فرق اليهود
أشرنا في الفصل السابق إلى الأسباب التي دعت إلى وضع التلمود في العصور المختلفة، وتكلمنا عن كثرة الجمعيات والمدارس والفتاوى في تلك العصور، ولا يخفى أن كل تحقيق في شريعة من الشرائع الدينية أو السياسية يئُول إلى توليد فرق كثيرة كل فرقة منها تنحاز إلى مذهب، وتميل إلى تفسير، ثم تزداد الفروق بين هذه الفرق حتى يكون منها طوائف يجمعها الدين ويفصلها شيءٌ من الاختلافات الخطيرة أو التافهة، واليهود في نظرهم في الشرائع لا يخرجون عن هذا الناموس، وعليهِ فقد نشأ فيهم من الفرق الدينية مثلما كان لغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وقد أفردنا هذا الفصل للكلام على فرقهم هذه بالإيجاز:
(١) الفريسيون
واسمهم مشتق من معنى الإفراز دلالةً على انفصالهم عن عامة الشعب فيما يختص بالسلوك، نشئُوا في أيام المكابيين وغرضهم المحافظة على الشريعة والتمسك بها مع التقاليد الحرفية التي كان يتناقلها الخلف عن السلف، وكانوا يهتمون بدرس الشريعة وتفسيرها اهتمامًا عظيمًا، ولهم حدود دقيقة في التمييز بين الطاهر والنجس، حتى إنهم وضعوا للطهارة درجات يرتقي إليها الإنسان بعد الدرس والتكريس، ولم يكونوا يختلفون عن غيرهم من اليهود في المعتقد، وإنما كان همهم الوحيد منصرفًا إلى طاعة الشريعة بحسب التفاسير الموجودة في التقاليد، وكانوا على الغالب الفئة المتعلمة من شعب اليهود، وكانوا يؤمنون أن حرية اليهود وكيانهم لا يُحفظان إلا بحفظ الشريعة حفظًا مدققًا، وهذا موضع الخلاف بينهم وبين الصدوقيين، فإن هؤلاء كانوا ينادون بوجوب فصل الدين عن الحكومة قائلين: إن الله خلق الإنسان كفؤًا ليتولى إدارة شئونهِ بنفسهِ، وإن من العبث الإخلاد إلى السكينة وانتظار إرادة الله، في حين أن الإنسان يستطيع أن يحل المشاكل التي أمامهُ بنفسهِ، وكان الفريسيون يؤمنون بالخلود حتى يُجازى الإنسان في الحياة الأخرى عن أعمالهِ في هذه الدنيا خيرًا كانت أو شرًّا، أما الصدوقيون فإنهم لم ينكروا هذا القول ولا رفضوهُ، ولكنهم قالوا أن ليس في التوراة ما يؤيدهُ، وأن لا حاجة لحياة ثانية بعقابها وثوابها.
وقد نشأ من الفريسيين جماعة من أكبر علماء اليهود في الشريعة والدين، وقد أشار الإنجيل إلى بعضهم، ويتضح من التلمود أن الفريسيين لم يكونوا جميعًا على ما يرام، وأن كثيرين منهم كانوا كذلك بحسب الظاهر فقط، أما باطنًا فكانوا يخالفون تعاليم فرقتهم، وقد قسَّم التلمود الفريسيين إلى سبعة أقسام، وقال: إن ستة من هذه السبعة لا تستحق الاعتبار لمخالفتها الغاية المقصودة، أما السابعة فأفرادها هم الفريسيون الحقيقيون، وهم الذين يعملون إرادة الله؛ لأنهم يحبونهُ.
(٢) الصدوقيون
هم أشراف اليهود وأبناءُ الأسر النبيلة فيهم ورجال الكهنوت منهم كانوا من الفرق الكبيرة، وبينهم وبين الفريسيين مشاحنات وخلاف أتينا على ذكر بعضها في الكلام على الفريسيين، ولا يعلم بالتأكيد سبب تسميتهم كذلك، وإنما ظنَّ البعض أنهُ مأخوذ من مادة صدق، وأن اللفظة تعني الصادقين، والصحيح أنهم اتخذوا لقبهم من اسم زعيمهم صدوق الكاهن الذي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد، وقد ظنَّ بعض الكُتَّاب والمؤرخين أن الصدوقيين يسلمون بصحة التوراة إلَّا أسفار موسى الخمسة، وأقام صدوق كاهنًا في بيت المقدس الثاني ثمانين سنةً، ويظهر من الجدال الذي كان بينهُ وبين الفريسيين أنهم كانوا غير راضين عنهُ لاعتقادهم أن أفكارهُ مضادَّة للتوراة، وكان لهُ زميلٌ اسمه بينوس قام بفرقِ أخرى، وعلَّم بالاكتفاءِ بما في التوراة وعدم الالتفات إلى التلمود، ويقال: إنهُ أول رجل في اليهود القرائين، وعلى ما يظهر أنهُ كان من حزب الصدوقيين، وظلت هذه الفرقة نحو ستمائة سنة هادئة، ثم ظهرت في بغداد، وهم اليهود القرائين المعروفين الآن.
(٣) الكتبة
كان الكتبة علماء الشريعة وحافظي تقاليدها، وكانت لهم العناية بحفظ الهيكل والمجامع تحت مراقبة الكهنة، وكان الشعب يوقرهم ويحترمهم، وكانوا معلمي الشريعة منتشرين في بلاد اليهودية بأسرها، ومن أراد درس الشريعة والتعمق فيها، ففي مدارسهم، ولما كان التعليم مجانيًّا فرض على الكتبة أن يمتهنوا المهن التي تمكنهم من تحصيل معاشهم، وكانوا درجات من حيث العلم والأهلية فبعضهم كانوا أعضاء في المجمع الأكبر، وبعضهم ناموسيين أو معلمين، ومن لم يكن منهم من العلم في منزلة تؤهلهُ إلى هذه الأعمال كان كاتبًا ينسخ الكتب المقدسة ويكتب الرسائل والكتب والعقود … إلخ.
(٤) الأسينيون
فئة غريبة الأطوار، ولها علاقة بالديانتين النصرانية والإسلام، لا موضع لذكرها هنا، ويُظن أن يوحنا المعمدان كان منها، كما يتبين من مقابلة أسلوب معيشتهِ ومكان سكناهُ في البرية مع أسلوب معيشتهم ومكانهم كما سيأتي، وهم فرع من الفريسيين ورد ذكرهم ووصفهم في التلمود وتاريخ يوسيفوس وبينيوس والمقريزي وأبي الفرج، وأهم ما يُعرف عنهم أنهم استقلوا بنفوسهم، وابتعدوا عن غيرهم واتبعوا طريقة التقشف في المعيشة إلى حد غريب، وكانوا يحتمون على نفوسهم الطهارة والابتعاد عن الأقذار والنجاسة، فكانوا يغتسلون كل صباح كالكهنة في مياه الينابيع الصافية، ولا يتعاطون تجارة، بل يعيشون على ما يزرعونهُ من الحبوب والفواكه، وكانت مقتنياتهم شائعة بينهم، فما للواحد منهم ملك غيرهِ أيضًا، وكانوا يفضلون العزوبة على الزواج لامتناع استمرار الطهارة الدائمة في الحالة الثانية، وكانوا يكرهون الدم ويبتعدون عن مواقع القتال؛ ولذا كان أكثرهم يتمنع عن الذهاب إلى الهيكل، حيث كانت الذبائح تقدم يوميًّا، وكانوا يستحضرون العقاقير ويجمعون الحشائش، ويشتغلون بشفاءِ الأمراض وإخراج الشياطين ولا يقسمون، وكانوا ينظرون إلى الفلسفة من حيث علاقتها بالله، ولم يزد عددهم عن أربعة آلاف في عصر من عصور وجودهم، وكانوا يقيمون حول البحر الميت، ولم تطل حياة هذه الفرقة فإنها كما انشقت عن الفريسيين عادت فاندغمت فيهم، وغاب ذكرها من الأذهان، حتى إنهُ في القرن الثالث بعد الميلاد لم يكن بين علماء اليهود من يذكر عنهم شيئًا.
وقد بقيت فرق أخرى اتصلت أخبارها بنا، ولكنها ليست في مكان التي أتينا على ذكرها من الأهمية، وأشهر هذه الفرق السمرة، وسموا كذلك على اسم بلدهم المذكورة في التوراة باسم شومرون وهم من الإسرائيليين الذين عادوا من السبي قبل أن عاد الذين بنوا الهيكل، ولما أرادوا أن يتفقوا معهم على إعادة بنائهِ رفض هؤلاء فانفصل عنهم السمرة وبنوا هيكلًا على قمة جبل جرزيم بقرب مدينة نابلس، واشتدَّ العداءُ بين الفريقين حتى انقطعت بينهم المواصلات والعلاقات، والسمرة يتمسكون بالتوراة، ويرفضون التقليد، وقد بقي منهم إلى عصرنا الحاضر نحو ثلاثمائة، وهم في نابلس، وفي كل سنة يصعدون ثلاث مرَّات إلى جبل جرزيم هذا للعبادة منتظرين مجيءِ المسيح الموعود به.
ومن هذه الفرق الهيروديون وهم طائفة سياسية كانوا يميلون إلى هيرودس؛ لكي يقربهم من الرومانيين، والجليليون وهم أتباع يهوذا الجليلي الذي ظهر قبل الميلاد، وكان يقول أن لا ملك لليهود غير الله، والليبرتيون وهم من المشهورين، وغيرهم أضربنا عنهم حبًّا بالاختصار.