فيلكس سوارس
فيلكس سوارس، وأعني بهِ الرجل الطائر الصيت والشهرة، صاحب الأيادي البيضاءِ في كل مأْثرةٍ ومبرَّة، مبتكر المشروعات العظيمة والشركات الجليلة والأعمال النافعة التي أفادت القطر المصري، وفتحت سبل الخير لألوف من الناس على اختلاف مللهم ومذاهبهم، بل هو نابغة الأقران الذين يُشار إليهم بالبنان لجودهِ وسماحتهِ وتواضعهِ ومكارم أخلاقهِ ومبرَّاتهِ حتى كنَّوهُ بأبي الفقراءِ، ولقَّبوهُ جامع الشمل، ومجير الأيتام، وجابر عثرات الكرام.
صاحب هذه الترجمة هو الخواجه فيلكس سوارس ابن المرحوم إسحاق سوارس من عائلة كريمة أثيلة في المجد، وُلد في مصر في ٢٦ طيبت سنة ٥٦٠٣ عبرية/٢٩ ديسمبر سنة ١٨٤٢ ميلادية، وتوفي والدهُ سنة ١٨٤٨ عن خمسة أولاد أكبرهم مُرْدُخ توفي سنة ١٨٦١، وتوفي أخوهُ يعقوب سنة ١٨٦٥، ويوسف سنة ١٩٠٠، وأختهم سنة ١٩٠٢، أما شقيقهُ الهمام الوجيه الخواجه روفائيل سوارس فلا يزال بعون الله ساعدهُ الأيمن في مشروعاتهِ المشكورة، وعمادهُ الأقوى في أعمالهِ المبرورة، بالاشتراك مع حضرات الوجهاءِ الخواجات إخوان رولو الذين لخصنا شيئًا من تاريخهم بغير هذا المكان.
ولم يكن صاحب الترجمة عند وفاة أبيهِ متجاوزًا السادسة من عمرهِ، فاعتنت بهِ والدتهُ المرحومة نظلة سوارس اعتناءً عظيمًا فربَّتهُ على أقوم المبادئ وأشرفها، وأشربتهُ حب الفضيلة والتقوى والاعتماد على النفس، فشبَّ وشاب عالي الهمة مقدامًا تزينهُ حكمة الكهول في سن الشباب وقوة الشباب وإقدامهم على جليل الأعمال في سن الكهولة، وأدخلتهُ والدتهُ إحدى المدارس لتلقي العلوم والمعارف، فأتقن اللغات العربية والفرنسوية والإيطالية، ثم تخرَّج على معلمين خصوصيين، فكانوا يعلمونهُ في منزلهِ، وخرج بعد ذلك إلى معترك الحياة، فكأنهُ بدرٌ ظهر من وراءِ غمام تدفعهُ الآمال السامية والأماني الشريفة وتتَّقد في صدرهِ نار العزم والهمة.
وكان أخوهُ المرحوم مردخ يتعاطى التجارة مع المرحوم إبراهيم شماع والد حضرة الخواجه ماركتو شماع، فلما توفي سنة ١٨٦١ دخل خلفهُ صاحب الترجمة شريكًا، وظلَّ كذلك إلى سنة ١٨٧٣، واقترن في تلك السنة بالسيدة ركيتا كريمة المرحوم أصلان بك قطاوي، وشقيقة حضرات يوسف بك أصلان قطاوي، والخواجات جاك وأدولف وإميل وإخوتهم أبناء أخي الوجيهَيْن السريين موسى بك ويوسف بك قطاوي أنجال المرحوم يعقوب بك قطاوي، فرُزق منها أربعة صبيان وخمس بنات.
وفي سنة ١٨٧٢ شرع يظهر جواهر آمالهِ الكبيرة، فشمر عن ساعد الهمة والإقدام، وباشر تأسيس أعمالهِ العظيمة، فأسس في السنة المذكورة محلًّا اشترك فيهِ مع حضرات الخواجات أنريكو نحمان وشقيق حضرة قرينتهِ الخواجه جاك قطاوي دُعي باسم «محل سوارس ونحمان وشركائهم في مصر»، وفي سنة ١٨٧٦ انضمَّ إليهم الخواجات رولو، وبقي اسم المحل كما كان، وأنشئوا في تلك السنة محلًّا في الإسكندرية باسم «الخواجات روبين رولو وأولاده وشركائهم»، ثم أسس محلًّا في مصر سنة ١٨٨٢ باسم «بيت إخوان سوارس وشركائهم»، مع إبقاء محل سوارس ونحمان في مصر على حالهِ، وحوَّل سنة ١٨٨٦ المحلين إلى محلٍّ واحد سماهُ «بيت إخوان سوارس وشركائهم»، وبقي محل الإسكندرية على حالهِ أيضًا.
ولم يقتصر في أثناءِ ذلك على إنشاءِ المحلات التجارية، بل كان آخذًا أيضًا في تأسيس الشركات النافعة، فأسس سنة ١٨٧٦ أول شركة في مصر على شكل بنك سماسرة سماها «الشركة الأهلية»، ولكنها انحلت سنة ١٨٧٧ عند تصفية دين الحكومة المصرية بأرباحٍ طائلة لجميع المساهمين فيها.
وأسس سنة ١٨٨٠ مع شقيقهِ الخواجه روفائيل وشركائهِ البنك العقاري المصري الذي كان ولا يزال مورد خير لمصر وأهلها، ولا تزال أشغالهُ آخذة في النجاح عامًا بعد عامٍ، كما يرى الذي يروم الاطلاع على تاريخ إنشائهِ.
وسنة ١٨٨٢ أنشأ فابريقة السكر بالحوامدية، ولكنها لم تبتدئ بالعمل إلا سنة ١٨٨٣.
وأسس سنة ١٨٨٨ شركة سكة حديد حلوان المشهورة.
وسنة ١٨٩٠ أسس شركة سكة الحديد من أسيوط إلى جرجا، ومد الخطوط الحديدية من دمنهور إلى الرحمانية، ومن شبين الكوم إلى منوف، ومن الفيوم إلى سنورس، وهذه كلها سلمت إلى الحكومة المصرية بعد إتمامها.
وسنة ١٨٩١ اشترى تفتيش الشيخ فضل من الدائرة السنية، وسنة ١٨٩٢ أنشأ شركة السكر وضمَّ إليها فابريقة الحوامدية والشيخ فضل ونجع حمادي، ثم اشترى تفتيش البدرشين من مصلحة الدومين في سنة ١٨٩٤.
وسنة ١٨٩٥ أسس شركة ري الوجه القبلي وباعها فيما بعد لشركة السكر، ومدَّت السكة الحديدية من قنا إلى أسوان في السنة نفسها.
وسنة ١٨٩٦ أسس شركة سكة حديد الشرقية الاقتصادية، وباعها بعد ذلك لشركة سكة حديد الدلتا.
وفي هذه السنة أنشأ الشركة العقارية، وضمَّ إليها تفتيش البدرشين الذي كان من جملة أملاكهِ.
وسنة ١٨٩٧ أسس شركة قومبانية المياه بطنطا.
وسنة ١٨٩٨ أسس شركة الدائرة السنية التي اشترت أراضي الدائرة السنية كلها، وفي السنة عينها أسس شركة البنك الأهلي الذي تفرَّع عنهُ البنك الزراعي سنة ١٩٠٢.
فظاهر مما تقدم أن تاريخ حياة هذا الرجل العالي الهمة كانت سلسلة أعمال عظيمة ومشروعات كبيرة تنوءُ تحتها الهمم والعزائم وتقل في جنبها الحيل والوسائل، ولكن همتهُ كانت قوية وعزيمتهُ شديدة ومداركهُ عالية، فاستطاع أن يتغلَّب على الصعوبات الكبيرة والموانع الكثيرة التي لا بدَّ من وقوعها في كل عملٍ عظيم مثل أعمالهِ العديدة، التي يشتغل بها ألوف من الناس على اختلاف مللهم ونحلهم في سائر أنحاء القطر المصري وفي السودان أيضًا، وكان التوفيق مرافقًا لهُ في كل أعماله ومشروعاتهِ وشركاتهِ الكثيرة التي كان يديرها بعقلهِ الراجح ومداركهِ السامية وذكائهِ المفرط؛ حتى نجحت نجاحًا عظيمًا وجاءت بأرباح طائلة على القطر المصري وأهلهِ، فغيَّرت حالة التجارة وحسَّنت المعاملات وسهَّلت المواصلات، وخفَّفت المشقَّات عن التاجر والصانع والزارع على السواء.
ومما يطيب ذكرهُ في هذا المقام أن معنى كلمة فيلكس بالعربية «سعد»، وهكذا خدم السعد صاحبها فوافق الاسم المسمى في كل أعمالهِ وأفعالهِ.
أما مآثرهُ ومبرَّاتهُ الخيرية، فمما يضيق المقام عن تعدادها، بل يقتضي لها مجلدٌ ضخمٌ، فمنها مساعدتهُ لمستشفى الكلب بمصر وغيرهِ وهو رئيس الشركة الخيرية الإيطالية وغيرها، ولهُ مآثر غرَّاءُ وأيادٍ بيضاءُ على المدارس الخيرية الإسرائيلية وغيرها، ويكسو الفقراءَ كل سنة ويوزع عليهم الهبات، ما عدا الرواتب الشهرية التي يتبرع بها لعدد كبير من البيوت التي أخنى الدهر على أصحابها لينفقوها على معيشتهم ويصلحوا بها من شئونهم، فحسنت أحوالهم وطاب عيشهم ورتعوا في نعيم وهناءٍ، كل ذلك بلا تمييز بين طوائفهم ومللهم.
قال لي مرةً: إن كل مشروعاتي التي باشرتها كان الخير والربح منها ظاهرَيْن أمامي للقطر المصري عمومًا، سواءٌ كان في التجارة أو الصناعة أو الزراعة ومنها سكة حديد حلوان أنشأتها مع زملائي لخير مصر وحلوان وسكانهما ولاعتقادي أن هواءَ حلوان صحي وأن سكة الحديد تفيد الجميع، وتأتي بالغاية التي أرومها لمن يقصدها من السكان والسياح وغيرهم.
وتأخرت مرةً في إحدى ليالي الشتاءِ الباردة في مصر، ثم أتيت محطة حلوان بعد نصف الليل قاصدًا منزلي، فرأيت الخواجه فيلكس سوارس واقفًا ينتظر القطار الآتي من حلوان ليطمئن بالهُ عن صحة ركابهِ، فقلت لهُ: يا خواجه سوارس، إن مصر في احتياج إليك وإلى مشروعاتك العظمى ومجيئك في مثل هذا الوقت قد يضرُّ بصحتك، فأجابني إني جعلت صحتي وحياتي وقفًا لراحة الجمهور، ولما جاءَ القطار ودعتهُ وسافرت إلى حلوان وأنا أتعجب من عالي همتهِ وشدة انتباههِ ويقظتهِ.
وكنت مرةً أذكر لهُ شيئًا عن محفل بدر حلوان الماسوني ومشروعاتهِ الخيرية الجزئية التي يباشرها، فاستأذنته في سفر بعض موظفيهِ ذهابًا وإيابًا بين مصر وحلوان فتبسم، وقال: يا صديقي العزيز، ما دامت وجهتك إلى الخير فهذه سكة حديد حلوان، وهذا قلبي وعواطفي وهذه بنوكي، وأنا مستعد لمساعدتك في كل ما تراهُ صالحًا ومفيدًا لبني الإنسان، فقلت لهُ: إننا لا نريد إلا أن يطيل الله في عمرك لتعمَّ مشروعاتك وأعمالك العظيمة وينتفع بها الجميع.
أما أوصافهُ، فطويل القامة قد وخطهُ الشيب، مهيبٌ في رؤْيتهِ، لطيفٌ في محادثتهِ، بشوشٌ في مقابلتهِ، نحيفٌ في جسمهِ، مُؤَثِّرٌ في كلامهِ، شفوقٌ في عواطفهِ، مندفعٌ في مبرَّاتهِ، بخيلٌ في سيئاتهِ، مسرعٌ في حسناتهِ، جبانٌ في الغضب، حليمٌ في الشدة، شجاعٌ في الخطوب، سريع النسيان في الذنوب، وهو كثير الافتكار عظيم الابتكار، قلَّما يمضي عليه وقت ولا يفتكر فيهِ في عمل عظيم، واسع الرواية، طلق المحيَّا، متواضع عن غير ضعف، ولم تكن ملذات العالم والغنى والجاه والسعد إلا لتزيدهُ دعةً ورقةً وسماحةً، فهو عظيمٌ غنيٌّ عالمٌ فقيرٌ ناسكٌ.
أما نظرهُ إلى الأمور فحادٌّ، ونظر العالم إليهِ فبالاحترام والوقار، وقد أنعمت عليهِ الدول العظمى بنياشين الشرف والافتخار، ولم تكن هذه أيضًا إلا لتزيدهُ تواضعًا وحبًّا بفعل الخير، وكل الذين عاشروهُ وامتزجوا معهُ يشهدون برقة شعورهِ الشريف ومشاركتهم في عواطفهم، فهو يسرُّ لسرورهم، ويحزن لحزنهم، والذين اشتغلوا معهُ سواءٌ كانوا كبارًا أو صغارًا يشهدون أنهُ يضحي كل نفيسٍ في سبيل سرورهم ولا يميز نفسهُ عنهم، وقلَّما رأوهُ يغضب أحدًا أو يهين أحدًا، أو يتعمد أذية إنسان، وكل مشكلة أو قضية أو خصام يحسمها بالمحبة والسلام كما هو مشهور عنهُ، أطال الله أيام حياته وأدامهُ عضدًا للخير والإنسانية.