المؤلفون المصريون يؤلفون بالإنجليزية
قبل نحو خمسين سنة دعت الحكومةُ الإيطاليةُ إسماعيل «سري باشا» والد «حسين سري للسفر» إلى إيطاليا لمعاينة نهر «إلبو»؛ وذلك كي يكتب تقريرًا عن الممكنات المائية لهذا النهر وطرق الري التي يستطيع هذا المهندس المصري العظيم أن يُشير بها على الحكومة الإيطالية؛ حتى تزرع وتفلح أرضها وتستغل نهرها.
وسافر هذا المهندس المصري، وبقي نحو عام يدرس هذا النهر ثم ألف كتابًا علميًّا عن الزراعة والري لوادي «إلبو»، ويمكن للمستطلعين أن يسألوا ابنه عن هذا الكتاب أو يبحثوا عنه في المكتبات ولكن بأي لغة ألف «إسماعيل سري» هذا الكتاب؟ باللغة الإنجليزية.
هنا رجل مصري على كفاءة علمية عظيمة تدعوه دولة أجنبية؛ كي تستشيره في تعمير بلادها، فيؤدي المهمة على الوجه الكامل ولكن ليس بلغة بلاده وإنما بلغة أجنبية، الكفاءة موجودة ولكن اللغة العربية بسبب هجائها الحاضر ليست كفئًا للتعبير، وهذه حال رجال العلم جميعهم في مصر.
هذه هي حال المؤلفين المصريين الأطباء والزراعيين والبيولوجيين والجيولوجيين وغيرهم، فقد رأيت لهم مؤلفات غاية في الدقة العلمية مع الإحاطة والإيجاز أو البسط والتوضيح بالرسم وبالصورة، ولكنها كلها بالإنجليزية.
إننا لا ننكر قدر العلميين في مصر، ولكننا نشكو فقر اللغة بل ماذا أقول؟
لا ليست اللغة العربية فقيرة في التعبير وإنما حروفُها هي التي تعجز برسمها الحاضر عن التعبير؛ ذلك أن حروف العلة فيها ثلاثة فقط في حين هي في اللغة الأوروبية ستة، ثم لأن حروفنا ليست لاتينية، فإن الكلمة العلمية يستغلق علينا فهمُها حتى حين نكتبها كما هي غير مترجمة بالحروف العربية، ثم فوق ذلك جاء مجمعُ اللغة العربية فجعل الطين وحلًا؛ بأن عارض التعريب وأَصَرَّ على ترجمة الكلمات العلمية؛ أي اختراع كلمات عربية تؤدي معاني المكتشفات والمخترعات الأوروبية.
ومن هنا هذا العجز البالغ، العجز الخطر في التأليف العلمي في بلادنا.
نحن في نهضة كبيرة أو صغيرة في كل شيء إلا في العلم؛ لأن مجمع اللغة العربية يقاطع الكلمات العلمية، ويصر على الترجمة دون التعريب وأيضًا يُعارض في جَعْل الهجاء العربي بالحروف اللاتينية، إن قلبي يبكي لهذه الحال.
عندنا الرجال، عندنا الكفاءة، عندنا الحاجة إلى التأليف، ولكننا لا نعرف كيف نكتب سطرًا واحدًا من الطب وغير الطب باللغة العربية.
إن أبناءنا ينشئون غير علميين، وهذا المجتمع العلمي وهذه الأخلاق العلمية وهذا الطب العلمي وهذه الهندسة العلمية وهذه الزراعة العلمية كل هذا لن يتحقق؛ لأننا نعجز عن تأليف الكتب العلمية عنها بلغتنا كما هي بحروفها الحاضرة.
وخطر هذا واضح بارز بل فاضح.
ذلك أنه تجاورنا أمة علمية قد أنشأت مجتمعًا علميًّا، وهي تطمع وتطمح وتنشد آفاقًا في المستقبل، وتحسب أننا في خطر؛ إذا لم نهيئ للعلم جميعَ أسبابه.
وأعظم أسبابه هو اللغة وقد قيدنا لغتنا بحُرُوف تمنعها هي من التعبير العلمي؛ أي تمنعنا نحن من الرقي.
•••
عندما نتخذ الحُرُوف اللاتينية ننتقل نحو ألف سنة إلى الأمام؛ ذلك أننا نستطيع أن نترجم بمتوسط كتاب في العلوم كل يوم، فلا تمضي علينا سنتان حتى نكون قد عبرنا الجسر بين القرون المتوسطة والعصر الحديث.
ونترجم للشعب الكتب التي تجعله يكف عن الإيمان بالخرافات والغيبيات والتي تجعلُهُ ينشد المعيشة العلمية في المجتمع العلمي.
ونترجم للفنيين؛ حتى يتعلم أبناؤُنا بلغتنا العربية — أجل — ونكذب فرية «دنلوب» التي افتراها على لغتنا حين قال: «إن لغتنا لا تصلح لتدريس العلوم العصرية.»
ما أهنأك يا دنلوب وأنت في قبرك تضحك منا؛ لأننا حاربناك كي تجعل التدريس للعوم باللغة العربية، ولكن ها نحن بعد موتك بثلاثين سنة (في ١٩٤٥) وبعد استقلالنا ما زلنا نعجز عن التعليم باللغة العربية.
ما أهنأك. وما أتعسنا.
•••
أكتب هذا وأمامي مجلدٌ من المجلدات التي ينفق عليها مجمع اللغة العربية ألوف الجنيهات من أموال الدولة في اختراع الكلمات العربية للمكتشفات والمخترعات الأوروبية.
أجل ما أتعسنا وما أهنأك يا دنلوب.
أوروبا تخترع وتكتشف وتفتح أبواب المستقبل للإنسان ونحن ماذا نفعل؟
نضع أسماء لما اخترعته أوروبا وما اكتشفته «يا للحسرة»!
ما أحقرنا.
اقرأ أيها القارئ هذه الكلمات التالية التي اخترعها مجمع اللغة العربية في الطب والبيولوجية، وبعد ذلك اعذر أطبائنا؛ لأنهم يعجزون عن التأليف باللغة العربية.
الخباط، الصفر، الصفاق، القمع، الرنح، الوتير، المنذنبة.
هذا جزء من ألف مما يجب على المؤلفين في الطب أو البيولوجية باللغة العربية أن يحفظوه عن ظهر قلب ويؤلفوا به، أما الكلمات العلمية الأصلية، لغة الطب والبيولوجية العالمية؛ فيجب أن نقاطعها وننساها، ألسنا من أبناء الأرض وهم من أبناء المريخ؟
مرة أخرى ما أحقرنا!
ما هي اللغة؟
-
هي أداة اجتماعية مثل سائر الأدوات الاجتماعية.
-
هي وسيلة التفاهُم إلى أعلى بين أبناء الشعب.
-
هي وسيلة المعرفة والمعرفة قوة كما هي فَهْمٌ.
الأوروبيون يفهمون الدنيا أكثر مما نفهمها الآن؛ لأن معارفَهم العلمية تزيد ألف ضعف على معارفنا العلمية، نحن قرويون بالمقارنة إليهم.
ليست اللغة قدسًا من الأقداس؛ إذا كان لهذه الكلمات معنًى.
إنما هي أدواتٌ تبلى فنستبدل بها غيرها، وهي أُسلوب في التعبير؛ أي التفكير يَحتاج مِن وقت لآخرَ إلى التمهيد والتنقيح والتغيير.
ثم بعد ذلك علينا ألا ننسى أن اللغة إنتاجٌ مثل سائر أنواع الإنتاج في الأمة، فكما نُحب أن نزيد إنتاجنا في أقمشة القطن وكما نحب أن نجود في متانة هذه الأقمشة وجمالها كذلك يجب أن ننتج كل عام بل كل يوم إنتاجًا لغويًّا يهيئ لنا التعبير الصحيح؛ كي نفكر التفكير الصحيح والتفكير العلمي هو أدق أنواع التفكير في أيامنا؛ لذلك يجب أن نكافح كل من يصدنا عن العلم أو كل من يُقيم العوائق في درسه، يجب أن نؤثر ابن رشد على الغزالي.
إن «ابن رشد» يدرس ويناقش إلى الآن في جامعات أُوروبا؛ لأنه دعا إلى العقل والفلسفة، أما الغزالي الذي جحد الفلسفة ودعا إلى منع تعليم الجغرافيا فلا يعرفه أحد في أوروبا في أيامنا.
فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني وفي الأديان تخميني لا يعرف ذلك إلا من جربه وخاض فيه … فهذه آفة عظيمة؛ لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم.
أي علوم؟
يريد الغزالي أني يزجرنا عن دراسة الرياضيات التي أثمرت علم الذرة، وقد نجح؛ فقد انزجرنا وعرف الأوروبيون الذرة التي لا نعرفها، ومجمع اللغة العربية لا يصرح بضرورة زجرنا عن الرياضيات أو سائر العلوم لكنه وضع من عقبات التأليف ما جعل العلميين الأكفاء في مصر ينزجرون.
فهل نبقى منزجرين؟
•••
- الأول: ألا نخترع أسماء للكلمات العلمية، بل ندخل الأسماء في لغتنا كما هي، فنقول الأتومبيل بدلًا من السيارة.
- والثاني: أن نكتب اللغة العربية بالحروف اللاتينية.
فأما الكلمات العلمية فمكانها من الثقافة البشرية عالمية فكلمات: ميكروب وبكتريا، وأسفلت، وأكسوجين، وبترول، وفيتامين، وهورمون، ودينصور، وسيلاكانت، ودفتريا ونحوها؛ تعد عالمية؛ لأن جميع المثقفين يعرفونها بهذه الأسماء ولا يترجمونها إلى لغاتهم؛ أي أن هذه الكلمات ليست إنجليزية أو يابانية أو صينية أو ألمانية أو روسية، وإنما هي كلماتٌ علميةٌ، اتفق العلميون في جميع الأُمم المتمدنة على أن يُبقوها كما هي ولا يترجموها إلى لغاتهم، ويجب علينا أن نقتدي بهم.
وهذا هو عكسُ ما يفعلُهُ مجمع اللغة العربية في مصر؛ فإنه يخترع كلمات عربية لهذه الكلمات العلمية كأن العالم كله على وفاقٍ إلا نحن، فإننا ننشق عليه ونجعل للعلم لغة غير لغته في جميع الأقطار.
أما الحُرُوف اللاتينية فضرورةٌ حتميةٌ للغتنا؛ لأنها بحروف العلة الزائدة فيها تجعل النطق للكلمات صحيحًا؛ إذ هي ستةُ حروف بينما هي ثلاثةٌ فقط في الحروف العربية، ولذلك نجد أن كلمة «ملك» العربية يمكن أن ننطقها بحيث تعني: ستة أو سبعة معانٍ، بينما هي بالحروف اللاتينية يمكن ضبطها؛ فلا تعني غير معنًى واحد.
ولكن التعبير العلمي وهو تعبير المستقبل ينهض فوق ذلك على تأليف الكلمات من أُصُول وزوائد لاتينية أو إغريقية يدل تركيبها على المعنى المقصود من الكلمة؛ ولذلك نحن نفهم الكلمة العلمية عندما نقرأها بالحروف اللاتينية، ذلك أننا ننطقها النطق السليم ونفهم مقاطعها الأصلية في اللغتين الإغريقية واللاتينية، وهذا محالٌ في الحروف العربية الحاضرة، والفهم هو الغايةُ الأولى والأخيرة من اللغة. فيجب ألا نتخذ أسلوبًا في الكتابة يؤدي إلى تعطيل الفهم أو تعويقه.
•••
- الأول: أنهم لا يستطيعون ترجمة الكلمات العلمية.
- والثاني: أنهم لا يجدون أن الحروف العربية تكفي للتعبير السليم عما يرغبون في كتابته.
إن عمري يقارب الآن السبعين، وأنا رجل مشغوفٌ بالعلم مقدر له منذ شبابي. ومع ذلك أعترف بأن جميع قراءاتي أو دراساتي كانت في الأنثروبولوجية والجيولوجية والتطور والسيكلوجية والفلكيات وغيرها؛ كانت كلها بلا استثناء باللغتين الإنجليزية والفرنسية ولم أعثر قط في الخمسين سنة الماضية على كتاب واحد — واحد فقط — باللغة العربية في هذه العلوم.
فإلى متى نبقى على هذه الحال؟ وإلى متى يُحرم أبناء مصر وأبناء الأُمم العربية الأخرى من هذه العلوم التي يعرفها أبناء أوروبا وأمريكا وعن قريب أبناء آسيا؟
-
لماذا نبقى في الجهل نتعصب للحروف العربية بلا تعقُّل وبلا تبصُّر؟
-
لماذا نشهد على أنفسنا بأن ما قاله «دنلوب» عن لغتنا كان صحيحًا؟
-
لماذا لا نجرؤ ونُقْدم على اصطناع الحروف اللاتينية؛ فنقتني بذلك ثقافة علمية ترفعنا باتساع آفاقها إلى مصاف الأمم العصرية فكرًا ومادةً؟