المجتمع العربي القديم
خدمت اللغة العربية مجتمعين عربيين: أولهما المجتمع البدائي حين كان العرب قبائل يرحلون وينتجعون، وقد ورثنا نحن من هذا الطور آلاف الكلمات عن الصحاري والإبل والخيل والغزو والخيام، ولكنا لم نرث شيئًا من هذا الطور يتعلق بالزراعة أو الصناعة أو الحكومة، ثم خدمت اللغة مجتمعًا عربيًّا آخر هو المجتمع الحضري، وإذا قلنا «المجتمع الحضري» فإننا نعني مجتمع بغداد؛ لأنها كانت بؤرة الثقافة العربية نحو أربعة قرون، وكانت مدن مصر وسوريا والمغرب والأندلس والحجاز تستوحيها وتستمد منها.
والمجتمع البدائيُّ الأول لا نكاد ننتفع بتراثه اللغوي، أما المجتمع الحضريُّ الثاني فهو رأس المال الذي نستغلُّه ونرجع إليه ونستمدُّ منه، ولغتنا ما زالت هي لغته بكلماتها ومعانيها مع تغييرٍ قليل في المعاني وزيادات في بعض الكلمات. وقد خدمت اللغة هذا المجتمع الخدمة الصادقة ولهذا السبب نفسه؛ أي لصدق الخدمة التي قامت بها اللغة للمجتمع العربي أيام الأمويين والعباسيين والأتراك قد حملت كلماتها إلينا جوًّا غريبًا عنا، ونحن نشعر بهذه الغرابة حين نحاول وصف مجتمعنا ونبحث عن الكلمة «الجوية» التي تؤدي معنًى نحتاجُ إليه في السوق والبورصة والمكتب والمصنع والمداولات السياسية والحقوق المدنية والعلوم المادية، إلخ. وحملت إلينا عادات ذهنية ما زلنا نستضر بها؛ لأنها لم تَعُدْ تتفق وحياتنا العصرية وإليك شرحًا موجزًا.
كان المجتمعُ العربيُّ أرستقراطيًّا يعيش بكد العامل أو بكد العبيد كما كان الشأن في أوروبا مدة القرون الوسطى، وكان لذلك يحتقر العمل اليدويَّ، وكانت الطبقةُ المتوسطةُ معدومة؛ ولذلك لا نستغرب اقتراح أحد الأدباء مدة العباسيين ألا يباع الورد للسوقة؛ لأن هذا الزهر أَجَلُّ مِنْ أن تتناوله يدُ العامل الخسيس ولا نستغربُ أيضًا أن يكون أوفى الكتب الأدبية التي نعتمد عليها في تفهُّم المجتمع العربي القديم هو كتاب «الأغاني»، وفصوله هي مجالسُ الأثرياء والخلفاء مع المغنيين والمغنيات واسم الكتاب وموضوعُهُ يدلَّان على أرستقراطية الأدب الذي نشأ لخدمة المجتمع العربي الأرستقراطي، ثم أرستقراطية اللغة التي تعبر عنه.
ومجتمعنا الآن ديمقراطيٌّ أو نحن نحاول أن نجعله كذلك وننشد الديمقراطية في الحكومة والعائلة والمدرسة، ولكن التراثَ اللغويَّ الأرستقراطي الذي ورثنا من العباسيين لا يساعدنا على ذلك.
ثم كان هذا المجتمع حربيًّا فإن الصراع بين الدولة الرومانية والدولة العربية؛ أحال اللغة إلى خدمة الحرب؛ فزَكَت الخطابة والشعر خطابة الحرب وشعر الحرب وكثرت كلمات العاطفة والانفعال (الكلمات الذاتية)؛ لأن المجتمع العربيَّ كان معسكرًا يحتاج رجالُهُ إلى ما يملأُ قلوبَهم حماسةً وقد ورثنا هذا التراث مع أن مجتمعنا سلميٌّ يحتاج إلى كلمات السلم وليس إلى كلمات الحرب.
كان المجتمعُ العربيُّ القديمُ يعيش في ظل حكومة استبدادية لم تعرف قط معنى البرلمان أو المجلس البلدي؛ ولذلك نحن نحمل عبء الكلمات العربية التي خدمت هذا المجتمع الاستبدادي ونحاول تحميلها المعاني الديمقراطية الجديدة، أو نصطنع الكلمات الجديدة مثل «برلمان» لكي تؤدي معنًى لم تعرفه الثقافةُ العربية القديمة.
لم يكن المجتمع العربي القديم يعيش على المعارف والمنطق إلا في أقله وكان يعيش على العقائد والغيبيات في أكثره؛ ولذلك يشق علينا في مجتمعنا أن نؤدي المعاني للمعارف المادية؛ لأن لغتنا حافلةٌ بكلمات الغيبيات والعقائد دون كلمات العلوم الجديدة.
والنتيجة لهذه الحالة أننا نجدُ صعوباتٍ لغويةً خطيرةً كلما حاولنا معالجة المعارف العصرية؛ لأن لغتنا قضتْ شبابها وهي تُلابس مجتمعًا أرستقراطيًّا حربيًّا عقديًّا؛ فكثرت مصادرها اللونية التي تعبر عن حاجات هذا المجتمع، فكانت لغة الخطابة والشعر والغيبيات بل لغة اللهو والأغاني والقتال، ولكنا نحن نختلف عن العباسيين والأمويين من حيث إن حضارتنا قد صارتْ تنشدُ الديمقراطيةَ وتنهض على الصناعة وتعتمد على المعارف والماديات دون العقائد والغيبيات، ومِن هنا صارت البلاغةُ القديمةُ بلاغة الإدارة تعبر عن شهوات ورغبات وليست بلاغة المنطق التي تعبر عن العقل والذكاء كما حفلت اللغة برواسبَ من الكلمات التي لا ننتفع بل نستضرُّ بها كُلَّمَا حاولنا تحريكَ المجتمع؛ لأن التحريك يُعَدُّ هنا تعكيرًا.