التيسير، التيسير
إذا فرضنا أن صبيَّين في سن واحدة شَرَعَا يتعلمان، أحدهما الإنجليزية والآخر العربية دون أن يكون لأحدهما معرفة سابقة باللغة التي سيتعلمها؛ فإن الصبي الذي سيتعلم الإنجليزية لا يحتاج لأكثر من ستة أشهُر كي يتكلم ويقرأ ويكتب هذه اللغة على طريقة أوجدين أما الصبي الذي سيتعلم العربية فإنه يحتاج إلى ما لا يقل عن أربع سنوات؛ أي أن الوقت الذي يقضيه المتعلم للغة العربية يزيد ثمانية أمثال على ما يقضيه المتعلم للغة الإنجليزية.
ولكي نفهم هذا الفرق؛ يجب أن نذكر بعض العقبات التي سيُلاقيها متعلمُ اللغة العربية ولا يلاقي مثلها متعلم الإنجليزية فأولُ ذلك أَنَّ حروف الكتابة تزيد عندنا على مائة حرف؛ لأن لكل حرف شكلًا معينًا يتبع موقعه في أول الكلمة أو وسطها أو آخرها أما في الإنجليزية فالحرف لا يتغير بتغير موقعه في الكلمة.
وفي لغتنا يجب أن نميز الجنس فنعرف أن الكرسي مذكر والحرب مؤنثة. أما الإنجليزية فلغة غير جنسية، ومتعلم الإنجليزية يعرف أن الواحد مفرد وما زاد عليه فجمعٌ، أما متعلم العربية فيجب أن يعرف أَنَّ ما زاد على الواحد قد يكون اثنين فهو ليس مفردًا ولا جمعًا بل هو صيغةٌ خاصةٌ تحتاج إلى قواعدَ خاصة، وقد كانت صيغة المثنى قائمةً في الإنجليزية ولكنها أُلغيت، والصبي الذي يتعلم الإنجليزية يستطيع أن يعبر عن العدد من واحد إلى ألف بسهولة، أما في العربية فالصبي يحتاج إلى شهور لكي يدرس قواعد العدد، وصبياننا في المدارس الثانوية يعدون بالفرنسية والإنجليزية ولا يعرفون كيف يعدون بالعربية؛ للمشقة التي يلاقون في قواعد العدد.
والصبي في الإنجليزية يجد قاعدة واحدة للجمع مع شواذَّ قليلة جدًّا لا يؤبَه بها أما في العربية فعندنا من جمع التكسير قواعد لا تُحصى، بل يكاد أن تكون لكل كلمة قاعدة والمعرفة التامة لجمع التكسير تحتاج إلى العمر كله ولو كان مائة سنة.
وكل كلمة إنجليزية آخرها سكون، ولكن الإعراب في لغتنا هو لعبةٌ بهلوانية للذهن واللسان ولن نحسنها إلا بعد أن نربي عضلاتٍ قوية تستجيب بسرعة، وكثيرًا ما رأينا أن القارئ الذي يلتفت إلى الإعراب لا يفهم ما يقرأ وهو يعرب.
ومشكلة الهمزة في لغتنا ليس لها نظيرٌ في اللغة الإنجليزية، كما أننا يجب أن نعرف الفرق بين الألف المقصورة والألف الممدودة، والمتعلم للإنجليزية لا يجد مثل هذه المشقات وأكثر من ذلك حركات الحروف في الكلمة الواحدة التي ربما تتألف من ثلاثة حروف ولكن يمكن أن تنطق على اثني عشر شكلًا مختلفًا، وهذا الاختلاف يحتاج مثل جمع التكسير إلى العمر كله — ولو كان مائة سنة — كي نحفظ لكل كلمة شكلها أما الذي يتعلم الإنجليزية فلا يحتاج إلى هذا؛ لأن الحركات قد صارت حرفًا في صلب الكلمة.
وهناك قواعدُ أخرى للمترفين في اللغة كالتنوين والتصغير يحتاج الذي يتعلم العربية إلى شُهُور لدرسهما أما متعلم الإنجليزية فلا يحتاج إلى شيء من هذا.
ثم يجب ألا ننسى بعد كل هذه المصاعب أن الصبي الذي يتعلم الإنجليزية سيجدُ أن ما تعلمه يخدمه في الكلام والكتابة، ولكن الصبي الذي تعلم العربية يحتاج إلى أن يعرف اللغة الدارجة للكلام ثم اللغة الفصحى للكتابة، وهذا مجهود آخر، والذي نلاحظه في مصر أن الذي يلتفت إلى اللغة العربية ويستوفي قواعدها دراسة يحتاج إلى العمر كله فلا يجد الوقتَ لأية دراسة أُخرى إلى جانب اللغة.
وليست اللغة سوى وسيلةً للفهم والدرس فإذا كانت تحتاج إلى السنوات الطويلة لدراستها؛ فإن هذه السنوات محسوبةٌ علينا، وهي مقتطعةٌ من الوقت الذي كان يمكن أن نرصده لدراسة الجغرافية أو التاريخ أو الأدب أو الجيولوجية أو الفلكيات أو الطبيعيات أو الكيمياء، إلخ، وذلك المسكين الذي يقضي عمره في دراسة اللغة دون غيرها إنما هو بمثابة ذلك الذي يكد طيلة عمره لشراء آلةٍ للغزل أو النسج حتى إذا اشتراها لم يغزل ولم ينسج؛ لأن اللغة آلة ولا يمكن أن نفرح باقتناء الآلة ما لم نستخدمها.
وإذن يجب أن تكون الغاية من دراسة اللغة؛ التعبير عن الجيولوجية والفلكيات والطبيعيات والكيمياء، أما إذا كانت دراستُها لا تؤدي هذه الغاية فهي عقيمةٌ، وهي لن تؤديها ما دامت كثيرة القواعد والشذوذات، وما دامت تحتاج إلى السنين الطويلة والجهد العظيم لدراستها؛ لأن هذه السنين الطويلة وهذا الجهد العظيم يجب أن ننفقهما في دراسة هذا الكوكب: ناسه وحيوانه ونباته ومواده وحضارته وعلومه وآدابه ومستقبله.
وإذا كان «أوجدين» قد احتاج إلى ١٨ فعلًا فقط لكي يصل إلى التعبير عن الحاجات المألوفة في اللغة الإنجليزية؛ فإننا يجب ألا نفخر بأن عندنا عشرة آلاف فعل؛ لأن هذه الكثرة ليست وفرة الثراء وإنما هي زحمة واختلاط.
وإذن يجب أن نتجه نحو التيسير لا التعسير في تعليم اللغة العربية، نقنع بأقل ما يمكن من القواعد ونرفض كل ما يمكن من الشذوذات، ونختار من هذه الألوف من الكلمات نحو ألف كلمة للتعبير الدقيق في العلم والأدب والفلسفة، ونؤلف بهذه الكلمات كتبًا لصبياننا في المدارس الابتدائية والثانوية، ثم نرتقي من هذه الكلمات إلى غيرها، ولكن مع الحرص على أن نتجنب الكلمات السائبة التي يغمض معناها لأنها تضلل بدلًا من أن ترشد.
وربما يكون من الحسن أن نميز بين القارئ والكاتب في تَعَلُّم اللغة العربية. فإذا كانت الغايةُ من التعلُّم هي القراءة فقط فإننا نستطيع أن نصل إلى ذلك بلا قواعدَ نحوية، وجمهور الأمة يقرأ ولا يكتب، ثم نقصر تعلم القواعد بعد التيسير على الذين سيكتبونها وليس لهذا التمييز شبيهٌ في لغات العالم المتمدن ولكن لغتنا شاذةٌ في صعوبتها وتحتاج إلى إجراء شاذ.