ضرر اللغة
كانت — ولا تزال — اللغة مِن أعظم الميزات البشرية؛ لأنها جعلت التفاهُم والتفكير ممكنَين، بل جعلت الثقافة تختزن وتورث من جيل إلى جيل آخر، ولكننا نجد أن اللغة كثيرًا ما تحيل التفاهم إلى التباس، فيسيء بعضُنا إلى بعض؛ لأنه يجهل الغاية من كلامه، وكُلُّنا يعرف ظروفًا مَرَّتْ به حين كان في حوارٍ مع آخرين، فكان يضطر إلى أن يسأل: ماذا تقصد بهذه الكلمة؟
وهذا السؤالُ يدلُّ على أن الكلمات تلتبس — بل تلتغز — معانيها بين شخص وآخر؛ وأنها لهذا السبب لا تؤدي الغاية الأُولى منها، وهي الفهم والتفاهم. واللغة الحسنة هي التي يقل فيها الالتباس أو ينعدم؛ لأن لكل كلمة معنًى معينًا لا يتجاوزُهُ ولا يتسع لهوامش تحمل الشك أو الغموض أو الزيادة أو النقص، كما هي الحال في كلماتٍ كثيرة مائعة تسيل على الجوانب ولا تثبت في نقطة بؤريةٍ.
واللغة بما ورثتْ من عادات ذهنية قديمة كانت شائعةً قبل آلاف السنين قد حملت إلينا من المعاني ما لم نعد في حاجة إليه، بل نحن نستضر به، انظر مثلا إلى السباب الديني في كلمتي كافر ونجس، فهاتان كلمتان قد ورثناهما من عصرٍ كانت العقيدة فيه أساسَ السلوك. ولم يكن الناس يستوون في الحقوق؛ لأنهم كانوا يختلفون في العقيدة ونحن نعيش الآن في عصرٍ نقول فيه بالمساواة بين جميع الناس بصرف النظر عن عقائدهم، ونُطالبهم بأن يجعلوا المنطق مرشدًا لحياتهم، ولكن هاتين الكلمتين تُحدثان انفعالًا يسيء إلى السلوك العام في أية أُمة، ونحن حين نسمي إنسانًا «كافرًا» نحرك عاطفةً خسيسةً للكراهة كما نفعل حين نسمي سمكة «ثعبانًا» ونحمل الناس على كراهتها، فهنا ضرر اللغة واضح، فإننا إذا دخلنا معملًا كيماويًّا وجمعنا فيه نحو عشرين شخصًا من سلالات وشعوب مختلفة وحاولنا أن نميز بتجارب علمية دقيقة بين الكافر والمؤمن، والنجس والطاهر؛ لَمَا استطعنا. بل إنا لنجد بالعلم أنهم (كما يقول: أسقف برمنجهام في ظرف مشابه) سواء.
وقل مثل هذا في كثير من الكلمات التي تحمل شحنات عاطفية سيئة، فإنها كثيرةٌ في كل لغة، ونحن حين نحاول التفكير بالمنطق والتعقل في أي موضوع نجد هذه الكلمات تعترضنا وتسد علينا السبيل دون التفكير الناجح.
ومن أضرار اللغة — وخاصة في لغتنا العربية — هذه المترادفات التي تُبعثر المعاني، وتُبعدنا عن الإحكام في التعبير، ويجب أن يكونَ مِن قواعد التعليم للبلاغة الجديدة لهذا السبب محاسبة التلميذ في إنشائه على الكلمة الزائدة كما نُحاسبه على الخطأ الذي يقع فيه حين يرفع مفعولًا أو ينصب فاعلًا.
ولذلك يجب أن يكون المنطق أساس البلاغة الجديدة، وأن تكون مخاطبةُ العقل غاية المنشئ بدلًا من مخاطبه العواطف، والبلاغة بفنونها المختلفة — كما هي الآن في لغتنا العربية — تخاطب العواطف دون العقل، وهذا ضرر عظيم؛ فإننا حين ننصح لأحد الشبان بأن يسلك السلوك الحسن في الدنيا ويتخذ أسلوبًا ناجعًا في الحياة نُشيرُ عليه بأنْ يجعل العقل والنطق — دون العاطفة والانفعال — هدفَه ووسيلته في كل ما يعمل، ولكن البلاغة العربية في حالها الحاضرة هي بلاغة الانفعال والعاطفة فقط.
وإذا جعلنا المنطق أساس البلاغة؛ فإننا عندئذٍ نجعل قواعد المنطق ونظريات إقليدس مما يدرس للتفكير الحسن، وهو الغاية الأولى للبلاغة، ونبين قيمة الأرقام في التفكير الحسن ثم تأتي بعد ذلك الفنون، وهي عاطفيةٌ انفعالية للترفيه الذهني. ولكن يجب أَنْ نذكر أن التفكير الدقيق بالمنطق أخطرُ وأثمنُ من الترفيه الذهنيِّ بالفنون، وإذا جعلنا المنطق أساسَ البلاغة فإننا سنبحثُ الكلمات من حيث معانيها. ونُبين كيف أَنَّ الناس كثيرًا ما يخلطون بين الشيء واسمه، وأن هذا الخلط يشقيهم؛ لأنه يُبعدهم عن التفكير الناجح ويؤخر نجاحهم ويعطل المجتمع عن الرقي.
كنت في الريف فوجدت الفلاحين يذكرون كلمة «وريتة» ويقصدون منها إلى ثلاثة أشياء مكروهة وهي البومة؛ لأنهم يتشاءمون منها، وابن عرس؛ لأنه يفترس الفراخ، والحمى؛ لأنها تُمْرضهم فهنا ثلاثُ كلمات: البومة، وابن عرس، والحمى، وقد اختلطت على الفلاحين أسماؤها؛ فصارت في أذهانهم مسميات، كأن الحمى ليستْ من جراثيمَ حية تدخل الجسم وتأكل خلاياه، بل هي «ح م ى» وكذلك لم يعد ابن عرس حيوانًا يحتاج إلى أن ننصب له الشراك كي نوقعه، بل هو كلمة تحدث ضررًا إذا لفظناها، وكذلك حملت البومة شحنة عاطفية تتصل بالسحر القديم؛ فإذا ذكرنا الكلمة فقد هَيَّأْنا الجو للخراب، ولذلك يجبُ في عرف الفلاحين أن نقاطع هذه الكلمات الثلاث، ونقول بدلًا منها «وريتة».
وهذا المثل على سذاجته يجب أن ينبهنا إلى علاقتنا باللغة؛ فإننا كثيرًا ما نخلط بين المسمى والاسم، وإذا كنا لا نتشاءم بالبومة ولا نقول «غراب البين»؛ فإننا نضفي على بعض الكلمات مثل «الاشتراكية» معاني مكروهة، حتى إن بعض الحكومات كانت تمنع ذكرها في الصحف، والكتب، ولكنها مع هذا المنع، لم تخترع كلمة مثل «وريتة»، كما اخترع الفلاحون حين أرادوا التعبير عن الحمى وابن العرس والبومة.
وما يُقال عن الكلمات المكروهة يقال أيضًا عن الكلمات المحبوبة، فإننا كثيرًا ما نخدع بكلمات لها بريق، أو رنين، أو ضجيج، وكثيرًا ما ننسى أن الكلمة ليستْ هي الشيء وإنما هي رمزٌ للشيء على أن البلاغة القديمة — بلاغة الانفعال والعاطفة — يمكن أن نستخدمها للتوجيه الاجتماعي في الأمة، ولكن مع الحذر من أن يعود هذا التوجيه لدعاية سيئة لأحد المذاهب الضارة.