حين تربي الذئبة الإنسان
كثيرًا ما كنا نسمع عن أطفالٍ بشريين يعيشون مع الحيوان، وينشئون النشأة الحيوانية، وكنا نحمل هذه القصص على أنها نوعٌ من الاختراع الذي لا يصدَّق، ولكن الواقع يثبت أن هناك أطفالًا خطفتهم الحيوانات وقامت بتربيتهم؛ فنشأ هؤلاء الأطفال وعاشوا في الغابات.
والذئبة أقرب الحيوانات إلى اتخاذ مهمة الأُمُومة للطفل البشري؛ وسبب ذلك أنها تغزو القُرى والحقول المجاورة، وأكثر ما يكون هذا في الليل، وأقله في النهار؛ فإذا وقعت على طفل في الحقل غفلت عنه أمه؛ حملته كي تأكله فإذا تَلَمَّسَ الطفل حلمات ضَرْعِهَا ورضع تحرك حُنُوُّها؛ فعطفت عليه وأخذت عاطفة الأمومة والرعاية مكان عاطفة الجوع والأكل، وعندئذٍ ترعاه كأنه ابنها، ويتفق هذا في القليل النادر.
فإن المؤلف كان يعيش في الهند في ١٩٢٠ فسمع عن صبيٍّ بشريٍّ، يعوي عند الغسق مع ذئبته ويسلك سلوكها، وكان بالطبع لا يصدق هذه الإشاعة. ولكنه بعد تكرارها عمد إلى بندقيته وتعقب الذئبة إلى الجحر، فقتل الذئبة وقبض على صبيتين كانتا في حجرها، وكان هذا في ١٧ أكتوبر من ١٩٢٠، وكتابه هو قصة هاتين الصبيتين ولنترك الصغرى منهما؛ لأنها ماتت بعد سنواتٍ أما الكبرى، فيرجح المؤلف أنها ولدت في ١٩١٢ ولا يعرف متى خُطفت، وكان المؤلف وزوجته يديران ملجأً، فوضعت الصبية فيه، وكان عمرها وقتئذٍ ثماني سنوات، فكانت في النهار تنام، أو تقعد ووجهها إلى الحائط فإذا جاء الليل نشطتْ وصارتْ تجري على أربع، يديها وركبتيها، وكانت تشرب الماء لعقًا بلسانها من الإناء الذي تنحني فوقه، وتلعق منه كالكلب أو الذئب، ولم تكن تخشى الظلام، فإذا كانت ساعة معينة في الليل لا تتغير عوت عواء الذئاب، وإذا اقترب منها أحد؛ كشرت عن أنيابها. وكانت تفتش على الرمم وتأكلها، وكانت تحب جراء الكلاب وأطفال الماعز والقطط والفراخ وتلعب معها جميعا، ولكنها كانت تنفر من الأطفال البشريين.
قلنا إنه قبض عليها في ١٧ أكتوبر من ١٩٢٠، ونقول إنها بقيت تمشي على أربع، بل تنهض على أربع إلى ٢٤ مايو من سنة ١٩٢٢، حين وقفتْ على قدميها بعد أن أُغريتْ على ذلك.
وفي أغسطُس من ١٩٢٢ وقفت على ركبتيها وأكلت من الطبق بيديهًا بدلًا من أن تأكل بفمها مباشرةً، ولكنها ما زالت إلى هذا التاريخ تلعق الماء.
وفي نوفمبر من ١٩٢٢ قالت «ما» لرئيسة الملجأ، وقالت أيضًا «بهو. بهو» في طلب الماء، أو الطعام، ولم تكن قد نطقت قبل ذلك بكلمات مع أنها كانت تصرخ وتصيح.
وفي ١٠ يونيو من ١٩٢٣ وقفت وحدها على قدميها بلا إغراءٍ.
وفي ٩ يناير من ١٩٢٤ بدأت تخشى الظلام، وكانت أيام توحشها مع الذئبة تخشى النهار، وتختبئ، ثم تنهض في الليل، وتغزو الحقول، والقُرى مع أمها الذئبة.
وفي ١٩٢٥ شربت من كوبٍ على الطريقة البشرية.
وفي ١٩٢٦ بلغ مجموع الكلمات التي عرفتْها ثلاثين كلمة.
وفي ٢٩ يناير من ١٩٢٦ رفضت أكل الرمم.
وفي ٦ ديسمبر من ١٩٢٦ أبدت حياء، ورفضت الخُرُوج من غرفة النوم بدون ثياب، وكان عمرها وقتئذٍ من سنة ولادتها ١٤ سنة، ومن يوم تركها للذئبة ٦ سنواتٍ.
وفي ١٤ يناير من سنة ١٩٢٧ بلغتْ كلماتها ٤٥ كلمة.
وفي ١٥ يوليه من ١٩٢٧ بدأت تخشى الكلاب إذا نبحتْها.
وفي ١٤ نوفمبر ١٩٢٩ ماتتْ وعمرها نحو ١٧ سنة.
•••
- العبرة الأولى: أن السلوك يستقر في السنوات الأُولى من الطفولة، ربما كانت السنوات الأربع أو الخمس أو الست. وأننا بعد ذلك يشق علينا إلى ما يقارب الاستحالةَ أن نُغير هذا السلوك؛ ونعني بالسلوك: الاستجابات العاطفية التي ينشأُ عنها تصرفُنا.
- والعبرة الثانية: أن ما نسميه طبيعة وغريزة، إنما هو في أحوال كثيرة تعليمٌ وقدوةٌ، حتى المشي ننساه إذا عشنا مع ذئبه، بل يذكر المؤلف أن هذه الفتاة عندما قبض عليها كانت قد برعت في المشي على أربع حتى كانت تسبق المطاردين لها من البشر!
- والعبرة الثالثة: أن أسلوبنا الذي نتخذه في المشي، والخوف، والأكل، والشرب والغضب … كل هذا مكتسب بالوسَط، وليس وراثيًّا.
- والعبرة الرابعة: وهذا هو الذي قصدنا من هذا الفصل: أن اللغة هي التي تعين لنا السلوك، والتصرف البشريين؛ فإن هذه الفتاة قُبض عليها وهي في الثامنة، فاحتاجتْ إلى سنتين كي تقول «ما» للرئيسة، ولكي تقول «بهو، بهو» في طلب الطعام والشراب، وبدأ ذكاؤها عندئذٍ يتفتق، فكان استظهار الكلمات تُرافقُهُ تغيراتٌ في السلوك، وهذه التغيراتُ تدل على حركات ذهنية بين الفتاة، والوسط.
فإذا كان أحدُنا يَعيشُ في غابة، أو صحراء منفردًا بلا لغة؛ فإن ذهنه لن يتفتق؛ بل يبقى مغلقًا مثل هذه الفتاة الهندية من حيث الاعتبارات البشرية، ولم تكن هذه الفتاة جاهلةً من حيث الاعتبارات الذئبية، ولكن ذهنها كان عاطلًا عندما قُبض عليها وعمرُها ثماني سنوات وبقي عاطلًا، أو كالعاطل، إلى أَنْ ماتتْ بعد أن بلغت ١٧ سنة؛ لأنها لم تحصل إلا على ٤٥ كلمة؛ أي مقدار ما يمكن أن يعرفه أبلهٌ. فهي من حيث الذكاء الطبيعي ربما لم تكن ناقصة، ولكن من حيث تفتُّق هذا الذكاء كان النقص واضحًا، وأكبر أسبابه أنها كانت خرساء لا تعرف الكلمات البشرية التي تحمل إليها العواطف والأفكار البشرية، ومع أنها قضت في عشرة البشر سبع سنوات، فإن ذهنها لم يتفتق إلى الدرجة التي كان يبلغها الطفل في هذه السن؛ لأن الطفل يولد ولوحة ذهنه مسحاء تتقبل التعليم الجديد، ولكن هذه المسكينة التقت بالبشر، ولوحة ذهنها حافلة بالعواطف التي بعثتْها فيها عِشرة الذئاب، ومن هنا صعوبة تعلمها.
واللغة هي التي تجعل الزمن تاريخيًّا والفضاء جغرافيًا، وهذه الفتاة حرمت اللغة فحرمت بذلك الفهم، وشرعت تفهم السلوك البشري وتمارسُهُ بدلًا من السلوك الحيواني حين تعلمت الكلمات، وكانت كل كلمة جديدة تعين لها فكرة جديدة، أو عاطفة جديدة، ثم سلوكًا جديدًا.