مع محمد حسَين هَيكل
السياق قوي والحجة يكاد يسيغها الإنسان كما يسيغ شرابًا لذيذًا. والأسلوب سهل فيه جمال ودقة في التعبير. والذي فهمته من هذا المقال أن قلة الإيمان بما كان يستمد الإنسان «مما فوق عقليته» قد أحدث قلقًا نفسانيًّا يشعر به كل المفكرين. وأن المفكرين باعتبارهم قادة الدنيا وهداة السواد من الناس قد لحقوا العامة بما يشعرون من قلق وفوضى. وأن الهداية سوف يعثر عليها التائهون القلقون في جوانب الشرق؛ لأنه منبع الهداية الروحية منذ أبعد الأزمان. أما السبب الذي أحدث هذا القلق النفساني، فتهديم العلم لما كان قائمًا حول الغيبيات بصورها من أساطير وخرافات اطمأن لها الناس أزمانًا طوالًا. أما واجب الوجود — الله — فإن الفكرة فيه لا تتغير في المستقبل عما كانت في الماضي. أما الذي سوف يتغير ويتبدل فما يلي، ذلك من المعتقدات التي بشرت بها الأديان على اختلاف صورها وتباين مناحيها.
هذا ملخص ما في المقال الذي صبه الصديق هيكل بك في قالب جميل الصورة، حتى ليخيل إليك أن الفكرة في واجب الوجود سوف تظل في المستقبل كما كانت في الماضي، وأن الإنسان إنما يجد حقيقة في سبيل الحصول على فكرة يطمئن إليها في العلاقة التي تربطه بواجب الوجود مغايرة للفكرة القديمة التي عششت فيها الأساطير والخرافات. والحقيقة التي أعتقد بها أن الفكرتين: فكرة واجب الوجود، وفكرة علاقة الإنسان به، قد تغيرتا بالفعل عما كانتا في الماضي تغيرًا كاملًا في الأعصر الحديثة لأول ولآخر مرة في تاريخ الفكر البشري.
لم تحدد الأديان فكرة كاملة في واجب الوجود يرضى بها العقل المستقل في دور من أدوار النشوء الفكري، بل إن الأديان ألزمت الناس فيما ألزمتهم به الاعتقاد بوجود الله، متخذة من سلطتها الاستعلائية مبررًا إلى هذا الإلزام. وحدد كل دين ربه أو إلهه على مقتضى المبادئ التي نزل بها الكتاب الذي يتخذه نواة له. فالإله الذي يعرفه كونفوشيوس مخالف تمامًا للإله الذي يعرفه بوذا، وكلاهما مخالف تمامًا لإله زرادشت. وإله التوراة الذي يقول: «لأني أنا الرب إلهك، إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء من الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي وأصنع إحسانًا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي»؛ مخالف تمامًا لإله الأناجيل، بل مباين لإله مزامير داوود على قرب النسب بين التوراة والمزامير، وكل هؤلاء مخالفون للفكرة الإلهية التي بثت في القرآن.
وكل الأديان سواء في تصوير آلهتها بصورة ترضاها منازعها. إذن فلم يكن ثمة من فكرة عامة في واجب الوجود ارتضتها كل الأديان. فمنهم من علم الناس على أنه ذات متحيزة، ومنهم من قال بأنه قوة، ومنهم من قال بأنه فكرة، ومنهم من رمز له رمزًا ولم يقل فيه شيئًا. أما الفلسفة الحديثة فقد اهتدت إلى فكرة جديدة، لا نظن أن الأديان تبغضها كما لا نظن أن العلم لا يرضاها. ذلك أن وجود واجب الوجود فرض إلزامي لا يمكن للعقل أن يحتفظ بألفته من غير أن يؤمن به. هذه هي الفكرة التي خلص بها العقل الإنساني من جهاده الماضي الطويل، وهي فكرة على الرغم من أن الأديان لا تبغضها كثيرًا وترضى عنها المنازع العلمية حددت علاقة الإنسان بالله تحديدًا غير تام، ولكنه مرض على كل حال.
أما تفكير الإنسان الجدي، فأصبح في تحديد علاقته لا بواجب الوجود ولكن بالكون. فبعد أن أسقط العلم الإنسان عن عرش الملائكة العلوي، وأنزله إلى أفق الحيوان، أخذت الإنسان فكرة جديدة ليست بأقل إشكالًا من الفكرة التي ملكت زمامه من ناحية الأديان.
بعد أن أظهر النشوئيون أصل الإنسان الحيواني وأثبتوه علميًّا، وبعد أن أثبت الجيولوجيون قدم الأرض والفلكيون قِدم النظام الشمسي، وأظهر هؤلاء بأبحاثهم سلسلة التدرج الطويل التي مضى فيها الكون لينتهي بظهور الحياة فوق الأرض، وعرفوا أن سلسة التدرج في النباتات قد انتهت إلى ذوات الفلقتين، وأنها انتهت في الحيوانات بذوات الفقار، ثم تطورت وعلى رأسها الإنسان. أخذ العقل الإنساني سمته نحو التفكير كما هي عادته فيما يختفي وراء هذه السلسلة الطويلة من قصد، وهل كانت متجهة بكل ما فيها من الصور لأن تنتهي بالإنسان على أنه القصد الأخير منها؟
هذا هو الإشكال الجديد: علاقة الإنسان بالكون، لا علاقته بواجب الوجود الذي ارتدت سلطته بنسبة اكتشاف العقل لسنن الطبيعة إلى أنه فرض عقلي ضروري، وأن سنن الكون أبدية سرمدية.
أما الهدى الذي تبحث عنه الإنسانية فينحصر الآن في الغاية التي ترمي إليها سلسلة التدرج التي انتهت بالإنسان. وماذا يكون إذا أظهر لنا العلم بأن الإنسان في فكرته الحديثة مخطئ خطأ يتساوى مع خطئه في فكرته الأولى التي بشرت له بأنه محور الكون وأنه سيد الوجود؟ على أن في فكرته الحديثة لنسبًا أدنى إلى الفكرة القديمة. أما الثابت حتى اليوم فليس مما يرضي نزعة التفاؤل في مصير الإنسان. ولست أدري لماذا لا يشارك الإنسان الحيوانات في نهايتها المحزنة، ما دام يشاركها في بداياتها الجميلة.