الأنثربولوجية واللغة العربية
كان يمكن أن أستغني عن هذا الفصل في هذا الكتاب، ولكني أعالجه في سرعة وإيجاز؛ كي أجعل القارئ يألفُ الطريقة ويدخل في المزاج اللذَين تتألف منهما اللغات، بل ترتقي.
فإن الكلمات أصواتٌ نشأتْ بين البرمائيات كالضفدع؛ كي ينادي الذكر الأنثى، وكانت غايتها الأولى لهذا السبب جنسية، بل ما زلنا نرى أن أغاريد الطيور التي ينضع بها الجو في الربيع إنما يُقصد بها — في الأغلب — نداء الجنس الآخر للتناسُل، والصوت يعبر عن العاطفة؛ ولذلك يجب ألا نستغرب قول «فرويد»: إن الباعث الأول للنشاط البشري هو الشهوةُ الجنسية، ويجب ألا يصدمنا هذا القول؛ لأن فرويد قد بصر من خلال هذا القول إلى الجذور الأولى التي تختفي في جوف التطوُّر ومهما تنتشر الفروع وتبسق في السماء فإن جذورها لا تزال في الأرض.
ولغتنا العربية مجموعةٌ أو خليطٌ من كلمات الحضارة والبداوة، بل الغابة الأولى حين لم يكن يعرف الإنسان الزراعة، أو الصناعة، انظر مثلًا إلى كلمة «كخ» التي تعم جميع البشر في نهي الطفل عن شيء فأنا وأنت، والقردة، والإنجليز، والألمان، والصينيين، والهنود، والإغريق إلخ سواء في هذه الكلمة التليدة.
نشأت لغتنا كما نشأت جميعُ اللغات في الأوساط البدوية الأولى، وكان استنباط المعاني يجري وفقًا للوسط، ونستطيع الآن — بتحليل الكلمات والرجوع إلى أُصُولها القديمة — أن نعرف العقائدَ، والقواعد الاجتماعية التي كان يعيش أسلافُ العرب فيها. انظرْ مثلًا إلى كلمة «الحياة» فإنها مشتقةٌ من «الحيا»؛ أي عضو التناسُل عند المرأة، وما زال الفلاحون عندنا يقولون «حيا البقرة» أو «حيا الفرس» ذلك أن الإنسان البدائي لم يكن يعرف أن علاقة الرجل بالمرأة تؤدي إلى التناسُل، فكان يعتقد أن الأم هي الأصل الوحيد للأولاد، بل إنه كان يصنع التماثيل «للحيا» ويحملها، باعتقاد أن الحيا أصل الحياة، وأنه ما دام يحمل تمثاله؛ فإنه سيعيش وينجو من المخاطر، وعلى هذا الاعتقاد بأن الأم هي كل شيء؛ صار النظامُ الاجتماعيُّ عند الإنسان البدائي أمويًّا، وهذا واضحٌ عند قدماء العرب، ويتضح أكثر عندما نعرف أصل كلمتَي «الضِّمد» أو «الحماة».
وتطور الناس، وانتقلوا من النظام الأموي إلى النظام الأبوي، ولكن بقيت في لغتنا «الحياة» تدل على أصولنا وجذورنا الاجتماعية.
ثم من «الرحم» اشتق الناس الرحمة؛ أي أن الرحمة كانتْ في الأصل العلاقة القائمة بين أبناء الرحم، وهذه الكلمة تدلنا على أن النظام الأموي سبق النظام الأبوي، ثم ارتقى الناس؛ فصارت الرحمة فضيلةً عامة بين أبناء القبيلة، أو الأمة كما اشتققنا نحن الإخاء البشري من الأخوة بين أبناء العائلة.
وكذلك عرف الإنسان البدائي الروح من الريح والنسمة من النسيم، والنفس من النفَس (بفتح الفاء)؛ لأن الفارق الوحيد عنده بين الحياة والموت لم يكن أكثر من التنفس فإذا انقطع كان الموت، ومن هنا نشأت عقيدةُ الروح، وهذه الكلمات — وكثيرٌ غيرها — تكشف لنا اللَّبِنَات الأُولى التي تَكَوَّنَ بها أساسُ اللغة العربية، ولكل كلمة منها معنًى (أنثربولوجي) يوضح لنا نشأة الأفكار والعقائد.
فنحن في عصرنا نميز مثلًا بين الأسود والأزرق والأخضر، ولكن معاجمنا لاتزال تحتفظ بالمعنى القديم لهذه الألوان، وهي أنها لونٌ واحدٌ، ويشارك العرب معظم الأمم البدائية في اشتقاق الملاحة، بمعنى الظرف، والصباحة، من الملح؛ لأن الملح كان من الأشياء الثمينة التي لم يكن يحصل عليها غير المترفين.
وأعتبر أيضًا اشتقاق المساعدة من الساعد؛ لأن المساعدة تَعني أن أحدًا يستعمل ذراعه في خدمتنا وأعتبر الأنفة من الأنف، والشمم من الشم؛ لأننا حين نأنف من شيء نرتفع بأنوفنا، أو انظر كيف اشتقت المعاقبة من التعقب؛ لأن الإنسان البدائي كان يعاقب خصمه بأن يتعقبه حتى يجده ويثأر منه، وما زالت معاجمنا تقول: «تعقبه: تتبعه وأخذه بذنب كان منه.» أو انظر إلى كلمة «كَفَّ» بمعنى مَنَعَ؛ فإنها مشتقةٌ من الكف؛ أي باطن اليد؛ لأننا نمنع الناس بأيدينا؛ أي بكفوف أيدينا، والكفيف سمي كذلك؛ لأنه بمثابة من يضع كفه على عينيه.
والمشهور أَنَّ لغتنا في أصلها ثلاثيةُ الحُرُوف، ولكن الأغلب أنها كانت ثنويةً؛ أي: أن كلماتها كانت من حرفين فقط، فها هنا أربعٌ وعشرون كلمة تدل على معانٍ متقاربة، وهي: أن شيئًا قد خرج من شيء. وهي: نبأ، نبت، نبث، نبح، نبذ، نبر، نبس، نبش، نبض، نبط، نبع، نبغ، نتأ، نتح، نثر، نثل، نفث، نفخ، نفذ، نفر، نغض، نفط، نط، نطق.
وهذه الكلمات مترادفةٌ في معنى الشيء يخرج من شيء آخر، ولكن من مصلحة اللغة والفهم، أن نعين لكل منها معنًى يختلف عن الآخر، وهذا هو ما قضى به منطق اللغة والتمييز الذهني.
ومن هذا الفصل الموجز يتضح لنا أن كل لغة إنما هي: بمثابة المصنع الذي يعيش في عصرنا، ومع ذلك يجمع في مستودعاته فأسًا من الحجر كانت تستعمل قبل ثمانية آلاف سنة، وإبرة من الشوك كان أسلافنا يستعملونها قبل مائة ألف سنة، وسيفًا من البرونز كان يُستعمل قبل أربعة آلاف سنة، وبين مصنوعاتٍ أخر مثل: الرديوفون، والمصباح الكهربائي، والسولفانيلاميد … إلخ. ومن هنا بدأ هذا الارتباكُ الذهنيُّ الذي يؤدي إلى قله الفهم، أو اختلاطه؛ ذلك لأننا نستعمل أدوات قديمة كي تؤدي لنا خدمات جديدة.