إحدى الكلمات
لغتنا تستوي وسائر اللغات العصرية في نقص التعبير عن المعاني الذاتية. وهذا النقصُ سوف يبقى — كما قلنا — إلى أن نهتدي نحن وسائر الأمم إلى اللغة العلمية أي: اللغة التي تنقل المعنى من «الذاتية» إلى «الموضوعية».
بدلًا من أن نقول: هذا الصبي ذكي نقول: يبلغ ذكاءُ هذا الصبي ١١٥.
وبدلًا من أن نقول كان يوم أمس حارًّا مرهقًا نقول: بلغت الدرجة المئوية للحرارة أمس ٣٩.
وقد سبق أن قلنا أيضًا: إن العلم لا تنضبطُ قواعده إلا إذا عبر عنه بالأرقام. وقد يتساءلُ القارئُ في أسف واكتئاب: أي دنيا هذه التي يعيش فيها الناس بلغة الأرقام؟
ولكن يجبُ أن نذكرَ أَنَّ العالم لا يزال في بداية التعبير اللغوي، وأن الفرقَ بيننا، وبين المتوحشين في اللغة إنما هو فرقُ الدرجة والتفاوت، وليس فرق النوع والاختلاف فالمتوحشُ يعبر عن حاجته بنحو ٥٠٠ كلمة، ونحن بنحو ٥٠٠٠ أو ٥٠٠٠٠ وهو يقول عما زاد على العشرة إنه «كثير»؛ أي أنه يعبر بكلمة واحدة عن أعداد المئات والأُلوف والملايين، وربما لا يزال متعلقًا بطريقة «الإحصاء» بالحصى كما كنا نحن قبل أُلُوف السنين، ولكن مع هذا لا تزال في لغتنا العربية ولغات الأُمم العصرية كلماتٌ تعبر عن إحساسات مختلفة تتغير معانيها ولا تتغير الكلمة التي تدل عليها، ونحن في هذا مثل المتوحش الذي يسمِّي ما زاد على العشرة «كثيرًا».
انظر مثلًا إلى كلمة «أحب».
فالرجل يحب المرأة هذا الحب البيولوجي الذي يَقصد منه إلى التناسل، والزوج يحب زوجته، وإحساس الزوجين للحب يرتفع على المستوى البيولوجي فهنا اختلاف.
ولكن أحدنا يقول إنه يحب الملوخيا فهل كلمة الحب التي تُستعمل للتعبير عن العلاقة بين الرجل والمرأة هي نفسها التي يصح أن تُستعمل للتعبير عن العلاقة بين الرجل والملوخيا؟ وهل الإحساس واحدٌ في الحالتين؟
ألسنا نرى أن كلمة «أحب» كلمة عامة تدل على إحساسات مختلفة، ولكننا نطلقها عليها جميعها؛ لأننا كالمتوحش حين يسمِّي ما زاد على العشرة «كثيرًا»؟
ثم هناك حب الأم لأطفالها، ثم حب الأطفال للأم، وكلاهما أيضًا مختلف، ثم حب الإنسان لله، ثم وصية الدين بأنه يجب لنا أن نحب بعضنا بعضًا، ثم حبنا للمال، ثم هناك الحب بين الحيوان، بل أن السمكة نفسها لَتحب أطفالها وتَذود عنها.
فهل يصح أن تؤدي كلمة الحب كل هذه المعاني المختلفة؟ أَلَا يدل قصورُ هذه الكلمة على قصور اللغات العصرية — أرقاها وأدناها — وأننا ما زلنا في المرحلة الأُولى من التعبير؟
أجل إن اللغات جميعها لا تزال في طور التجربة؛ وستبقى كذلك ما دام عقل الإنسان يرتقي ويطلب الوضوح مكان الغموض والمعنى الموضوعي مكان المعنى الذاتي، ويكاد ارتقاء السيكولوجية يتوقف على هذا وحده؛ أي على تفسير الإحساس الذاتي تفسيرًا موضوعيًّا، ومن هنا الصعوبة الكُبرى في ترجمة الشعر، والدين، والأدب؛ لأن هذه الثلاثة تتصل بالمعاني الذاتية التي يشق على أبناء أمة أجنبية أن يفهموها؛ لأن البيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها قد اختلفتْ وأحدثتْ عواطفَ مغايرةً لِما كان في البيئة الأصلية التي وُضع فيها الشعر والدين والأدب.
وكلمة «الحب» واحدة، من مئات الكلمات الذاتية التي تتسع كل منها لجملة صور مثل: كلمات الفهم، والجمال، والألم، والسرور، والحزن، والنشاط، والكراهة، والحنان، والمجد، والسعادة، والإيمان، والتعقُّل، والوهم، والغيرة.
وهناك كلمات أخر نتوهم منها أنها موضوعية، ولكنها تُحدث لنا إحساساتٍ وانفعالاتٍ ذاتية؛ فتلتبس معانيها وتختلف في دلالتها مثل: الديمقراطية، والحرية، والأوتوقراطية، والتعصب؛ فإنها جميعها تدل على حالات نراها في شعب أو جماعة، وكان يجب أن تكون موضوعيةً ولكنا نقحمٌ إحساساتنا الشخصية فيها، فتعود وكأنها ذاتية.
فلو قيل لنا: إن الهندوكيين يكرهون البوذيين في الهند ويؤذونهم؛ استطعنا أن نفهم معنى التعصب هنا، ونحكم حكمًا موضوعيًّا نزيها؛ وذلك لأننا لسنا هندوكيين أو بوذيين، ولكن عندما يقرأ المسلم تاريخ الحروب الصليبية؛ يجد نفسه مختلفًا كل الاختلاف مع القارئ المسيحي؛ لأن كلًّا منهما ينظر نظرًا ذاتيًّا لمعنى التعصب.