بَينَ التصحيحِ والتوضيحِ
نظر الأستاذ عباس محمود العقاد في النقد الذي تناولنا فيه كتابه «الله» في العدد الماضي من المقتطف، ومضى يناقش فيه مناقشة العالم الذي يحاول كما ينبغي أن يحاول العلماء الوصول إلى الحق من طريق التساجل المنطقي الصرف، فسلم معنا بكثير مما خالفناه فيه، وخالفنا في أشياء مضى يعرضها ويوضحها بما عهدناه فيه دائمًا من بيان العبارة وجلاء الفكرة. ونحن إذ نحمد للأستاذ هذا النهج، نجدنا أكثر حمدًا؛ إذ ينتحي أديب مفكر مثله هذا المنحى، وينزع هذه النزعة، كما نود أن يصبح ضمير الناس أكثر يقظة، فيرى نابهون منهم أن في مجال التأمل الفلسفي شيئًا أو أشياء جديرة بأن تكون موضعًا للاستعماق في الفكر أو الموازنات المنطقية.
والحق أنني أخالف الأستاذ العقاد في كثير مما ذهب إليه في ملاحظاته وردوده، بل أعتقد أنه قد جانب الصواب في كثير منها، فلنأخذ من ثمة في النظر في كل مما عرض له الأستاذ في مقاله.
(١) الاستحياء
يقول الأستاذ إن كلمة «أنيميزم»، لها معان كثيرة تختلف باختلاف العلوم التي تدخل فيها، وهي في علم وظائف الأعضاء غيرها فيما وراء الطبيعة وغيرها في علم أصول الإنسان.
ولست أعرف حتى الآن، أن هذا المصطلح قد جرى بأي معنى، في علم الوظائف أو علم وظائف الأعضاء كما يقولون، ولو أن الأستاذ يدلنا على شاهد واحد يؤيد ما ذهب إليه، حمدنا له ذلك حمدًا كثيرًا.
ومن هذا نرى أن المصطلح في علم الإنسان إما أن يدل على اعتقاد في أن الأرواح لها علاقة بالأشياء، وإما على أن الطبيعة مأهولة بطبقات متفرقة من الأرواح، (وهذا ما بحث فيه تايلور)، وهو في علم الأحياء وعلم النفس يدل على القول بأن أساس الحياة روح غير مادي، فضلًا عن الجسم المادي، وفي فلسفة الكون يدل على أن العالم والأجرام السماوية لها أرواح، فهو في جميع مدارجه يدل على الروحانية، وفي جميع استعمالاته يدل على الروح أو الفكرة فيها مطبقة على مختلف هذه العلوم.
وكذلك نرى المعنى في معجم بولدوين الفلسفي، وفي المعجم الأنسيكلوبيدي، وفي معجم سنتشوري، وهي من أمهات المظان العلمية والأدبية، فإذا لم نأخذ عنها، فعن أي شيء نأخذ. أما القول بأن مثل هذا المصطلح لا يرجع فيه إلى المعجمات، وإنما يرجع فيه إلى معنى المذهب، الذي يدل عليه كما يقول الأستاذ العقاد؛ فقول لا حقيقة له من جهات عديدة، منها أنه ليس هناك شيء يقال له (معنى المذهب)، فالمذاهب لا تقوم على معانٍ، وإنما تقوم على نظريات أو فكرات، والطريق السليم إلى تبيانها هي المصطلحات المحصورة المعنى المحدودة الدلالة، ومنها أن المصطلحات إذا رجع في فهمها إلى ما ينقل مذهب من المذاهب، إلى فكر كل قارئ أو باحث من غير تقيد بالمعنى المحدود للمصطلحات، أصبح الأمر فوضى، بل أصبح عماء، بل تعذر أن يقوم مذهب عقلي على أساس ثابت؛ ذلك بأن المصطلح المحدود الدلالة هو الأداة الثابتة في تكييف المذاهب، ولم يخرج عن ذلك مذهب واحد من المذاهب على مدار العصور.
من هنا يقول الأستاذ العقاد: إن المعنى المقصود في مذهب تيلور أن الهمجي كان يؤله الأشياء والظواهر الطبيعية (يقصد الظاهرات الطبيعية)؛ لأنه كان كالطفل الذي يضرب الباب إذا اصطدم به، لأنه يحسبه في حكم الأحياء (يقصد أنه من ذوات الأرواح التي تبعث الحياة)، ونحن لا نقول (الأستاذ العقاد) إن الطفل يضرب الباب لأنه يؤمن بالفكرة الروحية، وإنما نقول إنه يضرب الباب لأنه يؤمن بالاستحياء، أو لأنه يستحيي الأشياء التي ليست لها حياة.
(٢) تعديد الآلهة
ولكنك لا تقول إن القبائل الهمجية كانت تؤمن بالشرك؛ لأن الإيمان بالشرك يقتضي الإيمان قبل ذلك بوحدانية الله، ولا معنى لأن نصف إنسانًا بأنه مشرك قبل أن يظهر على الكرة الأرضية دين يدعو إلى التوحيد، أو يدعو إلى الإله الواحد الذي يدعو إلى غيره أولئك المشركون.
- أولًا: إن القول بأن الشرك حالة لا توصف بأنها كذلك قبل ظهور دين يقول بالتوحيد، أمرٌ ينطوي على مغالطة صريحة، فإذا فرضنا أن دين التوحيد لم يظهر في هذا الوجود، ولا عرف الناس في هذه الكرة شيئًا يقال له (وحدانية الله)؛ أيمنع ذلك لغة أن نسمي الحالة الأولى حالة شرك أو إشراك، وهل نحتاج إلى تحديد معنى «التوحيد» «والوحدانية»، ليكون صرفنا كلمة شرك على حالة تكثير الآلهة أمرًا مستقيمًا مع منطق اللغة؟
- ثانيًا: لم يكن هناك دين يقال له الشرك أو الإشراك، وإنما كانت هناك أديان كثيرة لكل دين، منها آلهته وطقوسه وعباداته ومقدساته ومحرماته (أي طواطمته وطاباته)، وإنما يجمع هذه الأديان جميعًا، حالة واحدة تشملها، هي حالة الشرك أو الإشراك، وعلى هذا ينتفي أيضًا القول بأن هناك إيمانًا يقال له (إيمان الشرك)، وإنما الإيمان يكون بدين، حالته المكيفة له هي الشرك، كما نقول: إن الإسلام دين حالته المكيفة له هي التوحيد.
- ثالثًا: إن ظهور أديان تقول بالتوحيد أمر لم ينقص من حالة الشرك ولم يزد عليها شيئًا، وكل ما في الأمر، أن «التوحيد» جعل معنى «الشرك» أكثر تحديدًا لا غير.
- رابعًا: يقول الأستاذ العقاد:
فلو قال لنا مؤرخ أن الهمج أشركوا قبل أن يؤرخ لنا ديانات التوحيد، لكان كلامه هذا خطأ في التاريخ، وخطأ في التعبير.
ولست أرى في القول بأن الهمج أشركوا، بمعنى أنهم نشأوا ومضوا مشركين، أي خطأ لا في التاريخ ولا في التعبير؛ ذلك بأنهم أشركوا بالفعل، بمعنى أنهم أشركوا مع إله كبير، آلهة صغيرة أو أنهم جعلوا لكل ظاهرة أو حالة إلهًا، أو بمعنى أنهم أشركوا آلهة كثيرة في تدبير الطبيعة والحياة. أما القول بأن إنسانًا كان موحدًا ثم أشرك، أو جماعة كانت موحدة ثم أشركت، فذلك معنى آخر بالمرة، بعيد عن المعنى الأول، بعد الأرض عن السماء.
- الأول: أن تكون موحدة ثم أشركت.
- والثاني: أن تكون مشركة لم تعرف التوحيد قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ.
(٣) أسماء وحروف يونانية ولاطينية
يحتاج الكلام في هذه المسألة الرجوع بعض الشيء إلى مسألة تاريخية: ففي دور الانعقاد الرابع ألف مجمع فؤاد الأول للغة العربية، لجنة من بعض حضرات أعضائه، لتنظر في شأن كتابة الأعلام اليونانية واللاطينية بحروف عربية، وقد اشتركتُ في هذه اللجنة موظفًا، فأعددت لها البحوث واتخذتْ على ضوئها القرارات بعد أن بحثت اللجنة ذلك الأمر بحثًا دقيقًا مستفيضًا، وانتهت عند قرارات تسهل على المعربين تعريب تلك الأعلام، بما يقرب جرسها في اللغة العربية، من نطقها في تينكما اللغتين.
أما الذي حفز المجمع على أن يفكر في ذلك أن كل مترجم من اللغات الأوروبية يرسم الأعلام في العربية منطوقة بحسب اللغة التي يترجم منها، فالمترجم من الإنجليزية ينقل الأعلام كما ينطق بها الإنجليز، والمترجم من الفرنسية ينقلها كما ينطق بها الفرنسيون، وهكذا في حين أن الواجب أن يوحد النطق بهذه الأعلام، فترسم في العربية، رسمًا يقرب جرسها من النطق بها في لغتها الأصلية.
ولقد قرأت في كتاب مطالعة للمدارس الثانوية أقرته وزارة معارفنا الموقرة ويحمل غلافه أسماء خمسة من أعلام أدبائنا، مقالًا رسم فيه اسم قائد يوناني بأربعة رسوم مختلفة، وكفى بذلك بلبلة لطالب ثانوي، لم يشب بعد عن الطوق. لهذا شرعت في وضع معجم في الأعلام القديمة، استهديت في وضعه بالقواعد التي أقرها المجمع، وزدت إليها قواعد أخرى، وربما شرعت في طبعه قريبًا؛ فإن العربية في حاجة قصوى إليه.
فإذا كنت قد نبهت إلى هنات درج عليها صديقي الأستاذ العقاد، فذلك سببها، وهذا منشؤها.
والحقيقة أن اللفظ الأول يجب أن يعرب «أقرونوس» والثاني «أخرونوس»، فذلك يبدأ في اليونانية بحرف «كبا» وهذا يبدأ بحرف «خي».
أما أن يأخذ عليَّ الأستاذ أني رسمت اسم (أوغست كونت) بالغين لا بالجيم، فغالب ظني أن رسمي هو الصحيح، وإن لم يكن في الفرنسية حرف (الغين)، فمن قبل قال جميع الكتاب أوغسطوس قيصر وشهر أوغسطس والقديس أوغسطين، ولا أتذكر أني رأيت كاتبًا عربيًّا رسمه أوجسطين إلا لمامًا وعلى خطأ.
(٤) الثنائية والجدلية
-
Two: Century Dictionary, p. 6558. vol. VI..Lat: duo: old French: doui, dus, deus, deux; new French: deux Greek: duo.
-
Dual: Century Dictionary, p. 1780. vol. ll..L. dualis; Greek: duikos: duo: two.
-
Dialect: Century Dictionary, P. 1590. vol. II..L. dialectos. dialectus: Greek; dialegein: distinguish. Choose, between: from Greek: dia: between: legein: choose, speak.Greek: dialectos: discourse. Discuss, argue, use a dialect or language.
ولأن مذهب كارل ماركس وهو «الديالكتك» يقوم على أن المادة ثنائية الخصائص، تشتمل على الخاصة ونقيضها، ولا يقوم على أن المادة جدلية أو يجادل بعضها بعضًا في أطوارها المتتابعة.
ونقول بأن الذهاب إلى أن مذهب كارل ماركس هو «الديالكتك» أمر لم يقل به غير الأستاذ العقاد، على ما أذكر، وبقدر ما يتسع له علمي، على أني أكاد أجزم به، ذلك بأن مذهب ماركس هو «المادية الجدلية»، «ديالكتيك متيريالزم» وشتان ما بين المذهبين.
يتألف مذهب ماركس من شقين؛ الأول «المادية»، والثاني «الجدلية»، ومن تضايفهما نخرج باسم المذهب كاملًا: فما المقصود بالمعنى من الشقين؟
يقصد ماركس «بالمادية» من ناحية وجودية صرفة أن المادة والطبيعة والدنيا المنظورة، هي في مجموعها حقيقة واقعة قائمة بذاتها، ولا تستمد حقيقتها من أي قوة كانت، سواء أكانت هذه القوة فوقيطبيعية أم استشرافية، كما لا يتوقف وجودها على عقل الإنسان. وإنه من المسلم علميًّا، أن المادة وجدت قبل نشوء العقل البشري، سواء أمن ناحية الزمان أم من ناحية المنطق، بمعنى أن العقل لم يظهر إلا بحكم تطور مادي، وأن المادة ينبغي أن تفسر بمقتضى ذلك، وأن المكان والزمان يجب أن ينظر فيهما باعتبارهما صورتين تتوقفان على وجود المادة.
ويقصد بالجدلية التعبير عن تواصل الأشياء تواصلًا حركيًّا وشمولية التغير بما تتصف به هذه الشمولية، من مظاهر التطرف والغلو، ذلك بأن كل شيء (على ما يرى ماركس) فيه وجه من الواقع الحقيقي، إنما يقع تحت سلطات منظومة من التكيف الذاتي، بحكم أن جملته، أو نيته إنما تتألف من عوامل أو قوى متعارضة، ومن شأن حركتها الداخلية أن تواصل بين الأشياء وعلى هذا ينبغي أن يرفض مذهب الآلية، إذا هو لم يفسر في حدود المادية الجدلية، كما ينبغي أن ترفض جميع الفوقيطبيعيات المستمدة من «الوجودية المثالية».
وإذن فليس في معنى الجدلية، فلسفيًّا أو مذهبيًّا «أن المادة جدلية أو يحاول بعضها أن يجادل بعضًا، في أطوارها المتتابعة» على حد تصوير الأستاذ العقاد، الذي لم يقصد به إلا أن يغرس في ذهن القارئ مفارقة تخدش تفكيره، وهنالك فرق كبير بين المادة والمادية.
ليس في ذلك من ثنائية، ولا من ثنوية، والمذهب كله لا يحتمل معنى التضعيف، بمعنى واحد ثم اثنين، لا يحتمل ذلك لا من ناحية اللغة ولا من ناحية الوضع، وليس فيه شيء من ثنائية المادة كما يقول، بل فيه معنى التعارض بين العوامل أو القوى، وما معنى ثنائية المادة؟ معناه المدرك بديئة أن المادة تتركب من شيئين أو من قوتين اثنتين، كقولك: الإنسان «جسم وروح»؛ فهذه ثنائية، وكقولك: الوجود «مادة وعقل»؛ فهذه ثنائية.
أما القول بأن المادة ثنائية الخصائص لأنها تشتمل على الخاصة ونقيضها على حد قول الأستاذ، فلا يدل على أن المادة ثنائية، وإنما يدل على أن «الخصائص» هي التي تتصف بالثنائية؛ وفرق بين القول بالثنائية منسوبة للمادة وبين الثنائية منسوبة إلى «الخصائص».
وماركس أبعد الناس عن ذلك القول بوجهيه؛ لأنه لم يستند إلى شيء منه في مذهبه جميعًا وعلى الإطلاق. قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ.
(٥) الوجود والعدم والموجود والمعدوم
وقال الأستاذ مظهر عن كلمة الوجود ينتقد قولنا: «إننا نعطي الوجود ألزم لوازمه، إذا قلنا أنه غير المعدوم» فعقب على ذلك قائلًا: «ذلك قول غير مستقيم ذهنًا؛ لأن الوجود يقابله العدم ولا يقابله المعدوم». نقول: نعم … ولكننا إذا قلنا الشبيبة، قصدنا بذلك الشبان، وإذا قلنا العلم قصدنا بذلك المعلومات، وإذا قلنا الوجود قصدنا بذلك هذه الموجودات.
ونقول بأن ذلك قد يقبل في لغة غير لغة العلم، وفي غير لغة الفلسفة؛ لأن هذه اللغة لا تتجوز في تحديد المعاني الدقيقة لكل لفظ.
على أننا لا نقبل هذا المذهب التعبيري في لغة الأدب العام، إلا بتجوز، فكيف بنا نقبله في لغة الفلسفة؟ إلا أن نكون إلى جانب التعسف أدنى، بل لا نبالغ إذا قلنا إننا نكون إلى الخطأ الصرف أقرب شيء.
أضف إلى ذلك أن مقابلة الوجود بالمعدوم خطأ؛ لأن الوجود من الكليات والمعدوم من الجزئيات، فكيف يصح مقابلة الكلي بالجزئي، في بحث فلسفي أساسه التفريق بين أدق المعاني؟!
ناقش الأستاذ بعد ذلك في مسألتين: تتعلق أولاهما بمذهب «كونت»، وثانيتهما بمذهب التطور، وقد يطول بنا الكلام إذا أردنا أن نظهر أن الأستاذ لم يفرق تفريقًا تامًّا بين مذهب «كونت» في الإرادات والأسباب، وفيما سماه «كونت» (دين الإنسانية)، والأمران على ما بينهما من صلة تركيبية في مذهبه، لا يحتمل اتصالهما المعنى الذي خرجه الأستاذ العقاد.
أما كلامه في مذهب التطور، فظاهر من عباراته التي ساقها أنه لم يفرق بين البحث في التطور والبحث في نشوء الحياة؛ إن الأمرين مختلفان جد الاختلاف.
إن أجهل همجي، لهو أصدق شعورًا بالعالم من الفيلسوف العصري الذي يحصر مسألة الحياة في هذا العصر العجيب؛ لأنه على الأقل يدرك للكون عظمة ورهبة تخفيان على الفيلسوف الذي يظن أن الآزال والآباد كانت في انتظاره، حتى يظهر في سنة ١٨٠ أو ١٦٠٠ أو ٢٠٠٠ فيضع الكون كله في تلك العلبة الصغيرة، ويغلقه هناك بالمفتاح الأخير.
فهل نصدق حقيقة أن أجهل همجي هو أصدق شعورًا بالعالم من لابلاس، وكونت، وكانت، وداروين، وبرجسون؟ … أما الفيلسوف الذي يستطيع أن يضع العالم في علبة، ويغلقها بمفتاح، فإنسان له عقل يزن ويرجح ويحكم ويقيس، فأين منه ذلك الهمجي الذي يعجز لجهله وقصوره، أن يحصر عدد أصابعه في اليد الواحدة؟!
وللوقوف بين الماء والرمال لنشاهد الواقع، ونصدق الحسَّ، ونرضي العقل، خير في هذه الحياة من التحليق بأجنحة من الوهم جُل ما فيها من الحقيقة أن لا حقيقة لها.