في الأمة الإسرائيلية
مرَّ على الأمة الإسرائيلية أدهارٌ طويلة، وهي تضرب في أنحاءِ الأرض هائمة على وجهها لا يستقرُّ لها قرار، ولا يهدأُ لها بالٌ من شدة ما انتابها من نوازل الأقدار التي هدمت أركان عزها، وقوَّضت دعائم مجدها، وذهبت بدولتها الرفيعة الشأن حتى تفرَّق شمل اليهود في جميع الأمصار، ولكنها كانت مع كل ذلك على رغم الدهر دائبةً في لَمِّ شعثها وجمع كلمتها وضم جامعتها، تدافع عن كيانها بالصبر وثبات الجأْش، والرضوخ لأحكام الأقدار، فلا تقعد عن عملٍ يلوح لها فيهِ بارقة أملٍ للوصول إلى غايتها الشريفة، ولا تألو جهدًا في كل ما يَئُول إلى خيرها ونفعها، شأن الأمم الحية النامية التي لا تملُّ من مقاومة العقبات وإزالة العثرات، ولا تكلُّ من مقارعة الحوادث والنكبات، فهي نابغة سائر الأمم على الإطلاق بما خصها الله من الذكاءِ وصدق العزيمة الذي حفظت بهِ حياتها كل هذه الأدهار الطويلة، وهي لا جامعة لها تجمعها، ولا وطن لها يضمها، ولا راية تظللها، ولا ملك يدير شئونها، ولا دولة تدافع عن حقوقها، ولا حكومة تعطف عليها، ولا شعب يميل إلى مؤاساتها، بل كانت منفردةً في جهادها، وحيدةً في سعيها واجتهادها، وكانت الأمم تمقتها وتخفض من شأنها، وتغضُّ من كرامتها، وتنظر إليها بعين الازدراءِ، وتعامل أفرادها معاملة الأذلاءِ، وهي لا ذنب لها سوى ما اشتهر عنها من الذكاءِ النادر المثال والدهاءِ البعيد المنال، وهما الخلتان العظيمتان اللتان عُرِفت بهما هذه الأمة الكريمة، واستطاعت أن تحافظ بهما على وجودها كل هذه المدة الطويلة.
وكأنَّ الأمم في العصور الماضية أكبرت ذكاءَ هذه الأمة وهالها شدة محبة أفرادها بعضهم لبعض، واقتدارها على انتهاز الفرص المقوية لحياتها على ما هي عليهِ من الضعف وتشتيت الشمل، فانقلبت عليها بالحسد والغيرة، وجعلت ترميها بالتهم الشنيعة وتعاملها بالاضطهاد والعنف، وتشيع عنها الأخبار المهيجة للخواطر والأفكار، وتلفق الإشاعات والأكاذيب والمفتريات، وكان الجهل ضاربًا أطنابهُ في تلك العصور المظلمة، فكان الناس يتلقَّون تلك الإشاعات وينزلونها منازل الحقائق الراهنة، ويتحدثون بها في الأندية والمجتمعات، ويبالغون في تنميق أحاديثهم عنها ويضيفون إليها ما شاءُوا من الأكاذيب والمفتريات، ومن ثَمَّ أخذت تلك الأوهام ترسخ في العقول وتوغر الصدور حتى قامت قيامة الدنيا على هذه الأمة، وأخذ الجهلاءُ الأغبياءُ يصبُّون عليها من صواعق غضبهم وحقدهم وانتقامهم ما لو صُبَّ على جبال راسخة لدكها وغادرها هباءً منثورًا، ولكنها كانت تتلقى كل ذلك بالصبر وتتقيهِ بالمهاجرة والرحيل من أرض إلى أخرى، متخذة من ذكائها نبراسًا ينير ظلمات حياتها المدلهمة.
فمن تلك الإشاعات والمفتريات تهمةٌ وقعت على هذه الأمة ظلمًا وعدوانًا وأوغرت صدور جهلاءِ الأمم عليها، وزادت بغضهم لها وكراهتهم بها، وهي أن اليهود يذبحون أطفال النصارى ويستنزفون دماءَهم ويمزجونهُ بالخمير، ولعلَّ هذه التهمة الفظيعة كانت السبب الأقوى فيما انتابهم من أنواع المظالم والمغارم، وقد يكفي لنفي هذه التهمة أن الأمة الإسرائيلية اشتهرت شهرة عظيمة بالمحافظة على معتقداتها الدينية، واتباع ما جاءَ في كتبها الإلهية من تحريم الدم وغيرهِ من المحرمات، كما علمت من الفصول المتقدمة في هذا الكتاب، وليس تحت السماءِ شعبٌ حافظ على قوانين دينهِ مثل هذا الشعب، فكيف يعقل أنهُ يقدم على إهراق الدماءِ البريئة ولهُ من زواجر كتبهِ المنزَّلة ما يمنعهُ عن ذلك وينذرهُ بسوءِ المصير، ولكن أبى الدهر إلا أن تتسلَّط الأوهام على العقول الضعيفة حتى في إبَّان تلقيها للحقائق، فإنك لا تجد عاقلًا يتجاسر على إثبات هذه التهمة الفظيعة التي طواها التمدن في سجل الخرافات القديمة، ونادى العلم ببطلانها مرارًا عديدة.
هذا ولم يمرَّ بالأمة الإسرائيلية زمنٌ كثر فيهِ أنصارها وظهر مجدها وفخارها مثل هذا الزمن المستنير بأنوار العلم والمعرفة، والمستضيءِ بأنوار التمدن والحضارة، فإن العالم المتمدن بأسرهِ يميل إليها ويرفع قدرها ويخطب ودها ويدافع عنها، وذلك أعظم فوز أحرزتهُ هذه الأمة بعد جهادها الطويل وأفضل نعمة نالتها بعد الصبر الجميل، بل هو أعظم برهان وأقوى حجة على براءَتها من التهم التي نُسبت إليها قديمًا وحديثًا، كما في حوادث الجزائر وكتشنيف وغيرهما.
ولعلَّ الشرقيين يجهلون أن للإسرائيليين في أوروبا وأميركا حظًّا وافرًا من العلم والمعرفة، وأنهم منذ ارتفع الظلم عنهم واعترفت الأمم بحقوقهم في المساواة أخذوا يسابقون مواطنيهم في حلبة الحضارة، فلهم في ألمانيا وهولندا وإنكلترا الساسة والعلماءُ والموسيقيون والفلاسفة والمحامون والكُتَّاب والخطباءُ والممثلون والمعلمون والأساتذة، هذا فضلًا عن مقامهم المالي المشهور الذي وضعهم في منزلة رفيعة، وكيف لا يكون ذلك ولهم بيت روتشيلد وكاسل وغيرهما رجالٌ يُعدُّون في مقدمة ماليي العالم، فضلًا عن أنهم في مقدمة مثريهِ.
ولو نال الإسرائيليون حقهم من المساواة منذ زمان طويل لسبقوا سائر الملل في فروع العلم والتجارة والصناعة، وهذا هو الذي حرَّك عليهم جيرانهم منذ عهد طويل، فأخذوا ينتحلون الأسباب الوهمية لقطع دابرهم، والتخلص من مناظرتهم للاستئثار بموارد الغنى التي كانوا يردونها.
ولا نرى مسوغًا للناس اضطهاد اليهود لذكائهم ومقدرتهم في الأعمال، كما أننا لا نرى وجهًا لقبول هذه الخرافات التي يشيعها الجهلاءُ وذوو المآرب عنهم، ولا نعلم أن تهمةً واحدةً مما اتُّهموا بهِ كانت صحيحة، أو أن التحقيق كشف عن جريمة لهم، ولا عبرة بما يقال عنهم إنهم يخرسون الألسنة بنضارهم، إذ لا يصدق أن ليس بين جميع قضاة الأرض رجل عادل يترفع عن الرشوة، ويأبى أن يبيع ذمتهُ بمالٍ كثير أو قليل.
والخلاصة أن اليهود كغيرهم من البشر في عواطفهم وأميالهم وأخلاقهم، فيهم الصالح والطالح والطيب والخبيث، فمن الظلم أن يسري حكم واحد على الأمة بأسرها اعتمادًا على ما يُرى من بعض أفرادها، ولا يستطيع العاقل المنصف إلا الإعجاب باجتهاد هذه الأمة وحكمتها وصبرها، وما في قلوب كبارها من عواطف الحنان والشفقة والرحمة، فيبذلون أموالهم في إسعاف البائسين والمساكين من أبناءِ ملتهم وغيرها، كما يُرى في مصر وفي سائر أنحاءِ العالم.
وعندنا أن اليهود لا ينالون حقهم بين الأمم إلا متى استنارت البصائر بنور العلم الحقيقي، وعلم الناس أن الرجل يُقاس بأخلاقهِ وأفعالهِ لا بمذهبهِ ومعتقدهِ، وأن الأمة تتألف من الأفراد، وأن لكل أمة دليلًا يرشدنا إلى طبائعها وأخلاقها وأحوالها، ومن العبث اتهام أمة بأسرها تهمًا فظيعة لا أصل لها، أو نسبة أمور إليها تكذبها عادات تلك الأمة وأخلاقها وتاريخها.