مَع ويل ديورَانت
لا شك مطلقًا في أن عنوان هذا الكتاب يدل دلالة واضحة على أن موضوعه غير محدود بحد ولا معين بنظرة خاصة يمكن أن تتخذ قاعدة لبحث الكتاب. فإن كتابًا يقال في عنوانه إنه في «حياة عظام الفلاسفة وآرائهم»، لا محالة يؤدي إلى الاعتقاد لأول وهلة أن قاعدة الحكم في هؤلاء الفلاسفة اختياري صرف، راجع إلى مجرد ما يرى الكتاب في الفلاسفة الذين سيتناولهم من رأي قد يخالفه فيه الكثيرون ممن يكبون على درس تاريخ الفلسفة وحياة الفلاسفة.
فإن كاتبًا يختار مثل هذا الموضوع، مثله كمثل من يحاول أن يحكم في لوحات خطتها أيدي كثير من الفنانين تختلف أذواقهم ونزعاتهم باختلاف العصور، فإن حكمه يكون اختياريًّا صرفًا لا قاعدة تحكمه، ولا حدود تحصره. فإذا علمنا أن الفنانين والفلاسفة، والقدماء منهم على الأخص، قد تناوبوا على مدى الأزمان درجات الصمود والهبوط، فمن عرف منهم في عصر، واشتهر أمره وذاع صيته نسي في عصر آخر وأهمل ذكره، أيقنا بأن الحكم فيمن هم أعظم الفلاسفة أو الفنانين بعيد عن أن يتقيد بحكم، أو يجري على قاعدة. وما مثل اسبينوزا عنا ببعيد؛ فإن هذا الفيلسوف الكبير بعد أن نسي وأهمل السنين الطوال أخذت مدارس الفلسفة الحديثة تهتم بشأنه مرة أخرى، ويكب الفلاسفة والمتفلسفون على قراءة مؤلفاته وتحليل شخصيته وفلسفته. ومن يدري لعل اسبينوزا يحمل في مثل هذه الفورة الحديثة من الآراء والمذاهب ما لم يذهب إليها، ومن التأملات ما كان يبعد عن أن يمر بذهنه أو يخطر بخاطره.
على أنك لا تلبث أن تتأثر بهذه الفكرة من عنوان الكتاب حتى تزيد اقتناعًا بها إذا ما استعمقت فيه، وغصت في عبابه الزاخر. والحقيقة أن مستر «وبل ديوارانت» قد استطاع أن يبعث كثيرًا من فلاسفته الذين أحبهم، بل أعاد الحياة إلى الكثيرين منهم. فإنك إذا قرأت ما كتب في اسبينوزا على الأخص أحببت أن تقرأ كل ما كتب اسبينوزا وأن تشارك اسبينوزا آلامه ومسراته. ولا جرم أن هذا أقصى ما يطمع أن يناله كاتب من قارئ. وعندي أن هذا وحده كاف لأن يجعل للكاتب قيمة كبرى وخطرًا عظيمًا. بل لا أتلكأ في القول بأننا في الشرق أحوج ما نكون إلى هذا الأسلوب التشويقي الغريب الذي لم يستطع كاتب أن يحظى به حتى الآن.
غير أن هذا لا يوازي في نظري خطأ المؤلف في اختيار عنوان الكتاب. ولو اقتصر هذا الخطأ على العنوان وحده، ولم يمتد إلى صلب الموضوع لما أعرناه التفاتًا. غير أنه امتد إلى اللباب امتدادًا يبرر كل ما وطأنا به للكلام في هذا الكتاب. فمن بين أصاغر الفلاسفة في نظر «ديورانت» ديكارت وليبنتز وهيجل، بيد أن لوك وبركلي وهيوم لم يستحقوا من صفحات «ديورانت» إلا مقدمات تمهيدية مقتضبة لا تروي ظامئًا ولا تنقع غليلًا.
ومن الجائز أن هؤلاء الفلاسفة وأمثالهم لم يحيوا في كتاب «ديورانت» إلا لأن إعادتهم إلى الحياة أصعب من إعادة غيرهم وأعسر سبيلًا، فكان عجز «ديورانت» عن إحيائهم وبعثهم أعمل من بقائهم حيث هم مقبورون في طيات الزمان من ضعف عناصرهم الفلسفية بالذات.
أما إذا اتخذت عدد الصفحات التي اختص بها كل فيلسوف من هذا الكتاب قاعدة لقياس العظمة، ألفيت أن فولتير أعظم الفلاسفة جميعًا في نظر المؤلف، وأن عظمة نيتشه توازي عظمة كانت، وهربرت سبنسر يوازي أرسطو طاليس، وباكون وشوبنهور يساويان اسبينوزا. فلكل من هؤلاء أربعون أو خمسة وأربعون صحيفة، ولفولتير وحده ثمانية وخمسون، وهذه نسبة يقف أمامها الباحث حائرًا، بل لا نعلم أي مذهب أو فكرة في الفلسفة من شأنها أن تعلي فولتير إلى هذه المنزلة العظيمة التي لم يدانه فيها فيلسوف أو مفكر منذ بدء الخليقة إلى هذا العصر؟
على أن للمستر «ديورانت» بعض العذر إذا اعتبرنا أن تقديره للفلاسفة محدود بآثارهم الاجتماعية، وتأثيرهم في فروع علم الاجتماع. ولهذا يضع مستر «برترندرسل» في القمة ويعتبره أكبر فلاسفة الإنجليز وأقدر مفكريهم في العصر الحاضر.
غير أنك تعميمًا لا تستطيع أن تنفي عن أي فيلسوف من عظام الفلاسفة أثره في عالم الاجتماع. وإذا كان هذا هو المقياس الذي أراد المؤلف أن يحذو عليه، فكيف به يضع فولتير في مكان أنكره على أوغست كونت؟
على أن الكتاب مهما كان فيه من أمثال هذه الهنات ومهما احتوى من الأشياء التي يصح أن تكون عرضة للنقد، فإن مستر «ديورانت» قد نجح ولأول مرة في تاريخ التأليف في مذاهب الفلسفة في كتابة مقدمة للفلسفة يستسغيها كل الناس كما ينتفع بها الأخصائيون.