كلمات تبني الأخلاق
للكلمات إيحاءٌ اجتماعيٌّ للخير أو الشر، وكثيرٌ من الكلمات يحمل شحنةً عاطفيةً انفجارية للشر مثل: كلمة «دم» في الصعيد أو للخير مثل كلمة «مروءة» في أنحاء العالم العربي. وفي اللغة العربية كلمات مثل: المروءة والبر والشهامة والفتوة والمجد وهي تُحَفٌ لغويةٌ يجب أن نقتنيها في بيوتنا ونعتز بها ونعرضها على أبنائنا ونتحدث عنها، وما أسماها من كلمات، كل منها بمثابة المؤسسة الاجتماعية التي تبعث الخيرَ وتعمم الشرف أينما وُجدت.
وإذا كانت المجتمعاتُ العربيةُ القديمةُ قد قصرت في فن الحكومة؛ لأنها لم تعرف البرلمان أو المجلس البلدي فإن هذه الكلمات قد استطاعتْ في أحايينَ كثيرة أن توجِد المجتمع البار وأن تقيم العدل مكان الظلم وأن تحمل على الطموح والتطلُّع إلى السماء وأربعٌ من هذه الكلمات الخمس أو على الأقل ثلاث لا يمكن ترجمتُها إلى اللغة الإنجليزية.
ولست أقصد هنا من الترجمة أَنْ نجد الكلمة التي يدلُّ اشتقاقُها في الإنجليزية على أنها تُرادف العربية، بل أقصد الجَوَّ الاجتماعيَّ الذي تُحدثه كلماتٌ مثل المروءة أو الفتوة أو البر، فإني أجزمُ بأنَّ اللغة الإنجليزية لا تستطيع التعبير عنها ولو كانت لغتُنا تحوي خمسين من هذه الكلمات — بل التحف الغالية — لكان في مقدورنا أن نبني بها أخلاقَ الأمة ونعين لها النفسية التي تعيش بها في سعادةٍ ورفاهية.
ولو كانت الأُمم العربية تكسب في كل مائة سنة كلمة جديدة لها هذه القوة في الخير؛ لصار المجتمعُ العربيُّ أسمى المجتمعات في التفكير العاطفي، وقد يمكن للسيكولوجيِّ أن يقول: إن هذه الكلمات إنما عبأت هذه العواطف السامية؛ لأنها كلمات تعويضية؛ أي أن المجتمع العربي في القرون الماضية لما كابد من مظالم حكوماته قد تقوض بهذه الكلمات من هذه المظالم؛ فأقام عدلًا اجتماعيًّا مكان الظلم الحكومي أو إلى جانبه.
انظر كلمة «مروءة» وما تحمله إلينا من المعاني السلبية والايجابية التي تكف وتغري فليس من المروءة ألا نغيث السائل المحتاج أو نخون الأمانة أو ننكث العهد ولكن من المروءة أن نتجاوز عن حقوقنا عند المحتاجين وأن نتصدق حتى ولو كنا مخدوعين وأن نعين العاجز ونسعف الملهوف قال الزمخشري: «المروءة هي كمال الرجولة» وقال المصباح: «المروءة آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات.»
ولكن أين تعريف المعاجم هذا الجامد مما يعرفُهُ جمهورُنا عن هذه الكلمة السامية؟ فإن أحدنا لَيقول: «دعك من هذا الرجل فإنك لن تجد عنده مروءة.» وكأنه قد حكم عليه بالإعدام المدني واذكر أيها القارئ: كم من موقف قد احتشدت فيه الدنايا والخسائس وطغت فيه الظلمات الحيوانية على الروحية الإنسانية وإذا بهذه الكلمة ينطق بها واحد؛ فتنفجر منها القوة للخير، فيخسأ الظلم وينهزم العدوان ويخفت صوت الحيوان ويعلو صوت الإنسان ثم انظر إلى كلمة «بر» ونحن نقول في أيامنا البر الاجتماعي ولكن في المعني الأصلي هو البر بالوالدين علاقة عائلية حميمة ما أشرفها وما أجملها.
أو انظر إلى كلمة الفتوة؛ فإن هذه الكلمة لِمَا حملته من المعاني البارة؛ بعثت أفرادًا في المجتمع العربي على تأليف جمعيات للخير والشهامة والمجد؛ فكان منهم «فتيان» يخدمون الفضيلة ويرفعون أنفسهم إلى مستوًى عالٍ من السلوك والأخلاق. قال الزمخشريُّ: «الفتوة هي الحرية والكرم.» وحسب كلمة أن يكون بها من القوة الانفجارية للخير؛ أَنْ تَتَأَلَّفَ الجمعياتُ بإيحاء لفظها.
فهذه كلمات ثلاث خدمت المجتمع العربي، وعينت له أهدافًا من الشرف والسمو وبَنَتْ له من الأخلاق التي كان الحُكم الجائر يهدمها، وكما قلت، لا يمكن ترجمة هذه الكلمات إلى اللغة الإنجليزية؛ لأن لكل منها معنًى حميمًا يتصل بالمجتمع أو العائلة في جَوِّنَا العربيِّ فإذا أضفت إلى هذه الكلمات كلمات أُخَرَ مثل: المجد والشهامة والنخوة؛ عرفتَ قيمة هذه الكلمات التي يُعَدُّ كُلٌّ منها شعارًا يهتدي به الفردُ في مجتمعه ويجد الاتجاه السديد نحو الملائمة الاجتماعية.
ومهمة الأديب أن يوجِد مثل هذه الكلمات في لغته؛ لأنه عندئذٍ ينقل الجزاءات من المحكمة والسجن إلى المجتمع والضمير، فالشاب الذي انغرستْ فيه معاني هذه الكلمات وما يُقاربها لا يحتاج إلى أَنْ ننصب له الميزانَ الأخلاقيَّ بالقوانين والمحاكم؛ لأن هذه الكلمات قد أقامتْ هذا الميزان في ضميره، فالدافعُ والوازعُ معًا داخليَّان هنا بالضمير، وليسا خارجيان بالمحكمة والقانون.
وليست الكلمات سواء؛ فهناك من الكلمات ما نستعملُهُ؛ فنرتفع فوق أنفسنا في الذكاء أو العاطفة، بل أكثر من ذلك؛ فإني أكاد أقول إن بعض الكلمات يجعل الناس أَذْكَى مما يتوهمون، كما أَنَّ هناك كلمات تجعلهم أشرفَ وأَشْهَمَ مما يحسون، وقد تكونُ الكلماتُ أربطةً اجتماعيةً تضمد وتجمع كما تكون سُمُومًا تفكِّك المجتمعَ وتنساب فيه شرورًا.