مع محمد رشيد رضا
المقال غير ممهور بإمضاء، ولكنه استنتاجًا، من قلم الأستاذ المسلم الكبير، أحد أعضاء مؤتمر الخلافة، بل والإصبع الضاغط على أحد أزرار المؤتمر في مصر، لترن رناته في جنبات مكة المكرمة، السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار وتلميذ الأستاذ الإمام، عليهما من الله السلام.
فالمقال في مفتتح المنار، وتصدير للسنة الثلاثين من سني المجلة التي أنفقتها في جهادها المبرور، في مؤتمر الخلافة، وأمثال مؤتمر الخلافة، وفي تجهيز كشوف النفقات التي بعثرت في مؤتمر الخلافة، رحمه الله ورحم زمانًا أغاثنا، فيه اليد المعروفة، اليد العليا، صاحبة الحول والطول، وثابت القول، من مؤتمر الخلافة، وقصاع مؤتمر الخلافة، وشيوخ مؤتمر الخلافة، فعلى مؤتمر الخلافة الرحمة الواسعة، وللسيد محمد رشيد بن رضا السلفي الأثري المدني العصري الإرشادي الاجتماعي السياسي الصبرُ والسلوان.
ليت شعري مَن للإسلام بعد أن انحلت روابطه، وتصدعت قوائمه وعملت فيه يد الأتراك بالهدم، وسامه الملحدون الخسف والهضم، وضربت فيه معاول التخريب يحملها الزنادقة، وألغمت أسسه أيدي الملاحدة؟ مَن للإسلام وقد تآمر عليه المستشرقون والشرقيون، وتآزر عليه الساسة والكاتبون؟ من للإسلام يمسك بيده، يقيم عثرته، وينفض من التراب لمته إلا السيد السلفي الأثري المدني العصري الإرشادي الاجتماعي السياسي محمد رشيد بن رضا، وسيده عبد العزيز آل سعود ملك نجد والحجاز، وملحقاتهما، وملحقات ملحقاتهما، وملحقات ملحقات ملحقاتهما … إلى ما شاء الله من الصحاري القاحلة، والبوادي الماحلة، والأركان الخراب التي لا ينعق فيها بوم ولا غراب، عليهما من الله السلام، والتجلة والتحية والإكرام.
ولقد حفز السيد إلى كتابة هذا المقال الفائض الجوانب بحرارة الإيمان، ما رأى من ماحل الرأي تنشره مجلات الملاحدة، وتذيعه صحف الزنادقة، وقد اختار من هذه المجلات وأصحابها صاحب مجلة ومطبعة في مصر معروف وفي حلب مجلة حديثة مثلها، يظهر أن صاحبها مقلد ينقل أقوال أشهر الكتاب من ملاحدة مصر، وقصائد شيخ ملاحدة العراق وأمثالهم، ويثني عليهم وينوه بآرائهم، ولكنه لا يتجرأ على التصريح بكل ما يصرحون به، بإمضائه، ومنهم أحد محرري الجرائد اليومية المأجورين، الذي كتب مقالات في تقبيح النص في الدستور المصري على جعل الدين الرسمي للحكومة المصرية الإسلام، وطلب أن تكون حكومة معطلة لا دينية، ومقالات في سَن قانون مدني للأحوال الشخصية، لا يتقيد فيه بشيء من الأحكام الشرعية الإسلامية، وقد كان من أركان محرري السياسة. ويقال إن له صلة وعلاقة ببعض جمعيات اليهود، وأفراد هذه الطبقة لا يدعون التدين، ولا يمتعضون لوصفهم بالتعطيل، بل منهم من يفتخر بذلك، وهؤلاء عند الأستاذ هم الطبقة الأولى من الملاحدة، وقد وصفهم بقوله: «إنهم الذين سممتهم التربية الإفرنجية وأفسدتهم الآراء المادية وخنثهم الإسراف في الشهوات البدنية.» وقد نسي الأستاذ — بيض الله وجهه وأعلى كعبه — أن يضم إليهم أنصارهم وأنصار أنصارهم، وتلطف فلم ينزل عليهم اللعنة الأبدية، ولم يفصلهم عن حظيرة الإسلام، ولم يطردهم من الجنة، وهذا أقصى ما يصل إليه رجل ثقفته علوم الشرع ونزهه الإيمان، عن أن يحتل مركز الديان، فللأستاذ من هؤلاء جميعًا الشكر والمنة، ننقلها إليه عنهم تطوعًا. ومن رائق آداب الأستاذ أنه لم ينعتهم بسوى أنهم المسممون المخنثون، ووالله إن هذا لمنتهى الكرم، وأسمى منازل الأدب والفضيلة، كيف لا والأستاذ من ورثة النبي، العربي الأمي القائل: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.»
ومما ثبت عندنا بالخبر المستفيض، والخبر الطويل العريض، أن من أفراد أولئك الملاحدة، دعاة للكفر، وسعاة للصد عن الإسلام، وأن منهم من يأخذ على ذلك جعلًا من جمعيات التبشير النصرانية، ومنهم من يتقاضى مكافأة من بعض جماعات اليهود البلشفية أو الصهيونية، ومنهم من يخدم الدول الاستعمارية ويأخذ أجره منها، وأعظم هذه الأجور المناصب والوظائف في البلاد المسيطرة عليها. ومنهم من لذته في ذلك التشبه ببعض فلاسفة الإفرنج وكتابهم الأحرار، والحظوة عندهم، والثناء عليهم في كتبهم وصحفهم، وهم لا يثنون إلا على من كانوا عونًا لهم على أقوامهم.
بل نعوذ الأستاذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر حاسد إذا حسد، وقد تحفظ الأستاذ في هذا الكلام كل التحفظ، فلم يذكر أسماء ولا أشار إلى شخص، فهو إنما يناهز فكرة ويجالد مبدأ دفاعًا عن الإسلام وعن حظيرة المسلمين، حذر أن يجابه أحد هؤلاء الملاحدة، وجلهم (مكشوف الوجه)، بعلاقته بابن السعود الذي هدم القبور وبعثرها واغتصب الإرث القديم، من أولاد النبي، وتربع على عرش الرمال، يقطع مفاوزها على الصادر والوارد، والذاهب والعائد، ويجبي جباية ملكه من الحادي والبادي، والرائح والغادي. خشي الأستاذ الحكيم أن يتخذ أحد هؤلاء المكرة الخبثاء هذه العلاقة التي ظهر فيها الأستاذ بمظهر العبد الرقيق، للسيد المطاع، خدمة منه للإسلام والمسلمين، وتطوعًا للدفاع عن الدين الحنيف، وهو يعتقد من صميم قلبه أن ابن سعود غير جدير منه بهذا الخضوع، ذريعة لأن يلوكوا بألسنتهم ما تذيعه العامة الجهلاء، عن أكياس الذهب وقناطير الفضة، التي يدرها ابن سعود على المنار، وصاحب المنار، أجر دفاعه عنه وعن الإسلام، تعالى الأستاذ عن ذلك علوًّا كبيرًا. وهذا لعمري دليل واضح على أن الأستاذ قد جمع إلى حكمة الدين، لباقة السياسة التي يتطلبها العيش في الدنيا، أبقاه الله وأسعده أبد الآبدين ودهر الداهرين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وقد أخبرنا من خبر حالهم، وعاشر رجالهم، بطرق الدعوى التي يفتنون بها الشبان عن دينهم، ولا سيما الأذكياء منهم، وسنبينها في مقال آخر. ومما بلغنا من أمرهم أنه لم يكن لهم نظام للدعاية إلى عهد غير بعيد، ثم وضعوه.
ولما ألفت مصر جمعية الشبان المسلمين، عارضوها بتأليف «جمعية الشبان المصريين» لأجل القضاء عليها بدعاية الوطنية، قبل أن تشب عن الطوق، وتشب نارها، فلا يكون لهم بها طوق، ولكنهم لم يقوموا جمعية الشبان المسيحيين، بقول ولا عمل، بل وجد فيها من يكبر شأنها، ويلقي المحاضرات في ناديها.
نقول، والعلم عند الله والأستاذ، إن الذي كون جمعية الشبان المسلمين أعضاء من الحزب الوطني، حزب الإسلام والمسلمين، فأراد أن يعارضهم أعضاء من الوفد سياسيًّا بجمعية الشبان المصريين، ولقد كشف لنا الأستاذ عن سر من الأسرار الخفية التي احتجبت وراء هذه الدعوة، فأظهر لنا الوفد في ثوبه الصحيح، وعلى رأسه الأستاذ النحاس المصلي الصائم الراكع الساجد القانت القائم الليل وأطراف النهار، فللأستاذ من الأمة الشكر على كل حال.
وأما ملاحدة بلادنا، ودعاة الكفر والإباحة فيها، فالتجديد الذي يدعون إليه هو هدم كل ما يربط الأمة ويشد أزرها، ويجمع كلمتها ويهذب أخلاقها من روابط الدين، والمحافظة على العرض، ويسمون الكفر والفجور وإباحة الأعراض تجديدًا طريفًا ومدنية وتقدمًا وترقيًا، ويسمون ما يقابل ذلك من التقوى والعفة والصيانة قديمًا باليًا، وقد استشرى عبثهم وفسادهم وعظم خطرهم بكثرة المجلات والجرائد التي ينفثون فيها سمومهم، وسوء سيرتهم الشاف عن خبث سريريتهم، فإنه لا مزية لأحد منهم في علم نافع ولا عمل صالح، وإنما هي خلابة الألفاظ التي وافقوا فيها أهواء كبار الفساق وصغار الأحداث، وإن أهل الرأي والبصيرة عندنا يجزمون بأن زعزعة العقائد وفساد الأعراض بإباحة النساء، يناط بفساد أكثر الجرائد والمجلات.
غير أن الأستاذ — نفعنا الله بعلمه وأدبه — قد نسي أن من أولئك الملاحدة فئة تتعمم وتلبس الجبة والقفطان، وتتمنطق بأحزمة الخز والديباج، وتبالغ في تكبير العمامة، حتى يصير عند حد قول حافظ «كالبرج لكن فوق تل نفاق» مبالغة في الإثم والعدوان، وإخفاء لأمرها أن يُعرَف، وسرها أن يُكشف، فتحارب الدين باسم الدين، وتقاوم الإسلام باسم الإسلام سرًّا لا علنًا واستخفاء لا جهرًا، وهؤلاء والله يا سيدي الأستاذ لأكثر شرًّا وألأم نفسًّا، وأشد فسادًا، وأعظم إثمًا، عليهم وعلى الملاحدة المجددين اللعنة الأبدية.
وأظن أن الأستاذ لا يزال يذكر منهم شيخًا، معممًا ربعة القوام أبيض الوجه، عريض المنكبين، يمشي الهوينا، كما يمشي الوجي الوجل، لا خشية من الله، ولكن خيلاء وإسرافًا، فكان يجلس إلى طاولة معروفة وفي مكان معروف بقهوة «سبلنددبار»، وهي لا تزال قائمة إلى اليوم، ومحله منها لا يزال مسودًا بالخزي، أعاذنا وأعاذه الله، فإذا ما استوى في مجلسه اجتمع من حوله جماعة من المرد الوسماء، حتى إذا انتصف الليل، قام ومعه منهم جمع لا للمسجد ولا للمحراب، ولكن للذة «يباشرها أو تباشره».
أفلا تعتقد يا سيدي الأستاذ أن هذا الشيخ وأمثاله شر على الإسلام، والمسلمين، من ملاحدة المجددين؟
وإني لأرجو أن يوفقك الله في خطواتك السديدة، وأن يزيدك من فضله، إن الفضل لله يهبه لمن يشاء، وهو العزيز الحميد.