الكلاسية داءُ الأدب العربي
كُلُّ لغة تحتاج إلى شيء من الكلاسية نعني النزعة التليدية، حين يتصل الأديب بأسلافه من الأدباء يتذوق مؤلفاتهم وينغمس في أمانيهم ومثلياتهم، ويقتني بذلك التراث الذهني السابق، وفي كل عصر نجد الكاتب الذي ينزع إلى تليده والكاتب الذي ينزع إلى طريفه، وهما ليسا خصمين ولكنهما متعارضان، وقد ينتفع أحدهما بالآخر؛ إذا لم يكن الفرقُ بين الطارف والتليد عظيمًا كما يكون أحيانًا أيام الثورات والانفجارات الاجتماعية، ففي هذه الأيام تتقهقر النزعة التقليدية وتبرز النزعة التجديدية، ويحدث العكس أيام الاستقرار حين تقنع الأمة بالكلاسية وتطمئن إلى التقاليد بل تتعلق بها وتخشى التجديد والتغيير، وبدهي — لهذا السبب — أن الكاتب الذي ينغمس في الكلاسية؛ إنما يفعل ذلك لأنه يعيش في بيئةٍ أدبية راضية عن التقاليد كارهة للتجديد والكلاسية ليستْ في الواقع شيئًا أكبر أو أصغر من التقاليدِ الفكرية والأدبية.
لَمَّا كان «فولتير» في إنجلترا ذكر له أحدُ الناقدين الإنجليز قول «شكسبير» في رواية هاملت: «فما تحرك فأر»، واستحسن الناقد هذا التعبير؛ لما فيه من بساطة، ولكن «فولتير» أجابه بقوله: ماذا تقول؟ إن الجندي يستطيع أن يُجيب هذه الإجابة في ثكنته، ولكن لا يجوزُ هذا على المسرح أمام أسمى الأشخاص في الأُمَّة أولئك الذين يتحدثون بلغةٍ شريفة؛ ولذلك يجب ألا يجدوا مثل هذه اللغة عندما يستمعون.
وكان «فولتير» هنا كلاسيًّا تليديًّا ينشد الفخامة والروعة في الكلمات وكان قد ترك فرنسا الملوكية الرجعية التي يتلألأ فيها عرش «لويس الرابع عشر» أو الخامس عشر تحيط به نجوم من النبلاء والأمراء والسيدات المزينات بالآلي التي جمعت أثمانها من أقوات الملايين من الشعب.
عاش «فولتير» في هذا الوسط ومع أنه ثار عليه بعد ذلك فإنه كان قد تلبس بمزاجه ونزع نزعته، فكان الكاتب التليدي كما كان «جان جاك روسو» الكاتب الطريفي وأوروبا لا تزال إلى الآن في مشكلاتها ومثلياتها تستنير بضوء روسو، فهي ثائرةٌ متغيرةٌ لم تستقر.
ولكن إنجلترا التي زارها «فولتير» والتي أَلَّفَ فيها «شكسبير» ولم يأنف من ذكر الفأر في درامة عالية مثل: «هاملت»، إنجلترا هذه لم تكن رجعية؛ إذ لم يكن فيها عرش مستبد كالعرش الفرنسي، وكانت قد استقرت فيها الحريةُ والبرلمانيةُ بعد قطع رأس «تشارلس الأول» ثم كانت الحركة التجارية قد أَوجدت فيها طبقةً متوسطة طريفية يحضر أفرادها دور التمثيل وكل هذا جعل الوسط الأوروبي غير تليدي.
وداء اللغة العربية في جميع الأقطار العربية هو داء الكلاسية الرجعية التليدة، وليس هذا الداء جديدًا؛ فإننا نجد أثره مثلًا حين نقرأ عن رفض إحدى قصائد «أبي نواس» وهو المجدد العظيم في مباراة أدبية — على ما نذكر — وكذلك لما دخل «جنكيز خان» بغداد ألغى كلمات التفخيم التقليدية وألح في وجوب التبسيط اللغوي. وهنا يقول ابن عرب في كتابه «فاكهة الخلفاء»: «فكان في المكاتبات … لا يزيد على وضع اسمه … من غير مجازات واستعارات … وكذلك الأمراء والوزراء … ولما فرغ من ترتيب هذه القواعد الملعونة وخرج بها على خلاف الشريعة الميمونة …» إلخ … إلخ.
فنحن هنا إزاء رجل مغولي دخل الأقطار العربية وليس له فيها تقاليدُ اجتماعيةٌ أو دينيةٌ أو أدبيةٌ، فعمد إلى تبسيط اللغة فلا حضرة ولا جناب كما يقول مؤلف «فاكهة الخلفاء» الذي يحنق إلى درجة أنه يجد في هذا التغيير في اللغة مخالفةً «للشريعة الميمونة» أي: أنه لم يختلف هنا عما يقول الدكتور «زكي مبارك» حين أَلَّفَ كتابه عن «اللغة والدين والتقاليد»، حيث يرى الارتباطَ بين الثلاثة وحيث يكره أشد ما يكره حريةَ المرأة حتى إنه ذكر أنها تستحق الضرب بالحذاء على رأسها وأن والده كان يفعل ذلك بزوجاته، وهو هنا ينساقُ فيما يتوهمه من تقاليدَ عربية.
وحين أسست الحكومة المصرية مدرسةَ «دار العلوم» وقصرت الملتحقين بها على المسلمين دون المسيحيين أو اليهود؛ إنما نظرت أيضًا هذه النظرة؛ أي أنها رأت ارتباط اللغة بالدين والتقاليد فاللغة عند زكي مبارك وابن عرب والحكومة المصرية؛ ليست لغةَ الديمقراطية والأتومبيل والتليفزيون، بل هي لغة القرآن وتقاليد العرب، ولا بد أن ابن عرب يفرح ويطرب لو أنه بُعث في عصرنا حين يجد أننا خالفنا «جنكيز خان» «الذي كان في المكاتب … لا يزيد على وضع اسمه … من غير مجازات واستعارات»؛ ذلك لأننا نقول الآن صاحب المعالي وصاحب السعادة … إلخ … إلخ.
وخلاصةُ القول أن الداء الأصيل في اللغة العربية هو الكلاسية التليدة، وهي لذلك لا تكتسب طريفًا؛ لأنها قانعةٌ بتليدها، وهذه حالٌ يجب ألا نرضاها نحن؛ لأنها تحول دون أن نكون أمةً عصرية. وصاحب المعالي وصاحب السعادة وضرب المرأة بالحذاء على رأسها؛ لن يُنجينا من مثل (جنكيز خان) بأُسلوبه العصري، ويستطيع القارئ الذكي أن يردَّ هنا بأنه عندما يتغير الوسط الاقتصاديُّ يتغير الوسط الاجتماعي؛ أي عندما نصيرُ أمة صناعية؛ لا بد أن تتغير اللغة وتقبل الطريف.
وهذا صوابٌ، ولكن قبل ذلك يجب أن نعرف لماذا نكره إلغاء الإعراب وتبسيط التعبير (فأر شكسبير) واصطناع اللغة العامية؛ كي نَعبر الهوة التي تفصل بين الأدب والشعب واتخاذ الخط اللاتيني، وأيضًا حرية المرأة.