الأحافير اللغوية
أحافير الحيوان والنبات هي الأجسام المتحجرة التي مضى عليها الأُلُوف أو ملايين السنين ونحن نستخرجها من باطن الأرض ونحفظها في المتاحف؛ كي نعرف منها تطوُّر الحياة، ولا يُمكن أن نرد الحياة إلى هذه الأحافير؛ لأن الحياة قد أبادتْها وارتقت عليها، وأخرجت لنا أنواعًا أخرى، وهذه الأحافير كانت في يومٍ ما من تاريخ الأرض حيةً، ولكن سنة التطوُّر قضت عليها بالانقراض.
وفي اللغات أحافير من الكلمات التي لا تجري على لسان أو قلم، ولكن المعاجم تحتفظ بها للدراسة كما تحتفظ المتاحف بأحافير الدينصور أو غيره، فإذا عمد كاتب إلى استخراجها وبعث الحياة فيها فإنه لن يصل من هذا المجهود إلا إلى تكليف المجتمع عبئًا لا ينتفع به، فالإنسان القديم كان يعتقد أَنَّ عالمه حافلٌ بالآلهة، والأرواح الظاهرة والنجسة، وأن حياته مدبرةٌ بها للخير، أو الشر، وكان ينشد حظه في النجوم والكواكب ويتيمن بحركة الطير أو يتشاءم بها، وكان راضيًا بهذا العالم، يجد فيه منطقًا للسلوك الحسن، فكان يستعمل الكلمات التي تؤدي له هذه المعاني، وقد نَبَذْنَا نحن هذه العقائد، ولكن بقيتْ هذه الكلمات الغيبيةُ القديمة التي نستعملها؛ فتفسد أذهننا حتى إننا من وقتٍ لآخر نقرأ عمن يخاطبون الأرواح، أو يقرءون طالعنا في النجوم، وما زلنا نتفاءل أو نتشاءم من حادث أو كلمة، ومازال للعفاريت والجن والنجوم سلطانٌ على بعض النفوس التي لا تستطيع أن تتخلَّص من هذه الأحافير اللغوية؛ وذلك لأن الطفل ينشأ وهو يستمعُ إلى الكلمات؛ فتغرس فيه عقائدَ يعجز عن التخلص منها حتى وهو في الخمسين أو الستين من عمره.
وأحيانًا نجد رجلًا ممتازًا في العلوم التجريبية قد درب ذهنه على تحري الحقائق المادية، ينزع إلى الإيمان ببعض الغيبيات، وكل ما عنده كلمة مثل «روح» يحملها ويجري بها وراء المشعوذين الذين يبحثون له عنها تحت المائدة، أو على ألسنة الدجاجلة الذين يستغلون تصديقه، وهو إنما ينزع إلى هذه الغيبيات بفضل كلمة أو كلمات تعلمها في الصغر؛ فغرست فيه عاداتٍ ذهنية لم يعد قادرًا على التخلُّص منها ولكن الأحافير اللغوية لا تقتصر على ما ورثنا من كلمات، مثل الجن أو العفاريت أو الأرواح؛ فإنها تتسرب إلى لغتنا المألوفة، وحتى لنقول: «علا نجمه» أو «أفل نجمه» أو نحو ذلك، ونحتاج إلى شرح مسهبٍ؛ كي ننقل المعنى العصري لصبياننا بهذه التعابير القديمة التي كانت حيةً أيام الفراعنة أو البابليين، وما دمنا نشرحها الشرح العلمي ونبين للصبي أن العقيدة القديمة كانت مخطئة، وأننا لا نرمي من هذا التعبير إلا إلى معنى النجاح والرقي أو العكس؛ فإن كل الضرر ينحصر عندئذٍ فيما نتكلف من شرح ولكن قد يكون لهذا التعبير مع ذلك فائدة للصبي حين يعرف منه عقائد القدماء البائدة.
ولكن هناك أحافير لغوية كبيرةُ الضرر على مجتمعنا، ومِن أسوأها في مصر في عصرنا هاتان الكلمتان: «شرق، وغرب» فإن كلمة شرقٍ توحِي إلينا أننا بشر ننتمي إلى آسيا، وأفريقيا وكأننا على عداءٍ مع أوروبا وأمريكا. ولَما كان الأوروبيون والأمريكيون هم المتمدنون السائدون في العالم؛ فإن عداءنا يغرس في نفوسنا كراهيةً للتمدُّن وعادات المتمدنين ومعظم المقاومة التي للقبعة، بل كلها تقريبًا يرجع إلى هذه الكلمة «شرق»؛ لأن المصري يحس أن الشخصية القومية الشرقية تنهار باتخاذ القبعة التي تمتاز بها الشخصية القومية الغربية.
وكلمات الغيبيات توحِي عقائد غيبية تعين للمؤمن بها سلوكًا يتنافى مع المنطق، ويؤخر عن تحقيق النجاح، وكثيرًا ما يقعد أحدُنا في «الترام»، فيجد جاره وهو يتلو كلمات غيبية؛ يُريد أن يحقق بها غايةً اجتماعية، أو اقتصادية فبدلًا من أن يعمد إلى المنطق؛ فيدبر الوسائل المادية، والشخصية يتلو هذه الكلمات، وكأنه (كما كان يفعل البابليون) يستوحِي النجاح من النجوم، والكواكب.
ومن الأحافير اللغوية كلمات «الدم»، و«الثأر»، و«العرض» في بعض مديريات الصعيد؛ فإن هذه الكلمات تؤدِّي إلى قتل نحو «ثلاثمائة» امرأة، ورجل كل عام ولا بد أَنَّ بعض القراء سيثب إلى القول: بأن هؤلاء القتلة يذودون عن شرفهم. وكل ما أستطيع أن أرد به هو: أن سكان الوجه البحري لا يقتلون مثل هذا العدد من الرجال والنساء؛ لأجل «العرض»، و«الثأر»، فإما أن السبب أنهم لا يستعملون هاتين الكلمتين في حديثهم كما يفعل أهل الصعيد، وإما أنهم أقل إجرامًا بطبيعتهم، والفرض الأول هو المعقول.
وهناك أحافيرُ لغويةٌ كثيرةٌ في الشعر العربي القديم، فإنَّ الشاعرَ كان يعيش في جو تلائمُهُ كلماتٌ معينة؛ فلما انقطعت الصلة بيننا وبين هذا الجو؛ صرنا نجد هذه الكلمات غريبة عن أذهاننا، وقلوبنا؛ فهي لا تضيء بصيرتنا ولا تنبه ذكاءنا ولا تحرك خيالنا، انظر مثلًا إلى «الحداء» وكيف اتصلت معاني الفعل من هذه الكلمة بكثيرٍ من الشعر والنثر، وأدت الخدمة الأدبيةُ في التعبير الحسن قبل ألف سنة. ولكن من يحاول استعمالَها في عصرنا إنما يَستعمل كلمةً من الأحافير اللغوية التي يجب أن يجد مندوحةً عنها في استعارات وعادات عصرية تلابس مجتمعنا.
واللغة التي تُلابس مجتمعنا هي لغة السوق، والبورصة، والمكتب، والمصنع والنادي، والبيت، والكتاب، والجريدة، والمجلة، والمنبر، والمدرسة، أما إذا انفصلتْ واقتصرت على الكتاب وهجرت المجتمع فصار لنا لغتان فإن لغة المجتمع ستبقى حية، ولكن لا تجد العناية التي يستحقها الحي، فهي تعيش في وكسٍ وضعف وتبقى اللغةُ الأُخرى كأنها أحافيرُ تحفظ وتُصان كما تُصان لغة الكهنة في المعابد عند المتوحشين.