الكلمة شعار
في الفصل السابق ذكرت بضع كلمات عربية قديمة يصح أن يكون كل منها شعارًا ينضوي إليه ويعمل به كل شاب بل يصح أن تؤلف الجمعيات للدعوة إلى المبادئ التي تقول بها، فنقول: «جمعية المروءة» أو «جمعية الشهامة» وندعو الشبان والفتيات إلى اتخاذ المبادئ التي تنطوي عليها كل من هذه الكلمات وأي شيء هو أثمنُ في أية لغة في العالم من أن تحمل كلماتها أو بعض كلماتها كالمبادئ الاجتماعية السامية التي تنظم بها المجتمع ويسير بها أفرادُهُ عفو قلوبهم سيرةَ الشرف والاستقامة والطِّيبَة؟
والأمة المتطورة تحتاج إلى كلماتٍ جديدة تحمل لها الهداية العصرية والأهداف الاجتماعية، كلمات تمتاز بالإيحاء الذي يُحيل المجتمع الموات إلى مجتمع حيٍّ يقظ كلمات يحس الفرد نشوتها بل يتأثر بكيميائها.
ويجب أن أقول: إننا نحن في مصر قد قطعنا شوطًا كبيرًا في هذا الميدان؛ فاخترعنا الكلمات التي توجه وترشد، وكان مِن حظي أن أقوم بنصيبٍ حسنٍ في هذا الميدان، انظر إلى كلمات: وطنية، عائلة، شخصية، مجتمع، ثقافة، تطور، عالمية، تجديد، رجعية، ثورة؛ فإنها جميعها كلمات حيوية تؤدي وظائفَ فسيولوجية في المجتمع الحي، وليس في المعاجم العربية ما يُشير إلى معانيها العصرية، ولكننا نحن وضعناها أو ألصقنا معنًى جديدًا بكلمة قديمة كما فعلنا في «ثورة» فإن الكلمة المألوفة في كتب العرب هي «فتنة» وهي كلمة كريهة تدل على شعور السادة الغاضبين ولا تدل على شعور الشعب الناهض، فالمؤرخ الذي يكتب عن الثورة الفرنسية إذا كان ملوكيًّا؛ فإنه يصفُها بأنها «فتنة باغية» على العرش والبلاد، وإذا كان ديمقراطيًّا فإنه يصفُها بأنها «ثورةٌ عادلة» قام بها الشعب الفرنسي في انتقامٍ اجتماعيٍّ خطير واستعمالُنا «ثورة» بدلًا من «فتنة» يحلل معنًى اجتماعيًّا ساميًا.
وقد وضعنا نحن «وطنية»؛ لكي نقرر بها إحساسًا جغرافيًّا جديدًا يناقض الإحساس الثيوقراطي القديم الذي كان يَعُمُّ العالمَ العربيَّ، بل أوروبا في العُصُور الوُسطى.
وكذلك وضعنا «عائلة»؛ لكي ننقل بها نظامًا أوروبيًّا لم يكن موجودًا في بلادنا ولم ننجحْ، ولكن في هذه الكلمة من القوة السيكولوجية ما يَسير بهذا النظام رويدًا نحو النجاح انظر إلى كلمة «شخصية»، فقد ألفتُ أنا كتابًا عن هذه الكلمة وهي من الكلمات التي تخصب المجتمع وتحفز الفرد إلى الرقيِّ والتطور.
وفي كلمة «مجتمع» معنًي عصري لم يكن يستطيع الحاكمون في مصر أن يفهموه أيام محمد علي أو المماليك حين كانت ميزات الثورة والحكم والقوة في أيدي الأتراك والأرنئوط دون المصريين.
ولي أنا كتاب عن كلمة «تطور»، أما كلمة «ثقافة» فإني لم أنجح في كلمة أخرى نجاحي في تعميمها، وكلتاهما — ثقافة وتطور — تعين أسلوبًا للحياة عند الشاب وتفتح أبواب الرقي والتجديد وتصد الرجعية والجمود.
وهناك عباراتٌ مثل هذه الكلمات لها قوةُ التحريك الاجتماعي ويجب أن يكون اهتمامُ الأديب بالإكثار منها حتى يألفها الجمهورُ؛ فينصبها أهدافًا لكي يصل إليها أو يذكرها ويتحفز بها إلى التجديد والرقي.
اعتبر ما أحاوله أنا من تسمية أعضاء التناسُل: أعضاء الخلود البشري وما يحمله هذا التعبيرُ من المعنى السامي للحُب.
أو انظر إلى قولِنا: «الدولة الإيجابية»؛ أي الدولة التي تعمل للرقي والبناء، ولا تَقتصر على أن تكونَ سلبية؛ لكفالة الأمن العام فقط كما كان الرأيُ في القرن التاسع عشر، أو انظرْ إلى قولنا «القحط ثمرة الوفرة»، فإن في هذه العبارة مفتاحُ الفهم السديد لنظام الإنتاج الحاضر في أوروبا وأمريكا، أو انظر إلى قولنا: «الجوع الكيماوي» حيث يكون الشبع بالكم يحمل الجوع بالكيف كما هي الحال في النقص الفيتاميني ينشأ بين الفقراء بل وأحيانًا بين الأغنياء فإن في هذه العبارة ما يبعث على الدراسة للقيم الغذائية.
أو انظر إلى قولنا: «أدب الكفاح وأدب التفرج»، وقيمة هذه العبارات في الأدب وعلاقته بالمجتمع أو انظرْ إلى عبارة: «البيئة والوراثة في التربية»؛ فإن فيها ما يبعث على التفكير والدراسة سنين عديدة، وقد كان يُقال: إن لكل نبي رسالةً. وهذا كلام حسن ولكن لم لا يكون لكل «إنسان» رسالة في الخير والشرف والمجد؟
هذه جميعها كلمات بل محركات اجتماعية كل كلمة منها شعار كأنه رايةُ الجهاد للدفاع عن الذكاء والأخلاق وللدعوة إلى الخير والرقي.