العَقَّاد وعَبد البهَاء
يقول المثل: «الخطاب يعرف من عنوانه»، ولكن العقاد الذي يريد أن يعرفه الناس من طريق مخالفته للمألوف سواء كان عقلًا أو منطقًا أو حكمة، لا يريد هذا المغرور إلا أن يقلب جميع الحقائق على رأسها، فيكتب مقالًا بعنوان «ساعة مع عبد البهاء» ليتحدث فيه بما ألقاه هو من درس على عبد البهاء، حتى لقد كان الأجدر أن يكتب ذلك المقال بعنوان «ساعة مع العقاد» ويذيِّل بتوقيع: «عبد البهاء»! بل لقد بلغ بذلك الدعي أنه يحسب أن عباس أفندي عبد البهاء في حاجة إلى شهادته له، حتى أنه يقول: «ولا أدري كيف تطرق بنا الحديث إلى قصة الزباء وما إليها من قصص العرب والفرس، فإذا عباس أفندي مطلع على هذه الناحية من التاريخ أحسن اطلاع.» ما شاء الله! العقاد امتحن عبد البهاء في التاريخ القصصي العربي والفارسي فشهد له بالاطلاع. وإذن فقد كان عبد البهاء هو الذي في حاجة إلى قضاء «ساعة مع العقاد»، وليس العقاد هو الذي سعى إلى مقابلته قبل بضع عشرة سنة وكان جبار الذهن في بداية عهده بدراسة الأديان والبحث في أمر العقائد! ولكن العقاد الذي يخالف العقل والمنطق والحكمة ليعرف؛ يسير على غرار نفسه فيخالف المثل القائل «الخطاب يعرف من عنوانه»، ويكتب مقالًا بعنوان ساعة مع عبد البهاء، وهي قد كانت ساعة مع العقاد لا آجره الله!
ثم نعود إلى ما نقله العقاد عن عبد البهاء من قوله: «إن العالم الآن مستغرق في المادة، ولا سبيل إلى السلام إلا من جانب الروح. العالم لا يطير إلا بجناحين: جناح من المادة وجناح من الروح، وهو الآن يطير بجناح واحد ويعوزه الجناح الآخر، فهو منقسم على نفسه لا يبلغ كماله حتى تتفق فيه المطالب المادية والمطالب الروحية. أما إذا سار حيث يسير الآن فستحل به — وقانا الله وإياكم — نكبة مرهوبة تزلزله حينًا وتفتح عينيه على الصراط المستقيم، ولكن بعد أهوال لا تطاق.»
ودعك بما قاله العقاد على لسان نفسه من أن «عباس أفندي كان ينذر سامعيه بالنكبة الكبرى»، فلو أن هذه كانت نبوءة تحسب لعبد البهاء فترفعه إلى درجات الأنبياء والرسل، لكان نصف العالم أنبياء بمجرد ما يتنبأ أحدهم بحادثة قبل وقوعها فتقع بحذافيرها! على أننا لا نجد فرقًا بين كلام عبد البهاء — أو المنسوب له على الأقل — وبين النبوءات العامة المبهمة التي يلقيها المنجمون وضاربو الرمل والودع!
ولكن الذي يهمنا من أمرها ليس ما فيها من تنبؤ أو شبه تنبؤ … وإنما نحن لا نقر عباس أفندي على قوله إن «العالم الآن مستغرق في المادة»، فهذا الرأي لا ينتج إلا من نظرة سطحية إلى المدنية التي تسود العالم الآن، وإلا فإن البحث العميق فيما ترمي إليه هذه المدنية لا بد مؤد بنا إلى التسليم بأن غايتها إنما هي السعادة الحقيقية بزيادة نفاسة الحياة وقيمتها من طريق إرضاء حاجات النفس والعقل معًا واستخدام المادة لبلوغ الغاية.
ولسنا نفهم معنى أن «العالم لا يطير إلا بجناحين: جناح من المادة وجناح من الروح»، فما هي الروح؟ إنه إذا كان مقصودًا بها الروح الدينية الحقيقية الحاثة على فعل الخير واجتناب الضر؛ فإن الروح العلمية، وهي والمادية، اسمان لمسمى واحد، لا تناقض الحث على فعل الخير واجتناب الأذى، وإنما هي تفوق الروح الدينية لأنها تحدد الخير وتعرفه تحديدًا دقيقًا وتعريفًا واضحًا، أكثر مما تحدده وتعرفه تلك الروح الدينية التي يقول عبد البهاء — أو يزعم عباس العقاد أنه قال — إنها أحد الجناحين اللذين لا يطير العالم إلا بهما.