التفسير الاقتصادي للغة والأدب العربيَّين
كثيرٌ مما سنقول في هذا الفصل قد مَرَّ بالقارئ متفرقًا، ولكنا سنجمعُهُ هنا لإبراز المعاني في ترسيم هذا الكتاب وإيضاح غايته، فالتفسير الاقتصاديُّ هو الذي يعلل جميعَ الظواهر الاجتماعية في الأمة بالنظام الاقتصادي الذي يعيش أفرادُها وفق مبادئه واجتماعهم يتغير بتغيره أو يركد بركوده، واللغة والأدب كلاهما ظاهرة اجتماعية لا تختلف عن الأخلاق والعقائد.
ففي أمة صناعية مثل: بريطانيا أو الولايات المتحدة؛ نجد اللغة عصرية والأدب مستقبليًّا والتفكير علميًّا، وفي أمة زراعية مثل مصر نجد اللغة والأدب تليديين والتفكير عقديًّا أو سنيًّا.
- (١)
المجتمعُ العربيُّ الذي ورثنا منه أدبنا ولغتنا الكتابية كان مجتمعًا إقطاعيًّا زراعيًّا؛ أي كان يعيش أفراده بامتلاك الأرض، وكان في أقله الذي لا يؤبه به تجاريًّا صناعيًّا؛ أي أن ٩٠ في المائة من العرب في مصر والعراق وسوريا وأقطار أفريقيا الشمالية كانوا يعيشون بالزراعة، ومن شأن الزراعة الجمودُ، فنحن نزرع القمح الآن كما كان يُزرع قبل ألف أو ألفي سنة؛ فلم يكن هناك ما يدعو إلى تغيير العقائد أو الأخلاق أو الكلمات الزراعية، ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو إلى تغيير الأدب في مثل هذا الوسط، بل إن كل محاولة للتغيير كانت تجحد؛ لأنها كانت تُناقض الاستقرار الزراعي؛ أي: تناقض العيش.
استقرار في النظام الاقتصادي؛ أدى إلى استقرار «جمود» في النظام اللغوي والأدبي، فقواعدُ الزراعة التي جرى عليها المجتمعُ منذ ألف سنة يقابلها قواعدُ اللغة وأسلوب الأدب منذ ألف سنة والكلاسية؛ أي التليدية التي نعانيها في مصر الآن ليست لهذا السبب مفتعَلة بل هي طبيعية؛ لأننا ما زلنا نعيش في الوسط الزراعي إلى حد كبير.
- (٢)
هذا المجتمع العربيُّ أيضًا كان مجتمعًا دينيًّا؛ فكان الخليفةُ في بغداد بمثابةِ البابا في رومة، ومن غير المعقول أن نُطالب أي دين إلهي في العالم بالتغيير، فاستقرار الدين أَدَّى إلى استقرار اللغة؛ أي جمودها، وأصبح رئيس الدولة؛ أي الخليفة يحمي الدين ويحمي الكلاسية؛ أي التليدية في اللغة والعرش ينزع إلى الماضي؛ لأن حُقوقه تعود إليه، فهو محافظ وأحيانًا جامد؛ أي أن للعرش أصولًا اقتصادية سلفية؛ تؤدي إلى مبادئ لغوية وأدبية كلاسية تليدية.
وأذكر هنا «فولتير» يَشْمَئِزُّ من ذِكر الفأر على المسرح؛ لأنه كان يعيش في ظل العرش الفرنسي بلا دستور وبلا ديمقراطية. وأذكر هنا أيضًا لغة الكهنة في المعابد؛ فإن تغيير الكلمة هنا يعادل الكفر.
والآن لماذا لا نرضى بلغتنا العربية، ولماذا يدعو قاسم أمين وعبد العزيز فهمي وأحمد أمين ولطفي السيد وبهي الدين بركات إلى إجراء تغييرات كثيرة أو قليلة في اللغة؟
السبب أَنَّ هؤلاء الرجال على وجدانٍ بعصرهم؛ أي بهذا الوسط الصناعي العالمي الذي يغمر الوسط الزراعي ويتسلط عليه كما تتسلط بريطانيا الصناعية وعددها أقل من ٥٠ مليونًا على الهند الزراعية وعددها نحو ٤٠٠ مليون (سنة ١٩٤٥) وهم على وجدان بالنتائج الاجتماعية لهذا الوسط الصناعي، وهي: الديمقراطية والحرية والاعتماد على المعرفة دون العقيدة، والتوسل بالعلوم إلى الرقي الاقتصادي والأخلاقي والثقافي.
وليس من الضروري أن يكون هذا الوسط الصناعي سائدًا في مصر؛ لأن هؤلاء المجددين الذين ذكرنا متمدنون، ووسطهم الحقيقي هو هذا العالم كله. فهم يحسون تياراته وينفعلون بنزعاته، وأستطيع أن أقول أنا: إن نزعتي إلى الحضارة الصناعية مع ما يجب أن يرافقها من ثقافة علمية هي التي تدفعني إلى الرغبة في التغيير؛ حتى تُلائم ما أنشد من ثقافةٍ علميةٍ.
وأستطيع أن أقول: إن عرقلة الصناعة منذ ١٩٠٤ حين وصف المصنع بأنه «محل مقلقٌ للراحة إلخ»؛ قد عرقلت اللغة في تطورها، وحالت دون التفكير العلمي، واستبقت الكلاسية؛ أي التليدية في الأدب واللغة، وذلك لأن هذا القانون قد استبقى الزراعة أُسلوبًا للعيش لأكثرية الأمة؛ فأدى استقرارُ العيش إلى استقرار الفقر ثم إلى جُمُود اللغة والأدب، ولولا هذا القانون؛ لَتَفشت الصناعة واستتبع تفشيها ثقافة علمية تُطَعِّمُ لغتنا بألوف الكلمات الجديدة.