اللغة العربية في مدارسنا
القراءة أسهلُ بكثير من الكتابة الإنشائية كما يتضح هذا عندما نحاول أن نكتب بإحدى اللغات الأجنبية التي تعلمناها؛ فإنه يسهل علينا كثيرًا أن نقرأ مؤلفاتها، ولكنا حين نكتبها نجد الصعوبات الشاقة في تأليف عباراتها.
ولهذا السبب يجب أن تكون الغايةُ الأُولى من تعليم اللغة العربية في مدارسنا الابتدائية الشعبية؛ «أي المدارس التي يجب أن تتناول مائة في المائة من السكان»، هي القراءة دون الكتابة التي يختص بها ٥٠ في المائة من السكان أو أقل، فإن العامل في المصنع أو المزرعة أو الخادم في المنزل أو مثل هؤلاء؛ لا يحتاجون إلى الكتابة إلا قليلًا جدًّا، ولكنهم كي يكونوا متمدنين يحتاجون إلى القراءة كل يوم وحتى عندما يحتاجون إلى الكتابة نرضى لهم ونقنع منهم بما يُعَبِّرُ التعبير الساذج عن أفكارهم.
ولسنا نعني أن هذه الحال سوف تكون دائمة، ولكنا نجد أننا في الوقت الحاضر في فاقةٍ مادية وثقافية تحملنا على القنوع بتعليم القراءة للكافة من السكان، ثم الارتقاء منها إلى تعليم الكتابة الإنشائية للأقلية التي نحتاج إليها في المدارس الثانوية والجامعة.
ولهذا السبب يجبُ أن نقتصر من تعليم اللغة العربية في مدارسنا الابتدائية على تمكينِ التلميذ من المطالعة والفهم بلا حاجة إلى أية قواعد خاصة بالنحو، وليس عليه من حرجٍ أن يقرأ فيرفع المفعول وينصب الفاعل ما دام يفهم ما يقرأ. حسبه أن يسكن آخر الكلمات كما نفعل نحن حين نقرأ وبدلًا من هذه القواعد النحوية يجب أن يتعلم الصبي أكبر مقدار مستطاعٍ من الكلمات التي ترد في الجريدة والمجلة والمتجر والمصنع والدكان والمنزل؛ ولهذا السبب يجب أن تتوافر لديه كتب المطالعة السهلة التي تغذو ذهنه بالمعارف الطلية عن حياته الاجتماعية والسياسة وعن العلوم والفنون.
أما في المدارس الثانوية فنشرع في تعليم أقل ما يستطاع من قواعد النحو ولا نُبالي الإعراب الذي أثبت الاختبارُ أنه لا فائدة منه بتاتًا؛ لأننا كلنا — كما قلنا — نقرأ أو نكتب دون أن نحتاج اليه والوقف في أواخر الكلمات؛ أي إسكانها هو الخطة السديدة التي يجب أن تتبع، وعندئذٍ يتوافر للتلاميذ الوقت لزيادة ما يدخرون من الكلمات، وهنا تدخل البلاغة، ونعني بلاغة المنطق اللغوي؛ للتمييز بين الكلمات من حيث الدقة والاقتصاد في التعبير، وليس من حيث ألاعيب الصغار عن الاستعارات والمجازات كوجه القمر وأنت بحر وعلمٌ من فوقه نار إلخ.
ويجب أن تكون لنا غايةٌ أخلاقيةٌ في تعليم اللغة العربية إلى جانب الغاية الثقافية، وهي تعويدُ التلميذ القراءة حتى تعود حاجة ملحةً في نفسه لا يستطيع الاستغناء عنها طيلة عمره؛ ولهذا يجب أن تكون لديه مئاتٌ من الكتب التي تُبسِّط له المعارف البشرية في عبارة مقتصدةٍ تفتح له آفاقًا جديدة في كل عام من أعوام دراسته فتُثير استطلاعَه وتحملُهُ على البحث والتساؤُل.
ولهذا السبب يجب أن تتناول كتب المطالعة في المدرسة والبيت موضوعات البيولوجية والاجتماع والتراجم والكيمياء والفلكيات والاقتصاد والصناعة، والمألوف في الوقت الحاضر أن تحتوي كُتُب المطالعة للأقسام الثانوية مقطوعاتٍ أدبية من كتب العرب قبل ألف أو خمسمائة سنة، ولكن هذه الكتب لا تُثير الاستطلاع ولا تحمل التلميذ على التساؤُل والبحث والدراسة الذاتية، ولا تعودُهُ القراءة بعد أن يترك المدرسة بل حتى بعد أن يترك الجامعة؛ ولذلك يجب أن تؤلَّف الكُتُب الجديدة في المعارف العصرية التي تستفزُّ التلميذ إلى البحث.
وهنا يجب أن نذكر حادثًا له قيمتُهُ هنا، فقد حدث أن قصد فوجٌ من طلبة إحدى الجامعات في الولايات المتحدة إلى ألمانيا للتعلُّم وكان منهم من شاء التخصص في اللغة والأدب، ومن قصد إلى التخصص في العلوم كالكيمياء أو البيولوجية أو الطبيعيات، فبعد عام من الدراسة اتضح أن الذين قضَوا عامَهم في دراسة اللغة والأدب بالذات؛ لم يحسنوا تعلم هذه اللغة لا كلامًا ولا كتابةً كما أحسنها أولئك الآخرون الذين قضَوا عامهم في دراسة الكيمياء والبيولوجية والطبيعيات وذلك؛ لأن الفريق الأول قضى وقته في دراسة نحو اللغة وبلاغتها في حين أَنَّ الآخرين قصدوا إلى مادة علمية درسوها بالألمانية فأتقنوا اللغة عن سبيل دراسة هذه المادة.
ويجب أن نسترشد نحن بهذا المثل في تعليم اللغة العربية فإننا نحسن تعلمها بقراءة الكتب التي تختلف موضوعاتها؛ لأن هذا الاختلاف في الموضوعات يخصب الذهن تفكيرًا وفهمًا كما أنه يوفر للتلميذ مئات الكلمات التي تُثير استطلاعه وتفهمه فيستزيد من القراءة ويستنير ويعرف اللغة، بل يعرفها هذه المعرفة المتفاعلة المتجددة مع مجتمعه وعُلُومه وفنونه، أما إذا قصرناه على دراسة القواعد النحوية والبلاغية وكُتُب الأدب القديم؛ فإنه يزهد ويقلُّ استطلاعُهُ أو ينعدم؛ لأنه يجد أنه قد تعب في استظهار كلمات لا تتفاعل مع مجتمعه وعلومه وفنونه.
قلنا: إنه يجب أن تكون لنا غايةٌ أخلاقيةٌ في تعليم اللغة العربية، هي تعويدُ التلميذ القراءة بحيث لا يستطيع الكَفَّ عنها طيلة حياته، وغاية أُخرى نَتَوَخَّاها هي تكوينُ شخصيته بالمناقشة والخطابة؛ ولا نعني بالخطابة تلك الحركات المنبرية البهلوانية التي تعتمد على قوة الذراعين والحنجرة أكثر مما تعتمد على الفهم والتمييز، وإنما نعني أنْ نكثر من الموضوعات التي يطالعها التلاميذ مع المعلم؛ فتنشأ المناقشة المنيرة التي يتعلم منها التلميذ كيف يناقش وينتقد.
إذن يجب على معلم اللغة العربية في مدارسنا الابتدائية والثانوية أن يكون موسوعيَّ المعارف يستطيع الشرح للموضوعات الاجتماعية والبيولوجية والسيكولوجية والتاريخية والفلكية. وعليه أيضًا أن يعرف — على الأقل — لغةً أجنبية أو لغتين؛ كي يقارن بين العربية وبينهما ويجدد في لغتنا بمقدار انتفاعه من الجديد فيهما وإنه لزهوٌ مضحكٌ أن يعتقد أحدنا أن لغتنا تستطيع أن تعيش مستكفيةً لا تستمد التعبير الحسن من الإنجليزية أو الفرنسية وأن عليها أن تجتر نفسها دون أن تتزود من المعارف العصرية، وهذا الاعتقاد من أكبر الأسباب للفاقة الثقافية التي نُعانيها في وقتنا.