في نوابغ الإسرائيليين
نشرنا في هذا الفصل ترجمة البعض من الذين عرفناهم وخبرناهم زمنًا طويلًا، ورأينا من براعتهم في أعمالهم وتفننهم في مصالحهم وإخلاصهم في معاملتهم وشهامتهم وكرم أخلاقهم ما أوجب علينا تدوين ملخص تراجمهم؛ لتكون مثالًا جليلًا لطلاب العُلى والفخر من الشبان الأذكياءِ وقدوةً صالحةً لغيرهم من المجتهدين النجباءِ؛ ولكي يتحفنا قراءُ هذا الكتاب بتراجم غيرهم من النوابغ الكرام الذين لم تتيسر لنا معرفتهم لنضيفها إلى الطبعة الثانية إن شاء الله.
(١) فيكتور هراري باشا
هو صاحب السعادة والوجاهة ابن المرحوم روفائيل هراري، وُلد في مصر سنة ١٨٥٧، ونما على فضائل التربية الجيدة، ولما بلغ العاشرة من عمرهِ أُرسل إلى أوروبا لتلقي العلوم في مدارسها، فلبث في مدارس فرنسا وإنكلترا ثماني سنوات نال في أثنائها نصيبًا وافرًا من الآداب والمعارف المهيئة للنجاح، وحظًّا عظيمًا من المبادئِ المقوية للهمم والعزائم، ثم رجع إلى مصر ولبث فيها عدة سنوات يزاول شئون الحياة، ويمارس فنون الحنكة والاختبار، حتى إذا تجلَّت عليهِ أمارات الفضل والكفاءَة دخل في خدمة الحكومة المصرية في أول شهر سبتمبر سنة ١٨٧٦، فأظهر نشاطًا فائقًا واجتهادًا نادرًا، وفي ٢٥ يناير سنة ١٨٨٠ عُين رئيسًا لقلم الموازين في نظارة المالية، وفي ١٨ فبراير سنة ١٨٨٢ عُين ناظرًا لقلم الحسابات بالنظارة نفسها، وفي سنة ١٨٨٣ أنعم عليهِ المغفور لهُ توفيق باشا بالرتبة الثانية جزاءَ إخلاصهِ وعلو همتهِ في خدمة الحكومة، وفي ١٨ مايو سنة ١٨٨٤ عُين ناظرًا لإدارة الخزينة بالمالية، وفي السنة نفسها انتُدب للذهاب مع بلوم باشا بصفة سكرتير لحضور المؤتمر المالي في لندن، فمكث هناك إلى شهر أغسطس من تلك السنة، ثم عاد إلى مصر، وفي ٢٣ أغسطس سنة ١٨٩٠ عُين مديرًا لعموم الحسابات بالمالية بالتوكيل عن مديرها.
وقد انتدبتهُ الحكومة المصرية لإصلاح ميزانية الأوقاف، فأظهر لدى هذه المهمة مقدرة الرجال الأكْفاءِ وحاز شهرة بعيدة بين أقرانهِ ومعارفهِ، ومقامًا رفيعًا في عيون عظماءِ الموظفين وأكابرهم فأجلُّوه قدرهُ ورفعوا مكانتهُ، وخدم الأوقاف أجل خدمة كما يعلم الواقفون على سر أعمالهِ.
وفي ١٠ نوفمبر سنة ١٨٩٠ عُين مراقبًا للحسابات العمومية في الحكومة، وفي ١١ مايو سنة ١٨٩٢ نال الوسام المجيدي الثاني، وفي أول يناير سنة ١٨٩٩ عُين مديرًا لعموم الحسابات المصرية، فقام بهذه الوظيفة المهمة قيام الرجل الخبير المحنك، وفي يناير سنة ١٩٠١ نال رتبة الميرميران الرفيعة، وفي ٣٠ يناير سنة ١٩٠٤ نال العثماني الثاني، وفي صدرهِ الرحب من سامي الرتب والنياشين مثل ما في نفسهِ الكبيرة من سامي الهمم والمدارك.
وهو الآن مندوب الحكومة في البنك الأهلي، ومندوبها أيضًا في البنك الزراعي، وعضو في المجلس الأعلى للمجالس البلدية، وعضو في المجلس الأعلى المختص بالسكك الحديدية الضيقة، ومندوب الحكومة لإصلاح مالية ديوان الأوقاف من سنة ١٨٩٧، ويدير غير ذلك من الأعمال المفيدة العائدة بالخير والنفع على البلاد، وهو يحسن اللغات العربية والفرنسوية والإنكليزية والإيطالية.
(٢) الخواجه أفرايم عداه
الخواجه أفرايم عداه ابن المرحوم إسحاق عداه، وُلد في مصر في سنة ١٨٥٨، ولما ترعرع أُدخل في مدرسة ألفرير فتعلم فيها اللغات العربية والفرنسوية والإيطالية، وكانت مخائل النجابة والذكاءِ ظاهرة عليهِ من صغرهِ، حتى كان الذين يترددون على منزلهم من الأقارب والأصدقاءِ يتوسمون لهُ مستقبلًا حميدًا وطالعًا سعيدًا لما كان يزدان بهِ من رقة الأخلاق واللطف والأدب.
ولبث في المدارس يتلقى العلوم والمعارف لغاية سنة ١٨٧٤، ثم خرج منها لمزاولة الأعمال والتمرُّن على أشغال الحياة وشئونها المختلفة، حتى إذا كانت سنة ١٨٧٧ دخل في وظائف الحكومة المصرية، ففي سنة ١٨٧٨ عُيِّن كاتبًا في قلم مراقبة الإيرادات بنظارة المالية، فأظهر من البراعة والنشاط ما دعا إلى ترقيتهِ، فرُقي في أواخر سنة ١٨٧٩ إلى وظيفة سكرتيرية قلم الموازين، فضبط أشغالها وحساباتها وأحكم العمل فيها، وفي أوائل سنة ١٨٨٢ عُيِّن رئيسًا لقلم الموازين وأُضيف إليهِ أيضًا إدارة قلم المستخدمين، ثم أُحيلت عليهِ أيضًا في السنة نفسها سكرتيرية اللجنة المالية، فأظهر في إدارة هذه الأعمال مقدرة فائقة وجدارة عظيمة، واستعدادًا كافيًا، فرُقي في سنة ١٨٨٣ إلى وظيفة وكيل إدارة الموازين والمستخدمين، وكان رؤساؤُهُ يعجبون بنباهتهِ وبراعتهِ ويثنون على ذكائهِ ونشاطهِ ويتوسمون لهُ مستقبلًا باهرًا، وقد ظلَّ في خدمة الحكومة إلى سنة ١٨٨٦، ولما رأى حاسدوهُ والذين يزاحمونهُ على الوظائف أنه إذا بقي في خدمة الحكومة يكون سببًا لحرمانهم من الترقي والنجاح، لا سيما وأنهُ نال الرتبة الثالثة من الحضرة الخديوية، وأحرز مقامًا رفيعًا في عيون أُولي الشأن، عندما رأوا ذلك أخذوا يختلقون أسبابًا للشر أدَّت إلى انفصالهِ عن خدمة الحكومة، إلا أن عمل أولئك الحاسدين كان سببًا في خيرهِ وسبيلًا لتقدمهِ ماليًّا واستقلالهِ في أعمالهِ، وغير ذلك مما يغنيهِ عن مزاحمة الوظائف الأميرية، وقد أَنِف من العودة إلى خدمة الحكومة بعد أن رأى ما رأى من التعصب عليهِ، ولم يستخدم أقلَّ واسطة للعودة إليها مع شدة إلحاح الناس وطلبهم منهُ التوسط لأولياءِ الأمر بشأنهِ.
وظلَّ بعد ذلك سنتين كاملتين يتعاطى أشغالًا خصوصية بمعزلٍ عن علاقات الناس المتعبة.
وفي ١٠ ديسمبر سنة ١٨٨٨ عُيِّن رئيسًا لحسابات سكة حديد حلوان فبرع في تنظيمها وضبطها، وفي سنة ١٨٩٠ أُحيلت عليهِ إدارة أعمال السكك الحديدية في دمنهور وقنا وأسوان، كما ترى ذلك في ترجمة جناب الخواجه فيلكس سوارس.
وفي ٩ أبريل سنة ١٨٩١ اقترن بالسيدة إستير كريمة جناب الوجيه الخواجه زكيتو جاليكو البنكيير المشهور، فرُزق منها ولدَيْن ذكرَيْن، وُلد الأول في ٢٦ فبراير سنة ١٨٩٢ وسماهُ إدمون، والثاني في ٣ ديسمبر سنة ١٨٩٨، ودعاهُ فرنان.
وفي سنة ١٨٩٣ عُيِّن رئيسًا لمكتب عموم شركة السكر، وفي شهر مايو من السنة نفسها عُيِّن مديرًا لمصلحة سكة حديد حلوان، وفي سنة ١٨٩٦ عُهدت إليهِ إدارة أعمال الشركة العقارية المصرية وغيرها من الأعمال، فأظهر في كل ذلك براعة نادرة المثال، وهو لا يزال إلى الآن قائمًا بشئون أشغالهِ بأمانة واجتهاد لا مزيد عليهما، حتى ليعجب الذين يعرفونهُ كيف يستطيع ضبط الحسابات وتنظيمها مع وفرة الأشغال التي يديرها.
وعلى الجملة فهو نابغةٌ بين أقرانهِ محبوبٌ من قومهِ ومن رجال الطبقة الأولى في فن الحساب وإدارة الأعمال، وعلى جانب عظيم من الحكمة والتدبير وكرم الأخلاق، فلا تعرض عليهِ مشكلة إلا ويصرفها بالمعروف والحسنى، ولا يألو جهدًا في إنجاح الأعمال المنوطة بهِ.
(٣) مرك حييم بيالوبس بك
هو السري الوجيه والشهم الفاضل ابن المرحوم حييم بيالوبس، وُلد في مصر في ٥ مارس سنة ١٨٦٢، وكان والدهُ — رحمهُ الله — وجيهًا في قومهِ، حكيمًا في عملهِ وعلمهِ، وكان من رأيهِ أن التربية الصحيحة هي الأساس الوحيد لسعادة الإنسان في هذه الدنيا؛ ولذلك اعتنى بتربية ولدهِ وتهذيب أخلاقهِ اعتناءً فائقًا، ولما بلغ السابعة من عمرهِ أدخلهُ في إحدى مدارس مصر المشهورة ليتغذى بلبان المعارف والتهذيب، فمكث فيها خمس سنوات أظهر في خلالها من الذكاءِ والنجابة وتوقد الذهن ما جعلهُ قدوةً لأقرانهِ التلامذة، وموضوع إعجاب المعلمين والأساتذة، وفي سنة ١٨٧٥ أرسلهُ والدهُ إلى باريس لإتمام علومهِ في أشهر مدارسها، فلبث هناك خمس سنوات حاز فيها قصب السبق على أقرانهِ بالذكاءِ والنباهة والاجتهاد، ونال شهادة البكالورية في العلوم والفنون من مدرسة باريس الجامعة في سنة ١٨٧٩، وعاد في السنة نفسها إلى القطر المصري مزوَّدًا بالعلم والمعرفة ومملوءًا همةً ونشاطًا، وحائزًا على جانب عظيم من دماثة الأخلاق ورفيع المبادئِ والخصال، ومن ثَمَّ أخذ في طريق المجد والفخار، وجعل يجني ثمار اجتهادهِ ونشاطهِ، فانخرط في خدمة الحكومة المصرية، وعُيِّن كاتبًا إفرنجيًّا في مصلحة قومسيون الأراضي الأميرية في ٢٩ يوليو سنة ١٨٨٠، فقام بهذه الوظيفة قيام الشاب المجتهد الذي ينظر إلى المستقبل نظر الحكيم الخبير المحنك، وكانت أفكارهُ السامية وآمالهُ البعيدة تنهض بهِ إلى السعي في مقام أرفع من هذه الوظيفة، وكانت نفسهُ الكبيرة تحدثهُ دائمًا بأنها لم تُخلق لمثلهِ ولم يُخلق هو لمثلها، فاستقال في أوائل سنة ١٨٨٤ من منصبهِ، وعُيِّن في نظارة المالية بوظيفة أرقى من الأولى وأرفع منزلةً، فأظهر فيها مقدرةً على الأعمال الكبيرة ونشاطًا نادر المثال، مما دعا أولي الشأن إلى ترقيتهِ وتنشيطهِ، وفي سنة ١٨٨٧ عُيِّن وكيلًا لرئيس قلم المحاسبة في نظارة الحربية، فكانت لهُ الأيادي البيضاء في ترتيب حسابات تلك النظارة وتنسيقها على أحسن نمط وأرقى نظام، وفي شهر يناير سنة ١٨٨٧ أنعم عليهِ المغفور لهُ توفيق باشا خديوي مصر بالنشان العثماني الرابع، وفي ١٨ يوليو سنة ١٨٩٠ أنعم عليهِ أيضًا بالرتبة الثالثة مكافأةً لهُ على همتهِ ونشاطهِ وحسن مباديهِ، وفي سنة ١٨٩٥ عُيِّن رئيسًا لقلم السكرتارية المالية بنظارة الحربية، وفي ٢٢ أبريل من السنة نفسها أُنعم عليهِ بالرتبة الثانية الرفيعة الشأن، وفي سنة ١٨٩٧ عُيِّن وكيلًا لإدارة السكرتارية المذكورة، وفي سنة ١٩٠١ انتُخب ناظرًا لها؛ نظرًا لما أتاهُ من الاقتدار على جليل الأعمال المالية فيما يختص بحسابات الجيش ومصالح السودان المختلفة قبل أن تستقل بذاتها، وفي شهر يناير من هذه السنة نفسها أنعم عليهِ الجناب العالي الخديوي بالنشان المجيدي من الدرجة الثالثة.
وقد اشتهر صاحب الترجمة بكرم أخلاقهِ ولين عريكتهِ وعلو همتهِ وحسن معاملتهِ لمرءُوسيهِ الذين يحبونهُ ويحترمونهُ؛ نظرًا لشفقتهِ وإخلاصهِ كأنهُ أبٌ شفوق عليهم غيور على نجاحهم وترقيتهم.
وهو يحسن القراءة والكتابة جيدًا في اللغات العربية والفرنسوية والإنكليزية والإيطالية.
وقد كان زواجهُ في ٨ ديسمبر سنة ١٨٩١ ورزقهُ الله ولدًا في ٢١ مايو سنة ١٨٩٣ سماهُ فيكتور، وولدًا آخر في ١٢ مايو سنة ١٨٩٤ دعاهُ أندريا، وثالثًا في ٢٠ يوليو سنة ١٨٩٨ سماهُ جرمن، ووُلد لهُ ابنةٌ في ٢ مايو سنة ١٩٠٢ دعاها لوسين، وقد اتبع خطوات المرحوم والدهِ في تربية أولادهِ التربية الصالحة، وتهذيب طباعهم على المبادئ القويمة.
(٤) التفات
وقد اشتهر ما بين نوابغ الإسرائيليين كثيرون لم تساعدنا الأحوال على نشر شيءٍ من تراجمهم؛ ولذلك نشير إلى بعضهم مثل حضرة الخواجه إيلي كورييل في بنك الأنجلو، والخواجه بخور نجار في البنك الأهلي، والمسيو شبتاي، والمسيو لوساتو في البنك المصري، والمسيو كاتسينيو في البنك العثماني، وأصحاب المحلات الشهيرة والأعيان كالخواجات إفرايم ليفي وبلاتشي ومراتشي وروصانو وفيكتور عمار وإلكسندر داليكو وإخوان زجدون ونجار وعفيف وموسى ونسيم جرين وإخوان سبيعو، وإخوان أشير، وحضرة الدكتور شمعون مويال، وقرينته الفاضلة السيدة إستير وغيرهم، وعسى أن نتوفق في المستقبل إلى الكتابة عنهم بما يخلد لهم الذكر الجميل، ويجعل للآخرين غيرة للاقتداء بأعمالهم.