حاجتنا الحتمية إلى الحروف اللاتينية
عشت حتى رأيت نجاح الدعوة التي قمتُ بها منذ أكثر من ثلاثين سنة، حين قلت — وأعدت القول إلى حد الهوس — بأن الأمم المتمدنة لا تتفوق على الأُمم الشرقية إلا بالصناعة وبالصناعة فقط، وأن كل ما نجد عندها من أخلاق عقلية وحريات للرجل والمرأة، وعلوم وفنون، كل هذا إنما يرجع إلى أثر الصناعة، وأن أمةً صناعيةً لا يزيد عددُ أفرادها على مليونٍ واحدٍ تستطيع أن تكتسح أو إذا شاءت أن تستعبد أمة زراعية عددها عشرون أو ثلاثون مليونًا.
إني أكتب هذه الكلمات والشعب يكتتب في مصنع الصلب، أتدري ما هو الصلب؟ هو: المدافعُ والطائراتُ والدباباتُ للقوة، وهو آلات الزراعة والري والحصاد، وهو آلات الإنتاج التي ستُخرج لنا الأقمشةَ والأحذية، وستصنع لنا حديدَ البناء وقاطرات السكك الحديدية والسيارات، وهو القوة في الحرب، كما هو الحضارة في السلم، هو التمدُّن؛ لأنه سيكسبنا أخلاق المتمدنين، أخلاق العلم، أخلاق العقل.
وهو الذي سينزعنا من الأخلاق الزراعية الإقطاعية، أخلاق العقائد والتقاليد والنظر إلى الخلف والماضي إلى النظر إلى الأمام ومستقبل الصناعة حضارة ترافقها ثقافة، وثقافة الصناعة هي العلم الذي يغذيها ويدعمها ويكشف لها ويخترع.
الصناعة أسلوبٌ للعيش والإنتاج والارتزاق والثقافة.
هي الكتبُ والمعارفُ العلمية التي تبعث على إتقانِ الصناعة والاختراع فيها، وإذن نحن في حاجة — بل حاجة ملحة — إلى ثقافة علمية.
ويبدو لي أني سأقضي سائر عمري في المستقبل في الدعوة إلى العلم، كما قضيت عمري الماضي في الدعوة إلى الصناعة.
ونحن في مصر نحيا في حلكة من الجهل، لا يكادُ ينفذ إليها شعاعٌ من العلم، هذا العلم الذي تؤلف عنه ألوف الكتب وتصدر في شرحه ألوف المجلات في جميع عواصم أوروبا وأمريكا، بل لقد شرعت عواصم الهند والصين ومن قبل ذلك اليابان في التنوير بل في التثقيف العلمي، ولأننا نجهل العلم نجد ناسًا فارغين يتحدثون عن الأدب كما لو كان شعوذةً ولهوًا بل إن منهم مَنْ يجد العلم في تصغير محطة إلى محيططة وقلب الواو ياء ووصف الخادمة بأنها خادم فقط بلا تاء، وكأن هذه الشعوذة هي رسالة حياتهم في هذه المدنية، أما صنع طائرة تستولي على السماء أو الاستعداد لغزو القمر أو إطالة عمر الإنسان إلى مائتي سنة أو إلغاء حرارة الصيف وبرودة الشتاء من المدن، أو زراعة البحار أو صنع اللحم من الخشب؛ كل هذا عندهم هراء صبيان، إنما الجد الخطير في حياتنا أن نعرف أن تصغير محطة هو محيططة.
إن أوروبا في نهضة علمية منذ ٥٠٠ سنة، ولن ننتظر ٥٠٠ سنة حتى نبلغ مكانتها؛ ولذلك يجب أن نجري بدلًا من أن نمشي، بل أن نثب بدلًا من أن نجري.
ولكن هل نستطيع أن ندرس العلوم في لغتنا بحيث تسير الثقافةُ العلميةُ جنبًا لجنب مع الصناعة أو الحضارة العلمية؟
أجل نستطيع أن ندرس العلوم في لغتنا، ولكن ليس مع الحروف العربية الحاضرة؛ لسبب واحد هو: أن العلوم الأوروبية والأمريكية — وليس في العالم غيرها — تعتمد في تكوين كلماتها التي تعبر عن معانيها العلمية على الاشتقاق اللاتيني في الأكثر، والإغريقي في الأقل.
فتكوينُ الكلمة بالاعتماد على أصلٍ مشتقٍّ من هاتين اللغتين يُنير المتعلم ويجعل الفهم ممكننًا، وأيضًا سهلًا؛ لأن النظرة الأولى للكلمة توضح وتشير.
وهناك بالطبع اتجاهٌ إلى ترجمة الكلمات العلمية بكلماتٍ عربية، وهذا مجهودٌ ضائعٌ، وهو كمَن يحاول عبور الأقيانوس بالسباحة، فإننا نستطيع أن نسبح على شاطئ الأقيانوس الأطلنطي ولكننا لن نستطيع السباحة من الشاطئ الأفريقي إلى الشاطئ الأمريكي، وهذا شأننا في الكلمات العلمية؛ فإن هناك نحو خمسين ألف أو ستين ألف كلمة لا يمكن بتاتًا أن نقوم بترجمتها؛ أي إيجاد أو اختراع كلمات عربية تدل على معانيها بل إني أتهم مَن يحاول هذه الترجمة بأنه يعمل من حيث لا يدري على تأخير نهضتنا العلمية.
وهذا هو ما يفعله المجتمع اللغوي.
ألم ينشأ المجمع اللغوي في عصرنا الزراعي الإقطاعي؟
قد نقول: ولم لا تُنقل الكلمات العلمية كما هي في اللغات الأوروبية، فنقول مثلًا: بنسلين وزولوجيه وأكسيد الكربون إلخ؟
والجواب: إننا نفعل ذلك الآن ولكن مع الخيبة والفشل؛ ذلك لأننا لم ندرس اشتقاقات الكلمات، وحتى حين ندرسها لا نستطيع أن نتعرف عليها في هجاء الحُرُوف العربية؛ ذلك لأن حروف العلة عندنا ثلاثةٌ في حين هي ستةٌ عند الأوروبيين؛ ولذلك لا نخطئُ النطق عندما نرى الكلمة العلمية في حُرُوفٍ أوروبية، ولكننا نخطئها حين نقرأها في حروف عربية؛ ولذلك لا نفهم اشتقاقاتها عندما نقرأُها في لغتنا.
واتخاذ الحروف اللاتينية ييسر لنا درس اللغات الأوروبية التي ينطق بها قرابة ألف مليون إنسان؛ وبذلك تنبسط لنا آفاقٌ رحبةٌ من الثقافة التي نجهلها، وليس علينا عار في ذلك؛ فإن مصر اتخذت قبل ألفي سنة الحروف الإغريقية بدلًا من الحروف الهيروغليفية وأوروبا اتخذت الأرقام العربية بدلًا من الأرقام اللاتينية والعرب اتخذوا الأرقام الهندية بدلًا من الأرقام العربية وهي ما يسميها الأوروبيون الآن «عربية».
والعلوم تحتاج إلى الدقة وقبل كل شيء الدقة.
ولغتنا بنقص حروف العلة وأيضًا خلوها من الزوائد والأصول المشتقة من اللغتين اللاتينية والإغريقية لا يمكنها أن تفي بحاجاتنا في التعبيرِ العلمي.
إننا بالصناعة قد شرعنا في أن نحيا حياةً عصرية بدلًا من الحياة التقليدية التي كنا وما نزال نحيا فيها؛ ولذلك نحتاج إلى ثقافةٍ عملية تؤيد وتدعم حياتنا الجديدة، حياة المجتمع العلمي والبيت العلمي والنقل العلمي والمنطق العلمي واللغة العلمية، إننا سننهض بالصناعة إلى مستوى الحضارة العصرية.
ولكن الصناعة ستبقى أجنبيةً عنا، لا نفهم رطانتها؛ ما دمنا لا نؤلف إلى جنبها ثقافةً علميةً تساوقُها وتسايرها وتدفعها، ولن يمكن التأليفُ العلمي باللغة العربية بحروفها الحاضرة.
ثقوا أن هذا محالٌ، ومَن يقلْ غير ذلك إما أنه ضالٌّ وإما أنه مضلَّل، اسألوا كلية الطب، اسألوا كلية الهندسة، اسألوا كلية الزراعة، اسألوا كليات العلوم جميعها؛ إنها جميعًا تدرس علومها باللغة الإنجليزية لماذا؟ لأن لغتنا العربية بوضعها الحاضر واعتمادها على الحروف العربية لا يمكنها أن تؤدي هذه الخدمة، وما دمنا على هذه الحال فلن تكون في بلادنا نهضةٌ علميةٌ، ثم لن ترتقي الصناعة وتغدو شعبية وإنما تكون هذه النهضة حين نتخذ الحروف اللاتينية؛ أي لن تستعرب العلوم؛ إلا إذا استلتن الهجاء العربي، وأرجو ألا يشهر أحدٌ في وجهي سلاح الدين؛ فإن المسلمين في ١٩٤٥ يبلغون ٣٠٠ مليون لا يكتب اللغة العربية منهم سوى ٦٠ مليونًا، ثم إن الهجاء في اللغة التركية المسلمة لاتيني.