مَع سَلامة موسَى
جرت العصور على طريقة من النقد لم ترض الكثيرين من الكتاب والأساتذة على الأخص. وما يعنينا من شيء رضوا أم غضبوا ما دمنا نرضي ضميرنا ونقول ما نعتقد، لا فرق عندنا بين صديق وغير صديق.
وتناولت العصور فيما تناولت بالنقد بعض أشياء نشرها الأستاذ سلامة موسى الذي لا يمكن بحال أن نحاول أن نغمطه حقه أو ننكر جهوده في سبيل العلم والأدب. غير أن هذا لا يصرفنا مطلقًا عن أن ننقده ونقول بأن أسلوبه عامي، والحقيقة أنه عامي الأسلوب لا تجري ديباجته على ما تتطلب أساليب العربية المنتقاة، ليكون أسلوبًا عربيًّا. ما رمينا الأستاذ سلامة بعد ذلك بالجهل ولا وصفناه بالعي ولا بشيء مما يجري على أقلام الكتاب عادة، وما لبثنا على ذلك غير قليل حتى قرأنا في «الحديث» خطابًا أرسله الأستاذ سلامة إلى الأستاذ المغربي يُعرِّض فيه بالعصور ومحررها ويقول بأن كتبه تقرأ بآلاف ومئات الآلاف. على أن هذا إن صح لا يغير من رأينا في أسلوبه شيئًا. وهنا نكرر أيضًا أنه أسلوب عامي ليس فيه من الأساليب العربية عين ولا أثر. على أنه يكفي لأن ينقل لك في كلمات عربية وجمل تتركب من ألفاظ عربية فكرة تجول في رأس صاحبها. وماذا يعنيني إذا كان الأستاذ سلامة موسى قد تربى في إنجلترا أو في بلاد الواق، ليكون لهذا الأمر عندي أقل اعتبار في الحكم على أسلوبه العربي؟ ألم يعترف الأستاذ سلامة بأن أسلوبه تلغرافي «لاسلكي»؟ وليقل لنا بعد ذلك الناقدون ما هو الأسلوب «التلغرافي» في اللغة العربية وعند كتاب العربية؟
ولقد قرأت في العدد الأخير من «الحديث» ردين على كلمة تفضَّل صديقي صاحب الحديث بنشرها في العدد الخامس من سنتها الثانية. أحد الردين «لبكالوريوس آداب من أمريكا» وما أدراك ما أمريكا، هو محمد أفندي علي ثروت. والثاني لصديقي الأستاذ زكي مبارك. أما الأستاذ فيقول بأني أتبع أسلوبًا ما نفع غيري لينفعني. أما النفع والضر يا أستاذ زكي فبيد الله، وله في ذلك أقدار مقدورة. وأما قولك: «فهل يتفضل … صاحب العصور فيذكر من هم الكتاب المعاصرون الذين يقف منهم الأستاذ سلامة موسى موقف الشربتلي من محمد عبده وجمال الدين الأفغاني»، فليس من الأسئلة التي يعسر الجواب عليها. فلماذا لا يكون الدكتور طه حسين أو الدكتور فهمي أو الدكتور فريد رفاعي أو يكون الدكتور زكي مبارك نفسه؟ وكن على يقين أيها الصديق أني ما أبتغي بذلك نفعًا أرجوه أو كسبًا لشيء من حطام الدنيا صغر أم كبر، بل هي طريقتي وأسلوبي لا أنفك عنهما. أما النفع والضر فلا شأن لي بهما بعد أن أرضي نزعتي، وأعبر عن رأيي في صراحة لا تقبل التمويه.
وفي الجملة فكتب سلامة موسى قد امتازت بجمال الأسلوب وبالمزاج الفلسفي وبالنظر التحليلي الثاقب في التاريخ الإنساني (مرحى مرحى) وتطور تفكير العقل البشري، وهي مفعمة بالأدلة المنطقية القاطعة. وأما أسلوبه فهو البديع الغير المعقد (كأسلوب البكالوريوس آداب)، المتكمل لكل صفات المجيدين ممن ضربوا بسهم في تاريخ الإنسانية (ثم ماذا؟) وتطور ذلك المدى الذي حلق في فضائه العقل البشري (وما هو تطور المدى أيها البكالوريوس آداب؟) بالاختصار فهو السهل الممتنع (وهل يؤدي النص الأول هذا المعنى؟)
ولم يكن لسلامة غرض يرمي إليه بكتابته التي سرت فيها روح العصر سريان الدم في الشرايين (الدم يجري في الشرايين ولا يسري)؛ سوى العودة لرسم صورتنا الحاضرة (كصورة البكالوريوس المنشورة مع مقالته في الحديث، والظاهر أنها مقطوعة من «أبونيه» قديم)، وهي صورة جزئية من مجموعة الصور التي تتألف منها الإنسانية (ما يعني البكالوريوس آداب بهذا؟) كما رسم صورة أمته كل كاتب خالد.
ولم تكن الصورة التي يعطينا إياها (سلامة) شبيهة بالصور التي رسمها الكتاب المزوقون من مجرد سحب بحتة سرعان ما تشرق عليها الشمس فتنقشع وتضمحل، ولكنها صورة مصنوعة من مواد الأرض التي نعيش عليها (أي صورة من طين أو زلق)، والتي تعطينا مادة التفكير والحياة (مرحى مرحى)، بل هو صرح من التفكير وحصن منيع أو معبد مقدس للعقل المصري المعاصر يستطيع أن يجد فيه كل طبعي من أعصابنا، ومصور إحساساتنا، الفرصة السانحة ليتعبد في محراب الجمال المقدس (وهكذا تكون الأساليب الأمريكانية، وإلا فلا).
ولا نستطيع أن نقول عن سلامة سوى ما يقرره روح العصر عنه (ولم أتشرف بعد بمعرفة روح العصر أفندي أو الأستاذ روح العصر، ولعله لا يزال في السماء السابعة). وها هي كتبه ومقالاته منشورة أمامنا (على الطاولة)، وكأني أسمع روح العصر (أسمعنيه معك وفقك الله ومتعك بالبكالوريوس) يقول عنه إنه قوة سلكت طريقًا محفوفًا بالموانع … إلخ إلخ.
ولو كنا في أحكامنا منزهين عن التغرض والتحامل لقدرنا سلامة موسى كما يقدر الروسيون «تورجنيف» وكما يقدر الفرنسيون «فلوبير» …
وبعد، فيحسن بالأستاذ سلامة موسى أن يمنع مثل «البكالوريوس آداب من أمريكا» عن أن يدافع عنه هذا الدفاع الذي هو أشبه شيء بالندب في المناحات منه بالكلام العربي الذي يقتضيه موقف كموقفه يدافع فيه عن أسلوبه. وإني آسف بعد هذا إذ أعترف أني لا أزال على رأيي في أسلوب الأستاذ سلامة. فهو أسلوب عامي، وليس أعرق منه في العامية نسبًا، وأدنى إليها لحمة إلا أسلوب «البكالوريوس آداب من أمريكا».