اللغة والجنون والإجرام
لا أقرأ جريدة الصباح حتى أجد جريمةً أو جريمتين مرجعُها إلى اللغة وسأُحاول هنا معالجة هذا الموضوع الذي على ما يبدو عليه من اللون الفلسفي وعلى ما سيجد فيه القارئ من عمقٍ؛ سيرتاح في النهاية إلى الاستنتاجات التي سنصل إليها وهي جد خطيرة في مجتمعنا المصري الحاضر، وهو بلا شك بحثٌ فلسفي، ولكن في عصرنا الديمقراطي يجب أن يكون الأدب والفن والفلسفة للشعب بل لعامة الشعب التي على كل منا أن يعلمها ويرفعها. وقد قال سارتر زعيم الوجودية: «إن الفلسفة يجب أن تنزل عن أريكتها وتدخل في السوق.»
وموضوعنا بأخصر عبارة هو: أن كلماتنا التي نتحدث بها ونقرأها تعين أخلاقنا وسلوكنا الاجتماعي، فنحن فضلاء أو أرذالٌ باللغة، ونحن عقلاء أو مجانين باللغة كما نحن علماء أو جهلاء باللغة اعتبرْ أيها القارئ شابًّا ريفيًّا في مديريات سوهاج أو قنا أو أسيوط وقد نشأ وتربى وسمع بأذنه وتكرر سماعه لكلمات الثأر والانتقام والدم؛ فإن هذه الكلمات حين ينطق بها تصور له صورًا فكرية معينة وتحمله على أن يسلك السلوك الإجرامي بقتل خصومه لِأَوْهَى الأسباب، بل إنه يفهم كلمات الشرف والعرض والسمعة على غير ما يفهم الشاب في القاهرة أو الإسكندرية؛ ولذلك ما هو أن يرى أخته تتحدث إلى أحد الشبان حتى تستطير هذه الكلمات عقله وتلهب عاطفته، فيجمع إلى معانيها معاني الكلمات الأخرى: الدم والثأر والانتقام ثم يكون قتل الأخت.
كلمات تؤدي إلى جرائم
ولا يمكن أن نقول إن جرائم العرض في قنا وجرجا وأسيوط أكثر مما هي في القاهرة أو الإسكندرية؛ ولكن جرائم الدفاع عن العرض أكثر؛ لأن هذه الكلمات؛ أي الثأر والدم والانتقام مألوفةٌ في الصعيد أكثر مما هي مألوفة بين سكان الوجه البحري والقاهرة.
جرائمُ الدفاعِ عن العِرْض التي تذكر لنا صحفُنا كل يوم جريمة أو اثنين منها هي جرائمُ لغويةٌ لا أكثر إما لوجود كلمة كان لا يصح أن توجد وإما بتحميلها معنًى كان يجب ألا تحمله، أو اعتبر كلمتي الحسد والشماتة فإنهما تبعثان في النفس أسوأ الإحساسات، وكنا نكون أطيب قلوبًا لو أننا لم نتعلمْها، بل هناك من الكلمات البذيئة التي نسمعها من صغار الباعة الجائلين، ومن أمثال الحشاشين مما يتصل بالشئون الجنسية ما يعين لنا سلوكًا أو اتجاهًا جنسيًّا؛ لأن الكلمة إيحاء مهما ظننت أنك خلوٌ منه فإنك تحسه من حيث لا تدري إذ هو يتصل بعاطفتك. الكلمة فكرة، والفكرة إحساس، وقد يحتد الإحساس فيصير عاطفة، بل عاطفة جنونية.
وأنا الآن أدلك أيها القارئ على حوادث من الجنون تتكرر في مصر بسبب اللغة.
اعتبر سيدة أنيقة جميلة تعتني بهندامها وتعجب بقامتها ووجهها قد اقتربت من سن الثامنة والأربعين أو التاسعة والأربعين، ثم وجدت توعكًا أو توترًا؛ فلما استشارت الطبيب قال لها: إن حالتها تعد طبيعية في سنها سن اليأس.
يأس؟ من منا يسمع هذه الكلمة ولا يضطرب؟
الواقع أن جميع نسائنا يضطربن لهذه الكلمة، وقد يزيد الاضطراب بسبب الضرة أو الحماة أو الخوف من الطلاق فيصير جنونًا، أو على الأقل شذوذًا يلفت النظر ويحتاج إلى العلاج.
ولو أننا استبدلنا بكلمتَي سن اليأس سن الحكمة، أو سن النضج؛ لكان لهذا المعنى الإنساني توجيه آخر نحو الأمل، والنشاط، ولكان منه سبب لسعادة نسائنا بدلًا من شقائهن.
وأستطيعُ أن أَزيد في أمثلة الجنون أو الشذوذ الذي ينشأ من الكلمات السيئة، وخاصةً من تلك الكلمات التي تتصل بالعلاقات الجنسية والتي تعين لنا أسماء؛ أي معاني بذيئة لأعضاء الخلود البشري؛ لأننا حين نصف الأعضاء بالنجاسة، أو نسميها «سوأة» إنما نصم التعارف الجنسي بأسوأ الوصمات، ونجعل منه جريمةً مستترة، ونحيل أشرف عاطفة بين الزوجيين إلى دنسٍ وخسةٍ وعيب، وعندئذٍ يصطبغ الاتصالُ الزوجيُّ بكل المعاني.
وقد كنت أقرأُ كتابًا بعنوان «صائدو الرءوس» لمؤلفه «ألفريد هادون» والكتاب يصف قبائل من المتوحشين في غينيا الجديدة ينتظم مجتمعهم على مراتب من الشرف والمروءة والشهامة تحتاج لبلوغها إلى أن يصيد الإنسان إنسانًا آخر ويقطع رأسه، وعلى قدر ما يعلق من رءوس في كوخه يكون شرفه وشهامته ومروءته!
وأعظم ما لفتني في هذا البحث أن هناك عند هذه القبائل كلمات تحمل دلالات الشرف، والشهامة والمروءة، وتتصل بالقتل وفصل الرأس من البدن وتعليقه للفخر.
وهؤلاء المساكين ينشئون على هذه الكلمات، ويفكرون وفق الصور التي ترسمها لهم، ثم ينفعلون بالشرف، والشهامة، والمروءة، فيغتالون خصومَهم أو غير خصومهم كما يفعل الشاب الريفي عندنا في جرجا وقنا، وأسيوط عندما يذكر كلمات الدم والانتقام والثأر؛ فيقتل ويظن أنه شهمٌ شريف.
وعلى قدر كلمات الفضائل في لغتنا نكون فضلاء.
وعلى قدر كلمات الرذائل في لغتنا نكون أرذالًا.
وعلى قدر المنطق في كلماتنا نكون منطقيين في سلوكنا.
وعلى قدر الخبال في كلماتنا نكون مخبولين في سلوكنا.
وأحب أن أكرر أن الكلمات أفكار، وأننا لا نستطيع أن نفكر بلا كلمات أو ما يقوم مقامها من إيماءات باليد أو بالعين أو نحو ذلك، وهناك حقيقتان سيكولوجيتان الأولى هي قوة الكلمة المتكررة في الإيحاء، فإننا نستطيع أن نحدث إيحاءً لشخص آخر أو لأنفسنا؛ بكلمة مكررة تحمل معنًى أو توجيهًا، وهذا هو التنويمُ النفسيُّ الذي يحمل النائم على أن يسلك سلوكًا معينًا، فإذا تكررت كلمات الدم والثأر والانتقام؛ أحدثت الإيحاء ثم الإجرام، ومعظم سلوكنا — بل ربما كله — يعود إلى الكلمات التي تعودناها منذ الطفولة.
والحقيقة الثانية: أن الكلمة المنيرة؛ أي التي تنير العقل بالمنطق، أو القلب بالبر والشرف والمروءة، هذه الكلمة تمسح عن العقل النائم المضطرب غشاوةً؛ ولذلك نحن نطلب من المريض أن يشرح بالكلمات تاريخ مرضه، ويحاول تعليله وكثيرًا ما يشفى بمحض القوة المنيرة الإنسانية التي في الكلمات التي يستعملها؛ لأنه باستعمالها قد حَدَّدَ مرضه وعَيَّنَ أماراته وأسبابه.
وكثيرًا ما أُلاحظ أن شيخوخةَ العقل تبدو مبكرةً عند المسنين من الأميين، ولكنها تتأخر — أو لا تبدو بتاتًا — عند المتعلمين المثقفين؛ وعلة ذلك تتضح مما شرحنا هنا، وهو أن الأفكار كلمات وما دام المسن يعرف الكلمات فإن عقله يحتشد بالأفكار، فلا يكون هناك مجال للخلط أو الخوف أو النسيان.
ومن هذا البحث المؤاجز نعرف أيضًا أن أعظم ما تحتاج إليه أمة ما كي يرتقي مجتمعها وتنقص أمراضها وجرائمها، وكي يسلك أبناؤها السلوك الاجتماعي الحسن؛ أن تعمل لترقية لغتنا، وتنقيتها، ووضع الكلمات الجديدة التي تزيد الإحساس بالفضائل، وما أجمل أن نذكر للشعب ونكرر الذكر لكلمات الحرية والديمقراطية، بل الديمقراطية الاجتماعية والمساواة والإخاء والحب والمروءة والشرف والثقافة وحق المرأة في الإنسانية ونحو ذلك؛ أنها كلمات يصح أن يكون كل منها برنامجًا للسلوك الاجتماعي السوي، بل الراقي.