الذكاء واللغة
ليس هذا مقام البحث عن الكلمات هل هي أصل التفكير أم التفكير أصل الكلمات، واعتقادنا أن التفكيرَ ممكنٌ بلا كلمات ولكن في صورة بدائية مضطربة كما نفكر في الأحلام، وواضح أن أحلامنا حين تكون على مستوًى خامد راكد بالنوم تجري بلا كلمات صورة تأخذ مكان صورة ومنظرًا يتلو منظرًا.
ونحن الكُتاب كثيرًا ما نجد — عندما نحلل تفكيرنا — أنه ينبعث ويتصل بالكلمات. ومما لا شك فيه أن هناك بين المتوحشين والبدائيين أذكياء من الطراز الأول ولكن ذكاءهم يبقى عقيمًا؛ لأنهم حين يفكرون يجدون تفكيرَهم محدودًا بالتراث اللغويِّ المحدود الذي ينطقون ويفكرون بكلماته، واللغة لهذا السبب هي أعظمُ المؤسسات الاجتماعية في أية أمة؛ لأنها الوسيلة لتحريك الذكاء في أبنائها ولتوجيه أخلاقهم بكلماتها التي تعبر عن المعرفة أو العقيدة أو الحكمة، ومن المحال أن تطمع الأمة في أديب من أبنائها إذا كانت لغتها غير أدبية كما أنه من المحال أن تطمع في عالمٍ إذا كانت لغتنا غير علمي.
والفرنسيون معرفون بالمنطق والوضوح والدقة في تفكيرهم واعتقادنا أَنَّ هذه صفات لغتهم أكثر مما هي صفاتُ أذهانهم، فإنهم من حيث السلالة لا يختلفون عمن حولهم من الأُمم الأوروبية، ولكن اللغة الفرنسية تحتوي كلمات وعباراتٍ في غاية الوُضُوح والدقة بحيث إن المعنى يَبْرُزُ بأكثر مما في أية لغة أخرى؛ ولذلك كثيرًا ما نجد الكاتب الانجليزي يعبر في غضون إنشائه بكلمة أو عبارة فرنسية يحس أن كلمات لغته لا تؤديها.
وعناية الفرنسيين بتعليم لغتهم في المدارس تَفُوقُ أية عناية تبذلها أمة أُخرى في تعليم لغتها لأبنائها، ويجب لذلك أن تكون الرسالة التعليمية الأُولى لأية مدرسة مصرية هي تعليمُ اللغة العربية، وأن تكون غايةُ هذا التعليم إيجاد الكلمات التي تحرك ذكاءنا بالتفكير الحسن، وأن يكون هدفُ المعلم ليس العبارة الجميلة بل الكلمة الناجحة التي لا يُمكن أن تقوم مقامها كلمةٌ أُخرى.
ولهذا يجب أن نتجه نحو الأسلوب الاقتصادي المضغوط؛ فنقاطع المترادفات ولا نحمِّل التلميذ عبءَ كلمات لا ينتفع بها في تفكيره العصري؛ فإن من يدرس ديوان المتنبي يجد فيه نحو ألف كلمة جديدة غير مألوفة في الصحف أو الكتب العصرية. ولكن هذه الكلمات لا يمكن للشاب المصري أن ينتفع بها في عصرنا؛ لأنها تصف مجتمعًا حربيًّا يخالف مجتمعنا، وهي لا تحرك ذكاءنا أو تحدد المعاني لمعارفنا، كما أنها لا تكسبنا الاتجاه الأخلاقي أو الفلسفي.
وفي هذا القرن العشرين الذي نعيش فيه تحتاج كُلُّ لغة متمدنة إلى أَنْ تحوي الكلمات الاجتماعية البارة التي توجه نحو الخير والكلمات العلمية والفنية التي تصف وتعالج مائة وعشرين علمًا وفنًا ومجتمعنا يجب أن يكون — في أكثره — مجتمع المعارف والمنطق وفي أقله مجتمع العقائد والعاطفة؛ ولذلك يجب أَنْ تحويَ كل لغة كلمات المعرفة الدقيقة التي لا تلتبس مع كلمات أُخرى حتى إذا فكرنا بها سار تفكيرُنا على مستوى الذكاء الذي يمكننا مِن أن نعيش المعيشةَ العلميةَ في مجتمع علمي.
- (١)
أن نُعْنَى أكبر العناية بتعليم أبنائنا لغتهم الوطنية؛ لأنها وسيلة التفكير التي تحرك ذكاءهم وهي — لذلك — أثمن مؤسساتنا.
- (٢)
أن تكون البلاغة بلاغة المنطق والمعرفة، بدلًا من بلاغة الانفعال والعقيدة كما يجب أن نتوقَّى المترادفات والكلمات الملتبسة، وأن نميز بين الكلمة الذاتية والكلمة الموضوعية.
- (٣)
أن يتأنَّق التلميذ في تعبيره، ولكن تأنق الذكاء وليس تأنق البهرجة البديعة.
- (٤)
أن يحس المشرفون على اللغة أن كل تقصير في إيجاد الكلمات التي تؤدي إلى الفهم العلمي؛ إنما هو تعطيلٌ لتطوُّر الأمة.
- (٥)
أن نذكر أنه على قدر ارتقاء اللغة ووفرة كلماتها ودقة معانيها؛ يكون الانتفاع بذكاء أبناء الأمة.