الكلمة الموضوعية والكلمة الذاتية
طبيعة الكلمات هي الجمود وطبيعة الأشياء التي تعبر عنها هي التغير، فكل شيء في الدنيا، بل في هذا الكون يتغير، والحياة في الحيوان، والنبات هي أعظمُ المظاهر لهذا التغير، وهذا التغير على أقصاه في الإنسان؛ لأنه يعيش في مجتمع تتغير به أخلاقه وعاداته وآراؤه.
ونحن في تفكيرنا نتخذ أسلوبين: الأسلوب الموضوعي حين نتجرد من إحساسنا الشخصي، أوْ لا نجد له مجالًا، كما لو قلنا: كرسي، أو، أسد، أو، شمس، أو شارع. فكلنا على وجه التقريب يذكر هذه الأسماء دون أي انفعال، وكلنا سواء تقريبًا في إدراك صورها؛ ولذلك إذا كنا في حوار، وذكر أحدُنا الشمس أو الكرسي؛ لم يحتج الآخر إلى أن يسأله: ماذا تعني؟ لأن المعنى واضح.
وهذه الكلماتُ موضوعية؛ أي أنها غيرُ متأثرة بذواتنا، والمفكر العلمي يحاول على الدوام الوصول إلى هذا الأسلوب الموضوعي في التفكير؛ أي أنه حين يبحث مشكلة يتجرد من إحساساته وميوله وما يحب وما يكره.
ولكن هناك الأسلوب الذاتي أسلوب الأديب، والفنان فرجلُ الأدب يتحدث عن المثليات، أو الجمال، أو الذوق، أو العظمة. وهذه الكلمات جميعها ذاتية؛ أي تعبر عن إحساساته وانفعالاته؛ ولذلك نختلف فيها كثيرًا، فقد يقول أحدنا: إن القناعة من فضائل الفلاح. فأرد أنا عليه ولي انفعالات نفسية: لا بل هي من رذائله، وقد يستمع أحدُنا إلى امرأة تغني فيقول: إن الأغنية حسنة، فيرد آخر: بأنها ليست أغنية وإنما هي أغنوجة.
ومن هنا نفهم أن الغناء والقناعة كلمتان ذاتيتان نختلف فيهما كثيرًا، أما الكرسي، والشارع فكلمتان موضعيتان لا علاقة لهما بانفعالاتنا وإحساساتنا؛ ولذلك لا نختلف فيهما.
فحين أسمع أحدهم يقول: «امرأة جميلة» فإني أفهم كلمة امرأة ولا أختلفُ معه؛ لأن الكلمة موضوعية، ولكنه حين وصفها بالجمال قد تعرض للمناقشة؛ لأن الكلمة ذاتية إذ قد تكون فكرتي عن الجمال غير فكرته.
والكاتب الذكي هو الذي يحاول أن يكون عمليًّا موضوعيًّا وليس عاميًّا ذاتيًّا، ولكن يجب أن نذكر أن اللغة ستحتوي — على الدوام — كلمات ذاتية تعبر عن الآداب والفنون، وهي هنا ليست عامية، ولكنها تعبر عن ذاتية ممتازة.
انظر مثلًا إلى قول أحدنا: هذا الصبي ذكي.
فإن وصف الذكاء هنا قد يكون ذاتيًّا؛ لأن المتكلم ربما وصفه بذلك؛ لأنه استخف ظله، أو لأن هذا الصبي قد خدمه، أو لأن المتكلم نفسه ليس ذكيًّا فكلمة «ذكي» هنا ذاتية، ولكن السيكولوجيين استطاعوا أن يجعلوا هذا المعنى موضوعيًّا؛ فهم يقولون: «هذا الصبي يبلغ معدل ذكائه ١٠٧»، وذلك بعد قياس مضبوط.
وكلمات الشرف، والثقافة، والغباوة، والفاقة، والثراء، والعدل، والشجاعة، والجمال، والقناعة، والتكبر، والغضب، والتسامح؛ كلها، كلماتٌ ذاتيةٌ تعبر عن انفعالاتنا الشخصية أو ظروفنا البيئية ولا تعبر عن حقائق موضوعية مثل: الكرسي أو الشارع، والتفكير السديد ينقلنا أو يحاول أن ينقلنا من النظر الذاتي للأشياء إلى النظر الموضوعي ومن الوصف المائع العام إلى الوصف بالأرقام كما رأينا في معدل الذكاء في السيكولوجية وكثير من الفهم السيئ للفلسفة القديمة، وما يلحق بها من أدب، ودين يرجع إلى أنها عالجتْ شئون الدنيا بكلمات ذاتية قد اختلفتْ معانيها بعد مرور ألف أو ألفي سنة.
وقد ارتقت الأمم بكلمات ذاتية مثل: مروءة، وشرف، وشهامة، وحياء، وأنفة. كما انحطت بكلمات ذاتية أُخرى مثل: شماتة، وكفر، ونجاسة. ولكن إذا صرفنا النظر عن الارتقاء والانحطاط فإننا نجد أن الكلمات الذاتية كثيرًا ما تبعث على الالتباس والفهم السيئ، ومن هنا الاختلاف الدائم في الدين، والفلسفة، والآداب والفنون، والاتفاق التام في العلم؛ لأن كلمات العلم موضوعية، ولذلك أسلوب التفكير فيه موضوعي.