مع رومن رولان
الظاهر أن مؤلف هذا الكتاب من المعجبين بالزعيم الهندي، ومن أكبر المناصرين لحركة الاستقلال القائمة بين الأمم الشرقية والتي بعثت بعد الحرب العالمية بعثًا جديدًا. والحق أن أمثال رولان قليلون جهد القلة بين الأوروبيين.
وآخر من عاش منهم في فرنسا بيير لوتي العظيم الذي نصر الشرق، ونصر الأتراك في أحرج مواقفهم، وحمل على أعدائهم في الوقت الذي تألبت عليهم فيه أوروبا كلها.
من أصعب الأشياء أن نحدد شخصية غاندي، فإنك لا تستطيع أن تقول إنه سياسي، ولا زعيم ثوري، ولا نبي أتى بدين جديد، ولا فيلسوف بشرَ بمذهب حديث، ولا إنه من رجال الديبلوماسية على القواعد التي جرى عليها أهل أوروبا في العصور الأخيرة. فإن أول ما يتطلب السياسي من الصفات أن يكون لينًا في الحق وفي غير الحق، وليس هذا من صفات غاندي؛ فإن صلابته في الحق تكاد تكون من أخص صفاته.
والزعيم الثوري لا يفهم معنى للمبادئ التي يبشر بها غاندي؛ فالثوري لا يعرف غير القوة من سلاح يحارب به المستبدين. إنه لا يعرف للسلب ولا للاستكانة معنى، بل إن عدم التعاون دليل على الضعف الإنساني وبرهان على الإخلاد للقوة التي لا يمكن أن يدال منها بالقوة مثلها. كذلك لا يمكن أن تقول إن غاندي نبي جديد، على الرغم من أنه من أشد الناس استمساكًا بقواعد الهندوس ولزومًا لظاهر ما تنص عليه قواعده الأولية.
لأن من أخص صفات النبي أن يدعي بأنه موحًى إليه من قوة عليا يستمد منها النهي والرشاد. ولا تستطيع أن تقول إنه فيلسوف؛ لأن الفلسفة تبعده عن قيادة الجماهير بقدر ما يبعد الدين على حقيقته عن الدنيويات، ولا هو من رجال الديبلوماسية وبين مراوغاتها الغريبة. إذن فالمهاتما غاندي يعيش في هذا العالم بجسمه فقط دون روحه، وهو عند حد قول رصيفه الكبير طاغور؛ إذ يصف الناسك «شيء ولا شيء».
ولقد أردت أن أستخلص من كتاب رولان شيئًا أستطيع أن أحدد به شخصية المهاتما الكبير فلم أستطع. والحق أني انتهيت من الكتاب أشد حيرة مما بدأته. ولن يكون للإنسان من سبيل يطفئ به حيرته، وينقع غلته إلا بتحديد الشخصيات إذا أراد أن يخرج بنتيجة ما من كتاب يتناول حياة نابغة كبير بالوصف والتحليل. والحقيقة أن الكتاب فائض الجوانب في شرح هذه الشخصية الفريدة، غير أنه بعيد عن أن يعطيك في غاندي فكرة محدودة؛ فإنك ولا شك تجد نفسك بعد أن تقرأ الكتاب محتاجًا إلى من يجيبك «من هو غاندي وما هي شخصيته؟»
على أنه من أكبر العسف أن نلزم رولان بأن يفهم من غاندي ما لم يستطع أهل الهند أن يفهموا منه، فهو لغز من ألغاز الطبيعة وسر من أسرارها العميقة، التي قعدت عقليات أهل الشرق التي هي أقرب إليه من غيرها عن أن تفهمه وتعرف سره. على أنك لا تكون أكثر بعدًا عن تحديد شخصية غاندي منك إذا لجأت إلى الخيال، فقلت إنه كتلة متحركة من الأخلاق الفاضلة، أو جبل لا يتزحزح عن الحق، وملاك يحلق في سماء المعنويات. فإنك مهما قلت من أمثال هذه الأشياء، لن تصل إلى شيء من تحديد شخصية الزعيم الكبير.
أما في العمليات، فإن غاندي أبعد عن أن يؤثر في السياسة عمليًّا تأثيرًا يؤدي إلى مبدئه في «الهند سواراج»، أي استقلال الهند الذاتي. فإن الفرق، بين طرائقه العملية وبين ما يرمي إليه من مقاصد، بعيد، حتى ليخيل إليك أن غاندي يريد أن يهبط الاستقلال على الهند من السماء.
ولغاندي في الهند أعداء سياسيون لا يرون في طرقه السلبية من فائدة عملية مطلقًا. بل أظن أنه من خير الهند أن تنزع إلى التجديد الحديث على القواعد الأوروبية؛ لتفهم ما هي حرية الفكر وما هي النتائج التي تترتب على اختلافاتهم الطائفية. فإن اتحاد الهند سبيل الاستقلال الحقيقي، ولا سبيل لهذا الاتحاد إلا بالقضاء على النزعات الطائفية التي تغلي مراجلها في صدور أهل الهند على اختلاف أديانهم ومذاهبهم. على أن الاختلاف الطائفي في الهند أمر موروث منذ أبعد الأزمان، وكان سببًا في أن يخضع أهل الهند لملوك من مختلف بقاع الأرض. على أن الإنجليز هم أكثر من عرف من الناس كيف يستغلون هذا الخلاف ليخضعوا الهند لعدد من الجنود لا يتجاوز عدد أهل مدينة واحدة من مدنهم الكبرى.