اللغة والمجتمع
يجب على قارئ الفصل السابق أن يفهم أكثر مما قال الأستاذ أحمد أمين؛ أي يجب أن يفهم أن اختلاف البيئة والمجتمع والتاريخ والجغرافيا؛ يغير معاني الكلمات التي نستعملها، ونعتقد أننا سواء في فهم معانيها، فعبارة «سلطة الحكومة» تعني: معاني مختلفة في الهند، والولايات المتحدة، ومصر، وألمانيا، وروسيا، واليمن.
وهذا الاختلاف الذي ينشأ من الجغرافيا يقابله اختلافٌ آخر ينشأ من التاريخ، ومن هنا الصعوبة التي نجد في فهم الكتب الدينية القديمة؛ لأنه كان للكلمات التي استعملت مثلًا قبل ألف سنة ملابسات لا نجد مثلها في عصرنا، بل كذلك كتب التاريخ، فإن المؤلفين يلتفتون إلى معان لم نعد نلتفت إليها؛ لأن اللغة الحية تتفاعل مع المجتمع وتتغير بتغيُّره، أما إذا كانت لغة خاصة بالكهنة تُتلى فقط في المعابد؛ فالتفاعُلُ ينعدم، والكلمات عندئذٍ تتحجر؛ أي تحتفظ بمعانيها على مدى المئات أو الألوف من السنين، ومثل هذه اللغة تعد في القيمة الاجتماعية صفرًا.
فاللغةُ الحيةُ تتفاعلُ مع المجتمع فتحنط بانحطاطه وترتقي بارتقائه؛ أي أنها تتطور، وهي حين تتطور؛ ينشأُ بينها وبين المجتمع اتصالٌ فسيولوجيٌّ، ووظائف عضوية كما بين اليد، والذهن كلاهما يخدم الآخر وينتفع به؛ ولهذا السبب يجب ألا يكون للمجتمع لغتان إحداهما كلامية؛ أي عامية والأخرى مكتوبة؛ أي فصحى كما هي حالنا الآن في مصر وسائر الأقطار العربية؛ لأن نتيجة هذه الحال أن اللغة المكتوبة تنفصل من المجتمع؛ فتصبح كأنها لغة الكُهَّان التي لا تتلى إلا في المعابد، وينقطع الاتصالُ الفسيولوجي بينها وبين المجتمع؛ ولهذا يجب أن تكون غايتنا توحيد لغتَي الكلام والكتابة، فنأخذ من العامية للكتابة أكثر ما نستطيع ونأخذ من الفُصحى للكلام أكثر ما نستطيع، حتى نصل إلى توحيدهما.
واللغة الحيةُ هي الجهاز العصبيُّ للمجتمع، أو الشبكة التلفونية التي يتخاطب ويتفاهم بها أفراده، فإذا عجزت عن تأدية هذا التخاطب والتفاهم فهي خرساء؛ أي بمثابة الشبكة التلفونية المقطوعة أو التالفة، ويجب السرعةُ في ترميمها.
وقد عرفنا هذا الخرس في كثيرٍ من شئوننا الثقافية؛ فإن المسرح مثلًا لم يرتق؛ لأننا لم نستطع تأليفَ الحوار باللغة الفُصحى بين أشخاص الدرامة؛ لأن الكلمة الفُصحى ليست «جوية»؛ أي أنها لا تنقل إلينا جو الحديث؛ لأننا ألفنا أن يكون الحديث باللغة العامية، فترجمته إلى اللغة الفصحى يصدمنا، ويُشعرنا بأن هذه الكلمة ليست في مكانها؛ أي ليست في جوها الاجتماعي، ولغتنا خرساء (والخرس هنا أوضح وأخطر) من حيث إننا جعلناها مثل لغة الكهان جامدة لا تتغير وكانت نتيجة هذا أن في العالم بنحو «مائة وعشرين» علمًا، وفنًّا لا تنطق لغتنا العربية إلا بنحو عشرة أو عشرين منها، ولكنها خرساء في سائرها.
فاللغات الإنجليزية، والألمانية، والفرنسية، وغيرها؛ لغاتٌ ناطقةٌ في «مائة وعشرين» علمًا، وفنًّا، ولغتنا خرساء في نحو «مائة» علم وفن؛ ولهذا السبب نحن جهلاء في جميع هذه العلوم، والفنون ما دمنا قد اقتصرنا على لغتنا، ونحتاج كي نستنير بهذه العلوم، والفنون إلى درس إحدى اللغات الناطقة.
فالتفاعل القائم الآن بين لغتنا ومجتمعنا ليس تفاعلًا صحيحًا؛ فإن هناك انفصالًا يحول دون إيجاد الدورة اللغوية كاملةً به؛ ولذلك حدث المرض من هذا الانفصال، وهو الجهل لنحو مائة علم وفن لا يمكن أن نعرفها إلا إذا تركنا لغتنا ونَطَقْنَا بلغة أخرى.
ثم اعتبار آخر يجب أن نلتفت إليه، وهو أننا ورثنا كلمات كانت قبل ألف سنة تعبر عن حاجات المجتمع العربي في بغداد، أو مصر، أو دمشق، وهذا المجتمعُ كان أتوقراطيًّا أرستقراطيًّا؛ فورثنا كلماته الأتوقراطية والأرستقراطية مع أننا نحاول أن نكون مجتمعًا ديمقراطيًّا، ونحن نتأثر بهذه الكلمات ونستضر بها؛ لأنها توجهنا إلى غير ما نحب من الوجهات، كما نغرس في شبابنا عواطف نكره أن نراها في القرن العشرين. فانظر مثلًا إلى إيحاء كلمة «وزير» في مصر بجانب إيحاء كلمه «سكرتير» في بريطانيا، أو الولايات المتحدة، وانظر إلى إيحاء عبارات «صاحب الدولة»، «صاحب السعادة»، صاحب العزة؛ فإنها جميعًا تفتت العقائد الديمقراطية التي تقول بالمساواة الاجتماعية، أو انظر إلى كلمة «حضرة» التي لا يمكن ترجمتها إلى أي لغة أوروبية؛ (ولكن يمكن ترجمتها إلى اللغة الصينية القديمة).
ثم انظر إلى ما ورثنا من المجتمع العربي القديم بشأن المرأة؛ فقد ألغى هذا المجتمع المرأة من الحياة الاجتماعية إلغاءً يكاد يكون تامًّا أما نحن فقد رددنا الاعتبار للمرأة المصرية، ولكن ما زلنا نستعمل الكلمات القديمة، فنقول «أم فلان» أو «حرم فلان»، ولا نذكر الاسم مع أن الاسم جزءٌ من الشخصية، وإهماله هو سبةٌ للمرأة ألا ترى كيف أن أحدنا يغتاظُ إذا أخطأ أحدٌ في ذكر اسمه فقال: «علي حسين» بدلًا من الاسم الحقيقي «حسين علي»؟ وهذا لأن كلًّا منهم يحس أن اسمه من كرامته، وهو بعض شخصيته، وإهمالنا لاسم المرأة هو تراث لغوي قديم يحمل إلينا عقيدةً اجتماعيةً يجب أن نكافحها، فيجب أن نؤلف بين المجتمع ولغته فنجعل اللغة ديمقراطية إن شئنا أن نكون مجتمعًا ديمقراطيًّا.