأودت قنبلة هيروشيما بحياة ٥٠ في المائة من سكان منطقة امتدت حوالي ثلاثة أميال مربعة حول مركز الانفجار. وكانت معاناة الناجين من السويعات أو الأيام الأولى للهجوم مفزعة بحق.
اعتمادًا على قدر التعرض للإشعاع، يتكون لدى تعساء الحظ الناجين من الانفجار الأول قُرَح في الفم وبقع بنفسجية اللون على جلدهم نتيجة الدم المتسرب من خلاياهم … ويعانون الغثيان والإسهال وفقر الدم والنزيف الداخلي، فضلًا عن نزيف اللثة وفتحات الجسم. ويتساقط شعرهم كُتلًا، ويخفض فقدان كرات الدم البيضاء والأجسام المضادة مقاومتهم للعدوى.
من يظل حيًّا إما يموت ميتةً مؤلمة على مدى الأسابيع القليلة المقبلة، أو يموت مبكرًا من جراء الضرر الجيني المفضي إلى السرطان واللوكيميا (سرطان الدم)، وكثيرون منهم يواصلون بقية حياتهم بتشوهات بشعة.
يتفق معظم مؤرخي الحرب العالمية الثانية على أن قرار إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما دفعته رغبة الحكومة الأمريكية في إجبار اليابان على الاستسلام الفوري، حتى لا تضطر القوات الأمريكية إلى غزو اليابان في المقابل. ومن الواضح كذلك أن الحكومة الأمريكية أرادت تحقيق ذلك قبل انضمام الاتحاد السوفييتي إلى الحرب ضد اليابان؛ فقد عقدت العزم على عدم السماح للسوفييت بإنشاء منطقة نفوذ لهم في اليابان أو جزء منها. ويبدو جليًّا بالفعل في السجلات التاريخية أن قرار الحكومة اليابانية بالاستسلام غير المشروط تأثر بشدة بهجمتَيِ القنابل الذرية. وقد أثار قرار استخدام ذلك السلاح الجديد ضد ناجازاكي جدلًا كبيرًا في أوساط علماء الأخلاق وكذلك الخبراء الاستراتيجيين؛ فيمكن القول إن ضرب هيروشيما مثَّل «تجربة» لاستخدام ذلك السلاح الجديد، وأنه أظهر للحكومة اليابانية القوة الهائلة لتلك القنابل. لماذا إذن تطلَّب الأمر استخدام قنبلة ذرية للهجوم على ناجازاكي بعد ثلاثة أيام فقط؟
يكاد يكون من المستحيل تخيل الآثار المحتملة لهجوم باستخدام رأس نووي استراتيجي تبلغ قوته اثنين ميجا طن؛ فاثنان ميجا طن تكافئ تقريبًا القوة التفجيرية لمجموع عدد القنابل التي فُجِّرت في الحرب العالمية الثانية؛ أي مليوني طن من مادة تي إن تي، ولكنْ إضافةً إلى أثر الانفجار الأول والموجة الصدمية المتسببة عنه هناك أيضًا الآثار المتخلفة عن كرة النار (التي تُقَدَّر درجة حرارتها بما يعادل درجة حرارة سطح الشمس)، ونبضة كهرومغناطيسية هائلة يكفي حجمها لإبطال جميع الدوائر الدقيقة المستخدمة في الأجهزة الإلكترونية بجميع أنواعها، والغبار الذري، والاختلال المناخي.
وتتضمن الآثار الناجمة عن انفجار نووي واحد قوته ميجا طن واحد اندفاع الغبار الذري إلى الغلاف الجوي، ولا يسعنا سوى أن نحاول تخيل الآثار الناجمة عن عدد من الأسلحة النووية تُقاس قوتها بالميجا طن، لو كانت استخدمت في حرب نووية كبرى بين القوتين العظميين في السبعينيات أو الثمانينيات من القرن العشرين. وقد طوَّر عدد من علماء الفيزياء النووية فرضية أو سيناريو عالي المصداقية للآثار المرجحة على مناخ الكوكب، فسموه «شتاءً نوويًّا» يحجب فيه الغبار والدخان اللذان يندفعان إلى الغلاف الجوي إثر سلسلة الانفجارات النووية أشعةَ الشمس؛ مما يتسبب في خفض حرارة سطح الأرض بصورة جذرية.
لا شك في أن تغيرًا مناخيًّا من ذلك النوع الكارثي من شأنه أن يؤثر على شعوب بأكملها وعلى إمداداتها الغذائية، فبعيدًا عن التربة التي ستصير مُسمَّمة إلى الأبد عمليًّا بفعل النظائر المشعة، مثل اليورانيوم ٢٣٥، ذات الأعمار النصفية الهائلة (الوقت الذي يستغرقه تحلل نصف الذرات إلى عناصر أخرى)، فسيلحق دمار هائل بالنباتات والحيوانات، ولن يتوافر لدى الناجين من الهجمات بالأسلحة النووية إمدادات كافية من الغذاء ومياه الشرب. باختصار، فإن اتخاذ حكومة لقرار خوض حرب نووية كبرى يعادل انتحار الحضارة كما نعرفها. وفي وجود الأسلحة النووية الحديثة — التي تبلغ قوة بعضها ٢٠٠ ميجا طن — أصبح قيام حرب نووية هو السبيل الذي قد يبدأ به الزعماء السياسيون بضغطة زر (ربما عن غير قصد) الانزلاق في هوة فناء البشرية.
ينبغي أن يتضح جليًّا مما سبق أن المجتمع الدولي برمته لديه مصلحة جماعية في إعمال سياسات وتدابير أكثر فعالية لمنع انتشار الأسلحة النووية، وللترويج لنزع السلاح العام الكامل في نهاية المطاف.
وثمة نوعان أساسيان للانتشار: الرأسي، وفيه تقوِّي الدول الحائزة للأسلحة النووية ترسانتها النووية الخاصة، وربما ترسانات حلفائها أيضًا، بتطوير أسلحة نووية وناقلات للأسلحة النووية أكثر قوة ودقة من خلال البحث والتطوير. والأفقي، وفيه يحصل عدد متزايد من الدول على أسلحة نووية. وعلى الرغم من الجهود حسنة النية التي بذلها مبتكرو نظام معاهدة عدم الانتشار النووي وأولئك المسئولون حاليًّا عن تفعيله، فما زال نوعا الانتشار مستمرَّيْن.
(٢-١) البحث عن حلول
فور اختراع السلاح النووي كان حصول الاتحاد السوفييتي والدول الأخرى عليه أمرًا محتمًا. وإن افتراض موافقة المجتمع الدولي برمته فورًا على نزع السلاح النووي العامَّ الكامل، هو أمر غير واقعي بالمرة، مهما بلغت شدة الاحتجاجات المناهضة للأسلحة النووية التي تقوم بها الحملات العامة الداعية إلى نزع السلاح النووي، ومهما بلغت شدة مناشدات مسئولي الأمم المتحدة والزعماء الدينيين. فمن الواضح أن حكومات الدول الحائزة للسلاح النووي لا يثق بعضها ببعض بالقدر الكافي لاتخاذ مثل تلك الخطوة الجذرية؛ فزعماؤها يعتقدون (مستندين من وجهة نظري إلى منطق استراتيجي سديد) أن امتلاك رادع نووي قادر على الصمود — أي سلاح نووي يمكنه الصمود أمام ضربة أولى من معتدٍ — هو أمر حيوي لأمنهم القومي. وتذهب حكومات الدول الحائزة للأسلحة النووية أيضًا إلى أن — علمًا بغياب جهاز سيادي عالمي قادر على فرض الوفاق الدولي — هناك دائمًا خطر أن تمتنع دولة أو أكثر عن الوفاء بمعاهدة نزع السلاح النووي، وينطوي ذلك على خطر أن يكون في إمكان الدولة أو الدول «المارقة» أن تبتز الدول غير الحائزة للسلاح النووي عن طريق تهديدها بهجوم نووي.
ويمثل إدراك الصعوبة الجوهرية التي تتسم بها هذه المشكلة المحورية للعلاقات الدولية الحديثة، والاعتقاد بأن الردع يمكن تسخيره كمساهمة إيجابية في الأمن الدولي والدبلوماسية الدولية، الركيزتين اللتين يقوم عليهما نهج الحد من الأسلحة لكلٍّ من انتشار الأسلحة النووية، والأخطار التي ينطوي عليها انتشار الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، والأنواع الجديدة من الأسلحة التقليدية. وتتمثل الفلسفة الرئيسية لنهج الحد من الأسلحة في أنه — وإن كان نزع السلاح العام ليس هدفًا سياساتيًّا ممكنًا في نظامنا الدولي الحالي — ما زال من الممكن أن نصل إلى اتفاقات عملية بشأن «تحديد» أو «تقييد» كل من انتشار الأسلحة الرأسي والأفقي، وغير ذلك من الإمكانات العسكرية. ومن الجليِّ أن هذا يمثل نهجًا مختلفًا تمامًا عن النهج الذي اتبعه مؤيدو نزع السلاح الشامل. بيد أن ما يجمع بين أنصار الحد من الأسلحة وأنصار نزع السلاح، هو قناعتهم بأن قيام سباق تسلح بلا ضوابط في هذا العصر الزاخر بأسلحة الدمار الشامل، سيجلب الوبال على المجتمع كله.
أحد أكثر إنجازات نهج الحد من الأسلحة جدارةً بالفخر إبان الحرب الباردة، هو صياغة معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية والتصديق عليها، التي فُتح باب التوقيع عليها في يوليو ١٩٦٨ ودخلت حيز التنفيذ في مارس ١٩٧٠.
-
وقف الانتشار الأفقي للأسلحة النووية.
-
الحد من عملية الانتشار الرأسي أو تقييدها، عن طريق حث الدول الموقعة على التفاوض بشأن اتخاذ تدابير فعالة لإنهاء سباق التسلح النووي في موعد قريب، وبشأن نزع السلاح النووي.
-
إنشاء نظام دولي يتيح النقل الآمن لتكنولوجيا الطاقة النووية المدنية، وفيه تشرف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على نظام ضمانات يكون للوكالة فيه وصول كامل ومفتوح للبرامج النووية المدنية لدى جميع الدول غير الحائزة لأسلحة نووية، بما في ذلك حق التفتيش الدوري على مفاعلاتها ومنشآتها النووية المدنية.
ويكمن أحد أوجه النقد الرئيسية الموجهة إلى المعاهدة في أنها تمنح القوى الحائزة بالفعل لأسلحة نووية وضعًا مميزًا. وعلى الرغم من أن مؤتمر استعراض المعاهدة الذي عُقِد عام ١٩٩٥ أقرَّ تمديد معاهدة عدم الانتشار النووي إلى أجل غير مسمى، فواقع الأمر أن أوجه الضعف التي تشوب نظام المعاهدة تجلَّت بوضوح أكبر في السنوات الأخيرة. وإن أخطر عيوب معاهدة عدم الانتشار بلا شك، هي فشلها في ضمان وفاء الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الحائزة للأسلحة النووية بالتزاماتها بصدد السعي إلى إنهاء سباق التسلح النووي. والولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة المتبقية ينبغي رؤيتها تأخذ المبادرة في هذا الجانب من المعاهدة. والحقيقة أنها ذهبت في الاتجاه المعاكس؛ فقد شرعت في برنامج مكلِّف لتطوير جيل جديد من الأسلحة النووية ذات إمكانات إضافية.
انسحبت إدارة بوش من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية في ديسمبر ٢٠٠١، فاتحةً بذلك المجال أمام سباق تسلح في الفضاء الخارجي يجري الآن على قدم وساق. ومن المعروف أيضًا أن الولايات المتحدة أخذت تنشئ مواقع لإجراء التجارب النووية تحت الأرض في نيفادا، في انتهاك صريح لالتزاماتها بموجب معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وظلت تحتفظ بأسلحة نووية تكتيكية في قواعد بأوروبا، في انتهاك صريح لعهد قطعته في مؤتمر استعراض معاهدة منع الانتشار النووي الذي عُقِد عام ٢٠٠٠.
والولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة، ضمن الدول الحائزة لأسلحة نووية، التي تنتهك التزاماتها بموجب معاهدة عدم الانتشار؛ فقد شرعت روسيا بالفعل في برنامج إعادة تسليح، وفي توسُّع كبير لدفاعاتها المضادة للصواريخ الباليستية. ومن نافلة القول أنه عندما تتحدى الدول الكبرى الحائزة للأسلحة النووية أحكامَ معاهدة منع الانتشار تحديًا سافرًا، فهي تقوِّض الجهود المبذولة لإقناع الدول الأخرى بالتصديق على تلك المعاهدة، ولإثناء بعض الدول عن السير قدمًا في تطوير الأسلحة النووية سرًّا.
في ضوء تلك العيوب الخطيرة التي تعتري معاهدة الانتشار، ما الذي ينبغي فعله؟ فنزع السلاح الكامل ليس اقتراحًا عمليًّا في وضع العلاقات الدولية الراهن. وفي أكثر الحالات تطرفًا، ينطوي بدء سباق تسلح نووي بلا ضوابط على خطورة شديدة؛ إذ يرفع خطورة قيام حرب نووية بدرجة كبيرة، إما صدفةً أو عمدًا. وعلينا تذكر أن نهاية الحرب الباردة لم تقضِ على خطر الحرب النووية، وثمة احتمال حقيقي في أن تتصاعد حرب تقليدية بين دولتين حائزتين للأسلحة النووية وصولًا إلى حرب نووية. ومن الجائز أيضًا في حربٍ استُخدم فيها سلاح دمار شامل آخر أن يشنَّ أحد الأطراف المتحاربة هجومًا نوويًّا.
ويتضمَّن السيناريو الآخر المرجح هجمة إرهابية واسعة النطاق — ربما تتضمن أسلحة دمار شامل — تفضي إلى رد الدولة المستهدَفة بهجوم نووي على دولة يُعتَقَد أنها ترعى الإرهاب. وفي خِضم البحث المُضني عن حلول، يكون من السخف ادعاء وجود طرق سهلة لمعالجة مشكلة انتشار الأسلحة النووية ومخاطر الحرب النووية.
بيد أنني أقترح أن إغفال مَسلك الحد من الأسلحة لتقليل المخاطر أو إهماله سيكون تصرفًا غير مسئول؛ فقد كانت تلك هي النتيجة الواضحة التي خلص إليها خبراء اللجنة المستقلة المعنية بأسلحة الدمار الشامل — برئاسة د. هانز بليكس — التي نشرت تقريرها في صيف ٢٠٠٦.
توصيات اللجنة المعنية بأسلحة الدمار الشامل
يتعين على جميع الأطراف في معاهدة عدم الانتشار النووي الرجوعُ إلى الالتزامات الأساسية والمتوازنة بشأن عدم الانتشار ونزع السلاح، التي قطعت في إطار المعاهدة وجرى التأكيد عليها في عام ١٩٩٥ عند تمديد المعاهدة إلى أجل غير مسمى.
على جميع الأطراف في معاهدة عدم الانتشار تنفيذ القرار المتعلق بمبادئ وأهداف عدم الانتشار ونزع السلاح، والقرار المتعلق بتعزيز عملية استعراض معاهدة عدم الانتشار، والقرار المتعلق بالشرق الأوسط بوصفه منطقة خالية من الأسلحة النووية وجميع أسلحة الدمار الشامل الأخرى، التي تم اعتمادها جميعًا في عام ١٩٩٥، وعليها أيضا تشجيع تنفيذ «الخطوات العملية الثلاث عشرة» لنزع الأسلحة النووية التي تم اعتمادها في عام ٢٠٠٠.
ولتعزيز فعالية نظام عدم الانتشار النووي، على جميع الدول غير الحائزة للأسلحة النووية الأطراف في معاهدة عدم الانتشار، قبول الضمانات الشاملة بصورتها المعززة في البروتوكول الإضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
لا يتسع المجال هنا لتلخيص جميع توصيات اللجنة، بيد أنه من الواضح بجلاء أن النتيجة الرئيسية التي خلص إليها ذلك الفريق المكوَّن من خيرة خبراء الحد من الأسلحة في العالم، هي أن المجتمع الدولي ليس في وسعه ببساطة أن يسمح بدفن إنجازات نظامَيْ معاهدة عدم الانتشار ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية تحت رمال الإهمال والنفاق السياسيين، فهُم يطلبون، على وجه الاستعجال، من جميع الأطراف في معاهدة عدم الانتشار أن يلتزموا مرة أخرى بمبادئ المعاهدة وأهدافها، والعهودِ التي قطعوها في الاتفاقية الأصلية وفي المؤتمرات الاستعراضية المتعاقبة. وتُشدد التوصيات الثلاث المبدئية الرئيسية لتقرير اللجنة — فيما يتعلق بانتشار الأسلحة النووية — تشديدًا واضحًا على أهمية الحفاظ على نظام معاهدة عدم الانتشار وتعزيزه، وأهمية تكييف دبلوماسية الحد من الأسلحة لمواكبة التحديات الآخذة في التفاقم حاليًّا في الشرق الأوسط وسائر الأنحاء.
(٣) الأسلحة الكيميائية والبيولوجية
إن أسلحة الحرب الكيميائية والبيولوجية أسهل في الحصول عليها، وأقل تكلفة بكثير من الأسلحة النووية، ومع ذلك فهي تمتلك بدورها القدرة على قتل آلاف الأشخاص. وتتكون الأسلحة البيولوجية من البكتيريا والفيروسات والريكتسيات، وتتضمن الجمرة الخبيثة الاستنشاقية والجمرة الخبيثة الجلدية والطاعون والإيبولا وحمى لاسا والتسمم الوشيقي. وقد أُرسِلَت الجمرة الخبيثة عبر مصلحة البريد الأمريكي في الولايات المتحدة في أكتوبر عام ٢٠٠١، فقتلت خمسة أشخاص وأصابت ٢٢ شخصًا بتسمم شديد. وإن أكثر السموم التي يمكن استخدامها فتكًا على الإطلاق هو سم البوتيولين. ويذهب العلماء إلى أن جرامًا واحدًا من ذلك السم — لا سيما عندما يُستخدَم في مناطق مغلقة أو بغرض تلويث إمدادات الغذاء والمياه — قد يودي بحياة ما يصل إلى مليون شخص، إذا جرى نشره واستنشاقه بصورة متساوية.
وتتضمن الأسلحة الكيميائية ثلاثة أنواع رئيسية، هي: الغازات السمية، والعوامل المُشِلَّة، والعوامل المضادة للنبات. ومن المعروف أن صدَّام حسين استعمل الغاز ضد الأكراد في حلبجة بالعراق يوم ١٦ مارس ١٩٨٨، فقضى خمسة آلاف شخص نحبهم، أكثرهم من النساء والأطفال. وقد استخدم الطرفان المتحاربان في الحرب العالمية الأولى غاز الخردل. وثمة اعتقاد بأن قوات صدام حسين استخدمت غاز الخردل وغاز الأعصاب «في إكس» والسيانيد أثناء حرب العراق وإيران في ثمانينيات القرن العشرين.
(٣-١) البحث عن حلول
أُعمِلت تقنيات الحد من الأسلحة لإبرام أكثر اتفاقيات الأسلحة الكيميائية الدولية، التي وُقِّعت يومًا شموليةً وتدخلًا، وهي اتفاقية الأسلحة الكيميائية لعام ١٩٩٣. فتلك الاتفاقية لا تحظر البدء باستخدام الأسلحة الكيميائية فحسب، بل تحظر «جميع» صور استخدام الأسلحة الكيميائية، وتحظر أيضًا إنتاج الأسلحة الكيميائية وتطويرها وتخزينها ونقلها، وتتيح لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية حديثة النشأة أن تراقب المصانع الكيميائية والمواقع الصناعية في جميع أنحاء العالم. وقد بدأ نظام التفتيش الخاص بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية عمله عام ١٩٩٦.
وللأسف لا تتضمن اتفاقية الأسلحة البيولوجية (١٩٧٢) إجراءات التحقق التي تحمل أهمية حيوية للغاية إذا كان للاتفاقية أن تكون فعالة بحق، بيد أن ثمة جهودًا دولية كبيرة تُبذَل من أجل تطبيق بعض الدروس المستخلَصة من اتفاقية الأسلحة الكيميائية على ميدانَي الأسلحة البيولوجية والسمية، ولا بد الآن من حشد الدعم العالمي للاتفاقية الجديدة للأسلحة البيولوجية والسمية والالتزام بها.
وأختتم حديثي باقتراح أنه — كما في ميدان الأسلحة النووية — يكون التعزيز الحقيقي لنظم الحد من الأسلحة هو السبيل الحكيم لتقليل خطورة أسلحة الدمار الشامل بجميع صورها. ومرة أخرى، يُوصَى القارئ بالرجوع إلى تقرير الخبراء الصادر عن اللجنة المستقلة المعنية بأسلحة الدمار الشامل، ولا يتسع المجال هنا لوصف حزمة التوصيات الطموحة التي تضمنها، إلا أن التوصيات الرئيسية المتعلقة بكل من الأسلحة البيولوجية والسمية والأسلحة الكيميائية منقولة في المربع التالي:
توصيات الخبراء بشأن أسلحة الحرب البيولوجية والكيميائية
التوصية رقم ٣١
على جميع الدول التي لم تنضم بعدُ كأطراف في اتفاقية الأسلحة البيولوجية والسمية أن تتقيَّد بالاتفاقية، وعلى الدول الأطراف في الاتفاقية القيام بحملة لتحقيق التزام عالمي بالاتفاقية قبل حلول موعد المؤتمر الاستعراضي السابع، المزمع عقده في عام ٢٠١١.
التوصية رقم ٣٢
لتحقيق التبني العالمي للنظم والتشريعات الوطنية، الرامية إلى تنفيذ اتفاقية الأسلحة البيولوجية والسمية تنفيذًا كاملًا وفعالًا، على الدول الأطراف أن تعرض المساعدة التقنية، وأن تعزز نماذج أفضل الممارسات فيما يخص هذه التشريعات. وفي إطار عملية بناء الثقة وبغرض تعزيز الشفافية والتنسيق، ينبغي لجميع الدول أن تصدر سنويًّا إعلانات قومية تتعلق بالأسلحة البيولوجية وأن تعمِّمها.
التوصية رقم ٣٣
على الدول الأطراف في اتفاقية الأسلحة البيولوجية والسمية أن تعزز سلطات التحقيق لدى الأمين العام للأمم المتحدة، مما يكفل لمكتب الأمين العام إمكانية الاعتماد على قائمة من الخبراء يجري تحديثها بانتظام، وعلى المشورة التي تقدمها منظمة الصحة العالمية، وعلى وحدة متخصصة تكون على شاكلة لجنة الأمم المتحدة للرصد والتحقق والتفتيش، للمساعدة في التحقيق في الحالات غير المعهودة لانتشار الأمراض وفي جميع ادعاءات استخدام الأسلحة البيولوجية.
التوصية رقم ٣٤
على الدول أن تحول دون حصول الإرهابيين على أسلحة نووية أو مواد انشطارية. ولتحقيق هذا الغرض، عليها أن تبقي على الفعالية الكاملة لتقديم البيانات، والتحكم في جميع المخزونات من المواد الانشطارية والمشعة وغيرها من المصادر الإشعاعية على أراضيها. وينبغي لها أن تكفل المسئولية القانونية الشخصية عن كل أعمال الإرهاب النووي، أو الأنشطة التي تدعم هذا الإرهاب. ويجب عليها أن توسع نطاق تعاونها عبر جملة أمور، منها مشاركة المعلومات، بما في ذلك تبادل المعلومات المتعلقة بالتجارة النووية غير المشروعة. وعليها أيضا الترويج للالتزام العالمي بالاتفاقية الدولية لقمع أعمال الإرهاب النووي، وباتفاقية الحماية المادية للمواد النووية، وتنفيذ قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم ١٥٤٠.
إن الحد من الأسلحة وإدارة الأزمات (التي تمثل في الواقع جزءًا رئيسيًّا من عملية الحد من الأسلحة) على نحو فعال «ليسا» من إجراءات التهدئة؛ فهما يمثلان وسيلة — ربما الوسيلة العملية الوحيدة — لمنع النزاعات وإخمادها وإدارتها في عالم خطِر، فيه دول كثيرة ما زالت حائزة لأسلحة الدمار الشامل.
(٤) منع الإبادة الجماعية وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان
وتعرِّف اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر لعام ١٩٤٨، الإبادةَ الجماعية في المادة رقم ٢ بأنها عمل ينطوي على «التدمير المقصود الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية»، بما في ذلك قتل أعضاء تلك الجماعات، أو إلحاق إصابات خطيرة بهم، أو التسبب في أذى نفسي لهم، أو إخضاعهم لظروف معيشية غير مواتية تهدد بتدمير الجماعة ماديًّا، والمحاولات المتعمدة للحيلولة دون إنجاب أعضاء الجماعة للأطفال، ونقل الأطفال عنوة من جماعة لأخرى. ووفقًا للاتفاقية فإن التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية، والتحريض على ارتكابها، والتواطؤ فيها، كل ذلك يستوجب العقاب أيضًا.
من الواضح أن الاتفاقية أُقِرَّت استجابةً للهولوكوست، وهي محاولة النظام النازي في ألمانيا إبادة اليهود التي حُمِل فيها ستة ملايين يهودي إلى معسكرات الموت وقُتِلوا. وقد مثَّلت محاكمات نورمبرج محفزًا لتلك الجهود الطموحة الساعية إلى توسيع نطاق القانون الجنائي الدولي، في محاولة شجاعة لتمكينه من التعامل مع أبشع الانتهاكات الجماعية لحقوق الإنسان، ألا وهي الجرائم ضد الإنسانية.
وتتمثل الحقيقة المأساوية في أن النوايا النبيلة لصائغي الاتفاقية لم تُتَرجم إلى إجراءات فعالة؛ فالإبادة الجماعية التي ارتكبها نظام بول بوت في كمبوديا — التي يُقَدَّر إزهاقها لحوالي مليونَي روح — لم يتمكن المجتمع الدولي من الحيلولة دونها أو وضع نهاية لها، ويسري الشيء ذاته على الإبادة الجماعية في رواندا. وقد جاء تدخل الأمم المتحدة والناتو لوقف العنف المفضي إلى الإبادة الجماعية في البوسنة وفي كوسوفو متأخرًا للغاية، وإن كان شديد الفعالية في النهاية، ولكن من الواضح أن الأمم المتحدة لو كانت تصرفت بمفردها ما كانت لتملك الموارد المطلوبة لتنفيذ رغبة مجلس الأمن.
في وقت كتابة هذه السطور (صيف ٢٠٠٦)، تعود نقاط ضعف الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الحكومية الدولية للظهور بصورة مأساوية في التعامل مع الأزمة القائمة في منطقة دارفور السودانية؛ فممثلو الحكومات المختلفة الذين زاروا معسكرات اللاجئين الضخمة في جنوب دارفور وغربها، والذين تحدثوا مع بعض مَن أُجبروا على الفرار من ديارهم، والذين تزودوا بمعلومات عن الأزمات، وصفوا العنف الذي ترتكبه ميليشيات الجنجويد العربية — بتأييد الحكومة السودانية — ضد سكان الريف الأفارقة، بأنه يحمل سمات الإبادة الجماعية.
فقد أُخرِج ما يربو على ربع مليون شخص من ديارهم عنوةً، وتعرَّض الكثيرون للاغتصاب والقتل والنهب من الجنجويد، وتذهب التقديرات إلى قتل ما يزيد كثيرًا عن ١٠٠ ألف شخص في الهجمات التي شُنَّت على المدنيين.
بدأت الأزمة في فبراير ٢٠٠٣، عندما بدأت حركة العدل والمساواة وجيش تحرير السودان تمردًا ضد السلطات في الخرطوم؛ بغية الحصول على الاعتراف السياسي ونصيب أكبر من موارد السودان، فاستجابت الحكومة بتسليح ميليشيات الجنجويد العربية وإطلاق العنان لها، وإن كان المسئولون الحكوميون كرروا تنصلهم من أي مسئولية عن هجمات الجنجويد. وبعد مرور ثلاث سنوات، ظلت الأمم المتحدة غير قادرة على اتخاذ أي إجراء فعال، سوى إرسال المعونات الإنسانية إلى اللاجئين الذين يعانون شظف العيش. وكانت العقبة الكبرى، التي حالت دون موافقة مجلس الأمن على فرض عقوبات على السودان، هي الصين، التي تستطيع بصفتها عضوًا دائمًا استخدام الفيتو ضد أي اقتراح من ذلك النوع. ومن المهم الإشارة إلى أن الصين لديها مصالح تجارية واسعة النطاق في السودان، وقد عارضت تدخل الأمم المتحدة بصفة متكررة، حتى عندما كانت الحالة الإنسانية طاغية. حتى إيصال المعونات الإنسانية تعرض للخطر بصورة متكررة؛ بسبب الهجوم على موظفي وكالات المعونة ونهب شاحنات برنامج الأغذية العالمي.
وقد استخدمْتُ حالة دارفور لإبراز ضعف الآليات الدولية الخاصة بالتدخل للحيلولة دون أخطر الانتهاكات الجماعية للحق الإنساني الأساسي؛ الحق في الحياة، أو على الأقل وقف تلك الانتهاكات. ولكن دعونا لا ننسى أن ثمة حالات أخرى متعددة يعاني فيها الآلاف تلك المشكلات، وليس على المرء سوى تذكر معاناة السكان المدنيين في تيمور الشرقية وميانمار (بورما سابقًا) وليبيريا وسيراليون وتوجو — وكلها أمثلة حالية أو قريبة ألحقت النزاعات فيها ضررًا بالغًا بحقوق الإنسان — ليرى مبلغ ذلك التحدي.
(٤-١) البحث عن حلول
على الرغم من صعوبة إيجاد أمثلة على حدوث تحسن ذي بالٍ في المنع الفعال للعنف المفضي إلى الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب الكبرى، فقد أُحرز تقدم متواضع إزاء إيجاد تدابير وآليات قضائية دولية لتقديم مجرمي الحرب إلى العدالة. على سبيل المثال: كانت محكمة لاهاي المخصصة للتعامل مع المشتبه بهم في جرائم الحرب المرتكبة في النزاع الذي دار في يوغوسلافيا السابقة، والمحكمة الموازية المخصصة للتعامل مع المشتبه بهم في جرائم الحرب المرتكبة في رواندا، صارمتين للغاية في إجراء المحاكمات. وقد تأسست محكمة لاهاي المخصصة للتعامل مع يوغوسلافيا السابقة عام ١٩٩٣، وكانت بصدد محاكمة سلوبودان ميلوسوفيتش قبل أن يتوفى لأسباب طبيعية. وكانت تلك أهم قضايا محاكم لاهاي لجرائم الحرب على الإطلاق حتى ذلك الحين؛ لأنها كانت أول مرة يُقَدَّم فيها رئيس دولة سابق للمحاكمة لمواجهة اتهامات من ذلك النوع.
افترض كثيرون أن الطريقة المثلى لتقديم الدكتاتور العراقي السابق — صدام حسين — إلى العدالة هي ترك النظام القانوني العراقي يتناول القضية، وأُغفلت حقيقة أن المحاكم العراقية والقضاة العراقيين لم تتوافر لديهم خبرة أو دراية سابقة في التعامل مع مثل تلك القضايا. وربما كان الحل الأفضل هو إنشاء محكمة دولية خاصة، تتضمن قضاة يتمتعون بمؤهلات خاصة، وخبرة في التعامل مع القانون الدولي لحقوق الإنسان. والحل الأفضل من ذلك حتى قد يكون هو تسليم المسئولية عن المحاكمة إلى المحكمة الجنائية الدولية حديثة النشأة.
وقد أشرتُ بالفعل إلى أن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة شكَّلت آلية فعالة إلى حد بعيد في تقديم مجرمي الحرب من صربيا وكرواتيا والبوسنة إلى العدالة. ومن المثبت في السجلات أن المحكمة — تحت القيادة الصارمة والحازمة للمدعية العامة لجرائم الحرب، كارلا ديل بونتي — حققت سلسلة مثيرة للإعجاب من المحاكمات الناجحة. وبالطبع فقد ساعد في نجاح المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة تعضيد الحكومة الأمريكية القوي لها.
ثمة مشروع أكثر طموحًا بكثير سارٍ الآن؛ هو المحكمة الجنائية الدولية. وقد جاء اقتراح إنشاء المحكمة نتاجًا لمؤتمر دولي عُقِد في روما عام ١٩٨٨. وبحلول أبريل من عام ٢٠٠٢، كان مشروع المحكمة الجنائية الدولية قد نال التصديقات الستين اللازمة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. ولهذه المحكمة الحق في نظر جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك جرائم الدولة ضد شعبها، على الصعيد العالمي.
ويمثل هذا استحداثًا مهمًّا في مجال التعاون الدولي بشأن حقوق الإنسان، وقد أيدته جميع الدول الديمقراطية الكبرى تقريبًا عدا الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو ذلك مناقضًا على نحو عجيب لدعم واشنطن المتحمس للمحكمة الجنائية الدولية في يوغوسلافيا السابقة. وكان التفسير الذي قدمه سفير الولايات المتحدة المكلف بقضايا جرائم الحرب، هو أن الولايات المتحدة انتابها القلق حيال أن تمتلك المحكمة سلطة محاكمة الأمريكيين، وأن خصوم الولايات المتحدة قد يأمرون بالقبض على جنودها أو زعمائها السياسيين، وربما حتى رئيسها ذاته. ويمثل غياب القوة العظمى الوحيدة في العالم نقطة ضعف خطيرة، وتنبع نقطة ضعف أخرى من الاختصاص القضائي المحدود للمحكمة الجنائية الدولية؛ فلا يمكن لها محاكمة جرائم الحرب إلا إذا ارتكبها أفراد ينتمون إلى أحد الأطراف المصدِّقة على معاهدة المحكمة، أو ارْتُكِبت على أراضي إحدى الدول الأطراف في المعاهدة. وتضم معاهدة المحكمة الجنائية الدولية الآن ٩٧ دولة طرفًا، وثمة ٤٢ دولة أخرى وقَّعت، ولكنها لم تصدق على المعاهدة بعد، منها أربعة أعضاء دائمون في مجلس الأمن. وبمثل ذلك الافتقار للدعم من القوى الكبرى تبدأ المحكمة الجنائية الدولية عملها مكبَّلة بمعوِّق ضخم، ولكنني أشير من جديد إلى صعوبة اتخاذ المنظومة الدولية للدول إجراءً مشتركًا حتى بصدد أكثر مشكلات حقوق الإنسان جوهريةً. وتمارس منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية ضغوطًا شديدة؛ لتنال الدعم للمحكمة الجنائية الدولية من الدول الديمقراطية الكبرى، لكنها حتى الآن لم تتمكن من حشد دعم ذي بالٍ من عامة الشعب أو من صانعي السياسات في الدول المتخلفة عن الانضمام.
الولايات المتحدة ضللها اليمينيون؛ المحافظون الرجعيون ذوو المشاعر الانعزالية، الذين يشوهون الحقائق ويثيرون حيرة الشعب … في نورمبرج كنا القائد بحق، وقلنا إن القانون الذي أرسيناه سيكون هو القانون الذي نسير عليه غدًا، وصارت تلك المُثُل في طي النسيان.
(٥) الفجوة بين الشمال والجنوب
إحدى أكثر المشكلات استعصاءً في ميدان العلاقات الدولية، هي الاستقطاب القائم بين البلدان الصناعية المتقدمة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وأقل البلدان نموًّا التي ضربها الفقر في النصف الجنوبي. والدولة «المتقدمة» النموذجية من نصف الكرة الشمالي هي التي تتمتع بنمو اقتصادي قائم على الاكتفاء الذاتي في جميع القطاعات الصناعية؛ القطاع الأول والقطاع الثاني والقطاع الثالث.
وفي المقابل تتسم أقل البلدان نموًّا بانخفاض ناتجها المحلي الإجمالي، وانخفاض نصيب الفرد منه، وانخفاض معدل النمو للفرد، وانخفاض في متوسط العمر المتوقع، يصحبه ارتفاع في معدلات النمو السكاني. ثمة مجموعة ثالثة هي البلدان الصناعية الحديثة، والأمثلة عليها هي: كوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة، وهونج كونج؛ وأحيانًا يُطلق عليها مُسمى «النمور» الاقتصادية؛ نظرًا لتوسعاتها الصناعية السريعة، ونجاحها في تحقيق نمو اقتصادي قائم على الصادرات. ومن الواضح أن ثمة عوامل خاصة تفسر صعود البلدان الصناعية الحديثة في آسيا؛ فقد استطاعت استغلال مزايا انخفاض تكاليف العمالة لديها عن تكاليف العمالة لدى البلدان الصناعية المتقدمة، وضمت إلى ذلك نظامًا اقتصاديًّا ليبراليًّا عالي التنافسية (في المقابل عادةً ما تحكمها نظم سياسية سلطوية، ولكن لا يبدو أن ذلك يعيق نموها الاقتصادي)، واستطاعت البلدان الصناعية الحديثة كسب ميزة كبيرة من استعدادها المتحمس لقبول الاستثمارات الأجنبية، ومن المهارات التجارية الطبيعية التي تبدو متوافرة لدى شعوبها. وقد أثبتت الإحصاءات الاقتصادية لعام ٢٠٠٦ نجاح «النمور» الاقتصادية؛ إذ بيَّنت — على سبيل المثال — أنَّ نَصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في هونج كونج أعلى من مقابله لدى ألمانيا وكندا وبلجيكا وفرنسا، ويفوق نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في سنغافورة مقابله في أستراليا وإيطاليا. وتقع هونج كونج وسنغافورة وتايوان ضمن أعلى ٢٠ في المائة من البلدان ذات القوة الشرائية الأعلى. والأكثر إذهالًا أن هونج كونج وسنغافورة تحتلان المركزين الأول والثاني بالترتيب في مؤشر الحرية الاقتصادية الذي يُقاس على أساس عشرة مؤشرات لكيفية تقييد التدخل الحكومي للعلاقات الاقتصادية بين الأفراد. وتقع كلٌّ من سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية وتايوان ضمن أعلى ١٠ في المائة من البلدان المتمتعة بأكبر معدل نمو اقتصادي بين عامي ١٩٩١ و٢٠٠١.
وفي تناقض صارخ، تبدو البلدان الأفقر ضمن أقل البلدان نموًّا حبيسة حالة إفقار دائمة. ويقع ما لا يقل عن ١٦ بلدًا من البلدان العشرين صاحبة أقل ناتج محلي إجمالي للفرد في أفريقيا. والعديد من أقل البلدان نموًّا تكون معدلات النمو السنوي لدخل الفرد فيها تحت الصفر. ويقدِّر الديموغرافيون أن تعداد سكان العالم سينمو عن الإجمالي الحالي له (في ٢٠٠٦) الذي يتعدَّى ستة مليارات نسمة إلى ما بين ١٠ و١٢ مليار نسمة عام ٢٠٥٠، اعتمادًا على ما إذا كان معدل الخصوبة العالمي سيستمر في الانخفاض أم لا. وأيًّا كان المستقبل النهائي، فمعظم الخبراء متأكدون من أن تعداد سكان العالم سيواصل نموه خلال القرن الحالي وجزءٍ كبير من القرن الثاني والعشرين، وثمة اتفاق سائد أيضًا على أنَّ أسرع معدلات النمو ستكون في نصف الكرة الجنوبي. ويُعزى ذلك إلى أن نصف الكرة الجنوبي — إلى جانب معدلات المواليد المرتفعة ومعدلات الوفيات المنخفضة — سيتعرض إلى «قوة دفع سكانية» نتيجة احتوائه على عدد كبير من النساء على أعتاب سن الإنجاب، ويبدو ذلك مستمرًّا على الرغم من وباء الإيدز الجائح الذي ضرب أفريقيا وأنحاء أخرى من نصف الكرة الجنوبي (لقد راعيت الإيدز في تقديري لمعدل النمو السكاني). وحوالي ٧٠ في المائة من المصابين بالإيدز يعيشون في أفريقيا، مقارنةً بجنوب آسيا وجنوبها الشرقي اللذين يُقدَّر المصابون بالإيدز فيهما بحوالي ستة ملايين نسمة. ولم تكن الآثار الاقتصادية الناجمة عن وباء الإيدز بأقل من فاجعة. والخدمات الطبية في البلدان الأفريقية التي تعاني أسوأ الإصابات عاجزة تمامًا عن التصرُّف، ونظرًا لأن غالبية الضحايا يكونون في مرحلة الشباب أو منتصف العمر، يكون الأثر على الأداء الاقتصادي مدمرًا؛ إذ تصبح الأُسَر غير قادرة على إعالة نفسها، أو إنتاج الغذاء، أو العناية بأقاربها.
والعامل الرئيسي الثالث الذي يهدد بقاء السكان المدنيين ذاته في مناطق متعددة من نصف الكرة الجنوبي، هو أثر النزاع؛ فعلى سبيل المثال: في أفريقيا، خاض ما يزيد عن ٣٠ في المائة من البلدان حروبًا شديدة الفتك أخرجت الناس من مزارعهم وقُراهم. وأخيرًا وليس آخرًا، تفاقمت محنة بلدان نصف الكرة الجنوبي إلى أبعد حد؛ بسبب الكوارث البيئية، مثل الجفاف والتصحر وإزالة الغابات.
إن عملية العولمة التي تتيح للأسواق المالية وأسواق الاستثمارات أن تباشر عملها على الصعيد الدولي — نتيجة إزالة القيود وتحسين الاتصالات في المقام الأول — والتي تسمح للشركات بالتوسع ومباشرة عملها على الصعيد الدولي، لم ينتج عنها تضييق الفجوة بين البلدان الصناعية المتقدمة في نصف الكرة الشمالي، وأقل البلدان نموًّا في نصف الكرة الجنوبي. على النقيض، كان الأثر الرئيسي المترتب عليها هو زيادة دول نصف الكرة الشمالي غِنًى؛ لأنها عندما تختار فعلًا إقامة مصانعها لدى أقل البلدان نموًّا، تعود أرباح تلك الشركات بالفائدة على نصف الكرة الشمالي بالأساس. ويروق لبعض المعلِّقين التشديد على المزايا المزعومة لمسألة «الاعتماد المتبادل» بالنسبة إلى أقل البلدان نموًّا. والواقع أن البلدان التي تنتج سلعًا يوجد طلب كبير عليها في البلدان الصناعية المتقدمة — مثل النفط والغاز الطبيعي — هي الوحيدة ضمن أقل البلدان نموًّا التي يُرَجَّح أن تستفيد من العولمة. أما بقية أقل البلدان نموًّا فقد زاد اعتمادها على المعونة؛ لأنها إذا اعتمدت على إنتاج منتج زراعي بسيط فحسب — مثل القهوة أو الموز — فستظل ببساطة حبيسة شِراك الفقر إلى الأبد. وإضافةً إلى ذلك، إذا اعتمدت أقل البلدان نموًّا على صادرات المنتجات الزراعية إلى نصف الكرة الشمالي، فستجد نفسها أمام تدابير الحماية التجارية التي تتخذها الدول الغنية، مثل الحواجز الجمركية والحصص. وكان يؤمَل أن تتوصل محادثات منظمة التجارة العالمية لعام ٢٠٠٦ إلى سبل لتذليل جزء كبير من تلك العقبات، التي تحول فعليًّا دون استفادة أقل البلدان نموًّا من منظومة التجارة العالمية، غير أنه حتى وقت كتابة هذه السطور لا يلوح أي إنجاز مهم في الأفق.
والأكيد أن اتفاقية جلين إيجلز لعام ٢٠٠٥ لوزراء مجموعة الثمانية، التي استهدفت إلغاء قدر كبير جدًّا من ديون أقل البلدان نموًّا؛ مثَّلت انفراجة مرحَّبًا بها. ويمكن لوزير مالية المملكة المتحدة — جوردون براون — وزملائه وحملة المنظمات غير الحكومية التي تحمل لقب «جعل الفقر جزءًا من الماضي»، أن يشعروا بشيء من الرضا نتيجة قرارات مجموعة الثمانية المتعلقة بتخفيف عبء الديون، بيد أنه لا بد من أن ندرك أن بادرة الكرم تلك لن تعالج الأسباب الجوهرية المتأصلة في النظام الدولي لتخلف النمو.
(٥-١) البحث عن حلول
كما هو الحال مع المشكلات الكبرى الأخرى التي استعرضتها بإيجاز، ليس ثمة حل بسيط لمشكلة الفجوة المتسعة بين الشمال والجنوب. وللإنصاف نقول إنه كان ثمة نقص خطير في التفكير الاستراتيجي المطَّلِع بشأن تحديات التنمية الدولية في السنوات الأخيرة. وتمثَّل آخر جهد جاد حقًّا يُبذَل لتصميم استراتيجية تنمية دولية شاملة في عمل اللجنة المستقلة لقضايا التنمية الدولية، برئاسة القنصل السابق لألمانيا الغربية — ويلي برانت — في أواخر سبعينيات القرن العشرين. وفي عام ١٩٨٠ نشرت اللجنة تقريرها المميز: «الشمال والجنوب: برنامج للنجاة». وقد يكون من الملائم وصف نهج تقرير برانت بالكينزية الدولية؛ إذ تقوم ركائزه على ليبرالية اقتصادية معدَّلة لملاءمة الاحتياجات الخاصة لنصف الكرة الجنوبي. ويذهب التقرير إلى أنه على منظومة التجارة العالمية تعديل قواعدها؛ حتى تمكِّن أقل البلدان نموًّا من الحصول على عائد منصف من صادراتها. وذهب برانت أيضًا إلى أن المعونة الأجنبية ينبغي أن تُوَجَّه بمزيد من العناية؛ بحيث تساعد متلقِّيها على التحوُّل إلى المزيد من الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، وبحيث تمدُّ أقل البلدان نموًّا بالمزيد من العون في مجال بناء القدرات؛ على سبيل المثال: من خلال توفير الخبرات التقنية والتدريب التقني، حيثما تعذَّر ذلك عن طريق استثمارات القطاع الخاص. وكانت أحد أهم النتائج التي توصلت إليها اللجنة هي أن المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال التنمية الدولية تضطلع بدور رئيسي، وأنه ينبغي للحكومات أن تدرك ذلك تمام الإدراك؛ حتى يمكنها التعاون في شراكات أكثر فعالية على الصعيد الدولي.
وجميع تلك الدروس صالحة بالقدر ذاته اليوم، وإن كانت جهود كبيرة قد بُذِلَت بغية تحسين التعاون الدولي فيما يتعلق بقضايا التنمية، وتحمل وكالات الأمم المتحدة المتخصصة سجلًّا مميزًا إلى حد بعيد في هذا المجال.
إلا أنه من باب التضليل الجسيم — بل عدم الأمانة — التظاهر بأن جميع الحلول الجزئية المحتملة لمشكلة تخلف النمو، هي رهن إشارة نصف الكرة الشمالي والمنظمات الدولية الحكومية. فالأمر منوط بالزعماء السياسيين والمواطنين والنظم القانونية لأقل البلدان نموًّا، أن يقتلعوا الفساد والجريمة المنظمة واسعة النطاق، اللذين كثيرًا ما يحدثان، ليس عبر عدم كفاءة الحكومة فحسب، وإنما بتواطؤ سلطات الدولة. وأي معلومات ترِد عن أعمال خطرة منافية للقانون يرتكبها مسئولون — بما في ذلك تحويل المعونات عن وجهتها الأصلية بصورة غير قانونية — لا بد من الإبلاغ عنها وتقصِّي أمرها بدقة، ولا بد أن تتأكد السلطات من توزيع المعونات على نحو منصف والإبلاغ عنها كما ينبغي. فمعارضو منح المعونات في الدول المانحة سيقتنصون أي معلومات واردة عن سوء إدارة لتبرير وقف المعونة تمامًا، مهما كانت شدة الحاجة إليها.