الزَّحلاوي والعَقَّاد
إلى صاحب العصور (بقلم حبيب الزحلاوي)
يتلو قارئ مجلة العصور هذه النصيحة القيمة في أول صفحة من كل عدد من أعداد المجلة المحترمة، وليس شك أن المرتاحين إلى هذه العقيدة، عقيدة تحرير الفكر من التقاليد، هم الذين يقرءون ما يكتبه قلم الأستاذ صاحب العصور، وهم الذين يحق لهم محاسبته إذا حاد عن السبيل الذي يدعو الناس إلى سلوكه.
رضينا بتلاوة العصور بارتياح؛ لأنها تدعو إلى تحرير الفكر من كل التقاليد والأساطير، على أمل أنه متى تحرر الفكر في هذه التقاليد بلغ درجة مؤدية إلى الكمال أو ما يقارب منه، فإذا لم يكن هناك كمال بالمعنى المعروف، فإن هذا التحرير يردع الفكر عن ركوب الشطط والزيغ عن الحق، وخصوصًا متى كان حقًّا علميًّا عامًّا. أما إذا كان صاحب العصور يدعونا إلى شيء، ثم يعمل على نقيضه، وينهانا عن تحمل قيوده، ويكبل فكرة بأصفادها؛ فهناك المصيبة العظمى والطامة الكبرى.
إن الذي يتحرر فكره من التقاليد، أو قل إن الذي يدعو إلى تحرير الأفكار من التقاليد؛ يجب عليه أن يتصف بالإنصاف وعدم الميل مع أهواء النفس. فالمنصف هو الذي يعرف نفسه بنفسه، وهو أيضًا الذي يعرف الناس بقدر ما فيهم من صفات. أما الميل مع أهواء النفس، فليست صفات الداعين إلى تحرير الفكر من التقاليد، ولن يكون الداعون إلى تحرير الفكر من الذين يميلون مع أهواء النفس، فكيف نعلل ذلك يا ترى؟ وقد أقام لنا الأستاذ صاحب العصور الدليل على اجتماع النقيضين والبرهان على أنه هو ذاته محرر الفكر ومقيده في آن واحد.
لقد كنا نعذر الأستاذ الفاضل صاحب العصور، لو أنه فتح باب النقد البريء على مصراعيه؛ لأن النقد البريء هو الذي يمركز قابلية الرجل على قاعدة ثابتة، كما أنه في ذات الوقت، يقذف بأدعياء العلم إلى أتون النار، ولكن كيف نعذره وقد قال في الأستاذ العقاد ما لا يقول مثله إنسان فيه ذرة من إنصاف؟!
يقول صاحب العصور: إذا حذفت الشعور النبيل القائم على الفهم والحق وعلى القلب والعقل، ووضعت في مكانه ألأم شعور وأخزاه؛ خرج لك عباس العقاد الجلف الأسواني قائلًا: «لا أكاد أفرغ من قراءة كلمة طيبة لأحد من خلق الله حتى أمتلئ حقدًا، وأراني أشعلت النار في لحمي ودمي.»
لا أدري، وقد لا يدري صاحب العصور نفسه، ما هو السبب الذي دعاه إلى هذا القول في العقاد؟ ولا ما هو المستند النفسي الذي استند عليه في إلصاق تهمة اللؤم في رجل كالعقاد؟ ما عرفنا فيه هذه الطبيعة ولا نمت كتاباته العديدة عليها، ولا أدري كيف استساغ لنفسه أن ينطق نفسية العقاد أو يجبرها كما تجبر النيابة الظنين على الاعتراف بغير ما اعترف؟ فيقول بلسانه: «إني لا أكاد أفرغ من قراءة كلمة طيبة …» إلى آخر ما يقوله عنه، ثم يقول صاحب العصور: «إن لم يقل هذا المغرور ذلك، فقد قالته أفعاله في ألأم لغة وأخس طبيعة.»
- (١)
ما قيمة المرء الذي يهضم كل قول، ويرضخ لكل رأي؟
- (٢)
ما الفرق بينه والرجل الذي لا يطأطئ رأسه إلا للحق ولا يذعن إلا لحكم العقل؟
لا شك أن الفرق بين الرجلين، كالفرق بين الأبله والعاقل، ولا جدال في أن تصدي الجاهل للعاقل أقل من تصدي العاقل للجاهل، فتصديك يا صاحب العصور للعقاد، وأنت الرجل الداعي إلى حرية الفكر من التقاليد والأساطير الموروثة، لا يقل عن تصدي الجاهل للعاقل، ولماذا؟ الجواب: لأنك تقول في العقاد: و«إنه يورد آراء الفلاسفة، ويناقشها»، فهل في مناقشة آراء الفلاسفة والمتفلسفين، جريمة على العقاد، يستأهل من أجلها أن يكون حمارًا يلبس جلد أسد، أو ذئبًا يشب، أو وقحًا سافلًا، كما نعته يا صاحب العصور؟ أوَ ليس يحق لنا أن نسمي دعواك على العقاد جهلًا منك فيه؛ لأن الاندفاع مع أهواء النفس يكون من جراء نوبة عصبية أو فورة من فورات الجسد.
لو نزهت قلمك، وأدبك وخلقك، عن هذه السفاسف وقلت في العقاد إنه مترجم، وأقمت الدليل على أنه مترجم فقط، أما كنت أبقيت في سرِّك هذه المقدرة على السباب، وكتمتها عن قرائك الذين لا يعرفون فيك هذه الصفة، وقد كانت خافية عليهم، وقد تطغو هذه الصفة، القذاعة، على أدبك فتغمره في يوم من أيام حياتك، قريب؟
قل لي أيها الأستاذ الفاضل: ما هو الفرق بين الأستاذ العقاد المترجم، وبينك وأنت مترجم أيضًا؟ لا لا، أنا أقول لك الفرق؛ لأن من حقي أن أفرق بينكما أنتما الاثنين، لأني معجب بكما كل الإعجاب، ومتبع كل ما تكتبانه وتترجمانه، وقارئ أقوالكما قراءة دارس ممعن. الفرق بينكما أيها الأستاذ: أنك تترجم أقوال العلماء والكتاب والفلاسفة ترجمة صحيحة، وتورد كل ما يدور حول الرأي من أقوال متضاربة أو متفقة، ولا تدلي برأي بين الآراء. أما الأستاذ العقاد، فيفعل مثلما فعلت أنت، ولكنه يناقش كل رأي، ويسفه الفكر الضعيف، ويؤيد الفكر الناضج، ويبدي رأيه الخاص بملء الحرية.
لا يحوجني الدليل إلى إقرار هذه الحقيقة، فأمامي وأنا أكتب هذه السطور، مجلدات مجلة العصور وكتب العقاد كلها، فمن أراد أن يكون منصفًا فليقرأها، ومن أراد أن يكون مثقفًا فليطالعها، ومن أراد أن لا يحتقر رأي صاحب العصور، فليتعام عما كتب في العدد الثالث والعشرين تحت عنوان «على السفود»، شفقة على الأديب صاحب العصور.
ومن غريب ما ينعي صاحب العصور على العقاد، قوله هذا: «وإذا ذهب كل إنسان يقرأ الكتب التي تعد بالملايين، ويلخص كل كتاب في مقالة أو مقالات، فهل يعجز عن هذا العمل أحد؟ وهل يكون كل الناس عباقرة لأنهم قرأوا وفهموا، وسرقوا، ولخصوا؟» إنه لمن الغريب جدًّا أن يتجنى صاحب العصور مثل هذا التجني، الذي لا يبخس حق العقاد، بل العكس فإنه يظهر قدره العلمي وقوته الفائقة، في تلاوة الكتب القيمة وتلخيصها في مقالة أو أكثر من مقالة، ويقدمها للقارئ فيتلقفها شاكرًا فضل العقاد، وحامدًا عبقريته لأنه كفاه مؤونة تلاوة كتاب ضخم، بمطالعة فصل جامع مانع، ناهيك إذا كان القارئ يجهل اللغة التي ترجم العقاد عنها. والأمر الأكثر غرابة، هو أن الأستاذ صاحب العصور، الذي ينعي ويتجنى على الأستاذ العقاد، يقرأ ويترجم مثل العقاد، ولكنه لا قدرة له على تلخيص ما يقرأه بلباقة وفهم، فيروح يترجم فصلًا أو فصولًا من الكتاب، ويبشم معدة القارئ بها بشمًا، ولا يخلص الإنسان من تخمة ما يترجمه الأستاذ صاحب العصور، إلا صاحب المعدة القوية، والصبور الجبار، الجلود. فإذا فرضنا جدلًا أن كلًّا من الأستاذين مترجم فقط، أي لا ذاتية بارزة له تقول دومًا «أنا»، فأيًّا منهما أفضل من الثاني؟ وأيهما أنفع للمجتمع؟ أنا أقول بإنصاف وعدل دون ما تردد أو تلكؤ إن نسبة فضل الأستاذ صاحب العصور هي كنسبة فضل واحد إلى عشرة إلى أفضال العقاد على العلم والأدب وعلى الناشئة الجديدة والمتعلمين، أحاول تحليل صبغة الحقد الضاربة على مقالة «على السفود»، بقصد نفي الغل المتأصل في صدر الأستاذ صاحب العصور، فلا أستطيع ذلك مطلقًا، وكيف يمكنني أن أصدق ما يقوله فيه: «إنه من أجهل الناس باللغة وبعلومها، وأنه لا تخلو مقالة له من لحن، وأسلوبه الكتابي أحمق، مثله، فهو مضطرب لا بلاغة فيه وليست له قيمة، وهو في جهة اللغة، والبيان ساقط.»
اللهم اشهد أن ما يقوله الأستاذ صاحب العصور، كذب وافتراء، واشهد أن صاحب العصور، ذاته، لا يقول في الأستاذ العقاد هذا القول الهراء، إلا عن ضغينة وغل وحسد، واشهد أنه يشهد في العقاد غير ما قاله في هذه المقالة، التي كتبها، لا أدري تحت أي تأثير من تأثرات النفس، أو اضطراب من اضطرابات الأعصاب؛ لأن حكم المجنون على العاقل بأنه مجنون، لهو تزكية لعقل العاقل.
لنفرض أن عشرة أساتذة أفاضل، أصيبوا بمثل ما أصاب به الأستاذ صاحب العصور من مرض التحيز، وتألبوا على الأستاذ العقاد بقصد هدمه، فهل تراهم يجمعون على رميه بجهل اللغة وبعلومها، وسقوطه في البيان، وقد أجمع هؤلاء السادة العشرة، على رمي الأستاذ العقاد بهذا الجهل، أفلا تظن أن مئات من الفضلاء يهبون دفعة واحدة لنقض هذا الجهل المطلق، وأن الآلاف من أنصار العقاد يقولون اللهم نشهد أن ما يقوله صاحب العصور، ومن فرضنا وجودهم معه، كذب وافتراء.
على السفود، بل على جهنم وبئس القرار، أولئك الذين يقعون تحت طائلة العقاب، فتنالهم المادة الثالثة من دستور مجلة العصور، وهذا نصها: «التحرر في النقد من كل القيود والروابط الشخصية باعتبار هذا خير وسيلة للنهوض بالأدب.» وتفسير هذه المادة في عرف الأستاذ صاحب العصور، وهو: «إذا تخلى الله عن إنسان، وكان أوفر أدبًا وعلمًا وأخلاقًا من صاحب العصور، كان فذًّا عبقريًّا، كالأستاذ العقاد؛ فإنه يكون كاللقيط الذي لا يرى له مكانًا والعالم وسكانه من ناحية وهو وحده من ناحية أخرى، وهو يكره الوجود من نفسه ويكره نفسه من أجل الوجود.»
هذا هو حكم الأستاذ صاحب العصور، على العباقرة، أمثال العقاد، وعلى من يهملهم القدر فيقعون تحت طائلة حكمه.
وكأني بالأستاذ صاحب العصور، يدعو الناس إلى اتباع أسلوب جديد في النقد، لم يفتح الشيطان على سواه به، وخلاصة ذلك أن يقال في الأديب الذي يلقى على السفود، ما يقوله صبيان الأزقة، من عبارات السباب وكلمات الفحش، وفي السباب كفاية لتعلم فن النقد، الذي تحله الأمم الغربية المحل الأول من العلم.
يشهد الله أنني كنت مزمع الدفاع عن فضل الأستاذ العقاد وعلمه وأدبه بغير هذه اللهجة، التي لا أرضاها لنفسي ولا أحب أن يسترسل كاتب بها، ولكني وُبئت على رغم مني بأسلوب صاحب العصور، فكتبت، إنما أعترف أنني ما هبطت إلى الحمأة التي هبط إليها، وكان بوُدي أن أناقش الأستاذ صاحب العصور، فيما ذهب إليه في تجريح شعر العقاد، ولكني أترفع عن ذلك مخافة أن يطبق عليَّ نص المادة الثالثة من دستور مجلته.