مع طه حسين
من مقال بعنوان: الحياة العربية وأثرها في الشعر أيام بني أمية: هذا المقال عبارة عن تلخيص المحاضرات التي ألقاها الدكتور طه حسين في العنوان الذي يحدده عنوان المقال، ولقد اتضح لي وأنا أقرأ هذا التلخيص المقتضب أن المحاضرة برمتها منقولة نقلًا سقيمًا عن أحد المستشرقين، الذين لم يدرسوا الموضوع درسًا وافرًا.
لما نشر الأستاذ طه حسين، كتابه في الشعر الجاهلي، ذكرني الكتاب ببحثين في الموضوع؛ أحدهما نشرته السيدة مسز بلنت، والثاني أطلعني عليه صديقي المرحوم الدكتور يعقوب صروف، كتبه الأستاذ المستشرق مرجوليوث في بحث الشعر الجاهلي، ونحى فيه منحى الدكتور طه عينه، بل وزاد عليه بحثًا مستفيضًا في معاني الألفاظ التي استعملت في الشعر الجاهلي، والألفاظ التي وردت في القرآن، مضيفًا إلى ذلك تحديد الألفاظ التي كانت تستعملها القبائل كل قبيلة بذاتها، وأردت حين نشر كتاب الشعر الجاهلي أن أمضي في مقابلة أتناول بها بحث الأستاذ مرجوليوث وبحث طه حسين، غير أن المرحوم الدكتور صروف منعني عن هذا، وأخذ الكتاب مني، وكان هذا آخر عهدي بالموضوع.
على أن نشر هذا التلخيص قد أعاد لي هذه الذكرى، وأعاد معها فكرة أن كتاب الشعر الجاهلي قد اعتمد فيه الأستاذ على مستشرق أو مستشرقين، ممن لم يدرسوا الموضوع درسًا وافيًا، فجاء على الصورة التي نشر بها في اللغة العربية. على أنني لا أنكر في الكتاب استنتاجًا ذهب مؤلفه مذهب التطرف وعدم الاحتياط، ولهذا سبب تكويني في ذهن طه حسين، لا يتيسر له أن ينفك عنه بسهولة، فقد لاحظنا أن الرجال الذين بدأت تربيتهم بين جدران الأزهر ثم احتكوا من بعد ذلك بمبادئ مقتطعة من الأفكار الأوروبية الحديثة، كثيرًا ما ينزعون في الاستنتاج منازع التطرف الشديد، والسبب في هذا أن جمود الطريقة التعليمية التي ينشأون في كنفها بادئ ذي بدء تؤثر في عقليتهم تأثيرًا يجعلهم ينزعون منزع التطرف في الاستنتاج عند أقل احتكاك يستشمون به شيئًا من ريح الحرية الفكرية مفهومة فهمًا سقيمًا.
على أن لدينا على هذه النظرية أدلة مادية يمكننا أن نرجع فيها إلى ما قال الأستاذ في محاضراته؛ فقد حاول مثلًا أن يثبت أن العرب فهموا معنى الأرستقراطية والديمقراطية، وأن هجرة قبائل العرب إلى الشام لونتهم بعد أربعين سنة فقط بلون جديد، تأقلموا وتطبعوا بطباع بكر لم تكن معروفة فيهم قبل عهد الفتح الإسلامي. في حين أن هذا القول يأباه علم الحياة، وكل فروع العلوم النشوئية الحديثة، فضلًا عن أن صور الأدب التي ظهرت في الشام والعراق ومصر وشمالي إفريقية وإسبانيا، تدل على أن العرب، قد لبثوا وسيلبثون ملازمين لصورهم الأصلية وطبائعهم الرئيسية، التي ظهرت في آدابهم وعلومهم ومنازعهم التفكيرية أزمانًا طويلة، فضلًا عن الأحقاب التي قضوها، وخارج جزيرتهم، من قبل هذا العصر.
ولديك دليل آخر لا يحتاج إلى مناقشة، يثبت جميع ما ذهبنا إليه.
- أولًا: «ولكن شجرت بين الفريقين اليمانيين والقيسيين معركة (مرجرات)، انتصر فيها اليمانيون على خصومهم.»
- ثانيًا: «هذه اليمانية التي كانت تستعمر الشام لم تكن عربية في لغتها ولهجتها، بل لم تكن عربية في دينها أيضًا، بل كانت تعتنق الوثنية.»
أما القول الأول، فيدل على أن الأستاذ يعتمد على مستشرقين، لا يزالون اليوم غير عارفين بالنطق العربي للأماكن التي وقعت فيها المعارك. فقال الأستاذ مجاراة لهم «معركة مرجرات»، والحقيقة أن اسمها موقعة «مرج راهط»، وهو موضع يعرفه المبتدئون في درس التاريخ. وقد كتب في هذه الموقعة العلامة دوزي في كتابه إسبانيا العربية في أكثر من موضع (راجع ص٧٥، ٧٦، ١١٥)، وذكر شيئًا عن زفر بن الحارث، وهو ممن كان لهم علاقة كبرى بالموقعة، بل ترجم شيئًا من أشعاره التي يذكر بها هذه الموقعة، ولا أزال أذكر بضعة أبيات، لا أرى بأسًا من إيرادها هنا استشهادًا. قال زفر يذكر هزيمة راهط، وفراره وترك صاحبيه في المعركة:
فلو أن الأستاذ لم يكن قد نقل عن مستشرق نقلًا سقيمًا، إذن لقال «مرج راهط» بدل «مرجرات» كما يكتبها المستشرقون.
وأما القول الثاني فيدل على أنه لم يحط بتاريخ الميثولوجيا؛ لأن لكل أمة من الأمم ميثولوجيتها الخاصة بها، ولم يكن هناك ميثولوجيا عامة ينسب إليها دين يقال له الدين الوثني، كما نقول الدين المحمدي والبوذي والنصراني … وهلم جرا. ولهذا تطرف الأستاذ في الاستنتاج نازعًا منزعة التفريطي الغريب، فقال: إن الوثنية دين، إلا أنها اسم مرادف للميثولوجيا التي تختص كل أمة بصورة خاصة منها.
وفي الواقع تستطيع أن تقول إن الوثنية طور من أطوار الفكر البشري، له عصوره وصوره، فكما تقول في نشوء الإنسان الطبيعي (العصر الحجري والبرونزي)، هكذا تقول في نشوئه الفكري (العصر الوثني والعصر التوحيدي)، وقس على ذلك. فالوثنية إذن ليست دينًا، بل هي صورة فكرية مرت بها كل سلالة من سلالات النوع البشري.
ولا نرى متى نصل إلى غاية عندها، تتحدد المصطلحات، وتوضع الكلمات في مواضعها التي لا توضع في غيرها. وأظن أن هذا مرهون على ذيوع الأسلوب العلمي لأنه يعوِّد العقل على حب الضبط والتحديد، على أنه أسلوب لم يحاول أدباؤنا حتى اليوم أن يطبقوه، على صور الأدب التي ذاعت في نواحي الشرق حتى الآن.