مع سَلامة موسَى
إذا جردنا الكرة الأرضية من الحيوان، وتخيلناها كأننا لسنا منها، ولا نتصل بها، لرأيناها كما يُرى الكون كله أيضًا مظلمة صامتة.
فنحن نتوهم أن في العالم ضوءًا أو ضوضاء، نرى الشمس تسطع بنورها، ونسمع تغاريد الطيور وصخب الحركة من موج أو ريح، فنتوهم أن الضوء والضوضاء حقيقتان لهما وجود مستقل عنا. ولكن الواقع أن لا وجود لهما في الكون أو على الأرض. وإنما كل ما هنالك حركة نراها أحيانًا ضوءًا أو نسمعها أحيانًا صوتًا.
فالصوت والضوء ليسا حقيقة موضوعية لها وجود خارج عنا، بل حقيقة ذاتية متوقفة على ذواتنا، أي على العين والأُذن. فلو فرض إن كان على الأرض حيوان آخر له حواس غير حواسنا، وليس له عين أو أذن، لما تخيل معنى الضوء أو الصوت.
وهذا القول لا ينطبق على الحقائق العلمية، ولا الأبحاث الفلسفية العميقة، التي تصدى لها كثير من الباحثين في العصور الحديثة.
لقد اختلط على الأستاذ سلامة في هذا البحث أن يفرق بين الإدراك وما يدرك. وكان عليه أن يتساءل هل إذا فقد الإدراك كلية امحت كل المدركات باعتبارها حقيقة طبيعية لها وجود موضوعي؟ والواقع أن الأستاذ سلامة قد اعتمد في هذا البحث على أبحاث الفلاسفة في الفرض الضروري. عندهم أن الإنسان يلزم ضرورة بالاعتقاد بعدة حقائق يستقيم معها علمه الطبيعي، ولم يكن في مستطاعه أن يثبت وجودها بطريق علمي. لا جرم أن هذا لا يؤثر على وجودها الموضوعي الحقيقي، سواء أثبت الإنسان وجوده علميًّا أم لم يثبت. وبالضرورة يخرج عن هذا كل الأشياء النظرية التي لا يرجع إثباتها إلى الحواس وحدها باعتبارها طريق الإثبات العلمي.
فلو أردنا مثلًا أن نثبت وجود حيز للمادة خارج عن حيزنا، لما استطعنا ذلك؛ لأن إدراكها راجع إلى إحساسات كائنة فينا وليست خارجة عن حيزنا. فلو فقدنا البصر امتنع علينا أن نراها، ولو فقدنا الشم امتنع علينا أن ندرك رائحتها، ولو فقدنا الحواس جميعها امتنع علينا أن ندرك أن لها حيزًا خارجًا عن حيزنا. لهذا تحملنا ضرورات العقل والحواس على أن تفرض وجودها فرضًا ضروريًّا، ولولا هذا الفرض لتعذر علينا أن نقوم بأعمالنا وأن نؤدي حاجتنا. أما إذا أديناها وانصرفنا على هذا الفرض في الوقت نفسه كان ذلك دليلًا على أن ميزان العقل قد اختل، وأن ألفته قد انحلت. غير أن هذا كله لا يقوم دليلًا على أن المادة ليس لها وجود حقيقي، أو أنها وهم تصوره لنا الحواس. فإن عجزنا عن إثبات وجودها علميًّا أو إثبات أن لها حيزًا خارجًا عن حيزنا من طريق العلم، لا يؤدي إلى النتيجة التي يريدها الأستاذ، وهي إثبات أنها تكون وهمًا؛ لأن وجودها راجع إلى حواسنا وحدها؛ لأن الحقيقة إن عجزنا عن إثباتها علميًّا راجع إلى ذاتيتنا لا إلى موضوعيتها باعتبارها كائنة. ولا أدري ما هي العلاقة بين وجود المادة في موضوعيتها وبين فقداني لذاتيتي؟
فإذا استطعنا بعد هذا أن نثبت للأستاذ أن الضوء مادة نراها بالبصر وأن الصوت تموجات في مادة لها وجود موضوعي استطعنا أن ننقض نظريته التي يذهب إليها وننقض معها كل ما بني عليها من النتائج.
والحقيقة أن الصوت إن كان عرضًا من الأعراض اللازمة لمادة متحركة، فإن الضوء مادة صرفة. فإذا عجزنا عن إدراكهما بالحواس لتعطل الحواس ذاتها، فليس ذلك بدليل على أنهما وهميان لا حقيقة موضوعية لهما. وهذا كما لو قلت تمامًا إن فقدان الحواس، وعدم إدراك المادة يفقدانها دليل على أن وجود المادة ذاتي لا موضوعي.
إذن فالضوء مادة والصوت عرض ملازم لحركة المادة، وما دام للمادة وجود حقيقي لا يتوقف على حواسنا وذاتيتنا؛ انهارت نظرية الأستاذ سلامة موسى في الحب والجمال ولو بمقدار ما أقام على نظريته هذه من الاستنتاجات.
أما إذا سايرنا الأستاذ سلامة في نظريته هذه لم يصبح لشيء من وجود حقيقي سوى الحواس؛ لأن كل شيء عنده يتوقف عليها. في حين أن الحواس ليست إلا وسائل زائلة تنقل «موضوعية» الطبيعية إلى «ذاتيتنا».
إن الأبحاث الحديثة لم تدر حول فقدان المادة بفقدان الحواس، بل دارت حول إثبات المادة من طريق العلم وبالوسائط العلمية التي لا طريق لها إلا الحواس جريًا على القاعدة التي وضعها سبنسر إذ قال بأن «كل ما لا تدركه الحواس لا يمكن أن يكون صحيحًا»، وهذا ليكون الإثبات علميًّا. ولكن تقييد الأشياء والحكم على وجودها أو عدم وجودها من طريق العلم وبالوسائط العلمية أمرٌ لا يجيزه العقل؛ لأن الحواس ناقصة، والطريقة العلمية ناقصة بالتبعية لها، ومقدار النقص في الأولى، لا بد من أن ينتقل إلى الثانية بالاستتباع. هذا في حين إن عجزنا عن إثبات وجود شيء من طريق الحواس أو بالأحرى بالطرق العلمية، لا يثبت أنه غير موجود، والفارق ظاهر جلي.