فن البلاغة
مِن أسوأ الانحرافات الذهنية في الإنسان أنه يحيل الوسائل إلى غايات، فإن الناس يجمعون المال وسيلة يصلون بها إلى غاية السعادة، وهذا هو الزعم بل الفهم العام، ولكن ما أن يشرع أحدنا في جمع المال حتى ينسى الغاية؛ فيبقى طيلة حياته وهو في هذا الأسر؛ أي يجمع المال وغايته المال لا أكثر، وكأن الحياة قد أصبحتْ وسيلةً للمال وليس المال وسيلة للحياة.
وهذا الانحرافُ كثيرًا ما نجدُهُ في شئونٍ أُخرى حين يقال: إن الأدب غايةُ الحياة أو الثقافة أو الفن بل هناك مذاهبُ تقول: إن الدولة غاية وقبل نحو خمسين سنة شاع مذهبٌ يقول: «الفن للفن» بأن الفن غاية.
والواقع أنه ليس للحياة غايةٌ سوى الحياة وكل ما عدا الحياة إنما هو وسائلُ للحياة، فاللغة والأدب والفن والبلاغة إنما هي جميعها مسخَّرةً في خدمة الحياة التي لها الاحترام الأول والمكانة المفضلة فنحن نتعلم الفنون ونُمارس البلاغة ونُعنى بالثقافة؛ كي نصل في النهاية إلى مستوًى عالٍ من الحياة، ولذلك لا نحتاج إلى أن نشرح للقارئ أن بلاغة الحياة أهم وأخطر من بلاغة اللغة، وأن أُسلوب الحياة أَجْدَرُ بالأولية والتفضيل في التعليم مِن أُسلوب الكتابة وأَنَّ فن الحياة هو أشرفُ وأجدى الفنون على هذا الكوكب.
وإذا جَعَلْنَا الحياة الشريفة السعيدة هدفًا نوجه إليه فنوننا وعلومنا وعقائدنا فإننا نستطيعُ أن ننزع عن هذه جميعها تلك القداسة التي تَحُول بيننا وبين تنقيحها أو تغييرها، ويعود عندئذٍ «فن البلاغة» فنًّا تجريبيًّا مثل جميع الفنون، ويتغير كما تغيرتْ، فليس هناك شَكٌّ في أَنَّ التغير أو التنقيح قد عَمَّ فنونًا كثيرة في عصرنا مثل: الرسم أو النحت أو البناء، ولكن فن البلاغة في اللغة العربية لم يتغيرْ.
فحياتُنا العصريةُ تختلف عن الحياة العربية قبل ألف سنة، فإذا كنا نسلم بأن فَنَّ البلاغة يجب أن يكون في خدمة هذه الحياة العصرية فإنه يجب أن يتغير كي يخدمها، فلم يعد مجتمعُنا في حاجة إلى البهارج والزخارف البديعية نحطم رءوس أبنائنا بتعلمها أو ممارستها، ولكنا في حاجة إلى أن نجعل البلاغة فنًّا للتفكير الحسن السديد وللأمة المصرية حق تطوريٌّ في هذا التغيير.
- (١)
فهي قبل كل شيء التفكير المنطقي السديد الذي يؤمَن فيه الخطأ.
- (٢)
تحريك الذكاء وتدريبه بالكلمات.
- (٣)
أن نعرف كيف نَستعمل الكلمات للتفكير التوجيهي.
- (٤)
أن نعرف كيف نستعمل الكلمات للتحريك الاجتماعي.
فأما القاعدةُ الأُولى: وهي أن التفكير يجب أن يكون منطقيًّا فتقضي بدراسة كتاب موجَز في المنطق وإذا كان «اللورد هوردر» الطبيب الانجليزي ينصح كليات الطب في بريطانيا بتدريس كتاب «جيفونز» في المنطق في السنة الأُولى من الدراسة الطبية فإننا أَحْوَج إلى مثل هذه النصيحة في دراسة اللغة العربية في كلية الأدب أو في دار العلوم، ويجب أن تكون الكلماتُ موضوعًا لتدريب الذكاء اللغوي في التلميذ والطالب، ولن يستطيع مدرسُ اللغة أن يصل إلى ذلك؛ إلا إذا كان موسوعيَّ المعارف قد درس إحدى اللغات الأوروبية وأتقن علمًا عصريًّا.
وإلى هنا الفائدة سلبية، وهي أننا لا نقعُ في الخطأ والالتباس، ولكن يجبُ أن نتعلم اللغة للفائدة الإيجابية، وهي الانتفاعُ بها في إيجادِ الكلمات الموطرية التي تحرك الفرد والمجتمع؛ أي: نعرف القيم السيكولوجية للكلمات وما فيها من شحنات عاطفية أو تنبيهات ذهنية، فاللغة علمٌ وفنٌّ، وهي علمٌ من حيث إننا يجب أن نعرف كيف ننتقد المعاني وكيف نسبر المعاني في الكلمة، وهي فَنٌّ من حيث قدرتنا على استعمال الكلمات؛ كي تبعث التحريكَ الاجتماعيَّ أو التنبيه الذهني أو العاطفي في الفرد أو الجماعة؛ أي أننا نستطيع أن نعبئ الكلمات للإصلاح.
في ١٩٠٤ كنا قد وصلنا إلى أعمق هوةٍ من الضعف الوطني، وكان يُقال لنا إن بلادنا زراعيةٌ، وإنها يجب ألا تتجه وجهةً صناعية، وصدر في تلك السنة قانونٌ يصف المصانع بأنها: «محلات مضرة بالصحة أو مقلقة للراحة أو خَطِره.»
وإلى الآن لا يزال هذا القانون قائمًا، وإلى الآن لا يزال هذا هو وصفُ المصانع بل كلمة «مصنع» لا ذِكْر لها في قوانيننا، فإذا كنت مصريًّا ناهضًا قد تأملت الدنيا وعرفت أن الرقيَّ إنما هو صفةُ الأُمم الصناعية وحملتك وطنيتك على أن تنشئ مصنعًا في مصر؛ كي تربح منه وتوفر للشبان عملًا وللجمهور بضائعَ رخيصة؛ فاعلم أنك تؤسس محلًّا «مضرًّا بالصحة أو مقلقًا للراحة أو خطرًا» وبعد أن تؤسس هذا المصنع سيأتيك موظفون من وزارتَي الداخلية والصحة وكُلٌّ منهم مزودٌ بعاطفة قد أحدثتْها في نفسه هذه الكلمات: «مضر بالصحة مقلق للراحة خطر». فهو ينظر إلى مصنعك وإليك بهذه العاطفة، ويجب ألا تنسى أنه لا يزورك مع ذلك موظف من وزارة التجارة والصناعة.
تأملْ أيها القارئُ ماذا كان إحساسنا وأية عاطفة كانت تُثار في نفوسنا لو أننا أسمينا المستشفى: «محل يقتل فيه الناس أو تقطع أعضائهم أو يجرحون»؟
فهنا مثال للفائدة التي نجنيها من الاستعمال الإيجابي للغة، فإذا شئنا أن نحب الأنكليس فيجب ألا نسميه ثعبانًا وإذا شئنا أن نحب المصنع ونحض الناس على اتخاذ الصناعة؛ فيجب أن نختار له اسمًا إيحائيًّا مغريًا، كأن نقول بدلًا من العبارات السابقة: «كل من أسس محلًّا مفيدًا للأمة يَزيد ثروتها ويوفر العمل لأبنائها ويرخص البضائع النافعة، إلخ». ألا ترى القوة الموطرية في الكلمات؟ ألا ترى أن هذه الكلمات كانت ألبق وأشكل بوصف المصنع في عصرنا الجديد؟ ألا ترى أننا هنا نجد الخدمة الاجتماعية العظمى من البلاغة الجديدة؟
أجل إن المصانع في مصر يجب أن تعد مقياس الأمة كالمعابد سواء؛ إذ هي التي سوف تنقلنا من الرقود الريفي إلى التحرك المدني فيجب أن تجد في قوانيننا ولغتنا الوصف الإطرائي المغري بتأسيسها.