الفصل الثالث والعشرون
مَع جُون باكر
حَول انفصَال الجنس من الإنسان والحيوان
١
من أخص ما يمتاز به هذا الكتاب وضوح الفكرة وطلاوة الأسلوب وسلاسته على ما في الموضوع
نفسه من استغلاق وعمق. ومن أمتع ما تقع عليه في هذا المؤلف الطريف جدة الطريقة التي استطاع
بها المؤلف أن يعالج الحقائق التي يمكن بها تفسير ملخصات هذا البحث الذي يعتبر من أحدث
ما
تناول العلم في العصور الأخيرة.
أما إذا أخذت في قراءة هذا الكتاب، فلا تلبث إلا قليلًا حتى تعتقد أن سرًّا من أغلق
الأسرار التي ظلت من الألغاز المستعصية على الإنسان قد أخذت رموزه تنحل أمام العقل رمزًا
بعد رمز، وأبوابه تفتح بابًا بعد آخر. على أنك إذا فرغت من قراءته تجد أن عقلك قد تأثر
بفكرة أخرى محصلها أن العلم الإنساني لا يزال أمامه من المستغلقات ما يطلب من العقل حلها،
ليبلغ من المعرفة درجة يمكنه عندها أن تبقى كثيرًا من الأخطاء التي تعتور مباحثه
العلمية.
لم تصبح الذكورة والأنوثة من الأشياء التي يفصل بينها ذلك التصور القديم الذي كان
يوحي
إلينا بأن الذكر والأنثى شيئان منفصلان انفصالًا عنصريًّا بعيدًا. فقد كشف العلم الحديث
أنه
على الرغم مما هو معروف من ملابسة الذكورة للأنوثة أو بالعكس في بعض الحالات، فإن من
الحيوانات ما ينتقل من إحدى هاتين الحالتين للأخرى. فإن نوع السمك المسمى «حيزبون» —
Hagfish — عندما يكون صغير الحجم يلوح كأنه جميعه في
حالة الذكورة، فإذا نما لابسته حالات الأنوثة. وهنالك نوع من صليب البحر — أو نجم البحر
—
يسمى اصطلاحًا «استرينا غيبوزا» — Asterina Gibosa — قد
يكون ذكورًا أو إناثًا أو كليهما معًا، تبعًا للسن وتأثير الحالات الطبيعية. ولديك أنواع
السرطان، فإنها عندما تغزوها الساكولينا — Sacculina —
لتعيش متطفلة عليها وهي من الطفيليات التي تغير كثيرًا من صفات مضيفها —
Host — فإنها قد تتغير من ذكور إلى إناث، بل قد تتغير
بعض مظاهر الذكورة فيها وتنقلب إلى أنوثة صرفة. ويقول العلامة بولتزر —
Baltzer — إن يرقات الدودة الخضراء المسماة «بونيليا» —
Bonellia — تنمو إذا بقيت في الطين إلى إناث كبيرات
الأحجام، ولكنها تصير ذكورًا قزمية ضعيفة إذا ظلت عالقة في خراطيم أفرادها البالغة.
إن أكثر المشتغلين بهذه الأبحاث يعتقدون بأن الجنس إنما يتعين، وذلك في بعض الأصول
الحيوانية على الأقل، بحالتي وجود أو فقدان تلك الكروموسومات التي تدعى كروموسومات الجنس Sex-Chromosomes في الخلايا الجرثومية Germ-cells. ففي بعض الحيوانات، ومنها الحيوانات
الثديية تحتوي أنوية البويضات الأنثوية على كروموسومات جنسية خاصة يمكن أن توجد أيضًا
في
نصف الحييوينات المنوية، ولا توجد في النصف الآخر. فإذا اتحدت بويضة بحييوين منوي وكان
في
كليهما كروموسومات جنسية، يكون النتاج أنثى. ولكن إذا اتحدت بويضة فيها كروموسومات جنسية
بحييوين منوي خلو من هذه الكروموسومات، يكون الناتج ذكرًا.
أما في غير الثدييات من الأصول الحيوانية، كالطيور وأنواع العث، فإن الخلايا المنوية
كلها
متشابهة، ولكن يوجد نوعان من الخلايا البيضية Egg-cells في
بعضها كروموسومات جنسية، والبعض الآخر خلو منها. ومما هو جدير بالاعتبار أن الغالب على
معتقد الطبيعيين أن كروموسومات الجنس لا تعين جنسية النتاج لا غير، بل إنها مكمن لكثير
من
الصفات المتوارثة التي يدعوها المشتغلون بهذه الأبحاث «الصفات ذوات الترابط الجنسي»
Sex-Linked كالعمى في الظلام — العشي — والتدمية، وهي
نزول كميات كبيرة من الدم من الجسم وكلا الصفتين خاصتين بالذكور.
وهنالك نظرية لتعيين الجنس أكثر ارتباطًا بالوظائف التناسلية وأكثر قرابة لعلم
الفزيولوجيا، وتعلل بعديد من النظريات المتخالطة في الكيمياء وفي مقدار الاستعداد لتمثيل
الأجسام للأغذية وغيرها.
•••
أما القسم الذي تناول فيه المؤلف الكلام في النتائج التي وصلت إليها التجاريب في العث
والضفادع والحمام والأرانب والفيران؛ إذ استطاع المجربون أن يحتكموا في نسبة ما تنتج
من
الجنسين ذكورًا وإناثًا، فممتع مفيد. ولا جرم أن هذه التجاريب سيكون لها قيمة تجارية
كبيرة
إذا استطاع الباحثون تطبيقها على الدجاج وغيره من الحيوانات الداجنة. ولا جرم أنها تكون
أكثر قيمة إذا أمكن تطبيقها على النوع الإنساني. ولا ريبة مطلقًا في أن الاحتكام في جنسية
النسل من طريق العلم قد أخذ يقترب من عالم الإنسان خطوة بعد أخرى.
ولقد استعرض المؤلف كثيرًا من المشكلات العلمية الدقيقة بكثير من اللياقة والمهارة،
حتى
إن القارئ ليتخيل أنه مكب على قراءة قصة مشوقة لا على موضوع علمي عويص، ومثالها البحث
الذي
عقده في التناسل العذري الصناعي Artificial Pathen ogenesis
والهرمونات التناسلية ونشوء الصفات الجنسية الثانوية … إلى غير ذلك من موضوعات العلم
العويصة.
وليس في الكتاب من شيء يرى فيه الباحث ما يخالف أساليب العلم الحديثة لولا أنه عمد
إلى
الصفات «الروحية» يتخذها من الوسائل التي تقرب الجنسين بعضهما من بعض، ويحمل عليها بعض
الظاهرات الطبيعية في التناسل. نعم لا ننكر أن المظاهر الخارجية والحب في عالم الحيوان
له
أثره في التناسليات، غير أن هذا الأثر لا يتعدى أحكام الروابط النفسية بين الأحياء بعد
أن
يهبط الميل الفزيولوجي إلى درجة العدم. وهذا رأي الأستاذ جوليان هكسلي المعروف، وعندي
أن
هذا الرأي يمكن تطبيقه على السلالات لا على الأفراد والأزواج فقط. والحق أن أضعف ناحية
من
الكتاب هي تلك الناحية التي حاول المؤلف أن يتخذ فيها الصفات النفسية كمؤثرات تحدث في
عالم
التناسل آثارًا ما.
كذلك يعتقد المؤلف أن الفرق بين المرأة والرجل راجع في الأكثر إلى التربية والنشأة،
والحق
أن الفروق تكوينية تتناول التركيب الحيوي والعضوي. وهذا ما لا شبهة فيه وهو ما يؤيده
الأستاذ آثر طومسون في كل ما كتب في هذا الموضوع.