أوجدين والإنجليزية الأساسية
تمتاز اللغةُ الإنجليزيةُ بميزات عظيمة جعلتْ لها السبق في ميادين التجارة والصناعة والثقافة، ويبلغ الناطقون بها أكثر من مائتي مليون متعلم، ومِنْ أعظم ميزاتها أن نحوها قليلُ القواعد حتى لَيمكن الاستغناءُ عنه، وقد قال الفيلسوف «هربرت سبنسر»: إنه لم يتعلم النحو قط وإنه درس وأَلَّفَ في هذه اللغة دون أن يحتاج إلى دراسة النحو، ولا يمكن لعربيٍّ أن يقول مثل هذا الكلام عن لغته.
وميزة أُخرى في اللغة الإنجليزية أنها غيرُ جنسية، فالأشياءُ محايدةٌ ليست مذكَّرَة أو مؤنثة، أما نحن فنحتاج إلى أن نعرف «جنسية» الحرب والسلم والأرض والجبل والميناء والكبرياء والروح والبيت إلخ.
والأستاذ أوجدين من علماء السيكولوجية، ومِن أعظم مؤلفاته كتاب «معنى المعنى» وهو في السيمائية؛ أي علم المنطق اللغوي والإيضاح عن المعاني، وهو علم جديد تجهله اللغة العربية.
ونزعة «اللغة الأساسية» تناقض النزعة العامة في لغتنا، ومن هنا قيمتها لنا؛ لأنها تنبهنا بهذا التناقض فإن الأستاذ «أوجدين» يرى أن الكلمات التي نحتاج إليها محدودةً وأنه خيرٌ لنا أن نعرف نحو ألف كلمة واضحة المعنى محبوكة من أن نعرف عشرة أضعاف هذا العدد من الكلمات التي يُحتمل فيها الشك والالتباس والتي تُفسد التفكير وتعطل الذكاء.
-
تعالجت من مرض أقول: عملت العلاج بالمنزل.
-
وقضيت ساعةً بالمنزل أقول: «كنت ساعة بالمنزل.»
-
وسيزورني اليوم محمد أقول: «سيعمل محمد زيارة لي اليوم.»
-
ولما بلغت العاشرة من العمر أقول: «لما كنت في العاشرة من العمر.»
فيرى القارئ هنا أننا استعملنا فعلَي كان وعمل بدلًا من أربعة أفعال، ويمكن كذلك أن نستعملها بدلًا من مائة فعل؛ لأن الإنسان إما كائنٌ وإما عاملٌ، وفي اللغة الإنجليزية نحو أربعة آلاف فعل ولكن أوجدين استغنى عنها كلها بهذه الأفعال التالية:
جاء، حصل، أعطى، ذهب، حفظ، ترك، صنع، وضع، بدأ، أخذ، كان، عمل، ملك، قال، رأى، أرسل، أراد، ربما، «وهي فعل في الإنجليزية».
وعلى هذا يمكن أن نجعل فعل «ذهب» يؤدي معاني ثلاثين فعلًا، فنقول: ذهب في (دخل) وذهب قبلًا (سبق)، وذهب من مكان إلى مكان (جول) وذهب إلى الجانب الآخر (عبر) وذهب إلى (زار) إلخ، ثم هو؛ أي «أوجدين» يستغني عن المترادفات أو ما يقاربها، فنحن نقول جلد الحيوان وفرو الثعلب ولحاء الشجرة وغلاف الزهرة وقشرة الثمرة، ولكنه هو يقنع بكلمة «جلد» للجميع؛ فيحقق الاقتصاد اللغوي وهو بعض أهدافه، وهذه الكلمات تحفظ في بضعة أسابيع أو أشهُر وليست هذه الكلمات بالطبع هي كل اللغة الإنجليزية، ولكن الأجنبي الذي يعرفها يستطيع التفاهم بها ويستطيع أن يقرأ بعض الكتب التي أُلفت بها ثم يرتقي إلى معرفة اللغة الإنجليزية في توسع.
وأمامي وأنا أكتب هذه الكلمات كتاب ألف على مبادئ «اللغة الأساسية» يدعى «نمو العلم» تبلغ صفحاتُهُ ٣٧٢ صفحة متوسطة ومن فُصُوله: مقاييس القوة الضوء الكهربائي داروين وما بعده المادة العلاقات.
وبعض هذه الفصول يتعمق الفلسفة ولكنه كُتب بالإنجليزية الأساسية والقاعدة التي اتبعها أوجدين في اختيار هذه الأُصُول دون غيرها هي أنه وجد أنها أكثر استعمالًا من غيرها في اللغة الإنجليزية، وهو بالطبع لا يقول بالاكتفاء بهذه الكلمات، ولكنه يقول بفائدتها للأجنبيِّ الذي يجد اللغة ميسرة له لا يتغلق عليه فهمُ كلماتها، فهو يتحدث ويكتب ويقرأ بها ويستطيع بعد ذلك أن يتوسع ويقول أيضًا بفائدتها للأطفال الإنجليز المبتدئين؛ لأنهم يستطيعون أن يقرءوا في موضوعات مختلفة دون أن تقف اللغة عائقًا في سبيل ثقافتهم تصدهم لأول اختبارهم لها.
وهنا التناقُضُ بين النزعتين: نزعة «أوجدين» في تعميم السهولة مع توخِّي الدقة في اللغة، ونزعتنا نحن في الإكثار من المترادفات، واستعمال الكلمات القديمة النادرة، حتى إننا نحتاج في كتب الأطفال إلى أن نُفسر لهم في الهامش بعض الكلمات، وكأننا بهذا العمل نحاول صَدَّهُم عن القراءة، وقد أشرتُ إلى هذه اللغة الأساسية؛ لأني أرجو أن أرى قيمةَ هذا المجهود تناقش في لغتنا ويجب أن أعترف أنه على الرغم من جميع الصعوبات التي تعترض التعبير الاقتصادي الصحيح في اللغة العربية؛ قد استطعنا أن نقطع مسافة غير قصيرة نحو هذا الهدف.
والفضل الأول في هذا الميدان يعود إلى الجريدة اليومية التي يضطرُّ كاتِبوها إلى الاقتصاد في الكلمات وأحيانًا يُترجمون التلغراف، وهي بطبيعة الأجور العالية لكلماتها مقتصدةٌ موجزة لا تتحمل المترادفات أو البهارج، وفضلٌ آخر في هذا الميدان أيضًا يعود إلى المحاكم التي أَجبرت القضاة والمحامين ورجال النيابة على استعمال لغة محبوكة المعاني بعيدة عن الشبهات والشكوك وفضل ثالث يعود إلى نشر القليل من كُتُب العلوم المادية التي تُطالب المؤلف باستعمال كلمات قليلة تمتاز بدقة المعنى.
ولكننا مازلنا في بداية الطريق فإن اقتراح قاسم أمين بإلغاء الإعراب وإسكان أواخر الكلمات؛ لم يلق أية عناية، وكذلك استعمال الأرقام الأوروبية كما يفعل إخواننا المغاربة في مراكش بدلًا من الأرقام العربية؛ لا يجد القبول الحسن مع أَنَّ الأرقام الأوروبية أكثر أصالة في العربية من أرقامنا الحاضرة، وهي تمتاز بوضوح الصفر. كما تميز تمييزًا نيرًا بين رقمَي ٢ و٣ اللذَين يشتبهان عندما يطبعان بالبنط الصغير.
والآن يجدُرُ بنا أن نتساءل: ما الذي حَمَلَ «أوجدين» على التفكير في تأليف كتابه «معنى المعنى» وأيضًا على تيسير اللغة الإنجليزية على الأجانب وللمبتدئين بالاقتصار على ٩٤٦ كلمة؟
الذي حمله على ذلك أنه درس السيكولوجية وعَرَفَ منها القيمةَ الاجتماعيةَ والثقافيةَ للغة الإنجليزية، وجديرٌ بنا أن ندرس لغتنا في ضوء السيكولوجية؛ حتى تجعل التعبير العربي أيضًا — كلمة وجملة — وسيلةً للخدمة الاجتماعية والثقافية، وربما يكون أوجدين قد بالغ في الاقتصار على ٩٤٦ كلمة، ولكن موضوع اهتمامنا هو هذه النزعةُ التي حملته على اختيار هذه الكلمات التي آثرها على غيرها؛ لتيسير التعليم للغة الإنجليزية في حين نعمل نحن للتعسير.
أليس من المستطاع أن نختار نحو ألف كلمة من اللغة العربية تمتاز بالوضوح والدقة والأُلفة، فنؤلف بها كتبًا للصبيان في المدارس الإلزامية والابتدائية في الجغرافية والتاريخ والحيوان والنبات ومبادئ العلوم، بحيث يدخل الصبي في هذه الميادين فيمرح فيها ويطلب المزيد، وبذلك نبعث فيه الاستطلاع والتشوف ونُغنيه عن الدمع الغزير والعرق الوفير؟ بل أليس من المستطاع أن تكتب بعض المجلات والجرائد بما نسميه «العربية الأساسية» لأفراد الشعب الذين لا يعرفون من لغتنا غير ألف أو ألفَي كلمة؟