بعد الخروج
- القسم الأول: من الخروج من مصر إلى تأسيس مملكة شاول، أي: من ١٤٩١–١٩٠٥ قبل الميلاد، الموافقة سنة ٢٤٤٨ إلى سنة ٢٨٨٢ عبرية.
- القسم الثاني: من تأسيس المملكة إلى انقسامها إلى مملكتي يهوذا وإسرائيل من ١٠٩٥–٩٧٥ق.م، الموافقة سنة ٢٨٨٢ إلى سنة ٢٩٦٤ عبرية.
- القسم الثالث: من انقسام المملكتين إلى السبي إلى بابل، أي: سنة خراب بيت المقدس الأول من ٩٧٥–٥٨٨ق.م، الموافقة سنة ٢٩٦٤ إلى سنة ٣٣٣٨ عبرية.
- القسم الرابع: من السبي إلى بابل إلى الفتح الروماني، أي سنة بناءِ بيت المقدس ثانيةً ٥٨٨–٦٣ق.م، الموافقة سنة ٣٣٣٨ إلى سنة ٣٤٠٨.
- القسم الخامس: من الفتح الروماني إلى خراب أورشليم، أي: سنة خراب بيت المقدس الثاني ٦٣ق.م–٧٠ بعد الميلاد، الموافقة سنة ٣٤٠٨ إلى سنة ٣٨٢٨ عبرية.
- القسم السادس: من خراب أورشليم إلى عصرنا الحاضر، أي: من حين شقوا عصا الطاعة على الرومان، فأتاهم فسبسيان وابنهُ تيطس فأخربا أورشليم ودكَّا معاقلها وحصونها، ومزَّقا شمل اليهود كل ممزَّق، فتفرقوا في بلاد الله وانتشروا في أطراف الأرض.
(١) القسم الأول
فلما خرج الإسرائيليون من مصر وعبروا البحر الأحمر ساروا في البرية الواقعة جنوبي فلسطين نحو أربعين سنة أنزل الله في خلالها الشريعة على موسى، فبيَّن فيها كيفية عبادتهِ وشرح لهم معاملاتهم وأعيادهم ومواسمهم وذبائحهم وتقدماتهم وأنواع الجرائم والذنوب والقصاص الذي ينال من يقترف هذه الذنوب والجرائم كما ستراهُ مفصلًا في بابهِ، وأهم ما أُنزل على موسى في طور سيناءَ الوصايا العشر التي يصح اتخاذها بمثابة دستور لعقائدهم وقاعدة لإيمانهم، وسنأتي على ذكرها في الكلام على ديانتهم.
وأصابهم في مدة تيههم هذا أمور ومحن كثيرة يضيق بنا المقام عن استيفائهما أخصها فناءُ الجيل الذي خرج من مصر إلا رجلين فقط وقيامهم على موسى وهارون أخيهِ يطلبون العودة إلى مصر واطراحهم عبادة الله والاستعاضة منها بعبادة الأوثان، فنزلت بهم الضربات والأمراض حتى تابوا، ولما صاروا على مقربة من أرض الموعد توفي موسى وعهد بالقيادة إلى يوشع بن نون غلامهِ، فدخل هذا بالإسرائيليين إلى أرض فلسطين من الجهة الشرقية وحارب الأمم المقيمة فيها، فغلبهم على ملكهم واستباحهم قتلًا ونهبًا وقسم أرضهم بين جزءٍ من شعبهِ، ثم عبر الأردن وحارب من بقي من شعوب كنعان السبعة، فغلبهم أيضًا، وهكذا حتى انتشر الإسرائيليون في أكثر الأرض واستعبدوا أهلها.
ولمَّا مات يوشع تولَّى أمورهم قضاة منهم نشئوا فيهم واشتهروا بأعمالهم الحربية وبسالتهم، فكانوا يفصلون الخصومات بين الشعب أيام السلم ويتولون الأحكام ويدفعون عنهُ شر الغزاة الذين كانوا يغيرون على البلاد آونة بعد أخرى.
وبلغ عدد هؤلاءِ القضاة ١٥ أولهم عثنئيل الذي خلَّص الإسرائيليين من ملك آرام النهرين وآخرهم صموئيل الذي كان نبي الله وهو الذي خلصهم من قبضة الفلسطينيين، ومن أشهر هؤلاء القضاة أهود وشمجر وباراق وجدعون ويفتاح وشمشون الجبار، وسيأتي الكلام على بعضهم في ذكر مشاهير اليهود من الجبابرة وغيرهم، وكانت مدة حكم هؤلاء القضاة بعد موت يشوع ٤٥٠ سنة كانت البلاد فيها أشبه شيءٍ بولايات متحدة في كل ولاية سبط من الأسباط الاثني عشر يحكمهُ كبار العشائر فيهِ، وهذه الأسباط جميعًا مرتبطة برباط واحد أعني بهِ عبادة الإله الواحد والاتحاد معًا في دفع العدو المفاجئِ أو رد الغزاة، وكانوا يشتركون في الحفلات الدينية الكبرى على أنهم كثيرًا ما ارتدوا عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، وفي التوراة أن ذلك كان سببًا لتسلط الأجانب عليهم، فكان لهم من قضاتهم هؤلاء قوَّاد يلمون شعثهم ويجمعون شملهم ويسيرون بهم إلى الحرب، فيطردون الأجانب ويطهرون البلاد من الأرجاس والأدناس، ولم يكن لهم شيءٌ من امتيازات الملوك ولا أبهتهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها عادوا إلى بيوتهم وعاد الشعب كلٌّ إلى مدينتهِ أو قريتهِ، ومن القضاة من انحصر عملهُ في رد غارة أو دفع عدو، ومنهم من تولَّى الحكم طول حياتهِ لحكمة فيهِ وخبرةٍ ميَّزتاهُ عن بني عصرهِ، فاعترف لهُ الإسرائيليون بالولاية وفرغوا إليهِ في فض مشاكلهم وحسم منازعاتهم فيقضي بينهم بحسب شريعة الله وبحسب ما يوحيهِ إليهِ التقليد والعقل السليم.
(٢) القسم الثاني
(٢-١) الملوك
تأسست الملكية اليهودية سنة ١٠٩٥ق.م، وانتهت بسبي اليهود وخلع صدقيا آخر ملوكهم سنة ٥٨٨ق.م، فتكون مدتها ٥٠٩ سنوات.
وبعد أن مسح صموئيل شاول وأقنعهُ أنهُ سيكون ملكًا على إسرائيل ذهب إلى المصفاة، وهي مكان اجتماعهم العام وأرسل فدعا الشعب ليوافوهُ إليها، فلما اجتمعوا أعلن لهم اختيارهُ شاول ملكًا عليهم ثم أوقفهُ بينهم، فإذا به أطولهم قامةً، ففرح بهِ الشعب ونادوا بهِ ملكًا عليهم، ولم يطل بهِ الأمر حتى ظفر بالعمونيين فتضاعف سرور الشعب بهِ لذلك، وبالغوا في إكرامهِ وعيَّدوا عيدًا لجلوسهِ ذبحوا فيهِ الذبائح وأقاموا الألعاب، وأمرهُ الله أن يحارب العمالقة ووعدهُ بأن يدفعهم إلى يدهِ وأمرهُ أن لا يبقي على أحدٍ منهم، وأن يبيد جميع مواشيهم فحاربهم وانتصر عليهم، لكنهُ عفا عن ملكهم أجاج ولم يخرم الغنم والبقر والماشية، فغضب الله عليهِ ونزع منهُ الملك وأعطاهُ لداود.
ثم أُصيب بالسويداءِ فتبدَّلت أخلاقهُ واستولت عليهِ الهموم والمخاوف، فأضاع رشدهُ وحدث في أخريات أيامه أن الفلسطينيين جيران اليهود وأعداءَهم الألدَّاءُ جمعوا جيشًا كثيفًا وتقدموا يريدون غزاة الإسرائيليين، فلقيهم شاول بجموعهِ وهو يحسب لتلك الحرب ألف حساب ولمَّا التحم الفريقان انكسر الإسرائيليون وقُتل أبناءُ شاول الثلاثة وجرحَ جرحًا بليغًا، فلما خشي أن يقع في الأسر سقط على سيفهِ فمات، وانهزم الإسرائيليون شرَّ هزيمة.
وبقي شاول ملكًا إلى يوم قتلهِ فحكمهُ منفردًا دام سنتين فقط.
وتولَّى الملك بعدهُ داود وهو النبي الشاعر والبطل الباسل صاحب جليات جبَّار الفلسطينيين الذي أذاق الإسرائيليين مرارة الذل وهو يدعو فرسانهم وجبابرتهم كل يوم إلى النزال، وقد ارتعدت فرائص الأبطال منهُ فنازلهُ داود بمقلاعهِ ورماهُ بحجر فقتلهُ بهِ، ثم انقضَّ عليهِ فاحتزَّ رأسهُ وأنقذ الإسرائيليين، وصاهر شاول بعدئذٍ فتزوج ابنتهُ، وخطب يوناثان ابن شاول ودَّهُ فعاشا صديقين حميمين أو أخوين حبيبين حتى ضُربت بصداقتهما الأمثال، ولما سقط يوناثان قتيلًا رثاهُ داود بأرق المراثي وأشجاها وبكى عليهِ بكاءً مرًّا، وملك داود سبع سنين ونصف سنة في حبرون (الخليل) على سبط يهوذا، ثم استولى على ما بقي من المملكة وحارب سكان أورشليم وهي بيت المقدس فقهر أهلها اليبوسيين، وامتلكها فجعلها عاصمة ملكهِ وبنى فيها المباني الفاخرة وشاد الحصون المنيعة، فصارت مباءَة الأسرة المالكة ومركز عبادة اليهود، وهي مهوى أفئدتهم اليوم، كما أنها قبلة أنظار المسيحيين.
وحارب داود الأمم المجاورة لبلادهِ، فظفر بهم في جميع مواقعهِ، فعظم شأنهُ وانتشرت صولتهُ وامتدت هيبتهُ في البلاد وسعدت أرض إسرائيل في أيامهِ، ثم ثار عليه أحد أبنائهِ فحاربهُ داود وغلبهُ، وعقب ذلك فتنتان أُخريان كان الظفر فيهما لهُ، وقبل موتهِ عهد بالملك إلى ابنهِ سليمان وأوصاهُ ببناءِ الهيكل وخلف بين يديهِ الأموال الطائلة والعدَّة الكثيرة لبنائهِ، وكانت مدة ملكهِ نحو إحدى وأربعين سنة، وعلى قمة جبل صهيون اليوم بناءٌ يسمَّى قبر داود.
وكان شاعرًا موسيقيًّا اتخذهُ شاول ضارب عود في بيتهِ أيام أُصيب بالسويداءِ، وقد نظم الجزءُ الأكبر من المزامير وهي آيات في البلاغة والبساطة والرقة، ولا تزال على قِدَم عهدها وكثرة المنظومات الدينية بعدها منتشرة بين اليهود والنصارى يكثرون من قراءتها، ويطربون لبلاغتها حتى إن بعض طوائف الإنجيليين لا يترنمون في معابدهم إلا بها.
وظلَّت مملكة إسرائيل في الوجود نحن مائتين وخمسين سنة تولَّى عرشها في خلالها ٢١ ملكًا، وفي سنة ٧٤٠ق.م، سبى تغلث فلأسر ملك آشور الأسباط الساكنة شرق الأردن، وهي رءُوبين وجاد ومنسَّى، وفي سنة ٧٢١ق.م، غزا سرجون ملك آشور مملكة إسرائيل فاستولى على السامرة وسبى الأسباط الباقية وأجلاهم عن أوطانهم إلى ما وراء الفرات، وهكذا انقضى أجل تلك المملكة فلم يقم لها قائمة بعدها.
أما مملكة يهوذا فعاشت أكثر من أختها وتعاقب عليها ٢١ ملكًا، فحاربها سنحاريب ملك آشور سنة ٧١٣ق.م، وارتدَّ عنها خائبًا بعد أن هلك أكثر جيشهِ، ثمَّ غزاها الآشوريون ثانيةً سنة ٦٧٧ق.م، فتغلبوا عليها وأسروا الملك منسَّى ونقلوهُ إلى بابل، وفي سنة ٦١٠ق.م اجتاحها نخو فرعون مصر فظفر بجيوشها وقتل ملكها يوشيَّا، وكان اضمحلالها على يد نبوخذ نصَّر ملك بابل المشهور؛ فإنَّ هذا الغازي جاءَها سنة ٦٠٦ق.م فاستولى على أورشليم وصارت مملكة يهوذا تؤدي لهُ الجزية، ولكنَّ الملك يهوياقيم ثار عليه، فأعاد عليهم الكرَّة سنة ٥٩٩ وأجلى منهم عشرة آلاف أسير من أعيانهم وأشرافهم، وحمل كنوز الهيكل والبلاط الملوكي وتحفهما، ثم إن صدقيا ملك يهوذا ثار عليهِ سنة ٥٩٣ فعيل صبرهُ وعزم على خراب تلك البلاد فأتاها سنة ٥٨٨، فأخذ أورشليم ونهبها وهدم أسوارها وأحرق الهيكل واستاق الشعب إلى الأسر في بابل، وظلَّت الأرض خرابًا خمسين سنة، فكانت مدة مملكة يهوذا نحو أربعمائة سنة.
اسم الملك | مدة حكمهِ | تاريخ عبري | من عاصرهُ من ملوك الأمم الأخرى | سنة قيامهِ قبل الميلاد | |
---|---|---|---|---|---|
من سنة | إلى سنة | ||||
رحبعام | ١٧ سنة | ٢٩٦٤ | ٢٩٨١ | شيشق ملك مصر | ٩٧٥ |
ابياه | ٣ سنين | ٢٩٨١ | ٢٩٨٣ | ٩٥٨ | |
آسا | ٤١ سنة | ٢٩٨٣ | ٣٠٢٤ | زارح الحبشي | ٩٥٥ |
يهوشافاط | ٢٥ سنة | ٣٠٢٤ | ٣٠٤٧ | ٩١٤ | |
يهورام | ٨ سنين | ٣٠٤٧ | ٣٠٥٥ | بنهدد الثاني | ٨٩٨ |
أخزْيا | سنة واحدة | ٣٠٥٥ | ٣٠٥٦ | ٨٨٥ | |
عَثَلْيا* | ٦ سنين | ٣٠٥٦ | ٣٠٦١ | ٨٨٤ | |
يوآش | ٤٠ سنة | ٣٠٦١ | ٣١٠٠ | ٨٧٨ | |
امَصيا | ٢٩ سنة | ٣١٠٠ | ٣١٢٩ | ٨٢٨ | |
عوزياه† | ٥٢ سنة | ٣١٢٩ | ٣١٦٧ | ٨١٠ | |
يوثام | ١٦ سنة | ٣١٦٧ | ٣١٨٣ | ٧٥٨ | |
آحاز | ١٦ سنة | ٣١٨٣ | ٣١٩٩ | رزون ملك أرام | ٧٤١ |
حزقيا | ٢٩ سنة | ٣١٩٩ | ٣٢٢٨ | سنحاريب ملك آشور | ٧٢٦ |
منسى | ٥٥ سنة | ٣٢٢٨ | ٣٢٨٤ | ٦٩٧ | |
آمون | سنتان | ٣٢٨٤ | ٣٢٨٥ | ٦٤٢ | |
يوشيَّا | ٣١ سنة | ٣٢٨٥ | ٣٣١٦ | فرعون نخو ملك مصر | ٦٤٠ |
يهوآحاز | ٣ أشهر | ٦٠٩ | |||
يهوياقيم | ١١ سنة | ٣٣١٦ | ٣٣٢٧ | نبوخذ نصَّر ملك بابل | ٦٠٩ |
يهوياكين | ٣ أشهر | ٣٣٢٧ | نبوخذ نصَّر ملك بابل | ٥٩٨ | |
صدقيا | ١١ سنة | ٣٣٢٧ | ٣٣٣٨ | نبوخذ نصَّر ملك بابل | ٥٩٨ |
اسم الملك | مدة حكمهِ | تاريخ عبري | من عاصرهُ من ملوك الأمم الأخرى | سنة قيامهِ قبل الميلاد | |
---|---|---|---|---|---|
من سنة | إلى سنة | ||||
يربعام | ٢٢ سنة | ٢٩٦٤ | ٢٩٨٥ | ٩٧٥ | |
ناداب | سنتان | ٢٩٨٥ | ٢٩٨٦ | ||
بعشا | ٢٤ سنة | ٢٩٨٦ | ٣٠٠٩ | بنهدد الأول ملك أرام | ٩٥٢ |
ايله | سنتان | ٣٠٠٩ | ٣٠١٠ | ٩٣٠ | |
زمري | ٧ أيام | ٩٢٩ | |||
تبني وعمري | ٥ سنين | ٣٠١٠ | ٣٠١٤ | ٩٢٩ | |
عمري | ٧ سنين | ٣٠١٤ | ٣٠٢٠ | ٩٢٩ | |
أخآب | ٢٢ سنة | ٣٠٢١ | ٣٠٤٢ | ٩١٨ | |
أَحَزْيا | سنتان | ٣٠٤٢ | ٣٠٤٣ | ٨٩٨ | |
يهورام | ١٢ سنة | ٣٠٤٣ | ٣٠٥٤ | ٨٩٦ | |
ياهو بن نمشي | ٢٨ سنة | ٣٠٥٥ | ٣٠٨٣ | حزائيل ملك أرام | ٨٨٤ |
يهوآحاز | ١٧ سنة | ٣٠٨٣ | ٣٠٩٨ | ٨٥٦ | |
بوآش | ١٦ سنة | ٣٠٩٨ | ٣١١٤ | بنهدد الثالث ملك أرام | ٨٤٠ |
يربعام الثاني* | ٤١ سنة | ٣١١٤ | ٣١٥٢ | ||
زكريا | ٦ أشهر | ٧٧٢ | |||
شلوم | شهرٌ واحد | ٣١٥٤ | ٧٧٢ | ||
منحيم | ١٠ سنين | ٣١٥٤ | ٣١٦٤ | فول ملك آشور | ٧٧١ |
فَقَحيا | سنتان | ٣١٦٤ | ٣١٦٦ | ٧٦٠ | |
فقح بن رمليا | ٢٠ سنة | ٣١٦٦ | ٣١٨٦ | تغلث فلاسر ملك آشور | ٧٥٨ |
هوشع | ٩ سنين | ٣١٨٨ | ٣١٩٦ | شلمناصر وسنحاريب | ٧٢٩ |
وقد اشتهر من ملوك إسرائيل يربعام الأول الذي تولى المملكة حين انقسامها، وأخآب بضعفهِ وشر زوجته إيزابل التي خلَّدت شرورها اسمها على أن ملوك يهوذا كانوا في الغالب أفضل من ملوك إسرائيل، وممن اشتهر منهم آسا ويهوشافاط ويوآش وآحاز وحزقيا ويوشيَّا، ولم يكن لهم نظام يتبعونهُ في وراثة المُلْك فقد كان الملك أحيانًا يعين من يخلفهُ أو يولون ابنهُ البكر بعد وفاتهِ أو أحد أفراد الأسرة المالكة، إلَّا إذا تغلَّب على بيت الملك أحد العامة، كما فعل ياهو، فإنهُ صار ملكًا لإسرائيل بعد أن كان قائدًا في الجيش.
وحدث بين المملكتين حروب ومنازعات كثيرة أثارها ما كان بين ملوكها من التنافس وعدم انتظام الملك في كليهما على اطراد، لكن أولئك الملوك كانوا في بعض الأحايين يتعاهدون ويسيرون معًا بجيوشهم إلى الحرب على أنَّ روح المنافسة لم يزل دأْبًا بينهم؛ لأن ملوك إسرائيل كانوا يخشون أن ترتدَّ رعاياهم عنهم إلى ملوك يهوذا بذهابهم للعبادة في هيكل أورشليم، فاتخذ بعضهم جميع الوسائل لحملهم على اطراح تلك العادة، فكانوا تارةً ينصبون لهم الأوثان ليعبدوها وطورًا يمنعونهم عن تأدية فريضة العبادة جبرًا، وهكذا تناثرت عرى الاتحاد والوئام بين الأسباط وازداد الشقاق، فكانت نتيجتهُ ضعف المملكتين وتغلب الأعداءِ والغزاة عليهما الواحدة بعد الأُخرى.
وفي ذلك العصر قام في إسرائيل ويهوذا الأنبياءُ المشهورون الذين صرفوا همهم إلى رد الشعب عن عبادة الأوثان وحضهم على حفظ ديانة آبائهم وأجدادهم، ومن أشهر هؤلاء الأنبياء إيليا الذي يسميهِ النصارى ماري إلياس واليشع وأخبارهما مدونة مع أخبار الملوك في التوراة وأشعيا وأرميا وغيرهما، وقد ترك هؤلاء مواعظ وآيات حكمية ونبوات خاصة بالشعب اليهودي وهي موجودة في كتبهم المعروفة بأسمائهم ويتألف منها أسفار النبوات في العهد القديم.
أما تاريخ الإسرائيليين في منفاهم مدة سبيهم فمأخوذ أكثرهُ من أسفار عزرا ونحميا ودانيال الذين نالوا الحظوة التامة في عيون ملوك بابل حتى صاروا من أكابر موظفي تلك المملكة، ويؤخذ مما ورد في تلك الأسفار أن أكثر المسبيين تابعوا الكلدان في عاداتهم وتخلقوا بأخلاقهم إلَّا فريقًا منهم أبى ترك شعائرهِ وآدابهِ ودينهِ فحافظ عليها تحت خطر الحريق والقتل.
وفي أيام ارتكزركسيس (لوغيامانس) الفارسي عاد جزءٌ من اليهود المتغربين في بابل إلى بلادهم بقيادة عزرا، وذلك سنة ٤٥٨ق.م، وظلَّ عزرا هذا واليًا على البلاد إلى سنة ٤٤٥ق.م.
وجاءَ بعدهُ نحميا فبنى أسوار أورشليم ورمَّم حصونها وأعاد إليها بعض رونقها القديم، وظلَّ واليًا إلى سنة ٤٢٠ق.م، وفيها ينتهي تاريخ اليهود كما هو مدوَّن في التوراة، أما ما بقي من ذلك التاريخ فمأخوذ عن مصادر أُخرى وسنأتي على خلاصتهِ.
وبعد أن فتح الإسكندر غزَّة صعد إلى أورشليم، فخاف يدوس الحبر الأعظم لمَّا بلغهُ ذلك؛ لأنَّ الإسكندر كان قد كتب إليهِ يستنجدهُ وهو يحاصر صور فردَّ إليهِ الجواب أنهُ في طاعة داريوس ولا يستطيع أن يخونهُ ما دامت البلاد لهُ، فأمر الشعب أن يتضرعوا إلى الله؛ لينقذهم منهُ، فأوحى الله إليهِ في حلم أن يتشجع ويزيِّن المدينة ويفتح أبوابها، ويأمر سكانها بلبس الثياب البيضاءِ ويخرج هو والكهنة بلباس الكهنوت فلا ينالهم شرٌّ …
ولمَّا مات الإسكندر في بابل سنة ٣٢٣ انقسمت سلطنتهُ بين أربعة من قوَّادهِ، فكانت اليهودية من نصيب بطليموس ملك مصر فتولى البطالسة حكمها إلى سنة ٢٠٢ق.م، وكانوا يستعملون الكاهن العظيم عليها.
(٢-٢) البطالسة
يظنُّ المؤرخون أن بطليموس الأول الذي تولى حكومة مصر بعد موت الإسكندر ابن غير شرعي لفيلبس المكدوني أبي الإسكندر، فلمَّا مات الإسكندر أسرع إلى مصر فملكها ولم يكد عرشهُ يستقرُّ فيها حتى اشتعلت نيران الحرب بينهُ وبين الملوك المجاورين لهُ، ولما كان عالي الهمة مقدامًا عاجلهم وتغلب عليهم الواحد بعد الآخر، ففي سنة ٣٢٠ق.م حارب ملك سورية وسلخ عنهُ فينيقية والبقاع، ثمَّ هاجم أورشليم واستولى عليها في يوم سبتٍ، ولكنهُ عامل اليهود معاملة حسنة وسبى منهم عددًا كبيرًا إلى مصر وأعطاهم مستعمرة يقيمون فيها، وجاءَ بعضهم إلى الإسكندرية، وكانت مدة حكمهِ من سنة ٣٢٣ق.م–٢٨٥ق.م، وهو الملقب سوتر، أي: المنقذ؛ وذلك لأنهُ رودس من يد ديمتريوس ابن ملك سورية التي نازلها، وكاد يستولي عليها فاتخذهُ الرودسيون إلهًا وعبدوهُ ولقَّبوهُ بهذا اللقب.
وعقبهُ ابنهُ بطليموس الثالث الملقب أفرجيتس، أي: المنعم سمِّي كذلك لأنهُ أعاد إلى المصريين التماثيل التي كان قمبيز قد سلبها من بلادهم يوم استولى عليها فلقَّبهُ المصريون بهذا اللقب، وفي غزوتهِ هذه التي بلغ فيها بابل جاءَ إلى أورشليم ودخل الهيكل فقدَّم فيهِ الذبائح بحسب إرشاد الشريعة، وكانت مدة حكمهِ خمسًا وعشرين سنة، أي: من سنة ٢٤٧–٢٢٢ق.م.
وعقبهُ بطليموس الرابع الملقب فليوباتر، أي: محب الوالدين، لُقِّب كذلك من باب الهزءِ لقتلهِ أمهُ وعمهُ وغيرهما من سلالتهِ، وكان ضعيف العزم والإرادة سيئ السيرة قاسيًا، قضى عمرهُ في سفك الدم، وحارب ملك سورية فانتصر عليهِ، وجاءَ إلى أورشليم ليقدِّم ذبائح الحمد ففعل، ولما أراد أن يدخل قدس الأقداس عارضهُ الكاهن الأعظم فاستاءَ من ذلك، وقيل: إنهُ أُصيب بالفالج عقابًا لهُ فلم ينسَ هذه المعارضة فأساءَ إلى اليهود واضطهدهم، وكان على قساوتهِ وضعفهِ محبًّا للعلوم كأبيهِ وأجدادهِ، وتعاقب على عرش مصر كثيرون من البطالسة، فساءَت أحكام الأواخر منهم حتى أدَّى الأمر إلى مداخلة الرومانيين شيئًا فشيئًا إلى أن استولوا على مصر بأسرها، وانتهى ملك البطالسة بموت كليوباترا عشيقة قيصر وأنطونيوس على يد أوكتافيوس، أي: أغسطس قيصر ابن أخ يوليوس.
(٢-٣) المكابيون
لمَّا وقعت الحرب بين أنطيوخس الكبير ملك سورية وبطليموس الخامس ملك مصر تغلَّب أنطيوخس على اليهودية سنة ١٩٨ق.م، فخضع اليهود لحكمهِ فعاملهم بالتؤَدة والحلم واحترم حقوقهم وفرائضهم الدينية، ودفع ما يجب لخدمة الهيكل فاستراحت البلاد فيما بقي من حكمهِ، وعفا اليهود من دفع الجزية ثلاث سنوات، ولكنَّ ابنهُ أنطيوخس الذي قام بعدهُ سنة ١٧٥ق.م ولقَّب نفسهُ أبيفانيس (أي: الشهير)، ولقَّبهُ غيرهُ أبيمانيس (أي: المجنون) لكثرة إسرافهِ وشرهِ لم يَسِرْ سير أبيهِ مع اليهود، بل أساءَ معاملتهم وباع وظيفة الحبر الصالح أونياس إلى أخيهِ الثالث المسمَّى يشوع بثلاث مائة وستين وزنة من الذهب يقدمها لهُ خراجًا كل سنة، فسمَّى يشوع نفسهُ ياسون، وأدخل بين قومهِ كل عادة ذميمة عند اليونان؛ لأنهُ كان مولعًا بهم وأنشأ في أورشليم ملعبًا وميدانًا كان الشبان يتصارعون فيهِ عراةً حسب عادة اليونان وزاد الكهنة والعامة فسادًا في أيامهِ، حتى إنهُ بعث مع شبان اليهود تقدمة إلى هيكل صور يوم عيد الإله هرقل، وكان لياسون أخ ثانٍ اسمهُ أونياس أيضًا، فدعا نفسهُ منيلاوس، وهو اسم يوناني واشترى من أنطيوخس الرتبة الحبرية بستمائة وستين وزنة، ولما لم يكن عندهُ ما يكفي لوفاءِ ما تعهد بهِ باع قسمًا من آنية الهيكل ودفعهُ إلى أنطيوخس فأحدث ذلك حزنًا عظيمًا في الشعب واضطرابًا شديدًا بينهم، وعند غياب أنطيوخس في مصر سنة ١٧٠ق.م شاع أنهُ مات، فجاء ياسون أخو منيلاوس بألف جندي واستولى على أورشليم وقتل كثيرين وحاصر أخاهُ منيلاوس في البرج، ولكنهُ لم يستطع أن يتسلَّط على المدينة تسلطًا تامًّا، وعاد أنطيوخس من مصر وعلم بما حدث، وأن اليهود سرُّوا لما بلغهم خبر موتهِ فهجم على أورشليم وقتل من أهلها أربعين ألفًا وباع مثل ذلك عبيدًا ممن ظنَّ أنهم ليسوا من حزبهِ، وكان منيلاوس معهُ فأخذهُ إلى المقدس ونزع المذبح والمنارة وسلب الخزانة وكان فيها ألف وثمانمائة وزنة، واستخف بإله إسرائيل فدخل قدس الأقداس وقدم خنزيرة وقودًا على المذبح.
وأقام فيلبس اليوناني أحد أراذل فروغية حاكمًا على اليهودية وأندرونيكس الفاحش رئيسًا على السامرة وأعاد منيلاوس الجاهل كاهنًا عظيمًا وسافر إلى أنطاكية.
وظلَّ فيلبس يظلم اليهود حتى عاد أنطيوخس من مصر رابع مرة سنة ١٦٨ق.م، وصمَّم على الانتقام من اليهود؛ لأنهُ كان لا يزال حاقدًا عليهم، فأرسل القائد أبولُّونيوس ومعهُ عسكرٌ جرارٌ فدخلوا أورشليم يوم السبت، بينما كان اليهود في الصلاة فقتلوا الرجال ونهبوا الأموال، واستعبدوا النساءَ والأولاد وأحرقوا البيوت وهدموا الأسوار واحتلوا برج صهيون، ولم يفلت من بين أيديهم إلا الذين هربوا إلى الجبال والمغاير وبنى هؤلاءِ الأشرار قلعةً على جبل أكرا كانوا يشاهدون منها كل من يدنو من اليهود إلى الهيكل فيهجمون عليهِ ويقتلونهُ.
ولما وصل أنطيوخس إلى أنطاكية أصدر أمرًا إلى سكان ممالكهِ للتديُّن بديانة اليونان، وكل من لا يمتثل أمرهُ يعاقب أشدَّ العقاب وبعث رجلًا لئيمًا اسمهُ أثينيوس ليعلِّم اليهود طريقة عبادة الأصنام، فجاءَ أورشليم وأطاعهُ بعض ضعفاء اليهود وساعدوهُ فأبطل الذبيحة اليومية ومنع طاعة الدين الحق ودنَّس الهيكل بوضعهِ صنم زفس على مذبح الوقود وتقديمهِ الخنازير ذبائح لهُ، وطغى فحرق ما وجدهُ من نسخ التوراة، وأكره اليهود على عبادة الأصنام وعدم حفظ يوم السبت، ومنعهم من ختان أولادهم وتقديس كل شهر وفرائضهِ، وكان يقتل من يخالفهُ بعدما يذيقهُ من العذاب ألوانًا، ولما علم أن امرأتين ختنتا ولديهما علَّق الوالدتين وعلَّق الطفلين بعنقيهما وأماتهما أشنع ميتة، ويروى عنهُ كثير من أمثال هذه الفظائع.
ولما عمَّ البلاءُ وزاد شر أتباع أنطيوخس هرب من أورشليم جماعة من اليهود وفيهم متَّاثيا الكاهن، وكان شيخًا جليلًا من نسل يهوياريب الصالح من سبط لاوي، فجاءَ مع بنيهِ الخمسة: يوحنا وسيمون ويهوذا والعازر ويوناثان إلى وطنهم الأصلي مدينة مُودين في بلاد الفلسطينيين، وكانت عائلة متَّاثيا تلقَّب بالحشمونية، فلما اشتهر ابنهُ يهوذا بشجاعتهِ وحسن تدبيرهِ غلب عليهِ لقب مكابيوس، فنُسِب إليهِ قومهُ فصاروا يسمَّون مكابيين إلى اليوم.
ولما كان متَّاثيا وأولادهُ في مودين تبعهم رجلٌ من رؤساءِ أنطيوخس اسمهُ أبَلَّس وبنى مذبحًا للأوثان وأمر متَّاثيا وسكان مودين أن يمارسوا عبادة الأوثان ويذبحوا لها، وأطاعهُ بعض اليهود فغار متَّاثيا للرب إله السماء والأرض، وهجم بأولادهِ وقتلوا أبَلَّس، والذي رام طاعتهُ من اليهود وهدموا مذبح الأوثان وكسروا الأصنام، ونادوا بوجوب الدفاع عن شريعة الله الطاهرة، فانحاز إليهم كثيرون من أبناء ملتهم المشهورين بالغيرة والأمانة وفرُّوا إلى الجبال، وكان ذلك سنة ١٦٨ق.م، ثم اتفق متَّاثيا مع أبناءِ وطنه ورجع بهم إلى اليهودية، فكسروا جميع مذابح الأوثان، واستأصلوا خدامها في كل المدن التي مرُّوا بها وأعادوا الختان وعبادة الله الحقيقية سنة ١٦٧ق.م، وتقدَّم متاثيا في السن فأقام ابنهُ يهوذا خليفةً له على الجنود اليهودية، فجاءَ يهوذا الباسل بقومهِ الأمناءِ وهاجم الأعداءَ على غير انتظارٍ منهم، فانتصر عليهم وأبلى فيهم بلاءً مرًّا، فاجتمع حولهُ اليهود الصادقون فدرَّبهم على القتال ومقاومة الأعداءِ، وتشجَّع عسكرهُ بعد هذه الغلبة حتى أتى الحرب جهارًا، فالتقى بجنود أنطيوخس في بيت حورون فهزمهم شر هزيمة على قلة عدد رجالهِ.
ولما سمع أنطيوخس بما تمَّ تميَّز غيظًا وصمَّم على إهلاك اليهود، وجعل أورشليم مدفنًا لهم وعيَّن أحد قوادهِ المسمَّى ليسياس وأصحبهُ بجيش جرار، فجاءَ هذا بأربعين ألف راجل وسبعة آلاف فارس أتى منهم نحو عشرين ألفًا إلى عمواس بين يافا وأورشليم، وكان يهوذا (مكابيوس) في مصفاة ومعهُ نحو ستة آلاف مقاتل منهم، وبلغهُ أن فرقةً من الأعداءِ جاءت لتكبسهُ فخاف رجالهُ ولم يبقَ معهُ سوى ثلاثة آلاف، فخطب فيهم قائلًا: من كان خائفًا فليرجع وشجعهم، وجاءَ بهم ليلًا وكبس الأعداءَ في المحلة، فهزمهم إلى نواحي أشدود، ثم رجع فحارب الذين جاءُوا ليبيتوهُ، وكانت قلوبهم قد هلعت لما علموا ما جرى برفاقهم في المحلة فهربوا تاركين أسرى كثيرين، وبينهم جماعة من النخاسين حضروا بمال كثير ليشتروا من يُؤسر من اليهود، فغنم اليهود مالهم وباعوهم عبيدًا.
ثم استولى اليهود على حصون جبل جلعاد المنيعة، وفي السنة التالية قهر يهوذا ليسياس نفسهُ في بيت صورا بين حبرون وأورشليم، وكان مع ليسياس نحو ٦٠٠٠٠ مقاتل فارتد منهزمًا، ثم استولى يهوذا على أورشليم سوى البرج، وطهَّر الهيكل وأقام الخدمة الدينية فيهِ لثلاث سنين منذ ألغاها أنطيوخس، وكان ذلك سنة ١٦٥ق.م، ولما أخذ بعض أمم المجاورة يضايقون من طالتهُ أيديهم من اليهود شنَّ يهوذا الغارة عليهم كالأدوميين وبني عمون فكسرهم وانتقم منهم، ثم سار في جيشٍ إلى عبر الأردن وغلب السوريين في جلعاد، وأخضع البلاد بأسرها ونقل اليهود الساكنين فيها إلى اليهودية بغية حمايتهم، وفي أثناء ذلك بعث أخاهُ سيمون إلى الجليل ومعهُ نحو ٣٠٠٠ راجل فقهر العدو وخلص اليهود من ضيقاتهم، ولكن اليهود الذين في اليهودية انهزموا؛ لأنهم ناوشوا السوريين في غيبة يهوذا بغير أمرهِ توهمًا أنهم قادرون على المحاربة دونهُ، لكنَّ يهوذا عاد فغلب السوريين، ولا ريب في أن نجاح اليهود كان متوقفًا على نباهة يهوذا وبأسه أكثر من غيرهِ.
ومات أنطيوخس الرابع سنة ١٦٤ق.م بعدما أُصيب بمرض مؤلم وانقضت حياتهُ الأثيمة، فلما بلغ ذلك ليسياس نائبهُ نادى بملك ابنهِ الصغير الذي كان استودعهُ إياهُ أباهُ، وكان عمرهُ ١٢ سنة ودُعي أنطيوخس الخامس الملقب بيوباتور وأخذهُ ليسياس معهُ، وسار لنجدة السوريين المحصورين في برج أورشليم، وكان جيشهُ عظيمًا بلغ نحو مائة ألف راجل وعشرين ألف فارس، وكان فيه ٣٢ فيلًا هالت قلوب اليهود، واشتدَّ القتال عند بيت صورا، وكان اليهود قليلين بالنسبة إلى الأعداءِ، لكنهم لم يجبنوا وأظهروا غاية البأس وأبرز العازر أخو يهوذا من الشجاعة ما يقصر عنهُ الوصف فإنهُ هاجم أحد الأفيال، ودخل تحت بطنهِ وطعنهُ بسيفهِ فقتلهُ، لكن الفيل وقع عليهِ فقتلهُ، ومع أن اليهود ثبتوا وأعجبوا في القتال لم يقدروا على قهر الأعداءِ لكثرة عددهم، فارتدُّوا إلى أورشليم وخضع بيت صورا للسوريين وتقدَّم ليسياس وحاصر أورشليم ولم يقدر على افتتاحها حتى سمع بقدوم فيلبس إلى أنطاكية وامتلاكها، فأراد ليسياس مصالحة اليهود؛ لكي يرجع إلى سورية فصالحوهُ إذ كانوا قد أشرفوا على الموت جوعًا وعاهدهم ليسياس بأنهُ لا يضر بهم ويطلق لهم الحرية الدينية ففتحوا الأبواب فدخل السوريون ولم يقوموا بالعهد، فهدموا سور الهيكل وعينوا إنسانًا يقال لهُ: ألْكِيمُس رئيس الكهنة على شرط أنهُ يخضع لهم.
ثم رجع ليسياس وأنطيوخس إلى أنطاكية وقتلا فيلبس وطردا جماعتهُ ونجا ديمتريوس بن سلوقوس من رومية، فجاءَ إلى أنطاكية وقتل ليسياس وأنطيوخس الصغير سنة ١٦٢ق.م، وتولى الملك باسم ديمتريوس الأول ولقب بصوتير، ولما سمع الكيمس بذلك نزل إلى أنطاكية ليسالمهُ فحصل على ما أراد وأغوى ديمتريوس أن يوجه في صحبته قائدًا يسمَّى بكديس في جيش جرار لمقاومة يهوذا في أورشليم، ولما لم ينجح بكديس عاد إلى أنطاكية فجهَّز ديمتريوس جيشًا آخر في مقدمتهِ رجل يسمى نيكانور ولاقاهُ يهوذا وقهرهُ فلاذ القائد بالبرج في أورشليم، إذ كان في أيدي السوريين واستغاث بهم فأمدوهُ فخرج لمحاربة يهوذا، ولم يكن مع يهوذا سوى ألف راجل فاقتتلوا في أداسه في نواحي رمله، واشتد القتال على يهوذا، ولكن الله نصرهُ فقتل نيكانور وكلَّ من معهُ وأُتي برأس القائد وعُلق بسور في أورشليم، أما يهوذا فشاع صيتهُ وطلب معاهدة رومية يومئذٍ فأجابتهُ وكتبت مشيختها إلى ولاتها وأعوانها أن يحترموا اليهود إلا أن ذلك لم يجدِ يهوذًا نفعًا؛ لأن كثيرين من حزبهِ حسبوا استغاثة الوثنيين حرامًا وإهانة لله، وقدم بكديس سنة ١٦١ق.م، في نحو عشرين ألفًا ولم يستطع يهوذا أن يحشد أكثر من ٣٠٠٠ مقاتل، ولما قرب القتال خرجوا عليهِ سوى ٨٠٠ منهم، ومع ذلك لم يخف يهوذا ولحق العدو في نواحي أشدود وحمي وطيس القتال، وثبت اليهود وقتًا طويلًا، وكان آخر الأمر أن نادى يهوذا رجالهُ قائلًا: قد حضر أجلنا فلنمت كالأبطال، فحملوا على ميمنة العدو، حيث بكديس نفسهُ وكسروهُ وطردوهُ، غير أن الميسرة دارت من خلفهم، ولما كانوا قليلين أحاط بهم العدو وقُتِل يهوذا وأكثر رجالهِ وانتصر السوريون ولم يكن لهم في ذلك فخرٌ؛ فإنَّ اليهود فاقوهم شجاعةً وبأسًا، ولا سيما يهوذا، فكان يستحق ما مدح به ليونداس بطل اليونان المشهور، وكان ذلك سنة ١٦١ق.م.
وورد في التاريخ العبري أن متاثيا كان حيًّا لما بلغهُ خبر موت ابنهِ يهوذا، فلما رأى اضطراب باقي أبنائهِ وشعبهِ شجعهم قائلًا: فقدتم واحدًا ولكنَّ أمامكم رجالًا كثيرين يُؤمل الفرج عن يديهم وانتصارهم على أعدائكم، فاذهبوا إلى ساحة القتال غير وجلين ولا خائبين، وتوفي متاثيا بعد يهوذا بشيبةٍ صالحة.
وتمكَّن بكديس من التسلط على أورشليم بعد موت يهوذا وظلم اليهود كثيرًا، وثقل نيرهُ عليهم حتى استصرخ اليهود إخوة يهوذا فأجابوا ولم يبقَ منهم غير يوناثان وسيمون، وقام الأول قائدًا عِوضًا عن أخيهِ فحشد جيشًا جديدًا في البرية؛ لأنهُ لم يتجاسر أن يحارب جهارًا كأخيهِ فأقام في مستنقعة قرب الأردن، ولما عرف بكديس بذلك أوقع باليهود في يوم سبتٍ لظنهِ أنهم لا يقاومونهُ يومئذٍ، فحرَّض يوناثان قومهُ على أشد قتال ففعلوا وقتلوا أكثر من ألف من الأعداءِ، ثم رموا بأنفسهم إلى النهر ونجوا إلى العبر ورجع بكديس إلى أورشليم خاسرًا، ولما لم يرَ نجاحًا ترك البلاد مدةً، لكنهُ رجع بعد ذلك، وكان الفريقان يقتلان ويغزوان كل ما تيسر لهما، وبذل بكديس جهدهُ في أن يتمكن من يوناثان ولم يستطع ولا أن يخضعهُ، فمل من الحرب وقطع معهُ عهدًا أنهُ لا يقلق اليهود بعدُ فعاد إلى بلادهِ سنة ١٥٨ق.م ولم يرجع، وكان إيناس الحبر في مصر فاتخذ يوناثان الوظيفة الكهنوتية في أورشليم مع منصب السياسة.
ثم انقلبت الأمور في سورية، وقام تريفون الذي اغتصب سرير الشام وطرد ديمتريوس الثاني، وأقام مقامهُ أنطيوخس السادس وهو ولد صغير لإسكندر بالاس وصالح يوناثان، ولكن لما أراد تريفون هذا عزل أنطيوخس ابن سيدهِ واغتصاب الملك عمد إلى إهلاك يوناثان لئلا يقاومهُ؛ لأنهُ كان يعتقد أن يوناثان محبٌّ لأنطيوخس فأتى إلى بطلمايس (أي: عكا)، ودعا يوناثان للمشاورة، فلما جاءَ قبض عليهِ وقتلهُ سنة ١٤٤ق.م، وأراد قتل أخيهِ سيمون أيضًا، لكنهُ نجا فرجع تريفون، وأما سيمون فأخذ جثة أخيهِ ودفنها في مودين، حيث دفن جميع إخوتهِ وبنى عليهم ضريحًا فاخرًا وخاطب قومهُ قائلًا: لقد علمتم كل ما عملناهُ أنا وإخوتي بعد وفاة أبينا، وهو مخاطرتنا بأنفسنا في ساحة الحرب غيرةً على شريعة الله الطاهرة ودفاعًا عن بيت مقدسهِ، وقد قُتِل جميع إخوتي وبقيت الوحيد في بيت أبي وحاشا لي أن أمتنع عن الحرب والدفاع بكل قوتي لخلاص نسائكم وأولادكم من الأمم التي تروم إهلاكنا واستعبادنا، والآن يا إخوتي وشعبي اسمعوا كلامي وانهضوا معي إلى مقاومة الأعداءِ، ويقيني أن الله الذي نتكل عليهِ ينصرنا على مقاومينا.
ثم سدَّ مسد يوناثان في الرئاسة وشدَّد الحصار على البرج، ولم يكف عنهُ حتى افتتحهُ سنة ١٤٢ق.م، وهدمهُ ودكهُ دكًّا، ونزع شيئًا من الصخرة من تحتهِ؛ لئلا تصير أساسًا لبرج بعدهُ، فإنهم احتملوا بهِ شدائد لا توصف، ثم قوَّى أسوار المدينة، ولا سيما الأسوار المحيطة بالهيكل لكي يصير حصنًا منيعًا، وأحسن سيمون السياسة وحصل اليهود بعنايتهِ على استقلالهم، فيؤرخ ملكهم من السنة الأولى لسيمون سنة ١٤٣ق.م، وتمتع الناس مدةً بالسلام بعد أن تضايقوا من أعدائهم سنين كثيرة, واحتملوا مشقات لا مزيد عليها.
ولما ازداد عتو تريفون اغتصب الملك من أنطيوخس السادس وعزلهُ، وكان قد ملك أنطيوخس السابع أخو ديمتريوس فاتفق مع كليوباترا وحاربا تريفون فقتلاهُ.
وأراد أنطيوخس هذا إضافة اليهود إلى مملكتهِ فبعث إليهم جيشًا هزمهُ ابنا سيمون، فلم يعد أنطيوخس يغزو اليهودية مدة حياة سيمون، فإنهُ كان قد غلظ أمرهُ كثيرًا وجدد المعاهدة مع رومية وحالف السبرطيين، لكنَّ بطليموس زوج ابنتهِ المدعو بالعبرية تلماي صاحب أريحا دعا سيمون وبنيهِ إلى وليمة، ثم قام على سيمون وقتلهُ هو وابناهُ يهوذا ومتاثياس غدرًا، وكانت غايتهُ أن يبيد كل نسلهِ، إلَّا أن مقصدهُ لم يتم إذ كان يوحنا أحد بنيهِ غائبًا، فإنهُ لما علم أن تلماي يروم قتلهُ هرب إلى بلدٍ في الجبال أهلها يكرهون تلماي، وتبعهُ تلماي اللئيم راغبًا قتلهُ، فدافع أهل البلد عنهُ وطردوا تلماي، ورجع يوحنا بعد ذلك فتولى الملك بعد سيمون سنة ١٣٥ق.م.
وكان يوحنا يلقب بهركانس، ولما استقام لهُ الأمر سار بجيشٍ إلى أريحا للانتقام من بطليموس اللئيم وتخليص أمهِ وإخوته منهُ، فنازل المدينة، ولما تضايق بطليموس أخرج الأم وبنيها وأوقفهم على السور، وصرَّح بأنهُ يطرحهم إلى أسفل إن لم يكف هركانس عنهُ، فنادتهُ أمهُ وحثتهُ أن يبقى على ما كان عليهِ إلى أن ينتقم من المذنب ولو هلكت هي وبنوها، لكنَّ هركانس كره أن يكون سبب هلاك أحبائهِ فانصرف، فلما علم بطليموس بالفرج قتلهم جميعًا وهرب.
ثم شرع أنطيوخس السابع يخضع اليهود وحاصر أورشليم محاصرة شديدة، ولم يقدر أن يفتتحها لقوة أسوارها ونشاط أهلها، وفي أثناء ذلك كان عيد المظال لليهود فطلب هركانس فترة سبعة أيام فيهِ فسمح بذلك أنطيوخس وقدَّم لهُ ذبيحة من ثيران كسيت قرونها بالذهب لتقديمها قربانًا على مذبح الرب، وأوانٍ من ذهب وفضة ثمينة مملوءة بخورًا فأثَّر ذلك في هركانس وفي الشعب، وتحققوا أن أنطيوخس هذا ليس كأنطيوخس السالف الذي لم يحترم بيت الله ودنسهُ بتقديمهِ خنازير على المقدس، ورشهُ دمها وشحمها على جدران الهيكل وإبطالهِ التوراة، بل هو رجل يخاف الله فاتفقوا على أن هركانس يعترف بملك أنطيوخس ويؤدي الجزية عن بعض المدن، ويهدم أسوار أورشليم، ويقبل فيها حراسًا من قبل أنطيوخس، غير أنهُ بدل هذا الشرط الأخير بتأدية ٥٠٠ وزنة من الفضة، وتمَّ ذلك سنة ١٣٣ق.م، لكنهُ بعد قليل نجا اليهود من يد ملك سورية، فإنهُ لما سار أنطيوخس إلى محاربة الفرثيين لتخليص أخيه ديمتريوس سنة ١٢٨ق.م سار هركانس في صحبتهِ وتأخر عن جيش أنطيوخس حين هزيمتهِ فعاد سالمًا وانتهز الفرصة لإعادة استقلالهِ ولم يخضع لملوك سورية لتشويش أمورهم، وكان ذلك سنة ١٢٨ق.م.
ولما انتظم لهركانس أمر المملكة عمد إلى إخضاع القبائل المجاورة، فاستولى على ما كان لبني إسرائيل من عبر الأردن وأوصل تخومهُ إلى البحر المتوسط، ثم أغار على الأدوميين الذين تعدَّوا على تخوم اليهودية الجنوبية وأجبرهم على الختان وسائر سنن اليهود ليزيل جنسيتهم، وكان اليهود قد احتملوا مشقات ثقيلة من تسلط دولة الأدوميين عليهم.
وأخضع هركانس السامريين وخرب هيكلهم على جبل جرزيم لمضي مائتي سنة بعد بنائهِ، وأراد بذلك إبادة تلك العبادة الفاسدة التي كان السامريون يعيِّرون اليهود بها، وحاصر مدينة السامرة وضايقها، فاستصرخ أهلها ملك سورية الذي أمدهم بجيشٍ، فلما عرف بقدومهِ ابنا هركانس القائمان بحصار المدينة أسرعا إلى لقاءِ جيش السوريين وهزماهُ، ثم رجعا إلى السامرة فساءَت حالها واشتد ضيقها فسلَّمت سنة ١٠٩ق.م فخربها هركانس وتركها بلقعًا وضم أرضها إلى مملكته، وأضاف إليها الجليل، فصارت مملكة ذات شأن تكاد تكون كمملكة داود وزخرف هركانس أورشليم وحصنها وعظم شأنهُ كثيرًا، لكنهُ حدث في أواخر ملكهِ مشاجرات أقلقتهُ وانشقَّت بها الأمة بعد موتهِ، وصدر ذلك الانشقاق من الفريسيين والصدوقيين، وكان هركانس من الفريسيين وهم فرقة شديدة التعصب والتمسك بفرائض الدين، وقد زادوا على ما رُسم في التوراة شيئًا كثيرًا، وحدث ذات يوم أن هركانس أولَم لأرباب تلك الشيعة، وفي أثناءِ سرورهم خاطبهم في شأن حكمهِ الديني والسياسي، وأبان لهم أنهُ طالما بذل جهدهُ في نفع الأمة، وقال لهم: إن كان عليهِ شيءٌ فليقدموهُ فأثنوا عليهِ ثناءً حسنًا، لكنَّ أحدهم كان رجلًا رديئًا واسمهُ العازار نهض، وقال لهُ: إن أردت أن تسلم من الغلط والعيب فاعتزل رتبة الكاهن الأعظم واكتفِ بالملك السياسي، فقال: ما سبب ذلك؟ قال: سمعنا من أجدادنا أن أمك كانت سبيَّةً في أيام أنطيوخس أبيفانيس وبحسب قواعد الشريعة غير مباح لك تقلد هذه الوظيفة، ثم تحقق أن والدتهُ لم تكن سبية كما قال، وغضب على العازار وغضب الشعب عليهِ، وكانوا يريدون قتلهُ على هذه الإشاعة الباطلة واغتاظ هركانس ومن معهُ من ذلك الافتراء الشنيع، غير أنهُ ظنَّ أن ذلك لم يكن من المتكلم وحدهُ، وأن الفريسيين هم الذين أغروهُ بهِ فاتهمهم وقوَّى ظنهُ ذلك الصدوقيون لحقدهم، فنشأ الانشقاق وصار بعد قليل علة شرٍّ عظيم، ومات هركانس سنة ١٠٦ق.م بعد أن ملك ٣١ سنة، وكان كاهنًا أعظم.
ولم يقم بعدهُ من حكى المكابيين في الحمية والإباءة، وأخذت الدولة التي أسسها سيمون تتوغل في الشرور وتضعف إلى أن انقرضت، ولُقِّبت بالأسمونية أو الحشمنية تمييزًا عمَّن سبقها من المكابيين الذين لم يسموا ملوكًا.
وقام بعد هركانس ابنهُ أَرِستبولس، وهو أول من لبس التاج من دولتهِ واتخذ كل ما يتعلق بالملك بخلاف من سلفهُ، فكان رئيس الكهنة أيضًا وهو الملك الأول من العائلة الحشمونية بعد مرور ٤٦٠ سنة وثلاثة شهور بعد رجوع اليهود من سبي بابل، وروي في بعض التواريخ أن أول ما فعلهُ بعد ملكهِ أنهُ اعتقل أمهُ وإخوتهُ سوى أنتغنس فإنهُ أحبهُ وأكرمهُ، لكنَّ الناس سعوا بهِ إلى الملك واتهموهُ بأنهُ يريد الملك فحقد عليهِ أرستبولس ووضع لهُ كمينًا بقرب باب قصرهِ وأمر بقتلهِ إن أتى متسلحًا، لكنهُ بعث إليهِ يخبرهُ بما أمر، إذ لم يرد موتهُ لحبهِ لهُ، أما زوجته فقيل: إنها أغوت الرسول أن يخبر بخلاف ذلك لأنها حقدت على أنتغنس فوقع بالكمين وهلك، وكان الملك مريضًا وداؤُهُ شديدًا فلما علم بموت أخيهِ ندم واضطرب لما أتاهُ من الظلم، فانفجر أحد عروقهِ وسال دمهُ من فيهِ وحمل أحد غلمانهِ الدم في طاس إلى خارج، واتفق أنهُ عند وصولهِ إلى حيث سفك دم أنتغنس زلَّت قدمهُ فوقع الطاس من يدهِ فسال دم الملك وامتزج بدم أخيهِ فصاح الغلام وبلغ خبرهُ الملك فاستولى عليهِ الروع الشديد، فهلك بعذابٍ لا يوصف سنة ١٠٥ق.م.
وخلفهُ أخوهُ إسكندر ينيوس، ولما انتظم لهُ الأمر أراد افتتاح غزة وصور وبطلمايس وهاجم بطلمايس أولًا فاستنجدت بطليموس لاثرُس ملك قبرس، فأجاب الطلب وأتى بجيش عظيم، وكانت الكرة على إسكندر وقتل من اليهود نحو ٣٠٠٠٠ فاستصرخ كليوباترا ملكة مصر، فسارت إلى اليهودية لمعونتهِ، إذ توقعت الشر من لاثرس إذا ظفر، ولما أتت أنقذت إسكندر من الهلاك، غير أنها أرادت أن يخضع لها فاستدعتهُ لمحلها بغية القبض عليهِ والاستيلاء على مملكتهِ، لكنهُ منعها من ذلك بعض اليهود من قوادها، وكان ذلك سنة ١٠١ق.م فنجا إسكندر وتمكَّن من التسلط على اليهودية وعلى بعض المدن التي لم تكن خاضعة لهُ قبلًا ومنها غزة افتتحها غيلةً وأحرقها وقتل كثيرين، وأبدى في سياستهِ من الظلم ما حمل الناس على بغضه، ولا سيما الفريسيون الذين وقع الخلاف بينهم وبين أبيهِ كما مر، وحدث أنهم رموهُ في عيد المظال بالترنج وعيروهُ أنهُ ابن فاجرة ولا تليق لهُ وظيفة الكاهن العظيم فحمي غضبهُ وقتل ٦٠٠٠ منهم، ولم يركن إلى شعبهِ، بل استأجر عسكرًا أجنبيًّا يحميه، وشن الغارة على العرب سنة ٩٤ق.م فغلب أولًا، لكنهُ انهزم أخيرًا، ولما رآهُ الناس على هذا الحال خانوهُ، وبقيت الخيانة ست سنين فقتل إسكندر نحو خمسين ألفًا من اليهود فلاذ بعضهم بديمتريوس ملك سورية، فقدم إلى شكيم فخرج إسكندر لمحاربتهِ وانكسر وهلك أكثر مستأجريهِ وتقهقر اليهود وهرب إسكندر إلى الجبال، وكان مشرفًا على الهلاك، لكن اليهود الذين خانوهُ ولاذوا بديمتريوس، لم يريدوا أنهُ يستولي على اليهودية فخذلوهُ فرجع اضطرارًا إلى الشام، وكان ذلك سنة ٨٩ق.م، ثم عاد إسكندر وقتل عددًا عظيمًا من العصاة وأخذ البعض أسرى إلى أورشليم، ولما كان يسرُّ مع سراريهِ في وليمة التذكار لنصراتهِ دعا ٨٠٠ رجل منهم وصلبهم على مرأى من الجميع وأمر بذبح نسائهم وأولادهم أمام أعينهم فهجر لهذا الجور الوطن نحو ثمانية آلاف، لكنهُ أمن الخيانة بعد ذلك وسار لمحاربة بعض القبائل شرقي الأردن، فمات في أثناءِ محاصرتهِ حصنًا هنالك سنة ٧٨ق.م.
ولما أيقن حلول الأجل استدعى إسكندرة امرأتهُ وأوصاها أن تستولي على الملك بعدهُ وتصالح الفريسيين وتلاطفهم إذ تحقق أن لا سلام ولا راحة لمن لا يسالمهم، فسلكت إسكندرة، كما أشار عليها وسلمت نفسها لمشورتهم، فأقاموا لإسكندر جنازة فاخرة وعضدوا يدي إسكندرة.
وكان لإسكندر ابنان هركانس وأرستبولس حصل بينهما خصام شديد على وظيفة رئاسة الكهنوت العظمى، ثم تصالحا في بيت المقدس أمام الكهنة فصار الأول وهو البكر رئيس الكهنة، وصار الثاني قائد الجيوش، أما الفريسيون فلما غلظ أمرهم أخذوا ينتقمون من الصدوقيين الذين ضايقوهم أيام الملك السابق فقتلوا من شاءُوا منهم بإذن الملكة، وكان هركانس من حزبهم، وأما أرستبولس فعكف على الصدوقيين، وطلب إلى أمهِ أن تحميهم من جور الفريسيين، فسلمت إليهم أكثر الحصون في البلاد فامتنعوا فيها، وكان عاقبة ذلك أنهم اختلفوا بعد موتها، إلا أنَّها استراحت في أيامها لفطنتها في معاملة الحزبين، ولما رأى أرستبولس أمهُ قد قربت من الوفاة عزم على اختلاس الملك عند موتها دون أخيهِ الأكبر فخرج من أورشليم ليلًا، وانطلق إلى الحصون حيث كان أصحابهُ وأظهر قصدهُ فاجتمعوا إليهِ جميعًا، وماتت أمهُ سنة ٦٩ق.م، وهو مستولٍ على أكثر الحصون.
وملك هركانس من بعد أمهِ وخرج لمحاربة أرستبولس فانهزم ولجأ إلى أورشليم وأتى أخوهُ وحاصرهُ فيها، ولما كان هركانس غير راضٍ بالحرب عرض على أخيهِ المسالمة على شرط أن يكون الحبر الأعظم وأرستبولس ملكًا، فأجابهُ أرستبولس إلى ذلك وصار ملكًا سنة ٦٩ق.م.
ثم ظهر إنسان أدومي اسمهُ أنتيباتر، وكان قد هاد في عهد إسكندر فولَّاهُ على أدومية، وكان غنيًّا ورغب في الارتقاءِ والرئاسة، فلما رأى ما في هركانس من اللطف والبساطة ملَّقهُ وذم لهُ بأخيهِ، وقال: إنه قد ظلمهُ بأن حرمهُ الملك بغير حق، وما أتى تلك الفتنة إلا ليهيج هركانس على أخيهِ فيحاربهُ فيفوز هو بأن يكون وزيرهُ، فلم يبالِ هركانس بما قال فأخذ يقنعه بأن أخاهُ يريد قتلهُ، وأشار عليهِ أن يلجأ إلى الحارث ملك العرب فيخفرهُ؛ لأنه كان صديقًا لأنتيباتر ففعل هركانس ذلك خوفًا، فرحَّب بهِ الحارث وحملهُ أنتيباتر على أن يحارب أرستبولس، فسار الحارث في خمسين ألف مقاتل إلى اليهودية وغلب أرستبولس وحاصر أورشليم، وبذل قوم هركانس جهدهم في افتتاحها وأتوا بشيخ مشهودٍ لهُ بالتقوى يسمى مونير اعتقدوا أنهُ مستجاب الدعاءِ وسألوهُ أن يطلب إلى الله أن ينصرهم على أرستبولس ويفتح المدينة، فأبى الشيخ أن يدعو على إخوتهِ بالشر، ولما ألحوا عليهِ قال: يا الله، ملك الكون أطلب إليك أنك لا تستجيب لدعاء الفريق الواحد على الآخر، فصاحوا بهِ وقتلوهُ، فأدركهم العقاب سريعًا، فإنهُ أتى سورية حينئذٍ إسكارُس نائب بمبيوس عظيم رومية؛ ليستولي عليها، فبعث الفريقان الوفود إليهِ يستنجدانهِ، ولما رأى أسكارس أن أرستبولس كان صاحب أورشليم وأقدر على الرشوة سمع لهُ وأمر هركانس وقومهُ أن يفرجوا عنهُ فأطاعوا، ولما ارتد الحارث مع جيشهِ حشد أرستبولس جنودًا وتبعهُ وضربهُ ضربة شديدة فانتقم منهُ كما أراد، وكان ذلك سنة ٦٤ق.م.
ثم قدم بمبيوس وأقام في دمشق فوفد عليهِ أرستبولس وهركانس وقدما لهُ الإكرام والهدايا النفيسة، وكان من جملة ما أهداهُ أرستبولس جفنة من ذهب عجيبة الصنعة قيمتها ٥٠٠ وزنة، ورفع كلٌّ منهما دعواهُ إليهِ بالملك، فلم يسمح لأحدٍ منهما في أول الأمر، بل أمرهما أن يخضعا لهُ إلى أن يفرغ من محاربة العرب وشرع في ذلك سنة ٦٣ق.م.
أما أرستبولس فظن أن بمبيوس يميل إلى حزب أخيهِ فخرج عليهِ واستعدَّ لمقاومته، فحوَّل بمبيوس عن المسير إلى العرب ودخل اليهودية وأكره أرستبولس على تسليم جميع حصونهِ فهرب حينئذٍ إلى أورشليم، واعتصم فيها، لكنهُ لما قدم بمبيوس خرج إليهِ وسلمهُ المدينة، أما الكهنة فلاذوا بالهيكل الذي كان غاية في الحصانة وامتنعوا فيهِ، فالتزم بمبيوس أن يقيم عليهِ الأدوات المنجنيقية، وطال الحصار؛ لأن الكهنة دافعوا عنهُ بشدة وعنف، لكنهم كانوا يقعدون عن ذلك في السبوت، فانتهز الرومانيون الفرصة ليقربوا إلى الأسوار ويضربوها فبقي الحصار نحو ثلاثة أشهر، وكان الكهنة في أثناء ذلك يقومون بالفروض الدينية غير مكترثين لما يجري حولهم من القتل والويل، ولما كانوا يفرون من تلك الواجبات كانوا يخرجون للقتال ويبدون من البأس ما يحيِّر الأعداءَ، ولما تمكنت المجانيق من ثقب الأسوار دخل الرومانيون إلى الهيكل وأعملوا السيف بلا شفقة، فقتلوا أصحابهُ وهم يخدمون المذبح، ودخل بمبيوس إلى قدس الأقداس فأخذهُ العجب والحيرة، إذ لم يرَ فيهِ شيئًا؛ لأنهُ كان يظن أنهُ لا بدَّ من تمثال لإله اليهود كما لسائر الأمم، فلم يعلم أن اليهود يعتقدون أن الله لا يُرَى ولا يمثَّل وأعجبتهُ الذخائر الفاخرة التي وجدها في الهيكل، لكنهُ احترمها ولم يسلبها، وكان ذلك سنة ٦٣ق.م، قيل: إن كل السبب في تقهقر اليهود وانحطاطهم الخصام الذي كان بين هركانس وأخيهِ أرستبولس وعدم اتحادهم، فتمكَّن لذلك أعداؤُهم منهم.
فخضعت أورشليم واليهود لرومية، وأقام بمبيوس هركانس حبرًا ورئيسًا سياسيًّا على أنهُ يطيع رومية، غير أنهُ فصل عن حكمهِ كل ما استولى عليهِ المكابيون خارج اليهودية، وأقام إسكارس حاكمًا عامًّا على كل سورية من الفرات إلى تخوم مصر، ثم توجه بمبيوس إلى رومية وأخذ معهُ أرستبولس وأولادهُ وهم إسكندر وأنتغنوس وابنتان، أما إسكندر فنجا ورجع إلى اليهودية وحشد جيشًا سنة ٥٧ق.م، واستولى على بعض الحصون وأخذ يغزو البلاد فأتى القائد غابينيوس من قبل الرومانيين فلم يلبث أن قهرهُ وألزمهُ أن يمتنع في حصونهِ، ولما ضاق بهِ الأمر طلب إليهِ الأمان ووعدهُ بتسليم جميع حصونهِ، فأمنهُ غابينيوس من أجل أُمهِ التي كانت أمينة للرومانيين وثبَّتَ هركانس في رئاسته، إلا أنهُ غيَّر نظام السياسة بأن ألغى المجمع العام وقسم البلاد إلى خمسة أقسام وأقام في كل قسم منها مجمعًا تدبر أمورهُ تحت نظر الرومانيين فبطل حكم الملوك، ولكن أمور البلاد لم تسكن لأن أرستبولس نجا من رومية ومعهُ أنتغنوس وصار يرمم الحصون ويجمع العساكر، واجتمع إليهِ أناس فقابلهم الرومانيون فانهزم أرستبولس وأنتغنوس ووقع في يد غابينيوس فأرسلهما إلى رومية واعتقل أرستبولس هناك، أما أولادهُ فأفرج عنهم لتوسلات أمهم التي سرَّ بها غابينيوس كثيرًا، ولما ذهب هذا القائد إلى مصر انتهز إسكندر المذكور الفرصة، وجمع ما تيسر لهُ من العسكر وطفق يقتل الرومانيين حيثما التقى بهم إذ كانوا قليلين في البلاد، وحاصر من نجا في حصنهم على جبل جرزيم، فلما بلغ الخبر غابينيوس رجع وضرب إسكندر وقومهُ وقتل عشرة آلاف منهم، وبدد شملهم، فقُهر إسكندر وفرَّ لا يأمل النجاة، وكان ذلك سنة ٥٦ق.م.
ثم عاد غابينيوس إلى رومية وخلفهُ قرسس فنهب الهيكل وسلب اليهود وظلمهم ظلمًا شديدًا، ثم سار إلى مقاتلة الفرثيين فهلك، فرأى اليهود في ذلك عقوبة كفرهِ وتعدياته على هيكل الله سنة ٥٣ق.م، ولما هلك قرَسس نجا قسيوس أحد قوَّادهِ فرد الفرثيين عن سورية، وقدم إلى اليهودية وأخضعها وأخضع إسكندر وأثبت أنتيباتر على ما كان عليهِ من السطوة فبقي مشيرًا لهركانس، وتقوَّى أنتيباتر إلى أن تمكَّن نسلهُ من التسلط على اليهودية، وظلت الحال كذلك إلى أن ملك يوليوس قيصر فأفرج عن أرستبولس وجهزهُ إلى اليهودية ليعضد حزبهُ فيها فقتل قبل وصولهِ، أما إسكندر فحشد وهو يتوقع مجيئهُ جيشًا وافرًا فقبض عليه ميتُّلس شببيون والي سورية قبل بمبيوس وجزَّ رأسهُ في أنطاكية سنة ٤٩ق.م، فلم يبقَ من بني أرستبولس إلا أنتغنوس فخضع لقيصر، وظن أنهُ يفوز بملك اليهودية بعد قتل بمبيوس، وأما أنتيباتر نتاثر الأدومي، فكان ذكيًّا لبيبًا، فلما رأى أمر بمبيوس متأخرًا بذل جهدهُ في مؤازرة قيصر وسار في جيش إلى مصر عندما تضايق قيصر في الإسكندرية وعضد أمرهُ، واشتهر كثيرًا بشجاعتهِ في القتال حتى قيل: إن فوز قيصر يومئذٍ توقف عليهِ، ولما عرف هذا ما كان منهُ من الشجاعة والنجدة لهُ أنعم عليهِ بما أراد من ملك اليهودية دون أنتغنوس.
وغلظ أمر أنتيباتر كثيرًا بأن أيدهُ قيصر فتسلط على هركانس، وتصرف كما شاءَ ومنحهُ قيصر رعوية رومية وأقامهُ نائبًا لهُ في اليهودية سنة ٤٨ق.م، وكان لهُ أربعة من البنين منهم فسايل فرأسهُ على مدينة أورشليم وهيرودس على الجليل، وهو لم يجاوز سن الخامسة عشرة فصار ملك اليهود إلى يد هذا الأدومي وبنيهِ، مع أن هركانس استمر رئيس الكهنة وعظيم الأمة في الظاهر.
ولم يسرَّ الناس بأنتيباتر وأولادهِ فاشتكوهم إلى هركانس وتظلَّموا منهم وحرضوهُ على طردهم من مقامهم، ولا سيما هيرودس؛ لأنهُ ظلم الرعية ظلمًا فاحشًا وقتل أناسًا من اليهود فطلبوهُ للمحاكمة أمام مجمع السبعين في أورشليم فأتى مع شُرَطهِ وكل علامات المجد والفخر، ولما جرت المحاكمة لم يجسر أحد أن يشهد عليهِ فانفضَّ المجمع ولم يحكم عليهِ بشيءٍ فخرج يتوقد غضبًا من أعدائهِ وأضمر النقمة فحشد جيشًا وزحف بهِ إلى أورشليم، لكنهُ رجع عنها بمشورة أبيهِ، ثم اضطربت اليهودية بسبب قتل قيصر، فإن قسبوس أحد القائمين عليهِ أتى وضرب على البلاد الجزية وأجبر أنتيباتر وأولادهُ على أن يجمعوها لهُ فحقد عليهم الناس، فاحتال بعضهم على أنتيباتر وقتلهُ، وقام هيرودس وانتقم لأبيهِ ولم يقدر هركانس أن يمنع هذه الأمور لضعفهِ فتسلط عليهِ هيرودس، ولما أخذ أوغسطوس وأنطونيوس الرئاسة في رومية قام أنتغنس بن أرستبولس وجمع جيشًا بغية أن يسترجع مملكة أبيهِ، فهزمهُ هيرودس فأكرمهُ هركانس كثيرًا وتزوج هيرودس سنة ٣٧ق.م، مَرِيَمْنة ابنة إسكندر بن أرستبولس وهي بنت ابنة هركانس أيضًا، وأتى ذلك ليدَّعي الحق في الملك ويجمع بين بيتي هركانس وأرستبولس.
وجاء أنطونيوس إلى سورية بعد حرب فيلبي سنة ٤٢ق.م، وهي الحرب التي قُتِل فيها بروتس وقسيوس فأقام هيرودس وأخاهُ فسايل على أمور اليهود، وجعل كلًّا منهما رئيس ربع، فكرِه كثيرون سلطتهما وسعوا بهما إلى أنطونيوس فلم يصغِ إليهم بل قتلهم.
ثم ذهب أنطونيوس إلى مصر وهام في عشق كليوباترا فقدم الفرثيون واستولوا على سورية، فنهض أنتغنس بن أرستبولس وأعطى قائد الفرثيين دراهم كثيرة و٥٠٠ جارية، وسألهُ أن يفتتح اليهودية ويعزل هركانس وهيرودس وأخاهُ ويقيمهُ على الملك، فأجابهُ إلى ذلك وجهَّز الجنود وزحف بهم إلى اليهودية فاستولى عليها سوى أورشليم فحاصرها مدة فلم يستفد شيئًا، ثم اعتمد أنتغنس وقومهُ المكر، فكتبوا إلى هركانس وقومهِ يسألونهُ المصالحة وأغروا هركانس وفسايل بأن يذهبا إلى كبير الفرثيين بعهد الأمن، فينصف بين الفريقين بعد الفحص فاحتسب هيرودس المكر فلم يذهب، ولما وصل هركانس وصاحبهُ إلى كبير الفرثيين قبض عليهما فبلغ الخبر هيرودس فهرب هو وعائلتهُ، ولجأ إلى بعض الحصون في أدومية فغزا الفرثيون البلاد وسلموها إلى أنتغنس بمقتضى الشرط واستودعوهُ هركانس وفسايل، فانتحر فسايل يأسًا وجدع أنتغنس أذني هركانس ليمنعهُ من رئاسة الكهنة؛ لأن اليهود توجب أن يكون الكاهن بلا عيب في الجسد، ثم بعثهُ إلى الفرثيين فاستحيوهُ، أما هيرودس فاستودع عائلتهُ أخاهُ يوسف وهرب إلى مصر ثم إلى رومية مستصرخًا، وملك أنتغنس على اليهودية مدة ثلاث سنين بين سنة ٤٠ وسنة ٣٧ق.م.
ولما بلغ هيرودس رومية ودَّهُ أنطونيوس كثيرًا فاتفق مع أفنافيوس على أن يولياهُ اليهودية، مع أن هيرودس طلب الملك لصهرهِ أرستبولس وهو حفيد أرستبولس السابق وهركانس، ولكن لما رأى أنطونيوس أن يملِّك هيرودس قبل بفرح ورجع إلى الشرق مع أنطونيوس وقد أمدَّهُ بعسكرٍ إلى اليهودية، ولما وصل إليها كان الرومانيون قد طردوا الفرثيين، وكان أنتغنس محاصرًا مسَّاد الحصن، حيث ترك هيرودس عائلتهُ وأخاهُ كما مرَّ، فما لبث أن طرد أنتغنس وخلصهم، ثم حاصر أورشليم ولم يتمكَّن من افتتاحها إلَّا بمساعدة الرومانيين، أما سولو قائدهم فأفسدهُ أنتغنس بالبراطيل حتى أعاق هيرودس كثيرًا، فلم يبلغ مرادهُ حينئذٍ لكنهُ حارب أدومية وأخضع جانبًا منها، واستولى على السامرة وهاجم اللصوص الكثيرين الذين سكنوا كهوف الجبال في الجليل وأضروا الناس كثيرًا، وسمع أن أنطونيوس تضايق في حرب الفرثيين فسار لنجدتهِ وكسر فرقة من العدو كمنت لهُ في الطريق ولحق بأنطونيوس فأكرمهُ لشجاعتهِ ورغبتهِ في معونتهِ، فلما عاد أمدَّهُ بعسكرٍ لينصرهُ على أنتغنس، وكان قد قتل يوسف أخو هيرودس فاغتاظ هيرودس وبذل جهدهُ في أخذ الثأر، وحمل في بعض المعارك على الأعداءِ بشجاعة وبأس فولوا منهزمين، فهابهُ الناس وانحاز كثيرون إليهِ واستولى على البلاد سوى أورشليم فحاصرها سنة ٣٧ق.م فقاومتهُ أشد المقاومة وطال الحصار نحو ستة أشهر، فاغتاظ الرومانيون، ولما دخلوا قتلوا ونهبوا فأوشكت المدينة أن تخرب لكثرة العسكر، فاشتكى هيرودس إلى قائدهم قائلًا: إن لم تمنع الجنود عن القتل والنهب، وليتني خرابًا يبابًا لا مدينة، وأعطاهُ مالًا وافرًا فردَّ الجنود فسألهُ أنتغنس الأمان باكيًا فضحك عليهِ القائد وقيَّدهُ وأخذهُ إلى أنطونيوس فقطع رأسهُ فهو آخر من ملك من بيت حشمناي وقُتل سنة ٣٧ق.م، أي: بعد ١٣٠ سنة لنصرات يهوذا، و٧٠ سنة للبس أرستبولس الأول التاج، وكان أنتغنس آخر تلك الأسرة فانقرضت بموتهِ دولة المكابيين، وانتقل الملك إلى هيرودس الكبير نسيبهم.
وقد كان عصر المكابيين من العصور التي أجلى فيها اليهود عن شجاعة وبسالة عظيمتين فعاودتهم النخوة الوطنية والغيرة الدينية التي كانت قد خمدت فيهم أثناءَ السبي وبعدهُ، وأظهروا للملأ قاطبةً إنهم لم يعدموا تلك الصفات التي ميَّزت أسلافهم أيام غزوا أرض كنعان وطردوا أهلها منها وحلُّوا محلَّهم يحمون حوضهم ويدفعون أعداءَهم الكثيرين عنهم، على أن ذلك العصر لم يطل لوقوع النزاع الأهلي وانقراض تلك الأسرة الباسلة وعدم قيام غيرها مثلها بين اليهود تتولى زعامتهم وتقود جيوشهم إلى مواقع النصر والظفر، وكان الرومان قد شرعوا يوسعون سلطتهم ويبسطون ظلَّهم ويمدُّون تخومهم، فلم يكن ينتظر أن تقف جماعة اليهود على ما بهم من الضعف الداخلي وقلَّة العدد سدًّا حائلًا في سبيل نصرتهم وفوز جيوشهم على كثرتها وحُسن تدريبها بعد أن تغلَّبوا على جزءٍ كبير من العالم، وأخضعوا لصولتهم أكثر أنحاءِ المعمور في تلك العصور.
رؤساء المكابيين | ||
---|---|---|
الاسم | سنة قيامهِ قبل الميلاد | تاريخ عبري |
متَّاثياس | ١٦٧ | ٣٦٢١ |
يهوذا ابنهُ | ١٦٦ | ٣٦٢٢ |
يوناثان أخو يهوذا | ١٦٠ | ٣٦٢٨ |
سمعان أخو يهوذا أيضًا | ١٤٣ | ٣٦٣٧ |
هركانس الأول ابن سمعان | ١٣٤ | ٣٦٤٢ |
ملوك المكابيين | ||
أرستبولس الأول ابن هركانس | ١٠٥ | ٣٦٦٥ |
إسكندر ينيوس أخو أرستبولس | ١٠٤ | ٣٦٦٦ |
ألكسندرة امرأته | ٧٧ | ٣٦٨٨ |
هركانس الثاني ابن ينيوس | ٦٩ | |
أرستبولس الثاني ابن ينيوس | ٦٧ | ٣٦٩٧ |
هركانس الثاني أيضًا | ٦٢ | ٣٧٠ |
أنتغنس بن أرستبولس الثاني | ٣٧ | ٣٧٢١ |
(٢-٤) الهرادسة
على أنَّ اليهود لم يخلدوا إلى السكينة بعد دخولهم في طاعة الرومان، وشقَّ عليهم أن تحتلَّ جنود الأجانب عاصمة ملكهم وبيت مقدسهم، فكانوا تارةً يتهددون الولاة وطورًا يطردون الجند الروماني من أورشليم، وآونةً يظهرون الرضا بحكم الأمبراطرة عليهم إلى أن توفي هيرودس أغريباس الملك ابن ابن هيرودس الكبير وعقبهُ ولاة رومانيون أكثرهم ظالمون عتاة، فلم يهتموا بشئون اليهود، بل عاملوهم بالقسوة وساموهم الخسف حتى عيل صبرهم فرفعوا أمرهم إلى رومية، ولمَّا لم يأتهم منها الفرج تظاهروا بالعصيان وأحدثوا شغبًا عظيمًا، فأرسلت إليهم رومية قائدها المحنك فسباسيان، فحاصر أورشليم وحارب اليهود وظلَّ على قتالهم إلى أن انتخبهُ الجيش الروماني إمبراطورًا فخلف ابنهُ تيطس على الحصار وقتال اليهود، وكان تيطس هذا قائدًا مدرَّبًا وبطلًا مجرَّبًا ذاق منهُ اليهود الأمرَّين ولقي منهم من المقاومة والدفاع والثبات في الحرب والحصار ما كاد يثنيهِ عن عزمهِ من إخضاعهم، لكنهُ ثابر على منازلتهم بالجنود الرومانية المشهورة ومُنِيَ اليهود بالانقسام الداخلي والفتن والمنازعات بينهم حتى ضعف أمرهم وتقلَّص ظلهم وتقوَّى تيطس عليهم فمزَّق شملهم، ودخل أورشليم فدكَّها دكًّا ودمَّرها تدميرًا، ومات من اليهود في ذلك الحصار نحو مليون نفس، فسالت الدماءُ كالأنهار، وأبدى اليهود من البسالة ما لو كان لهم مثلهُ من الوفاق والوئام لقهروا تيطس وجيوشهُ وأجلوهم عن اليهودية وأعادوهم إلى رومية مدحورين مخذولين، وقد فصَّل يوسيفوس المؤرخ الشهير قصة تلك الحرب، ونحن ننقل طرفًا مما كتبهُ في هذا الشأن منقولًا عن مجلَّة المقتطف التي استخلصتهُ من أوثق المصادر، ومنهُ يتضح شدة المقاومة التي لقيها تيطس في حربهِ هذه ممَّا شاب لهولهِ الولدان، ولم يلقَ الرومانيون مثلهُ إلا في حروبهم مع القرطاجنيين يوم كان يقودهم هنيبال المشهور إلى مواقع الظفر.
قال يوسيفوس: فسار تيطس نحو المدينة أي: أورشليم، ولم يرَ أحدًا أمام أبوابها، ثم التفت ليدور حولها، وإذا بجمهور غفير من اليهود خرج من الباب المقابل لهُ وفصل بينهُ وبين رجالهِ فلم يبقَ معهُ إلا نفر قليل منهم وتعذر عليهِ التقدم إلى ما أمامهُ؛ لأنَّ في الأرض جدرانًا قائمة في طريقهِ وخنادق عميقة وتعذر عليهِ الرجوع إلى رجالهِ؛ لأن اليهود فصلوا بينه وبينهم، لكنهُ لم يرَ لهُ سببًا إلى النجاة إلا بالرجوع على اليهود، فأدار جوادهُ ونادى بالذين معهُ ليتبعوهُ، واستلَّ سيفهُ واقتحم جموع الأعداءِ والنبال تنصبُّ عليهِ، وهو بلا درع ولا خوذة، وكان اليهود يزدحمون عليهِ فيزعق بهم ويحمل عليهم حملة الأبطال فيفرقهم شَذَرَ مَذَرَ، والنفر القليل يحمون ظهرهُ، وظلَّ على هذه الحال إلى أن تمكن من النجاة وسُرَّ اليهود بهذا الظفر.
ولما رأى اليهود أن جنود الرومانيين أحاطوا بالمدينة؛ لكي يسدُّوا خناقها، قالوا: ما لنا نشتغل بمحاربة بعضنا بعضًا عن مناجزة أعدائنا، وقد أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم هلمَّ نخرج إليهم ونوقع بهم قبلما يتمكنون من نصب خيامهم وإقامة الحصون حولها، فاختطفوا أسلحتهم وخرجوا على الفيلق الأخير … فلم يشعر الرومانيون إلَّا واليهود يتدفقون عليهم تدفقًا، فبُهتوا وأركن بعضهم إلى الفرار وبادر البعض إلى أسلحتهم، فقابلهم اليهود بالسيوف والحراب وأوقعوا بهم، ونُمي الخبر إلى تيطس، فأسرع بشرذمة من نخبة رجالهِ وهجم على اليهود وقتل كثيرين منهم وهرب الباقون إلى الوادي، فتبعهم وأمر أن تصطف فرقة من الجنود للقتال، وتهتم الفرق الأخرى بنصب الخيام وتحصين المعسكر، فلما رأى اليهود الرومانيين راجعين لتحصين المعسكر ظنوا أنهم هربوا من وجوههم، فأعادوا الكرَّة كأنهم حجارة تقذفها المجانق، فهرب الرومانيون من وجوههم، ولم يبقَ في الوادي إلا تيطس وبعض رجالهِ، فألحوا عليهِ بالانصراف من وجه اليهود؛ لأنهم رأوهم مستقتلين، فلم يلتفت إليهم وتطلع الجنود الذين على الجبل إلى الوادي، وشاهدوا تيطس فيه يحيط بهِ اليهود فكَبُر عليهم الأمر وعلتهم حمرة الخجل، فارتدوا عليهم بعزيمة صادقة وأنقذوا قائدهم من مخالب الموت.
صورة الهيكل في السنة الأولى للميلاد
واحتال اليهود على الرومانيين حيلة كادت تودي بكثيرين منهم، ذلك أن قومًا من الخوارج تظاهروا كأن جماعة الشعب طردتهم من المدينة لإصرارهم على العصيان، فخرجوا منها متضعضعي الحال، وتظاهروا كأنهم خائفون من أن يعرف الرومانيون أمرهم فيوقعوا بهم، ووقف أناس على الأسوار ينادون الرومانيين ويستأمنون إليهم، وكان الخوارج يرتدون إلى الأبواب قاصدين الدخول فيرشقهم هؤلاءِ بالحجارة ويصدونهم عنها، وانخدعت الجنود الرومانية بهذه الحيلة، وظنت أنها تقتل أولئك الخوارج، ثم تدخل المدينة بأمان؛ لأن الشعب استأمن إليها، ولم تَنْطَلِ هذه على تيطس فأمر جنودهُ أن يبقوا في مواقفهم، لكن بعضهم كانوا بعيدين عنهُ، ولم يسمعوا أوامرهُ فهجموا على الخوارج إلى أن صاروا بين الأسوار، وللحال خرج عليهم جمع غفير من اليهود وأحاطوا بهم ورشقهم الذين على الأسوار بالحجارة والسهام، فقتلوا وجرحوا كثيرين منهم وأُسْقِطَ في يد الرومانيين وارتبكوا في أمرهم خجلًا ودهشةً، ولكنهم قالوا: إن نحن عدنا مخذولين فليس أمامنا إلا العقاب الشديد، فقاتلوا مستبسلين وارتدوا رويدًا رويدًا، فنجا كثيرون منهم.
وقال يوسيفوس في موضع آخر مشيرًا إلى الفتنة في المدينة: «وكان مع شمعون في الأماكن العالية من المدينة عشرة آلاف مقاتل ما عدا الأدوميين وهم خمسة آلاف، ومع يوحنا ستة آلاف مقاتل ما عدا الغيورين الذين انضموا إليهِ وهم ألفان وأربعمائة، وقد استولى يوحنا على الهيكل، واصطلح هذان القائدان عند أول مجيءِ الرومانيين عليها، ثم عادا إلى الشحناء ونال أهالي المدينة منهما أكثر مما نالهم من الرومانيين، ويقال جملة: إن الخوارج أهلكوا المدينة، وإن الرومانيين أهلكوهم.» وقال في موضع آخر: «ولما أتمَّ الرومانيون بناءَ حصونهم وضعوا عليها الكباش، وجعلوا ينطحون الأسوار بها، ورأى اليهود ذلك فأيقنوا بالهلكة واصطلحوا بعضهم مع بعض وتناسوا ما بينهم من البغضاء، وتحالفوا على مقاومة العدوان، وكان الرومانيون قد وضعوا حول الكباش دبَّابات وقايةً لها وللذين يدفعونها، فخرج اليهود ومزقوها وقتلوا الذين فيها، إلا أن تيطس لم يَأْلُ جهدًا فضاعف عدد الرجال وحماهم بالرماة، ودامت الحرب على هذا المنوال أيامًا والكباش تنطح السور ولا تنال منهُ إربًا، وخرج اليهود من باب خفي وحاولوا إحراق الكباش والمجانق وسائر آلات الحصار، واشتدَّ القتال بينهم وبين الرومانيين، وكادوا يفلحون في إحراقها لو لم يبادر تيطس بنخبة فرسانهِ ويقع عليهم، ويقتل اثني عشر رجلًا منهم بيدهِ ويضطرهم إلى الفرار والرجوع إلى المدينة.» ودامت الحرب سجالًا بين الفريقين، وأظهر كل فريق من البسالة ما يخلد ذكرهُ في صفحات التاريخ، أما اليهود فلجسارتهم الخلقية ولخوفهم من الوقوع في يد الرومانيين، وأما الرومانيون فلرغبتهم في إرضاءِ قائدهم تيطس وفي إحراز الفخار؛ ولأنهم اعتادوا الظفر في مواقع القتال.
وظلت الحال على هذا المنوال بين أخذ وردٍّ حتى وقعت المدينة في أيدي الرومانيين كما تقدم، ولم يقبل أهلها ما عرضهُ عليهم تيطس من الأمان فأسر منهم نحو مائة ألف، ومات ما يزيد عن مليون قتلًا ومرضًا وجوعًا.
(٢-٥) تفرق اليهود بعد خراب أورشليم
إلى هنا ينتهي تاريخ الإسرائيليين كأمة، فإنهم بعد خراب أورشليم كما تقدم تفرقوا في جميع بلاد الله وتاريخهم فيما بقي من العصور ملحق بتاريخ الممالك التي توطنوها أو نزلوا فيها، وقد قاسوا في غربتهم هذه صنوف العذاب والبلاد، فإن الرومانيين حظروا عليهم دخول أورشليم إلى أن تبوَّأ القياصرة المسيحيون تخت المملكة الرومانية، فأعاد قسطنطين الكبير لأورشليم اسمها بعد أن استبدل بغيرهِ، واهتمت أمهُ الإمبراطورة هيلانة بتنظيفها والنقب فيها، وظلت البلاد في حوزة الرومان إلى سنة ٦١٤ حين استولى عليها الفرس بقيادة كسرى الثاني، وفي سنة ٦٣٧ دخلت في طاعة العرب المسلمين في خلافة الإمام عمر، وأخذها صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين سنة ١١٨٧، وانتقلت في زمن الحروب الصليبية ثلاث مرات من الصليبيين إلى المسلمين، وأخيرًا امتلكها السلاطين العثمانيون مع جميع سوريا وسائر فلسطين، وذلك سنة ١٥١٧، ولا تزال خاضعة لهم، وأكثر فلسطين اليوم وهو الجزءُ الجنوبي واقع ضمن متصرفية القدس وبعضها وهو الجزءُ الشمالي داخل في ولايتي بيروت والشام والمتصرف يقيم في أورشليم نفسها المعروفة بالقدس الشريف.
ولا تزال أبصار اليهود تطمح إلى أورشليم وفلسطين، وهم يتخذون جميع الذرائع التي تمكنهم من العودة إليها فيضمون شتاتهم ويلمون شعثهم؛ حتى تكون منهم أمة تحتل بلادهم القديمة ومهوى أفئدتهم، حيث كان أجدادهم وأسلافهم من قبلهم، وفيها اليوم مستعمرات وملاجئ للأوروبيين منهم ابتاعها لهم بعض مثرييهم وكبار المحسنين منهم كبيت روتشيلد الشهير والبارون هرش، وقد بنى المهاجرون منهم هناك البيوت، وأقاموا المعامل وزرعوا الأراضي على الطرق الحديثة، وقد أخذوا يتقدمون هناك تقدمًا واضحًا سريعًا، وبعض اليهود في أوروبا يعمل على ابتياع فلسطين من الدولة العثمانية على أن دون ذلك موانع وحوائل لا محل لإثباتها هنا.
وبعد خراب أورشليم على يد تيطس ظلَّ قسم من اليهود في بلاد اليهودية، ولم يمر بهم ثلاثون سنة حتى تقدموا وازداد عددهم وأثروا وأفلحوا، ولكنَّ حب الثورة عاودهم فانتقضوا على الرومان مرةَّ ثانية في بلدان مختلفة كقيروان وقبرص وما بين النهرين وفلسطين، وذلك بين سنة ١١٥ وسنة ١٣٠ب.م، لكنَّ الرومان قهروهم وأثخنوا فيهم قتلًا وذبحًا ونهبًا، وأصبحت اليهودية قفرًا بلقعًا فبلغ عدد المدن الخربة والقرى ٩٨٥، وهدم ٥٠ حصنًا وأبدل اسم أورشليم وحظر على اليهود السكن فيها كما تقدم، وعقب ذلك عصر راحة لليهود، إذ تولَّى القيصرية الرومانية أمبراطرة أحسنوا معاملتهم، وأحلوهم محلًّا رفيعًا وأخذوا عنهم بعض طقوسهم كالختان والامتناع عن أكل لحم الخنزير، وظلوا في عيش رغد من ختام القرن الثاني إلى أن ملك قسطنطين الكبير سنة ٣٣٠، فعاودتهم المصايب والإحَن.
اليهود في بابل
وكان حظ الباقين منهم في بابل أفضل من نصيب إخوانهم في اليهودية، لا سيما تحت رعاية الدولة الفارسية، فكان لهم أمير منهم لُقِّب بأمير السبي، وكانوا ينتخبونهُ من بيت داود ويؤدون لهُ واجب الاحترام والإكرام كملك وهو خاضع للدولة الفارسية، وأثرى كثيرون منهم في تلك البلاد، واحترفوا الحرف الكثيرة، فكان منهم التجار والصيارفة والصناع والحاكة والفلاحون والرعاة، وكانوا أمهر الناس في نسج الحلل البابلية المشهورة، وقام منهم جمهور غفير من العلماء الأعلام، ولا يعلم بالتأكيد ماذا حلَّ بالذين أوغلوا في الشرق منهم، وإنما يؤكد أن جماعة منهم وصلوا إلى الصين حوالي القرن الأول من التاريخ المسيحي، وقد لقي مبشرو اليسوعيين بعض نسلهم هناك في القرن السابع عشر، ويرجح من بعض الأدلة أنهم جاءُوا الصين عن طريق فارس، والظاهر أنهم أصابوا حظوة في عيون ملوك الصين، فتولَّى بعضهم أرفع الوظائف الملكية والعسكرية.
اليهود في أوروبا
أما في أوروبا فلم يكن نصيبهم فيها مثلهُ في الشرق، فإن الأمبراطرة المسيحيين والبابوات أخذوا يتسابقون في نشر الأوامر الصارمة بشأنهم لِخَضْد شوكتهم، فحظر عليهم أن يقبلوا مسيحيًّا في دينهم، أو يتزوَّجوا من المسيحيات، أو يكون لهم عبيد مسيحيون، وضُربت عليهم الضرائب الباهظة، فلم تفلح جميع هذه الأوامر، فظل اليهود يزدادون عددًا وثروةً وجاهًا وانتشروا في إيليريا وإيطاليا وإسبانيا ومنوركا وغاليا وفي المدن الرومانية على ضفاف نهر الرين، واشتغلوا بالصناعة والزراعة والتجارة، ومع أن قسطنطين الكبير لقبهم في منشور قيصري «بالشعب المكروه»، فإنَّ كثيرين منهم ارتقوا إلى أعلى المراتب الملكية والعسكرية، وكانت لهم محاكم خاصة بهم، هذا فضلًا عمَّا كان لهم من النفوذ الناتج عن الغنى والعلم، ولما تولَّى يوليانوس الملحد تخت الإمبراطورية أسبغ نعمهُ عليهم وأذن لهم ببناءِ الهيكل في أورشليم، لكنهُ مات قبل أن تتحقق أمانيهم من هذا القبيل، ثم عقب ذلك عصر أُرهقوا فيهِ فصدر أمرٌ في القرن الخامس للميلاد يحظر عليهم التجند في جيوش الإمبراطورية، ثم أُلغيت زعامتهم الدينية في طبرية، وبعد سقوط الإمبراطورية الغربية استراح الذين كانوا منهم في إيطاليا وسيسيليا وسردينيا، فعاشوا دون أن يلحق بهم أذًى، أما الذين كانوا في السلطنة الشرقية، فإنهم ذاقوا العناءَ واضطهدهم الإفرنج والقوط الإسبانيون في القرنين السادس والسابع.
اليهود في بلاد العرب
وأسس اليهود في الجنوب الغربي من بلاد العرب مملكة كبيرة عظم شأنها في القرن الثاني قبل الميلاد وهي مملكة حِمْير، ثم استولوا على اليمن، وتعاقب على حكومتها ملوك منهم إلى أن جاءَ الأحباش فطردوهم منها وأدخلوا النصرانية، وكانت بعض قبائل العرب تدين باليهودية، فلما ظهرت الدعوة الإسلامية لقي زعيمهم منهم عداوة شديدة فحاربهم وقهرهم، واستولى على خيبر سنة ٦٢٧ب.م وأجلى اليهود العرب إلى سورية، وكان اليهود ناعمي البال برعاية الخلفاءِ والأمراءِ المسلمين، إلا أن المسلمين اضطهدوهم مرتين في المغرب سنة ٧٩٠، وفي مصر سنة ١٠١٠ب.م، وإنما يقال بالإجمال: إن المسلمين عاملوهم بالحسنى واللطف، فنجح اليهود وأفلحوا ونبغ في تلك العصور كثير من الأطباء والفلكيين والمنجمين والكُتَّاب والشعراء والخطباء والفلاسفة، لا سيما في الأندلس، ولهم اليد الطولى بفضل العرب في حظ بقايا معارف الأقدمين من اليونان والرومان ونشرها في أوروبا، لا سيما الفلسفة، وعهد إليهم الخلفاءُ بتعريب الكتب النفيسة في الطب وغيرهِ عن اليونانية، وقد بقي شيءٌ من هذه الترجمات في العربية على أن الأصل اليوناني فُقد تمامًا.
اليهود في أماكن مختلفة وأحوالهم فيها
ولم يصادف اليهود في أوروبا وغيرها من حُسن المعاملة ما لقوهُ من المسلمين، فكانت أيامهم في تلك القارة أيام محن ومصايب، فإن باسيل الثاني إمبراطور القسطنطينية أثار عليهم اضطهادًا عنيفًا في القرن الحادي عشر، ونقم عليهم الملوك الذين استولوا على بغداد بعد الخلفاء فقتلوا أمير السبي ونكلوا باليهود ففرَّ جزءٌ كبير منهم إلى إسبانيا، وأصاب الباقين من الذل والهوان ما أقعدهم عن طلب ما خسروهُ، وكانت أحوالهم في فرنسا مدة القرنين الثامن والتاسع أحسن منها في غيرها، لا سيما في باريس وليون ولانجودك وبروفتس، فكان لهم نفوذ عظيم في بلاط الملك لويس المعروف بالدبونير، على أنهُ لم تكد السلالة الكارلوفنجية تستقر على سرير الملك حتى فاجأهم الاضطهاد، فقام عليهم الملوك والأمراءُ والأساقفة وأذاقوهم العذاب ألوانًا، وظلَّ الأمر كذلك من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر وتاريخهم في ذلك العصر سلسلة مذابح واضطهاد، فكان أعداؤُهم يشيعون عنهم أخبارًا سيئة وتهمًا كاذبة كاتهامهم إياهم بسرقة الجسد المقدَّس وسرقة أولاد المسيحيين وقتلهم وإلقاءِ السم في آبار الشرب، وكان معظم كره معاصريهم لهم ناشئًا عن تعاطيهم أعمال الصيرفة والربا، وقد قال أحد كُتَّاب الإفرنج في ذلك: إن معظم اللوم في هذا الأمر عائد إلى جور الذين حظروا على اليهود اقتناءَ الأملاك والعقارات، ونهوهم عن الاشتغال بالحرف، فأجبروهم على توحيد أشغالهم وأعمالهم وصرف همتهم واجتهادهم في مجرًى واحد على أن أعداءهم كانوا على الغالب يتخذون هذه التهم وسيلة للتخلص مما عليهم من الديون لليهود، كما فعل الملك لويس أغسطس، فإن اليهود أقرضوا الحكومة والكنيسة مبالغ كبيرة من المال، واسترهنوا منهما أملاكًا ثمينة مقابل الدَّين، فلما أعيا الملك ورجال الكنيسة الأمر رأوا أن يستنبطوا ذريعة يتملصون مما عليهم، فأصدر لويس أمرًا يقضي بإلغاء ذلك الدين بأسرهِ وبرد الرهن، وأجبر اليهود على إرجاع صكوك الرهن وعقودهِ، ثم أمر بطردهم من فرنسا، فطُرِدوا منها قسرًا بعد أن سلبهم أموالهم ظلمًا وعدوانًا، لكنهُ عاد فرحَّب بهم بعد عشرين سنة لما بدا لهُ من الحاجة إليهم.
مصايب اليهود
وأمر لويس التاسع بإلغاءِ ثلث ما كان لهم على رعاياهُ المسيحيين من الدين، ثم أصدر إرادة ملكية بحرق جميع كتبهم المقدسة، وقد قال أحد المؤرخين: إنهم حرقوا في باريس وحدها محمول أربع وعشرين مركبة من نسخ التلمود وغيرها، وفي عهد فيليب الجميل طُرِدوا من فرنسا وأصابهم من القتل والنهب والظلم شيءٌ كثير، لكنَّ مالية البلاد تضعضعت بعد انفصالهم عنها فلم يرَ الملك بدًّا من إرجاعهم إليها بعد اثنتي عشرة سنة من نفيهم، وأذن لهم بتحصيل ديونهم على شرط أن يدفعوا ثلثيها للملك! وفي سنة ١٣٢١ هاج عليهم الشعب في أواسط فرنسا، وذبحوا منهم عددًا كبيرًا، وقد قال أحد الكُتَّاب في وصف المذابح: إن ما ارتكبهُ الفرنسويون في ذلك الحين لمما تقشعر لهُ الأبدان، حتى إن اليهود في فرون رموا بأولادهم إلى الأرض من أعالي برج حصرتهم فيهِ الغوغاءُ لما أصابهم من الجنون والذهول لقسوة مواطنيهم، لكن ذلك لم يحرِّك شفقة أولئك البرابرة الذين كانوا يطلبون دماءَ ذلك الشعب التعيس المكروه، وعقب هذه المذبحة الوباءُ، فاتهم اليهود أفظع التهمة وأقبحها، وقامت عليهم القيامة حتى قيل: إنهم أحرقوا في بعض الأقاليم جميع من كان فيها من اليهود وحفروا في شينون حفرة عميقة ألقوا فيها ١٦٠ رجلًا وامرأة وأحرقوهم فيها، وقد أطنب مؤرخو هذه الحوادث بشجاعة اليهود وصبرهم وشدة تمسكهم بعقيدتهم في الضيق والشدة، حتى قال أحدهم: إنهُ لم يقم بين شهداء المسيحيين من أبدى عزمًا وثباتًا كعزم اليهود وثباتهم وهم يقادون إلى القتل والذبح والحريق، فإنهم كانوا يسيرون مترنمين بالمزامير كأنهم سائرون إلى عرس، وفي أواخر القرن الرابع عشر نفوا تمامًا من أواسط فرنسا.
اليهود في إنكلترا
ويُظن أن اليهود جاءُوا إنكلترا مع السكسون وقد ورد ذكرهم في بعض النظامات الدينية سنة ٧٤٠ب.م وسنة ٨٣٣ب.م، ولقوا معاملة حسنة من وليم الفاتح وابنهِ وليم روفس، ويُروى أن وليم روفس هذا أقسم في خلال جدال دار بين الأساقفة والحاخاميين ليصيرنَّ يهوديًّا إذا فاز الحاخامون، وزاد على ذلك أن وهبهم كراسي جميع الأبرشيات الفارغة، وكان لهم ثلاث كليات في جامعة إكسفورد لذلك العصر يدرسون فيها العبرانية لأبنائهم ولمن شاءَ من المسيحيين، ولكنَّ ذلك لم يطل فأخذ الشعب يتذمر من زيادة ثروتهم ونجاحهم في الأعمال والتجارة، وتحوَّل التذمر إلى كرهٍ، وقد جاءَ في أحد التواريخ أن أحدهم وقف ينظر تتويج الملك ريكارد المعروف بقلب الأسد، وكان ذلك محظورًا عليهم فهاج الشعب وثاروا عليهم، ونهبوا بيوتهم، فغضب الملك وأمر بمعاقبة الجانين فشنق منهم ثلاثة، ولكن تعصب الكهنة حال دون تحقيق رغائبهِ من إجراءِ العدالة ومعاقبة جميع المذنبين، ولما ذهب ريكارد إلى فلسطين في الحرب الصليبية الثالثة ساءت أحوالهم جدًّا وخُيِّروا في بعض المدن بين الموت أو اعتناق النصرانية فاختاروا الموت، ومن يطالع رواية إيفانهو «الشهامة والعفاف» لولتر سكوت يرَ ما حلَّ بهم في ذلك العصر من الإرهاق والظلم، ويعجب لثباتهم على دينهم ومعتقدهم في وسط تلك الاضطهادات التي ثارت عليهم، نعم لقد كان في الإنكليز قوم من ذوي الشهامة دافعوا عنهم، ولكنهم كانوا نفرًا قليلًا لا يحسبون شيئًا في جنب الذين نقموا عليهم وأرادوا بهم السوءَ، ولما عاد الملك ريكارد من فلسطين انتعشت آمالهم وصارت حياتهم في أمان، وأكرمهم الملك يوحنا إكرامًا زائدًا، ثم انقلب عليهم وأمر بنهبهم وحبسهم في جميع أنحاء المملكة وأصابهم أذًى شديد في أيام الملك هنري الثالث، واتهمهم البعض بأنهم ينزعون جزءًا من ذهب النقود وفضتها بعد أن يقبضوها، ثم يدفعونها إلى التجار.
فأصدر ذلك الملك أمرهُ إليهم سنة ١٢٣٠ بأن يدفعوا إلى الخزينة ثلث أموالهم المنقولة، وفي أثناء ذلك اتهموا بصلب ولد من أولاد المسيحيين اسمهُ «هيولنكولن»، وهي تهمة اتضح فسادها بعدئذٍ، وتبين بأجلى بيان أنها أُذيعت بقصد الإيقاع بهم في زمان لم يدَّخر أعداؤُهم فيهِ جهدًا لإهلاكهم وخرابهم، ولم تتحسن أحوالهم بِتَبَوُّءِ إدورد عرش المملكة، ولكن بعض الإنكليز حاول أن يثنيهم عن الربا كما حاول غيرهم ذلك في فرنسا فلم يفلح؛ لأن اليهود كانوا ممنوعين عن معاطاة الأعمال الأخرى طبقًا للأوامر الملكية العديدة التي صدرت بشأنهم؛ ولأنَّ كره الناس لهم في أوروبا جمعاءَ حال بينهم وبين اهتمامهم بالصناعات والزراعة لكثرة ما كان يصيبهم من النهب والظلم، وما ينزل بهم من الضيم والأذى، ولما اشتدَّ بهم الأمر في إنكلترا ضاقت بهم سبل الوجود توسلوا إلى الملك أن يأذن لهم بمغادرة البلاد، فأقنعهم بالبقاء، لكنَّ الأمة بأسرها قامت عليهم سنة ١٢٩٠ فأخرجتهم من إنكلترا، فخلفوا في يد الملك جميع أموالهم وديونهم ورهنهم، وارتحلوا إلى فرنسا وجرمانيا، ويقدر عددهم حينئذٍ بنحو ستة عشر ألف نفس.
اليهود في جرمانيا
اليهود في سويسرا
ولم يطأ اليهود سويسرا إلا بعد أن أقاموا زمانًا طويلًا في ألمانيا، وبدأ اضطهادهم فيها في القرن الرابع عشر، ولم يكد القرن الخامس عشر ينتهي حتى طُردوا منها، ولم يلاقوا في بولونيا ولثوانيا من العنف ما لاقوهُ في غيرهما، فاتخذوا الأولى ملجأً لهم، وكان المهاجرون منهم من ألمانيا وسويسرا يأتونها أفواجًا وهم يصادفون من ملوكها كل رعاية وإكرام، أما في روسيا وهنغاريا فأصابهم من الاضطهاد مثل ما أصابهم في الممالك الأخرى، وبعد أن ذاقوا فيهما الأمرَّين طُردوا منهما نحو أواخر القرون الوسطى.
اليهود في إسبانيا
أما البلاد التي لقوا فيها شيئًا من الراحة فإسبانيا بعد أن امتلكها العرب، فإن الفاتحين أحسنوا إليهم وأكرموهم وعاملوهم بالتؤَدة والمعروف، وتساوى الفريقان في العلم وطلبهِ والثروة والرغبة في التقدم والتمدن حتى بات يهود إسبانيا أنعم بالًا وأحسن حالًا من إخوانهم في سائر أوروبا، فاتخذوا الحرف والمهن العلمية والصناعية، ونشأ بينهم الكُتَّاب والشعراءُ والأطباءُ والماليون والموظفون وأصحاب الفنون على اختلاف أنواعهم.
ولم ينحصر ذلك من الأندلس في الممالك الإسلامية، فإن ملوك النصارى فيها أكرموهم ورحبوا بهم لما آنسوهُ فيهم من اللياقة لتعاطي الأعمال والمهن المختلفة، وبراعتهم في العلوم والفنون، وكان الشعب في غاية الراحة كأيام هنائهم في أراضيهم وملكهم على أن ذلك الشعب المضطهد لم تطل مدة هنائهِ، فإن بذَخ الأمراءِ وتعاظم نفوذ الإكليروس بدَّلا سعادتهُ بالشقاءِ، وذلك أن أملاك الفريقين أصبح أكثرها مرهونًا عند اليهود فسلبت امتيازاتهم وزيدت الضرائب عليهم.
وفي أواخر القرن الرابع عشر قامت البلاد عليهم في مواضع متفرقة فقُتِلَ منهم العدد الغفير، وقد قال أحد المؤرخين: إن ما أصاب اليهود في القرن الخامس عشر في إسبانيا لما يقصر عنهُ وصف الواصفين، فقد أحرقوا أحياء بالألوف حتى قيل: إن ٢٨٠ منهم حرقوا في سنة واحدة في إشبيلية، حتى إن كل طاهر ذمة كان يقشعرُّ من فظائع ديوان التفتيش وأفعالهِ البربرية، فحاولوا أن يلطفوها، ولكن سدًى ثم جاء اليوم المخيف، وفيهِ تمَّ ذلك العمل الذي شوَّه تاريخ إسبانيا وترك فيهِ لطخة سوداءَ لا يمحوها كرور الأيام، وذلك أن فرديناند وإيزابلا زوجتهُ أصدرا منشورًا يأمران فيهِ بطرد جميع اليهود (سنة ١٤٩٢) من إسبانيا في مدة أربعة أشهر دون أن يؤذن لهم بنقل ذهب أو فضة معهم من المملكة، فنزل الأمر على اليهود نزول الصاعقة وسعوا بإلغائهِ، وبذلوا القناطير المقنطرة من المال حتى كاد الملكان يحولان عن عزمهما، لكن رئيس ديوان التفتيش الدومينيكي عرقل جميع تلك المساعي وتهدد الملكين، وقال لهما: إذا فعلتما ما يطلبهُ اليهود كنتما كيهوذا الذي باع سيدهُ، ثم حذرهما سوءَ العاقبة فخافا منهُ وثبتا أمرهما، فكان علة خراب وشقاء جماعة كبيرة من أحذق الناس وأمهرهم وأكثرهم مسالمة وعلمًا في إسبانيا وسببًا لانحطاط تلك المملكة نفسها بما خسرتهُ من معونتهم ونجدتهم وعلمهم وغناهم، فضلًا عن انتشار نفوذ ديوان التفتيش هذا، وامتداد هيبتهِ في البلاد التي كان من أكبر الضربات عليها، وقد قال أحد الكُتَّاب: إن هذا العمل الوحشي من أحزن ما جاءَ في التاريخ الحديث ويشبههُ اليهود بأكثر من سقوط أورشليم وتبددهم على وجه الأرض، فإن نحو نصف مليون منهم أُجبروا على ترك بلاد سكنوها سبعة قرون فصارت لهم وطنًا، هذا فضلًا عن إجبارهم على التخلي عن أملاكهم ومقتنياتهم وأموالهم وهي شيءٌ كثير ظلمًا وعدوانًا، وحكاية طردهم في إسبانيا تفتت الأكباد (وجميع ذلك مدون في كتب التاريخ العبرية)، فتفرق هؤلاءِ التعساءِ في مراكش وإيطاليا وفرنسا وتركيا، وطلب ثمانون ألفًا منهم الإذن من ملك البورتغال، حيث كانت الفظائع، كما في إسبانيا بواسطة الإكليروس؛ لكي يبقوا في بلادهِ ثمانية أشهر ريثما يجدون مكانًا يلجئُون إليه، ودفعوا عن كل واحد منهم ثمانية دنانير فقبلهم في بلادهِ على أن يقيموا فيها، لكنهُ تغير عليهم بعد سنتين وطردهم، وأصدر أمرًا سريًّا إلى جنودهِ بالقبض على أولادهم من ابن أربع عشرة سنة فما دون وبإبقائهم في البلاد لينشئُوا فيها مسيحيين، فلما درى اليهود بذلك حاروا في أمرهم، فكان النساءُ يطرحنَ الأولاد في الآبار والأنهار ليخلصنهم من أعدائهم ومضطهديهم، ومن بقي منهم في إسبانيا بيع عبدًا، ولم يقف تيار الاضطهاد في إسبانيا حتى أواخر القرن السابع عشر.
اليهود في إيطاليا
وكان نصيبهم في إيطاليا خيرًا منهُ في غيرها، فأحمدوا مقامهم فيها إلا في بعض الأحايين حين ثارت سورة الاضطهاد عليهم، على أن معظم زمانهم فيها كان مقرونًا بالراحة والخير، فاشتغلوا في جميع الحرف والصناعات، لا سيما الصرافة حتى ضاهوا صيارفة لمبرديا، وكانت تجارة المشرق في أيديهم، ونالوا حظوة في عيون ملوك نابولي، حتى إن أحدهم عين مستشارًا ملكيًّا لأحد ملوكها.
اليهود في المملكة العثمانية وغيرها
وأحسن إليهم السلاطين العثمانيون وعاملهم الأتراك بالرفق، وكانوا يعتبرونهم أكثر من اليونان فيسمون هؤُلاءِ عبيدًا، أما اليهود فكانوا يدعونهم ضيوفًا وأذنوا لهم بفتح المدارس وإنشاءِ الكنائس، وسمحوا لهم بالسكن في جميع مدن الشرق التجارية الواقعة في المملكة العثمانية، وهي الدولة الوحيدة التي شهدوا لها التواريخ العبرانية أنهُ لم يحصل لليهود اضطهاد فيها.
وقد ظنَّ بعض الكُتَّاب أن اختراع الطباعة والنهضة العلمية في أوروبا والإصلاح أفادت اليهود فائدة كبيرة، فحسنت أحوالهم وخففت ذلك التعصب عليهم، لكنَّ ذلك صحيح من بعض الوجوه، فإنه حالما شرع اليهود باستخدام الطباعة لطبع كتبهم المقدسة حرَّك بعضهم الإمبراطور مكسيمليان وأقنعهُ بوجوب حرق كتبهم ولولا مداخلة بعض أولي الفضل لتمَّ ذلك القصد السيئ على ما يريدهُ أولئك المتعصبون وفاز الجهل، ولم يكن لوثير ميَّالًا إلى اليهود والمأثور عنهُ أنهُ كان يذهب إلى أخذهم بالقسوة والعنف، في حين أن البابا سكستوس الخامس عاملهم بمثل ما لم يعاملهم بهِ أمير بروتستانتي من الحسنى واللطف، فإنهُ ألغى أوامر أسلافهِ القاضية بمعاقبتهم، وأذن لهم بالسكن والاتجار في أملاك الكنيسة الرومانية وجعلهم والمسيحيين سواءٌ في عين الشريعة، وفيما تقدم دليل على أن الإصلاح لم يكن لهُ يدٌ في تحسين أحوالهم؛ لأن زعيم حركة الإصلاح كان خصمًا لهم بين أن بعض أخصامهِ كانوا من محبيهم، أضف إلى ذلك أنهم صادفوا من الاضطهاد والأذى على أيدي البروتستانت مثل ما لاقوهُ من الكاثوليك، إن لم يكن أكثر منهُ يتضح لك أن التبديل الذي طرأ على شئونهم في القرن الثامن عشر لم يكن ناجمًا عن هذه الأمور الثانوية، بل نشأ عن هبوب أوروبا في ذلك العصر من سبات الجهل والغباوة، وعن لمعان نور التمدن في أنحائها ذلك النور الذي أنار في سمائها فشقَّ حجاب الجهل والظلم والاستبداد.
اليهود في هولاندا
ومن المعلوم أن هولاندا كانت في مقدمة الممالك الأوروبية التي أفاقت من الجهل والغباوة، فقدرت اليهود حق قدرهم وعطفت عليهم، ففي أوائل القرن السابع عشر أذنت لهم بالنزول فيها أيَّان شاءُوا وأجازت لهم الاتجار والاشتغال بجميع الحرف والمهن، وفي أواخر القرن الثامن عشر خولتهم حق اتخاذ رعوية البلاد، ولا نسهب الكلام في هذا الموضع عمَّا أصابتهُ هولاندا من الربح في عملها هذا، فإنها سبقت سائر بلدان أوروبا في التجارة والزراعة، ولا تزال في مقدمتها في الغنى والعلم والتقدم والتمدن.
عودة اليهود إلى إنكلترا
وبعد أن نُفي اليهود من إنكلترا حاولوا دخولها ثانيةً في أيام كرمويل، أي: بعد ٣٠٠ سنة لطردهم منها، وكان كرمويل وجمهور القضاة والمحامين يميلون إلى إرجاعهم، لكنَّ الأمة عارضت في الأمر لا سيما الفئة الدينية منها، فتعينت لجنة من الأساقفة ورجال الكهنوت للبحث في القضية وبتِّ الحكم فيها، وطال الجدال بينهم حتى استغرق سنين عديدة إلى أن تولى عرش الملك المَلِك شارل الثاني، ولما كان في أشد الحاجة إلى اليهود أذن لهم بالعودة إلى إنكلترا، وفي سنة ١٧٢٣ سُمح لهم باقتناءِ الأملاك والأراضي فيها، وفي سنة ١٧٥٣ نالوا حق الرعوية، ولم يزالوا يمنحون ما بقي من الحقوق واحدًا بعد الآخر حتى كانت سنة ١٨٥٨، وفيها سُمح لهم بدخول البارلمنت، وتقلد الوظائف العالية كالنظارات وغيرها، وقد نبغ منهم في إنكلترا أفراد معدودون سنأتي على ذكر بعضهم في الفصل الخاص بذلك.
اليهود في فرنسا
قلنا: إن بعض اليهود الذين طُردوا من إسبانيا ذهب إلى فرنسا فلقوا فيها مشقات ومصاعب شتى, وأُذن لهم في أواسط القرن السادس عشر بالسكن في بعض مدن تلك البلاد وأقاليمها، وفي سنة ١٧٩٠ نحو بداءَة الثورة الفرنسوية العظمى رفعوا عريضة إلى مجلس نوَّاب الأمة يطلبون فيها منحهم حق الرعوية ومساواتهم بسائر أهل البلاد، وكان ميرابو في جملة أنصارهم، فمنحوا ذلك الحق، ومن ذلك الحين أُطلق عليهم لقب إسرائيليين في فرنسا، وفي سنة ١٨٠٦ جمع نابوليون الأول مجمعًا من علمائهم وألقى عليهم أسئلة مختلفة؛ ليمتحن أهليتهم لتأييد حق الرعوية هذا، فأحسنوا الجواب على أسئلتهِ جميعًا فاعترف بهم وبمجامعهم ومدارسهم، ومن ذلك الزمان أخذوا يرتقون في الوظائف والمناصب الأميرية حتى تولى بعضهم النظارات ونالوا رتبًا سامية في الجيش والأسطول، وقد أجلوا في الحروب والمواقع البحرية عن شجاعة وبسالة نادرتي المثال كذَّبتا ما اتهمهم بهِ المنافقون من الجبن رغمًا عما في تاريخهم من دلائل الشجاعة والنخوة.
وقد لقوا في أواخر القرن الماضي بعض الكره والعدوان من مواطنيهم بسبب مسألة دريفوس، لكنَّ براءَة الرجل اتضحت في المحاكمة الثانية، وعادت الأمور إلى مجاريها.
ويقال بالإجمال: إنهم في القرنين الأخيرين نالوا حقوقهم في جميع ممالك أوروبا وأميركا وصاروا كغيرهم من مواطنيهم، إلَّا في روسيا، حيث صادفوا اضطهادًا شديدًا منذ بضع سنوات، فجارت عليهم الحكومة وأمرت بطرد بعضهم من بلادها، وحظرت على الباقين السكن إلا في أقاليم معينة من البلاد.
ولا تكاد بقعة من الأرض تخلو منهم وهم في جميع العالم أصحاب همةٍ وكدٍّ محبون للعمل عارفون بأساليب الكسب، وتراهم في البلدان التي نالوا فيها تمام المساواة مع غيرهم يشتركون في أفراح الأمة وأحزانها، ويهتمون برفعة شأنها وتوطيد عزها، ويجود مثروهم بالأموال في سبيل الذود عنها وتقدمها وزيادة مجدها وعظمتها.
هذا ملخص تاريخ هذا الشعب المشهور، وما لقيهُ من المصاعب والمشقات والاضطهاد والقتل والسبي والنفي في أوروبا وغيرها بعد خراب أورشليم، لكنَّ العناية التي اختصتهُ من بين الشعوب القديمة أبت إلا بقاءَهُ ولم تسمح بانقراضهِ، فإنهُ لم يزل يزداد عددًا وثروةً ونفوذًا وسطوةً رغمًا عما صادفه من تعصب القوم عليهِ وارتياحهم إلى إفنائهِ، واتخاذهم في العصور المختلفة جميع الوسائل لِخَضْدِ شوكتهِ وإذلالهِ، فإن جميع هذه المساعي السيئة أُخفقت وكأنها جاءت منشطة لليهود فتقدموا ونجحوا، لا سيما النجاح المالي حتى بات من الحقائق المقررة أن زمام الأمور المالية الكبرى في العالم في أيديهم.
ويقدَّر عددهم في العالم حسب إحصاءِ سنة ١٨٩٨ بنحو ٨١٢٠٠٠٠ وهم منتشرون كما يأتي:
في أوروبا ٦٧٥٠٠٠٠، وفي آسيا ٥٠٠٠٠٠، وفي أفريقيا ٣٥٠٠٠٠، وفي أميركا ٥٠٠٠٠٠، وفي أستراليا ٢٠٠٠٠، ولا يبعد أن يكون عددهم الآن أكثر من عشرة ملايين.
وأغرب من هذا كله أن بعض الإنكليز يدعي أنهم من سلالة الأسباط العشرة، ولم نجد لهذه الدعوى أثرًا من الصحة إلا شدة ميل هذا البعض إلى التسلسل من شعب يقولون إنهُ شعب الله الخاص، فكأنهم يريدون أن يحصروا جميع المزايا الطيبة فيهم.