الإيحاء الاجتماعي للكلمة
في ١٨٧٠ كانت فرنسا يتسلط عليها الإمبراطور نابليون، وكان مفكروها يكرهون النظام الإمبراطوري ويطلبون إلغاءَ العرش وإعادة الجمهورية، فكان مما كتبه الأديبُ الكبيرُ فلوبير قوله: إن الشعب الفرنسي يتعلق بالإمبراطورية؛ لأنه مخدوعٌ باسم نابليون؛ أي أن اسم نابليون الأول قد ترك في التاريخ رنينًا ودويًّا كانا لا يزالان يجدان الصدى في النفس الفرنسية؛ ولذلك فإن كلمة «نابليون» كانت تُوحِي إلى الشعب حبًّا وتعليقًا في غير مكانهما؛ لأن نابليون الثالث لم يكن يستحقهما سنة ١٨٧٠.
وفلوبير على حق؛ فإن للكلمات إيحاءً سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو دينيًّا، فما هو أن ننطق بالكلمة أو تخطر هي ببالنا حتى تنطلق طائفةٌ من العواطف تحرك إرادتنا وتعين سلوكنا وتفكيرنا، وقد سبق أن قلنا: إن كلمات الدم والانتقام والثأر تُحدث ثلاثمائة جناية في الصعيد كما أن كلمتي شرق وشرقيين تُحدث بين بعضنا صدودًا عن الحضارة العصرية كأننا في حرب مع الأوروبيين وإن هذا الصدود يؤذينا في تطورنا ولا يزال عندنا من الكلمات والعبارات ما يوحي إلينا إيحاءً سيئًا يتعارض مع الروح الديمقراطي الذي نرجو أن نعممه في المجتمع والحكومة والعائلة ومن ذلك مثلًا قولنا «أبناء البيوتات» أو «حرم فلان» أو «أم فلان».
ولكل كلمة إيحاؤها الذي يقوى أو يضعف وكثيرًا ما ينعدم التفكير؛ لانعدام الكلمة، فإن المبشرين الذين عاشوا بين القبائل البدائية أو المتوحشة في أفريقيا السوداء كانوا يجدون مشقةً عظيمةً بل أحيانًا استحالة في شرح الديانة المسيحية؛ لأن لغة هذه القبائل لم تكن تحتوي كلمات تدل على الله أو الجنة أو جهنم أو النعمة أو المجد أو الصدق.
وكثير من فضائلنا ورذائلنا معًا يرجع إلى الكلمات، فلو لم تكن هناك كلمتا الصدق والكذب لكان من الشاق علينا أن نفهم معنييهما، وكلمة «الشماتة» توحي إلينا أسوأ العواطف.
واعتبرْ مثلًا أيها القارئ طبيبًا وحشاشًا يتحدث كل منهما عن الأعضاء التناسلية، فالأول يذكر كلماتٍ لا تحرك عاطفته أو تهكمه أو سخريته ولكنها تحرك ذهنه؛ لأنها كلمات يُقصد منها إلى المعارف؛ ولكن الحشاش يذكر كلماتٍ توحي العاطفة الجنسية أو التهكم أو السخرية، فالموضوعُ هنا واحدٌ ولكن اختلفتْ معانيه باختلاف الكلمات التي تُستعمل في وصفه.
وهنا يجب أن نذكر أن كثيرًا من تَوَجُّسِنا من الحب واختلاط الجنسين؛ يرجع إلى أننا نستعمل كلمات الحشاشين، سواء أكانت فُصحى أم عامية في وصف هذه العلاقات الجنسية بدلًا من كلمات العلماء أو المثقفين؛ ولذلك كلما فَكَّرَ بعضُنا في الحب أو اختلاط الجنسين على الشواطئ أو العري خطرتْ بذهنه كلماتٌ توحي البذاء أو العهر؛ فيصد ويصرخ في دعوة إلى انفصال الجنسين، فأحدنا المتعلم المثقف العصري حين يفكر في الاستحمام والشواطئ واختلاط الجنسين تخطرُ بباله هذه الكلمات: الصحو، الأوزون، فيتامين، السباحة، هواء البحر المعقم، المؤانسة، الرياضة، النحافة، الرشاقة.
وأحدُنا الآخر غير المتعلم أو بالأحرى غير العصري؛ تخطرُ بباله هذه الكلمات: الأرداف، الأكفال، البطن المتعكن، وصدر مثل حق العاج رخص. وكلمات أخرى تخطر ببال الحشاشين؛ فتؤدي إلى تفكير الحشاشين ثم إلى الصراخ بالعيب والعار على الشواطئ، والحب نفسُهُ يتكيفُ بالكلمات التي تُستعمل في وصفه أو شرحه بين المحبين فهو عهرٌ بين الشاب وبغي، وهو كذلك بين الحشاش وزوجته، ولكنه يرتفعُ إلى الطهر والشرف بين المثقفين الذين يَستعملون الكلمات السامية المهذبة لكل ما يتصل بأعضاء الخُلُود البشري.
والإيحاء الحسن من الكلمات كثيرٌ أيضًا، فانظر إلى قولنا: «الروح الرياضي»، وكيف تؤثر هذه العبارة كالسحر وتبعث عاطفةً حسنة في الشاب حين يجورُ أو يغضبُ، وانظرْ إلى قولنا: يجب أن تكون (جنتلمانًا)؛ فإن هذه الكلمة الإنجليزية تجمع من المعاني ما لم نوفقْ نحن ولا غيرنا — مثل الفرنسيين أو الإيطاليين — إلى ترجمته بإحدى كلماتنا؛ ولذلك استعملت في اللغات الثلاث.
ولما خرجنا نحن من ظلام القرون الوسطى وجدنا من المعاني في اللغات الأوروبية ما لم نجد ما يقابله في لغتنا؛ فاخترعنا الكلمات التي تؤديها فقلنا: عائلة، وتطور، ووطنية، وشخصية، ودستور، وثقافة، وعالمية، ومسئولية، وإخاء.
وهذه الكلماتُ أحاطتْنا بجوٍّ حسنٍ من التفكير العصري، يجعلنا نُتابعُ تطورات العالم ونفهم مشكلاتِهِ، ولم تكن لهذه الكلماتِ التي ذكرنا معرفة في لغتنا، أو كان بعضها معروفًا ولكنه لا يحمل هذه المعاني العصرية التي نُلصقها بها مثل: ثقافة وإخاء ودستور نجدها في المعاجم، ولكنا لا نجدُ لها معانيها العصرية.
واذكر أيها القارئ الجو السيئ الذي يبعث تفكيرًا سيئًا في صبياننا عندما يركبون الترام أو يسيرون في الشارع؛ فيسمعون الباعة الجائلين يشتم بعضهم بعضًا بذكر الأعضاء التناسلية بكلماتها الفجة؛ فإن الصبي ينشأ وقد تلبس بالمعاني الفجة التي لهذه الكلمات، وهو عندما يبلغ الشباب يجد أن علاقته بالمرأة مكيفة مصوغةً إلى مدًى بعيد بهذه الكلمات، وهو يشقى بهذا.
والصبي حين يقرأ المجلات الأسبوعية تعلق بذهنه كلمات من النكات الجنسية تعين له السلوك الجنسي في المستقبل أو تؤثر فيه؛ ذلك لأن لكل كلمة إيحاءها الذي يندس في العقل الباطن ويكون لنا عادات في التفكير والأخلاق، ويجب لهذا السبب أن نحيط أبناءنا بالكلمات المثلى التي تبعث التفكير الحَسَن كما يجب علينا نحن الكبار أَلَّا نستسلم لإيحاء الكلمة، بل ننظر من خلالها إلى المعاني المختفية التي لا تتفق والحقائق فنميز بين الكلمة الذاتية وبين الكلمة الموضوعية، وليس هذا بالمجهود اليسير، وقَلَّ منا من ينجح فيه، ومعظمُنا ينجح في الكشف عن قليلٍ من الكلمات وتحري محتوياتها من غموض أو وضوح ومن خير أو شر؛ ذلك لأننا نتسلم الكلمات منذ الطفولة، فننشأ على تصديق ما يقول به العُرف عنها، ثم نقبل ما تبعثه فينا من عواطف؛ فإذا شببنا أخذنا غيرها من الكلمات، وبقدر ما عندنا من ذكاءٍ ناقد تكون قدرتُنا على التخلص من بعض إيحاءاتها.
وذكاؤُنا الناقدُ محدودٌ بالعمر، والكلمات غيرُ محدودة؛ إذ هي تراث آلاف السنين.